السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

كما قال تعالى :

{ فيه آيات بينات } كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار فلا تعلو فوقه وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرّض لها ، وإذا قصدت الجارحة صيداً فدخلت الحرم كفت عنه وأنه بلد صار إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار ، وإنّ الصلاة فيه تضاعف بمائة ألف وإن كان جبار قصده بسوء قهره الله تعالى كأصحاب الفيل ، وجملة فيه آيات بينات مفسرة لهدى أو حال كمباركاً وهدى وقوله تعالى : { مقام إبراهيم } مبتدأ حذف خبره أي : منها مقام إبراهيم أو خبر مبتدأ محذوف أي : أحدها أو بدل من آيات بدل بعض من كل وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ولعل الذي اندرس بعضه فإني رأيت أثر القدمين فيه ، وفي هذا دلالة على قدرة الله تعالى وبنوّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؛ لأنّ تأثير القدم في الصخرة الصماء وغوصه فيها إلى الكعبين ، ولأنه بعض الصخرة دون بعض وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين معجزة عظيمة ، واختلف في سبب هذا الأثر على قولين : أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر ، فغاصت به قدماه وهذا هو المشهور ، والقول الثاني أنه لما جاز إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حوّلته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه . قال البيضاوي : وقيل عطف بيان وردّ هذا القول بأنّ آيات نكرة ومقام إبراهيم معرفة ولا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين وقوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } جملة ابتدائية أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي : ومنها أمن من دخله وذلك بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { رب اجعل هذا البلد آمناً } ( إبراهيم ، 35 ) ، وفي الاقتصار على ذكر هاتين الآيتين وطيّ ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما ، ونحوه في طي الذكر قول جرير :

كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم *** من العبيد وثلث من مواليها

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة ، والأمن من العذاب يوم القيامة ) قال عليه الصلاة والسلام : ( من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً ) رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( الحجون والبقيع يؤخذا بأطرافهما وينثران في الجنة ) والحجون مقبرة مكة والبقيع مقبرة المدينة . وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى : من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما لم يتعرّض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتل ، وكان عمر بن الخطاب يقول : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه ، وعند الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى : لا يلجأ إلى الخروج بل يقتل للأمر في خبر الشيخين بقتل ابن خطل وقد كان ارتدّ وتعلق بأستار الكعبة وأمّا قوله : ومن دخله كان آمناً وخبر من دخل المسجد فهو آمن فمعناه جمعاً بين الأدلة أنّ من دخله بغير استحقاق قتل كان آمناً ، ومن دخله بعد استحقاق قَتل قُتل ، وأما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفى منه بالاتفاق { ولله على الناس حج البيت } أي : قصده للزيارة على وجه مخصوص وهو أحد أركان الإسلام ، قال صلى الله عليه وسلمك ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان ) وقرأ حفص وحمزة والكسائي بكسر الحاء وهي لغة نجد وقرأ الباقون بالفتح وهي لغة أهل الحجاز وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد وقوله تعالى : { من استطاع إليه } أي : الحج أو البيت { سبيلاً } أي : طريقاً بدل من الناس مخصص له ( وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة ) رواه الحاكم وغيره { ومن كفر } أي : بما فرضه الله من الحج أو كفر بالله { فإنّ الله غني عن العالمين } أي : الإنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم وقيل : وضع كفر موضع لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً ) رواه الترمذي وضعفه ونحوه في التغليظ : ( من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ) .

تنبيه : في هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد على طلب الحج منها قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } أي : أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ومنها أنه ذكر الناس ثم إنه أبدل منه من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التوكيد : أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له ، والثاني أنّ الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ومنها ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ومنها قوله : عن العالمين ولم يقل عنه وفيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ؛ لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود فإنهم قالوا : الحج إلى مكة غير واجب .

وروي أنه لما نزل قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال : ( إنّ الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل وهم المشركون واليهود والنصارى والصابئون والمجوس ، قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل : ومن كفر الخ ) . وعنه صلى الله عليه وسلم : ( حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرّتين ويرفع في الثالثة ) .

وروي : ( حجوا قبل أن لا تحجوا ، حجوا قبل أن يمنع البرّ جانبه ) ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : ( حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت ) أي : ماتت .