قوله : ( فيه آيات بينات مقام إبراهيم ) أي فيه علامات ظاهرات من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم في الحجر الذي قام عليه فكان لقدميه فيه أثر . وقوله : ( مقام ) مبتدأ مرفوع وخبره محذوف تقديره منهن . أي في آيات بينات منهن مقام إبراهيم .
وقيل : مقام عطف بيان لقوله : آيات بينات . فإن قيل : كيف صح بيان الجماعة ( آيات ) بالواحد ( مقام ) ، قيل : اشتمال المقام على الآيات ؛ لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة آلاف السنين آية . وقيل غير ذلك{[530]} .
قوله : ( ومن دخله كان آمنا ) الضمير في قوله : ( دخله ) يراد حرم مكة : فإذا دخله الخائف فإنه يأمن من كل سوء ، كذلك كان الأمر في الجاهلية ، كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه أو يزعجه حتى يخرج . قال ابن عباس في تأويل هذه الآية : من عاذ بالبيت ، أعاذه البيت ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى فإذا خرج أخذ بذنبه ، وهو مذهب الحنفية إذ قالوا : من لزمه القتل في الحل بقصاص أوردة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يُتعرض له إلا أنه لا يُؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج{[531]} .
ومثل ذلك قوله تعالى : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) .
وفي تحريم مكة من حيث حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره ، وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها ونحو ذلك من وجوه التحريم ؛ فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة : " لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا " وقال يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار . فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى{[532]} خلاها " وكذلك أخرج مسلم عن أبي شريح العدوي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم فتح مكة : " إن مكة حرمها الله ولمي حرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب " .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عدي الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو واقف بالحرورة بسوق مكة يقول : " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " {[533]} .
على أن العلماء اختلفوا في تأويل قوله تعالى : ( ومن دخله كان آمنا ) وثم قولان رئيسان في ذلك :
القول الأول : تأويله أن كل من جر في الجاهلية جريرة ثم عاذ بالبيت لم يكن بها مأخوذا ، أي لم يؤخذ بجريرته مادام عائذا بالبيت ، أما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله ، فمن سرق فيه قطع ، ومن زنا فيه أقيم عليه الحد ، ومن قتل فيه قتل ، وبذلك يكون تأويل الآية أن من يدخله من الناس كان آمنا به في الجاهلية دون الإسلام .
القول الثاني : معنى ذلك أن من يدخله يكن آمنا بمعنى الجزاء . كقوله القائل : من قام لي أكرمته . وقد كان ذلك في الجاهلية لما كان الحرم مفزع كل خائف وملجأ كل جانٍ ؛ لأنه لم يكن يهاج به ذو جريرة ولا يعرض فيه الرجل لقاتل أبيه وابنه بسوء ، وكذلك هو في الإسلام ؛ لأن الإسلام زاد البيت تعظيما وتكريما . قال ابن عباس في ذلك : إذا أصاب الرجل الحد : قتل أو سرق فدخل الحرم ، لم يبايع ولم يؤو حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد . وذكر عنه قوله أيضا : إذا أحدث الرجل حدثا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم لم يعرض له ولم يؤو ولم يبايع ولم يجالس ولم يكلم ولم يطعم ولم يسق حتى يخرج من الحرم ، فإذا خرج منه أخذ فأقيم عليه الحد .
وعن عطاء بن أبي رباح ، في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم قال : لا يبيعه أهل مكة ولا يشترون منه ولا يسقونه ولا يطعمونه ولا يؤونه ، عدّ أشياء كثيرة- حتى يخرج من الحرم فيؤخذ بذنبه .
وذهب آخرون إلى أنه يٌخرج من الحرام قسرا ليلقى جزاءه خارجه ، وهو قول ابن الزبير ومجاهد والحسن . فقد قالوا : معنى ذلك أن من دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذا به كان آمنا ما كان فيه ، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحد إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه ، وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه . فتأويل الآية بذلك : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن يدخله من الناس مستجيرا به يكن آمنا مما استجار منه ما كان فيه حتى يخرج منه .
واختلفوا في صفة إخراجه من البيت فقال بعضهم : صفة ذلك معنى المعاني التي يضطر مع منعه منها إلى الخروج من الحرم . وقيل غير ذلك .
وثمة قول ثالث في تأويل الآية ، وهو أن من دخله يكن آمنا من النار{[534]} .
قوله : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) اللام في قوله : ( ولله ) لا الإيجاب والإلزام . ثم أكد ذلك بقوله تعالى : ( على ) وهي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب . وبذلك ذكر الله تعالى الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته{[535]} .
والحج في اللغة بمعنى القصد ، والحج بالكسر الاسم ، والحجة بالكسر أيضا المرة الواحدة ، والحجة بالكسر أيضا تعني السنة ، والجمع الحجج .
أما معناه في الاصطلاح الشرعي فهو : قصد مكة من أجل النسك في وقت معلوم{[536]} .
إذا تبين ذلك نقول : يجب الحج على كل مسلم مكلف ذكرا أو أنثى مرة واحدة في العمر ، وذلك بالنص والإجماع . فقد روي الإمام أحمد رحمه الله عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : " أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا " فقال رجل : أكلّ عام يا رسول ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم " ثم قال : " ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " {[537]} .
أما تفصيل القول في المناسك من بيان لأحكام الحج والعمرة فقد تعرضنا لكثير من ذلك في سورة البقرة . ومع ذلك نقتضب بعضا من الأحكام عن مناسك الحج فنقول : إن فريضة الحج ثابتة في الكتاب والسنة بما يدل على التراخي وليس على الفور ، وهو قول كثير من أهل العلم ، منهم الإمام مالك وكذا الشافعي . وقال به بعض الحنفية ، ودليلهم في ذلك أن الله تعالى قال في سورة الحج : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ) وسورة الحج مكية . وقال تعالى : ( ولله على الناس حج البيت ) وهذه السورة مدنية نزلت عام أحد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة ولم يحج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى سنة عشر .
ويدل على كونه على التراخي إجماع العلماء على عدم تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام والعامين أو نحو ذلك . وهو عند جميع العلماء ليس كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها فقضاها بعد خروجها وقتها ، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه ، ولا كمن أفسد حجه فقضاه ، ولكنه إذا أدى فريضة الحج خلال عمره يكون مؤديا للفريضة وكفى ، وليس عليه بعد بأس أو تقصير . وقد أجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته : أنت قاض لما وجب عليك . فيفهم من ذلك أن وقت الحج موسع فيه وأنه على التراخي لا على الفور . وقد خالف في ذلك فريق من العلماء فيهم أهل الظاهر وبعض المالكية ، إذ قالوا بوجوب الحج على الفور لا على التراخي ، وبذلك من قدر على الحج فأخره عاما أو أكثر فقد احتمل إثما للتأخير . ولا نجد لهم في هذا القول من احتجاج غير الاعتماد على ظاهر الآية وهو ما ليس فيه استدلال مستبين على الفورية{[538]} وعلى هذا فالقول الأول هو الصواب والله تعالى أعلم .
وإنما يجب الحج على المكلف ، وهو العاقل البالغ الحر المريد ، فلا يجب على المجنون ولا الصغير ولا العبد ، ولا من كان معدوم الإرادة كما لو كان سجينا أو حبيسا أو مقيدا في الأغلال ، فأولئك غير مطالبين بفريضة الحج حتى تزول عنهم موانع الوجوب ، وعلى هذا اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكورا وإناثا ما عدا الصغير ، فإنه خارج عن دائرة الوجوب بالإجماع ؛ لكونه غير مكلف ، وكذلك العبد غير داخل في أصول التكليف ؛ لعدم استطاعته ، وكذا الأمة لا تكلف بالحج .
قال ابن المنذر في هذا الصدد : أجمع عامة أهل العلم إلا من شذ منهم ممن لا يعد خلافا على أن الصبي إذا حج في حال صغره ، والعبد إذا حج في حال رقه ثم بلغ الصبي وعتق العبد إن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلا{[539]} .
قوله : ( من استطاع إليه سبيلا ) ( من ) بدل بعض من الكل وهو الناس . وقيل : ( مَنِ ) أداة شرط . والأول أظهر .
أما السبيل ففي تأويله تفصيل . على أن جملة القول في ذلك أن استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول . ويعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن وزوال خوف التلف مما يخشى منه على النفس كسبع أو عدو أو فقدان الطعام والشراب ، وكذلك القدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع ما عليه من الدين وأني راد ما لديه من الودائع . وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في الذهاب وفي المجيء{[540]} .
والمراد بالسبيل التي يجب مع استطاعتها فرض الحج هو الزاد والراحلة ، وقد ذهب إلى ذلك أكثر العلماء ، ويحتج لذلك من الخبر بما رواه الحاكم من حديث قتادة بإسناد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن قول الله عز وجل : ( من استطاع إليه سبيلا ) فقيل : ما السبيل ؟ قال " الزاد والراحلة " {[541]} قال ابن عباس في تأويل قوله : ( من استطاع إليه سبيلا ) : السبيل أن يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به .
المراد بالزاد مؤونة السفر مما يحتاج إليه الحاج في سفره كالطعام والكساء ونحوهما ، يضاف إلى ذلك ما يلزمه في هذا العصر من رسوم مالية يؤديها ضريبة للمرور ، أو غير ذلك من وجوه المغارم المنكودة مما يعاني منه المسلمون ، وخاصة في زماننا هذا ، وذلك كلما جاوز بلده إلى غيره من بلدان المسلمين كالحجاز .
أما الراحلة فهي في اللغة الناقة التي تصلح ؛ لأن ترحل{[542]}وهي أحد الشرطين لتحصيل السبيل من أجل وجوب الحج . وعلى هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج بنفسه ، وإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهم سقط عنه فرض الحج ، وهو قول كثر العلماء ، ويؤيد ذلك من الدليل جواب الرسول صلى الله عليه و سلم لما سئل عن السبيل فقال : " الزاد والراحلة " {[543]} .
أما إن كان قادرا على المشي مطيقا له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في الطريق فلا يلزمه الحج وجوبا ، بل يستحب في حقه استحبابا . وإن قدر على تحصيل الزاد بمسألة الناس يتكففهم في الطريق كره له الحج ؛ لأنه يصير بذلك كلا على الناس وهو ما لا يليق بكرامة المسلم وشهامته . وقيل : إذا قدر على المشيء ووجد الزاد فعليه فرض الحج وإن لم يجد الراحلة . وأجد أن في مثل هذا القول حرجا بالغا يصيب المسلم ويكلفه من التعسير والإعنات ما لا يطاق إلا بغاية من المشقة والكرب . وقد تعلمنا من شريعة ربنا قيام هذا الدين على السهولة واليسر ومنافاته للعنت والضيق وذلك في قوله عز من قائل : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) .
وإذ كان المرء المكلف مستطيعا بما تحصل له من زاد وراحلة ، لكنه ربنا يعرض له ما يمنعه من الحج كالغريم ( الدائن ) يطالبه بالأداء فإن ذلك يمنعه عن الخروج حتى يؤدي الدين للغريم ، أو يكون له عيال يناط به الإنفاق عليهم فإنه لا يلزمه الحج حتى تتوفر لهم نفقتهم مدة غيبته طيلة ذهابه ورجوعه ؛ لأن هذا الإنفاق فرض على الفور ، لكن الحج فرض على التراخي ، فكان تقديم الإنفاق على العيال أولى وكذلك يسقط الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب الأنفس أو الأموال .
وإذا لم يكن ثمة موانع لكنه لا يملك الناضّ{[544]} من المال بما يكفيه للحج ، لكن عنده عروض للبيت كالأثاث والفرض فهل يبيع شيئا من ذلك لكي يحج ؟ ثمة قولان في ذلك وهما : وجوب البيع وعدمه . والراجح عندي عدم وجوب البيع ليصير الحج في حقه غير مفروض مادام لا يملك مؤونة الحج من غير عروض البيت . لأن في بيع الأثاث وفرش البيت حرجا علاوة على أن مثل هذا الأثاث هو من قبيل المال المستهلك الذي لا ينبغي التعويل عليه عند تحصيل الزاد للسفر ولو كان مريضا أو معضوبا{[545]} لا يستمسك على الراحلة ولا يثبت عليها فهو بمنزلة من قطعت أعضاؤه إذ لا يقدر على شيء . وثمة خلاف بين العلماء في حكم ذلك بعد إجماعهم أنه لا يلزمهما المسيرة إلى الحج ؛ ه لأن الحج ؛ لأن الحج إنما فرضه الله على المستطيع إجماعا ، أما المريض والمعضوب فلا يستطيعان المسير أو السفر . وقد قال الإمام مالك : إذا كان معضوبا سقط عنه فرض الحج أصلا سواء كان قادرا على إنابة من يحج عنه بالمال أو بغير المال فلا يلزمه فرض الحج . ولو وجب عليه الحج ثم أصابه عضب أو زمانة ، فقط سقط عنه فرض الحج ولا يجوز أن ينيب عنه من يحج عنه حال حياته ، لكنه إن أوصى أن يُحج عنه بعد موته جاز على أن يكون من الثلث وكان ذلك تطوعا . ودليل ذلك قوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ولأن الحج هو قصدُ المكلفِ البيتَ بنفسه ، ثم إنه عبادة وهي لا تدخلها النيابة كالصلاة والصوم ، ذلك هو الظاهر من مذهب المالكية في المسألة ، خلافا لجمهور الحنفية والشافعية والحنبلية إذ قالوا : المريض الزمن والمعضوب والشيخ الكبير إن كان ثمة من يطيعه إذا أمره بالحج عنه فهو مستطيع تماما ويجب في حقه الحج في الجملة . وصورة ذلك من وجهين :
أحدهما : أن يكون قادرا على مال يستأجر به من يحج عنه ، فإنه يلزمه بذلك فرض الحج . وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه . فقد روي عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج : جهز رجلا يحج عنك ، وهو مذهب الجمهور كما ذكرنا آنفا .
وثانيهما : أن يكون قادرا على ما يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه ، فقد لزم هذا الحج عنه . وهو قول الشافعية والحنبلية وآخرين . واحتجوا لذلك بما رواه ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره . فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " فحجي عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته " ؟ قالت : نعم ، قال : " فّدين الله أحق أن يقضى " فقد أوجب النبي صلى الله عليه و سلم الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها من نفسها له بأن تحج عنه . فإذا وجب في حقه الحج بطاعة ابنته له ، فإن من الأولى وجوبه عليه عند قدرته على المال الذي يستأجر به . وإذا لم يكن للمكلف قوت يتزود به في الطريق فإنه لا يلزمه الحج . وإن وهب له أجنبي مالا يحج به فإنه لا يلزمه قبوله ولا يجب في حقه الحج ؛ لما يلحقه في ذلك من المنّة . وهو ما لا خلاف فيه{[546]} .
ولا يفوتنا التنبيه هنا إلى التحول المذهل في وسائل النقل وأساليب السفر في هذا العصر حيث السفائن تمخر عباب البحار لتفضي إلى البلاد الحجازية خلال سويعات من نهار ، أو الطائرات التي تجوب أجواز الفضاء لتبلغ في دقائق معدودات ما لم تبلغه الرواحل الظواعن في الزمان المنصرم ، وما يستلزمه ذلك من أعباء مالية لا يستهان بها ، إن ذلك ينبغي اعتباره في الحسبان لدى النظر في حقيقة الراحلة كشرط لوجوب الحج . يضاف إلى ذلك ما بيناه سابقا وهو اضطلاع الحجيج بضرائب السفر يؤدونها للدول عند المجاوزة أو المرور .
قوله : ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) أي من جحد فريضة الحج ولم يره واجبا فقد كفر والله غني عنه . وهو قول كثير من أهل العلم منهم ابن عباس ومجاهد وغيرهما .
وفي ذلك روى الترمذي عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله يقول في كتابه : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) " {[547]} .
وروي عن عمر بن الخطاب قوله في هذا المعنى : من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا ، وعن الحسن البصري قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من عنده جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين{[548]} .