فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين 97
( فيه آيات بينات ) أي دلالات واضحات على حرمته ومزيد فضله واحترامه ، منها الصفا والمروة ومنها أثر القدم في الصخرة الصماء ، ومنها أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن ؟ وإذا كان بناحية الشامي كان الخصب في الشام ، وإذا عم البيت في جميع البلدان ، ومنها انحراف الطيور عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان ، ومنها إهلاك من يقصده من الجبابرة ؛ ومنها الحجر الأسود والملتزم وزمزم ومشاعر الحج .
ومنها أن الآمر ببناء هذا البيت هو الله الجليل ، والمهندس له جبريل ، والباني هو إبراهيم الخليل ، والمساعد في بنيانه هو إسماعيل ، وهذه فضيلة عظيمة له ، وغير ذلك من الآيات ، وقد أوضحتها في كتابي ( رحلة الصديق إلى البيت العتيق ) فليرجع إليه ، وهذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب .
( مقام إبراهيم ) يعني الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وكان فيه أثر قدمي إبراهيم فاندرس من كثرة المسح بالأيدي .
وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات وهي جمع ، بالمقام وهو فرد ، وأجاب بأن المقام جعل وحده بمنزلة آيات لقوة شأنه أو بأنه مشتمل على آيات ، قال ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، لأن الإثنين نوع من الجمع ، وقال ابن عطية والراجح عندي ان المقام وأمن الداخلين جعلا مثالا لما في حرم الله تعالى من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم . ( ومن دخله كان آمنا ) جملة مستأنفة من حيث اللفظ لبيان حكم من أحكام الحرم وهو أن من دخله كان آمنا ، ومن حيث المعنى معطوفة على مقام إبراهيم الذي هو مبتدأ محذوف الخبر أي ومنها امن داخله ، ومن شرطية أو موصولة ، وبه استدل من قال أن من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه حد من الحدود فإنه لا يقام عليه حتى لا يخرج منه ، وهو قول أبي حنيفة ومن تابعه ، وخالفه الجمهور ، وقالوا تقام عليه الحدود من الحرم ، وبه قال الشافعي .
وقد قال جماعة إن الآية خبر في معنى الأمر أي ومن دخله فأمنوه كقوله : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا .
أخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال كان هذا في الجاهلية كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يطلب ، فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله ، من سرق فيه قطع ، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد ، ومن قتل فيه قتل .
وعن عمر بن الخطاب قال لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه ، وعن ابن عباس من عاذ بالبيت أعاذه البيت ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ، فإذا خرج أخذ بذنبه ، وروى عنه هذا المعنى من طرق ، أخرجه ابن جرير وغيره .
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي شريح العدوى قال قام النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح فقال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها على الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي في ساعة من نهار ، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس{[353]} .
وقيل المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان آمنا . وقيل من دخله معظما له متقربا بذلك إلى الله كان آمنا من العذاب يوم القيامة .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا{[354]}وعنه : الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافها وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة وذكرهما أبو السعود ولم يخرجهما ، وقيل آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك ، والأول أولى .
( ولله على الناس حج البيت ) اللام في قوله ( لله ) هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف " على " فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب ، كما إذا قال القائل لفلان على كذا ، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته .
وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد ، والمعنى ولله على الناس فرض حج البيت ، والناس عام مخصوص بالمستطيع قد خصص ببدل البعض وهو قوله ( من استطاع ) لأنه من المخصصات عند الأصوليين .
والحج بكسر الحاء وفتحها لغتان سبعيتان في مصدر حج بمعنى قصد ، والحج أحد أركان الإسلام ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " بني الإسلام على خمس ، شهادة ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقامة الصلاة . وإيتاء الزكاة ، والحج وصوم رمضان " أخرجه البخاري ومسلم{[355]} ، فعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحج من أركان الإسلام الخمسة .
وقد ورد في فضله وفضل البيت والعمرة أحاديث منها عن أبي سعيد الخدري قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى " . أخرجه الشيخان{[356]} .
وعن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " أخرجه البخاري ومسلم{[357]} ، وفي الباب أحاديث لا نطيل بذكرها ، وقد ذكرنا طرفا منها في كتابنا رحلة الصديق .
( من استطاع إليه سبيلا ) يعني من وجد السبيل إلى حج البيت الحرام من أهل التكليف لأنه المحدث عنه ، وإن كان يحتمل رجوع الضمير للبيت . لكن الأول أولى .
وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي ، فقيل الزاد والراحلة ، وبه فسره صلى الله عليه وسلم ، رواه الحاكم وغيره ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة ، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم{[358]} ، وهو الحق ، وقال مالك إن الرجل إذا وثق بقوته لزمه الحج وإن لم يكن له زاد ولا راحلة إذا كان يقدر على الكسب . وبه قال ابن الزبير والشعبي وعكرمة ، وقال الضحاك إن كان شابا قويا صحيحا وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه .
ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولا أوليا أن تكون الطريق إلى الحج آمنة بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زادا غيره ، أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة لأن الله سبحانه يقول : ( من استطاع إليه سبيلا ) وهذا الخائف على نفسه وماله لم يستطع إليه سبيلا بلا شك وشبهة .
وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج فقال الشافعي لا يعطي حبة ويسقط عنه فرض الحج ، ووافقه جماعة ، وخالفه آخرون ، والظاهر أن من تمكن من الزاد والراحلة وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها ولو بمصانعة بعض الظلمة بدفع شئ من المال يتمكن منه الحاج ولا ينقص من زاده ولا يجحف به فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه ، لأنه قد استطاع السبيل بدفع شئ من المال .
ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما يتوقف عليه الاستطاعة ، فلو وجد الرجل زادا وراحلة ، ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق ، لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلا ، وهذا لا بد منه ، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون .
ولعل وجه قول الشافعي انه يسقط الحج أن أخذ هذا المكس منكر فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر ، وأنه بذلك غير مستطيع .
ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب ، فلو كان زمنا بحيث لا يقدر على المشي ولا على الركوب فهذا وإن وجد الزاد والراحلة فهو لم يستطع السبيل .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير الاستطاعة انها الزاد والراحلة بطرق كثيرة عن جماعة من الصحابة عند أهل السنن وغيرهم . وأقل أحوال هذا الحديث أن يكون حسنا لغيره فلا يضره ما وقع الكلام على بعض طرقه كما هو معروف .
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم النهي للمرأة أن تسافر بغير ذي رحم محرم ، واختلفت الأحاديث في قدر المدة ، ففي لفظ ثلاثة أيام وفي لفظ يوم وليلة وفي لفظ بريد ، وقد ذكر بعض المفسرين ههنا أحكاما تتعلق بالحج وأطال في ذكرها ، ومحلها كتب الفروع فلا نذكرها .
( ومن كفر ) " من " شرطية وهو الظاهر أو موصولة قيل إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا على تاركه ، وقيل المعنى ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا ، وقيل أن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر ، وعن ابن عمر : من كفر بالله واليوم الآخر ، وعن ابن زيد من كفر بهذه الآيات .
وعن ابن مسعود ومن كفر فلم يؤمن فهو الكافر ، وقيل هو الذي إن حج لم يره برا ، وإن قعد لم يره إثما ، وقيل نزلت في اليهود وغيرهم من أصحاب الملل . قالوا الحج غير واجب وكفروا به ، وعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها ، وقيل إنه كلام مستأنف كما تقدم عن ابن عمر .
( فإن الله غني عن العالمين ) الإنس والجن والملائكة وعن عبادتهم ، وبالجملة في قوله هذا من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة وخذلانه وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ويرجف له قلبه ، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم ، وهو تعالى شانه وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع .
وقد وردت أحاديث في تشديد الوعيد على من ملك زادا وراحلة ولم يحج فأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج بيت الله فلا عليه بأن يموت يهوديا او نصرانيا{[359]} ؛ وذلك بأن الله يقول ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) .
و في إسناده هلال الخراساني أبو هاشم ، قال البخاري منكر الحديث ، وقيل هو مجهول ، وقال ابن عدي هذا الحديث ليس بمحفوظ ، وفي إسناده أيضا الحارث الأعور وفيه ضعف .
وقد ذكره الشوكاني في الموضوعات ثم قال : وقد حكم ابن الجوزي بضعفه ودفعه الحافظ ابن حجر بما هو معروف .
وأخرج سعيد بن منصور واحمد في كتاب الإيمان وأبو يعلى والبيهقي عن أبي امامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر او حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء يهوديا او نصرانيا{[360]} .
و أخرج سعيد ابن منصور قال السيوطي بسند صحيح عن بن عمر بن الخطاب قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة و لم يحج فيضرب عليهم ، ما هم بمسلمين .
وأخرج الإسماعيلي عنه يقول من أطاق ولم يحج فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا ، قال ابن كثير بعد ان ساق إسناده : وهذا إسناد صحيح{[361]} .
وعن ابن عمر من مات وهو موسر ولم يحج جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب كافر ، وعنه من وجد إلى الحج سبيلا سنة ثم سنة ثم سنة ثم مات ولم يحج لم يصل عليه ولا يدري مات يهوديا او نصرانيا .
وعن عمر بن الخطاب قال لو ترك الناس الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة ، ومن شاء استيفاء مسائله فليرجع إلى كتابي ( رحلة الصديق إلى البيت العتيق ) .