تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

{ فيه آيات بينات } أي : أدلة واضحات ، وبراهين قاطعات على أنواع من العلوم الإلهية والمطالب العالية ، كالأدلة على توحيده ورحمته وحكمته وعظمته وجلاله وكمال علمه وسعة جوده ، وما مَنَّ به على أوليائه وأنبيائه ، فمن الآيات { مقام إبراهيم } يحتمل أن المراد به المقام المعروف وهو الحجر الذي كان يقوم عليه الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع البنيان ، وكان ملصقا في جدار الكعبة ، فلما كان عمر رضي الله عنه وضعه في مكانه الموجود فيه الآن ، والآية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم ، قد أثرت في الصخرة وبقي ذلك الأثر إلى أوائل هذه الأمة ، وهذا من خوارق العادات ، وقيل إن الآية فيه ما أودعه الله في القلوب من تعظيمه وتكريمه وتشريفه واحترامه ، ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد مضاف يراد به مقاماته في مواضع المناسك كلها ، فيكون على هذا جميع أجزاء الحج ومفرداته آيات بينات ، كالطواف والسعي ومواضعها ، والوقوف بعرفة ومزدلفة ، والرمي ، وسائر الشعائر ، والآية في ذلك ما جعله الله في القلوب من تعظيمها واحترامها وبذل نفائس النفوس والأموال في الوصول إليها وتحمل كل مشقة لأجلها ، وما في ضمنها من الأسرار البديعة والمعاني الرفيعة ، وما في أفعالها من الحكم والمصالح التي يعجز الخلق عن إحصاء بعضها ، ومن الآيات البينات فيها أن من دخله كان آمنا شرعا وقدرا ، فالشرع قد أمر الله رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد باحترامه وتأمين من دخله ، وأن لا يهاج ، حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها ، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء أن من جنى جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه أنه يأمن ولا يقام عليه الحد حتى يخرج منه ، وأما تأمينها قدرا فلأن الله تعالى بقضائه وقدره وضع في النفوس حتى نفوس المشركين به الكافرين بربهم احترامه ، حتى إن الواحد منهم مع شدة حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه ، ومن جعله حرما أن كل من أراده بسوء فلا بد أن يعاقبه عقوبة عاجلة ، كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم ، وقد رأيت لابن القيم هاهنا كلاما حسنا أحببت إيراده لشدة الحاجة إليه قال فائدة : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } " حج البيت " مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله ، والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله : " على الناس " لأنه وجوب ، والوجوب يقتضي " على " ويجوز أن يكون في قوله : " ولله " لأنه متضمن الوجوب والاستحقاق ، ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها ، وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير ، فكان الأحسن أن يكون " ولله على الناس " . ويرجح الوجه الأول بأن يقال قوله : " حج البيت على الناس " أكثر استعمالا في باب الوجوب من أن يقال : " حج البيت لله " أي : حق واجب لله ، فتأمله . وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول وليس بخبر فائدتان : إحداهما : أنه اسم للموجب للحج ، فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب ، فتضمنت الآية ثلاثة أمور مرتبة بحسب الوقائع : أحدها : الموجب لهذا الفرض فبدأ بذكره ، والثاني : مؤدي الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس ، والثالث : النسبة ، والحق المتعلق به إيجابا وبهم وجوبا وأداء ، وهو الحج .

والفائدة الثانية : أن الاسم المجرور من حيث كان اسما لله سبحانه ، وجب الاهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه ، وتخويفا من تضييعه ، إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره .

وأما قوله : " مَنْ " فهي بدل ، وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر ، كأنه قال : أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا ، وهذا القول يضعف من وجوه ، منها : أن الحج فرض عين ، ولو كان معنى الآية ما ذكره لأفهم فرض الكفاية ، لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم ، لأن المعنى يؤل إلى : ولله على الناس حج البيت مستطيعهم ، فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين ، وليس الأمر كذلك ، بل الحج فرض عين على كل أحد ، حج المستطيعون أو قعدوا ، ولكن الله سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب ، فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه ، فإذا حج سقط الفرض عن نفسه ، وليس حج المستطيعين بمسقط الفرض عن العاجزين ، وإذا أردت زيادة إيضاح ، فإذا قلت : واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعون للجهاد ، فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب في غيرهم ، وإذا قلت واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع ، كان الوجوب متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه ، ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال : ولله حج البيت على المستطيعين ، هذه النكتة البديعة فتأملها .

الوجه الثاني : أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول ، فلو كان من هو الفاعل لأضيف المصدر إليه فكان يقال : " ولله على الناس حج مَنْ استطاع " وحمله على باب " يعجبني ضرب زيد عمرا " وفيما يفصل فيه بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكتوب المرجوح ، وهي قراءة ابن عامر ( قتل أولادهم شركائهم ) ، فلا يصار إليه . وإذا ثبت أن " من " بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى " الناس " كأنه قيل : من استطاع منهم ، وحذف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يحسن ، وحسنه هاهنا أمور منها : أن " من " واقعة على من لا يعقل ، كالاسم المبدل منه فارتبطت به ، ومنها : أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول ، ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد ، ومثال ذلك إذا قلت : رأيت إخوتك من ذهب إلى السوق منهم ، كان قبيحا ، لأن الذاهب إلى السوق أعم من الإخوة ، وكذلك لو قلت : البس الثياب ما حسن وجمل ، يريد منها ، ولم يذكر الضمير كان أبعد في الجواز ، لأن لفظ ما حسن أعم من الثياب .

وباب البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه ، فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو قيدته بضمير يعود إلى الأول ارتفع العموم وبقي الخصوص ، ومما حسن حذف المضاف في هذه أيضا مع ما تقدم طول الكلام بالصلة والموصول .

وأما المجرور من قوله " لله " فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون في موضع من سبيل ، كأنه نعت نكرة قدم عليها ، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل ، والثاني : أن يكون متعلقا بسبيل ، فإن قلت : كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل ؟ قيل : السبيل لما كان عبارة هاهنا عن الموصل إلى البيت من قوت وزاد ونحوهما ، كان فيه رائحة الفعل ، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق ، فصلح تعلق المجرور به ، واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير ، لأنه ضمير يعود على البيت ، والبيت هو المقصود به الاعتناء ، وهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعني هذا تقرير السهيلي ، وهذا بعيد جدا بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين ، ولا يليق بالآية سواه ، وهو الوجوب المفهوم من قوله " على الناس " أي : يجب لله على الناس الحج ، فهو حق واجب لله ، وأما تعليقه بالسبيل وجعله حالا منها ، ففي غاية البعد فتأمله ، ولا يكاد يخطر بالبال من الآية ، وهذا كما تقول : لله عليك الصلاة والزكاة والصيام .

ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي ، وهو الأكثر ، وبلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم نحو { كتب عليكم الصيام } { حرمت عليكم الميتة } { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } وفي الحج أتى بهذا اللفظ الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه ، أحدها أنه قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على أبدل منه أهل الاستطاعة ، ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي : سبيل تيسرت ، من قوت أو مال ، فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلا ، ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال { ومن كفر } أي : لعدم التزامه هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره ما يستغنى به عنه ، والله تعالى هو الغني الحميد ، ولا حاجة به إلى حج أحد ، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغه ، ثم أكد ذلك بذكر اسم " العالمين " عموما ، ولم يقل : فإن الله غني عنه ، لأنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه بكل اعتبار ، فكان أدل لعظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه ، ثم أكد هذا المعنى بأداة " إن " الدالة على التأكيد ، فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم .

وتأمل سر البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرتين ، مرة بإسناده إلى عموم الناس ، ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين ، وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرر الإسناد ولهذا كان في نية تكرار العامل وإعادته .

ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ، وكيف تضمن ذلك إيراد الكلام في صورتين وخلتين ، اعتناء به وتأكيد لشأنه ، ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما تدعوا النفوس إلى قصده وحجه وان لم يطلب ذلك منها ، فقال : { إن أول بيت } إلخ ، فوصفه بخمس صفات : أحدها كونه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض ، الثاني : أنه مبارك ، والبركة كثرة الخير ودوامه ، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق ، الثالث : أنه هدى ، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة ، حتى كأنه نفس الهدى ، الرابع ما تضمن من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية ، الخامس : الأمن الحاصل لداخله ، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار ، ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات ، وهذا يدل على الاعتناء منه سبحانه لهذا البيت العظيم ، والتنويه بذكره ، والتعظيم لشأنه ، والرفعة من قدره ، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله { وطهر بيتي } لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا ، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه ، وسلبت نفوسهم حباله وشوقا إلى رؤيته ، فهذه المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا ، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا ، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم ، كما قيل :

أطوف به والنفس بعد مشوقة *** إليه وهل بعد الطواف تداني

وألثم منه الركن أطلب برد ما *** بقلبي من شوق ومن هيمان

فوالله ما ازداد إلا صبابة *** ولا القلب إلا كثرة الخفقان

فيا جنة المأوى ويا غاية المنى *** ويا منيتي من دون كل أمان

أبت غلبات الشوق إلا تقربا *** إليك فما لي بالبعاد يدان

وما كان صدى عنك صد ملالة *** ولي شاهد من مقلتي ولسان

دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا *** فلبى البكا والصبر عنك عصاني

وقد زعموا أن المحب إذا نأى *** سيبلى هواه بعد طول زمان

ولو كان هذا الزعم حقا لكان ذا *** دواء الهوى في الناس كل زمان

بلى إنه يبلى والهوى على *** حاله  لم يبله الملوان

وهذا محب قاده الشوق والهوى *** بغير زمام قائد وعنان

أتاك على بعد المزار ولو ونت *** مطيته جاءت به القدمان

انتهى كلامه رحمه الله تعالى .