الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

قوله ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ . . . ) الآية [ 97 ] .

هي : مقام إبراهيم ، والمشعر الحرام ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً ) .

وقال مجاهد : مقام إبراهيم الحرم كله ، وهي آيات كثيرة .

منها : الصفا والمروة والركن والحطيم والملتزم والحجر وغير ذلك ، ومنها : أن الطائر لا يعلو البيت صحيحاً ويعلوه مريضاً للتشفي [ به ]( {[10467]} ) ومنها : أن الجارح يتبع الصيد فإذا دخل الحرم تركه . ومنها : أن الغيث إذا كان من ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن ، وإذا كان من ناحية الشامي كان الخصب بالشامي ، والعراقي كذلك ، وإن عم الأركان عم الخصب الدنيا .

ومنها : أن الجمار تزداد فيه كل عام لا يحصى كثرة وهي ترى على قدر واحد . وأمثال ذلك كثيرة لا تحصى .

وعلى هذا القول يكون ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً ) خبر مبتدأ( {[10468]} ) .

وقد قرأ " فيه آية بينة " ( {[10469]} ) على أنها المقام الموجود الساعة ويكون أيضاً ما بعد مبتدأ .

ومعنى : ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً ) كان أهل الجاهلية من جنى منهم جناية ثم لجأ إلى حرم الله لم يطلب ، ولم ينتصف وأما في الإسلام فليس يمنع من حدود الله عز وجل مانع .

وعن يحيى بن جعدة( {[10470]} ) ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً ) قيل : كان آمناً من النار( {[10471]} ) .

وأهل التفسير على أن المعنى : ومن دخله فاراً( {[10472]} ) من غيره مستجيراً به أمن ممن يطلبه .

وقيل : [ المقام ]( {[10473]} ) هو الحجر الذي فيه أثر رجلي إبراهيم عليه السلام( {[10474]} ) .

وروي أن الله عز وجل أمره أن يؤذن بالحج كما قال تعالى : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ )( {[10475]} ) فوقف على المقام وهو الحجر ، فأعطاه الله في صوته ما يسمعه كل من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، وأعطاه من القوة حتى رسخت رجلاه مقر الحجر فنادى يا عباد الله ، أجيبوا داعي الله ، والحج إلى بيته الحرام يخرجكم من النار ، ويسكنكم الجنة " فالناس اليوم يلبون دعوة إبراهيم فمن أجابه مرة حج مرة ومن أجابه مرتين حج مرتين ، وكذلك ( أكثر )( {[10476]} ) من ذلك( {[10477]} ) .

قوله : ( وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً . . . ) [ 97 ] .

هذا فرض من الله واجب علينا مع وجود الاستطاعة .

قال ابن الخطاب وابن عباس رضي الله عنه : الاستطاعة : الزاد والراحلة ، وهو قول ابن جبير( {[10478]} ) والحسن( {[10479]} ) .

وعن ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل( {[10480]} ) .

وقال الضحاك : إن قدر [ أن ]( {[10481]} ) يؤاجر( {[10482]} ) نفسه ويمشي فهو مستطيع( {[10483]} ) .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " السبيل الزاد والراحلة " ( {[10484]} ) .

وعن علي رضي الله عنه أنه قال : من ملك زاداً( {[10485]} ) وراحلة يبلغانه إلى بيت الله عز وجل فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً ونصرانياً( {[10486]} ) .

وقال عكرمة : السبيل : الصحة( {[10487]} ) .

وقال ابن زيد : السبيل القوة في النفقة والجسم والحملان( {[10488]} )( {[10489]} ) .

وقيل السبيل الطاقة بأي وجه : وهو اختيار ( الطبري )( {[10490]} )( {[10491]} ) وجماعة من العلماء( {[10492]} ) ، وهو مذهب مالك وأصحابه( {[10493]} ) .

والهاء في " إليه " تعود على البيت " وقيل على الحج " ( {[10494]} ) .

قوله : ( وَمَن كَفَرَ ) أي : من لم يحج وهو يقدر عليه .

وقيل : معناه من لزمه فرض الحج فأنكره فإن الله غني عن حجه( {[10495]} ) .

وقال ابن عباس : من( {[10496]} ) كفر من قال الحج ليس بفرض( {[10497]} ) .

وقيل : معناه من اعتقد أنه لا أجر له في سعيه وحجه ، ولا إثم عليه في تأخيره قاله مجاهد( {[10498]} ) . وسأل رجل من هذيل النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا نبي الله من تركه كفر ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من تركه لا يخاف عقوبته ، ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذلك " ( {[10499]} ) أي : كافر .

وعن مجاهد أيضاً أنه قال : معنى : ( وَمَن كَفَرَ ) : أي : وكفر بالله واليوم الآخر( {[10500]} ) ، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الناس عند نزول فرض الحج ، وخطبهم وأمرهم بالحج وأنه فرض عليهم . فحج البيت هو ملة واحدة وهي : من آمن بالله ، وتركه خمس ملل ، وهم الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عز وجل : ( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )( {[10501]} ) .

وعن ابن عباس أنه قال لما نزلت : ( وَمَنْ يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً ) الآية ، قالت : ( {[10502]} ) الملل كلها نحن مسلمون فأنزل الله ( وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ ) فحج المؤمنون وقعد الكافرون " ( {[10503]} ) .

قال ابن زيد معناه ومن كفر بهذه الآية يعني التي تقدم ذكرها وهي : مقام إبراهيم ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )( {[10504]} ) .

قال عطاء : ( وَمَن كَفَرَ )( {[10505]} ) بالبيت .

وقال السدي : ( وَمَن كَفَرَ ) معناه : من وجد ما يحج به ثم لم يحج فهو كافر( {[10506]} ) .

ويروى عن عمر أنه قال : لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار فينظرون إلى كل رجل لم يحج وهو واجد فيضربون عليه الجزية ما هم بمسلمين( {[10507]} ) .

وعنه أنه قال : لو أن ناساً تركوا الحج لقاتلناهم( {[10508]} ) عليه كما قاتلناهم على الصلاة والزكاة .

واختار بعضهم( {[10509]} ) أن يكون المعنى : ومن كفر فأنكر فرض الله ووجوبه .


[10467]:- ساقط من (أ) (ج) والمعنى الاستشفاء.
[10468]:- ويجوز أن يكون معطوفاً على مقام، انظر: إعراب النحاس 1/353 والإملاء 1/54 وقيل: ومن دخله جملة مستأنفة ابتدائية وإما شرطية، انظر: الكشاف 1/447.
[10469]:- هي قراءة شاذة تنسب إلى ابن عباس، وأُبي، ومجاهد، انظر: مختصر الشواذ 22 ومعاني الزجاج 1/446.
[10470]:- يحيى بن جعدة بن هبيرة القرشي المخزومي تابعي محدث ثقة روى عن أبي الدرداء وأبي هريرة، انظر: الكاشف 3/212، والتهذيب 11/192.
[10471]:- انظر: جامع البيان 4/14.
[10472]:- في كل النسخ (ومن دخله من غيره) ومعناه غير واضح فاحتاج إلى زيادة للبيان.
[10473]:- ساقط من (د).
[10474]:- انظر: تفسير مجاهد 1/132 وجامع البيان 4/11.
[10475]:- الحج آية 27.
[10476]:- ساقط من (ج) والمعنى أن عدد الحجات بقدر عدد الإجابات.
[10477]:- انظر: جامع البيان 17/144.
[10478]:- هو سعيد بن جبير الأسدي توفي 95 هـ تابعي، مفسر قتل على يد الحجاج، انظر: المعارف 227، والحلية 4/272، وطبقات الداودي 1/188.
[10479]:- انظر: جامع البيان 4/15-16، والدر المنثور 2/273.
[10480]:- انظر: المصدر السابق.
[10481]:- ساقط من (أ).
[10482]:- (أ): يؤجر.
[10483]:- انظر: جامع البيان 4/16 وتفسير ابن كثير 1/387.
[10484]:- أخرجه الترمذي في أبواب التفسير 4/293، وابن ماجه في كتاب المناسك 2/967 والدارقطني 1/255 وأخرجه الطبري مرسلاً في جامع البيان 4/16، ولم يصح إسناده عند ابن العربي في أحكام القرآن 1/288.
[10485]:- (ب) و(د): زاد وهو خطأ.
[10486]:- أخرجه عن علي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم الترمذي في أبواب الحج 2/153، وذكره كذلك المنذري في الترغيب والترهيب 2/211 والسيوطي في الدر المنثور 2/275، ويبدو من هذه التخريجات أن مكياً وهم فيما ذهب إليه من نسبته إلى علي.
[10487]:- انظر: جامع البيان 4/18، وتفسير ابن كثير 1/387.
[10488]:- (د): الخيلان، والحملان ما يحمل عليه.
[10489]:- انظر: جامع البيان 4/18.
[10490]:- ساقط من (ب) (ج) (د).
[10491]:- انظر: جامع البيان 4/19.
[10492]:- منهم ابن الزبير وعطاء، انظر: جامع البيان 4/18.
[10493]:- انظر: المحرر 3/171 وأحكام ابن العربي 1/288.
[10494]:- انظر: مشكل الإعراب 1/169، والبيان في غريب الإعراب 1/214.
[10495]:- انظر: جامع البيان 4/19.
[10496]:- كذا في كل النسخ والصواب حذف من الأولى.
[10497]:- انظر: جامع البيان 4/19-20.
[10498]:- انظر: المصدر السابق.
[10499]:- انظر: تخريجه في جامع البيان 4/20 والدر المنثور 2/277.
[10500]:- انظر: المصدر السابق.
[10501]:- انظر: المصدر السابق.
[10502]:- (أ): قال.
[10503]:- انظر: جامع البيان 4/20-21 والدر المنثور 2/276.
[10504]:- انظر: المصدر السابق.
[10505]:- انظر: جامع البيان 4/20-21 والدر المنثور 2/276.
[10506]:- انظر: المصدر السابق.
[10507]:- أخرجه السيوطي عن سعيد بن منصور، انظر: الدر المنثور 2/275.
[10508]:- (أ): لقد قتلناهم كما قتلناهم.
[10509]:- هو اختيار الطبري، انظر: جامع البيان 4/21.