وقوله سبحانه : { فِيهِ }[ آل عمران :97 ] أي : في البيتِ { آيات بينات } .
قال ( ع ) : والمترجِّح عندي أنَّ المَقَامَ ، وأَمْنَ الدَّاخِلِ جُعِلاَ مثالاً ممَّا في حَرَمِ اللَّه منَ الآياتِ وخُصَّا بالذكْرِ ، لعظمهما ، و{ مَّقَامُ إبراهيم } : هو الحَجَرُ المعروفُ ، قاله الجمهور ، وقال قوم : البيتُ كلُّه مقامُ إبراهيم ، وقال قومٌ : الحَرَمُ كلُّه مقامُ إبراهيم ، والضميرُ في قوله : { وَمَن دَخَلَهُ } عائدٌ على البَيْت ، في قول الجمهور ، وعائدٌ على الحَرَمِ ، في قول مَنْ قَالَ : مقامُ إبراهيم هو الحَرَمُ .
وقوله : { كَانَ ءامِناً } قال الحَسَنُ ، وغيره : هذه وصْفُ حالٍ كانَتْ في الجاهلية ، إذا دخَلَ أحدٌ الحَرَمَ ، أَمِنَ ، فلا يُعْرَضُ له ، فأما في الإسلام ، فإن الحرم لا يَمْنَعُ مِنْ حَدٍّ مِنْ حدودِ اللَّه ، وقال يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ : معنى الآية ، ومَنْ دخل البيتَ كان آمناً من النَّار ، وحكى النقَّاش عن بَعْض العُبَّاد ، قال : كُنْتُ أطوفُ حوْلَ الكعبةِ لَيْلاً ، فقلْتُ : يا رَبِّ ، إنَّكَ قُلْتَ : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } ، فمما ذا هو آمنٌ ؟ فسمعتُ مكلِّماً يكلِّمني ، وهو يقولُ : مِنَ النَّارِ ، فنظَرْتُ ، وتأمَّلت ، فما كان في المكان أحد ، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه » : وقول بعضهم : ( وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمناً ) من النار ، لا يصحُّ حمله على عمومه ، ولكنه ثَبَتَ ، ( أنَّ مَنْ حَجَّ ، فَلَمْ يرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) ( والحَجُّ المَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّة ) .
قال ذلك كلَّه رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اه .
وقوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حجُّ البيت }[ آل عمران :97 ] .
هو فرضُ الحجِّ في كتابِ اللَّه بإجماع ، وقرأ حمزةُ ، والكِسَائيُّ ، وحَفْص عن عاصِمٍ : ( حَجُّ الَبْيتِ ) بكَسْر الحاء ، وقرأ الباقُونَ بفتحها ، فَبِكَسْر الحاء : يريدُون عَمَلَ سَنَةٍ واحدةٍ ، وقال الطبريُّ : هما لُغَتَانِ الكَسْر : لُغَةُ نَجْدٍ ، والفتْحُ لغة أهل العَالِيَةِ .
وقوله سبحانه : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً }[ آل عمران :97 ] .
( مَنْ ) : في موضعِ خَفْضٍ ، بدلٍ من «النَّاس » ، وهو بدلُ البَعْض من الكلِّ ، وقال الكسائيُّ وغيره : هي شَرْطٌ في موضع رفعٍ بالابتداء ، والجوابُ محذوفٌ ، تقديره : فَعَلَيْهِ الحجُّ ، ويدلُّ عليه عطْفُ الشرطِ الآخَرِ بعده في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ } ، وأسند الطبريُّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( مَنْ مَلَكَ زَاداً وَرَاحِلَةً ، فَلَمْ يَحُجَّ ، فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ) ، وذهب جماعةٌ من العلماءِ إلى أنَّ قوله سبحانه : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } كلامٌ عامٌّ ، لا يتفسَّر بزادٍ ولا راحلةٍ ، ولا غَيْرِ ذلك ، بل إذا كان مستطيعاً غَيْرَ شاقٍّ على نفسه ، فقد وجَبَ علَيْه الحَجُّ ، وإليه نحا مَالِكٌ في سماع أَشْهَبَ ، وقال : لا صِفَةَ في هذا أبْيَنُ ممَّا قال الله تعالى ، وهذا أنْبَلُ الأقوال ، وهذه مِنَ الأمور التي يتصرَّف فيها فِقْهُ الحال ، والضميرُ في ( إِلَيْهِ ) عائدٌ على البيت ، ويحتملُ عَلَى الحِجِّ .
وقوله سبحانه : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين }[ آل عمران :97 ] .
قال ابن عبَّاس ، وغيره : المعنى مَنْ زعم أنَّ الحَجَّ ليس بفَرْضٍ عليه ، ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أنه قرأَ هذه الآيةَ ، فقَالَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ ، كَفَرَ ؟ فَقَالَ لَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ تَرَكَهُ ، لاَ يَخَافُ عُقُوبَتَهُ ، ومَنْ حَجَّهُ لاَ يَرْجُو ثَوَابَهُ ، فَهُوَ ذَلِكَ ) ، وقال بمعنى هذا الحديثِ ابْنُ عبَّاس ، وغيره ، وقال السُّدِّيُّ ، وجماعة مِنْ أهْل العلْم : معْنَى الآيةِ مَنْ كَفَر بأنْ وَجَد ما يَحُجُّ به ، ثم لَمْ يَحُجَّ ، قال السُّدِّيُّ : مَنْ كان بهذه الحالِ ، فهو كافرٌ ، يعني : كُفْرَ مَعْصية ، ولا شكَّ أنَّ مَنْ أنعم اللَّه علَيْه بمالٍ وصحَّة ، ولم يَحُجَّ ، فقد كَفَر النِّعْمَةَ ، وقال ابنُ عُمَر وجماعةٌ : معنى الآيةِ ( ومن كَفَر ) باللَّه واليومِ الآخِرِ . قال الفَخْر : والأكثرون هم الذين حَمَلُوا الوعيدَ على مَنْ ترك اعتقادَ وُجُوبَ الحجِّ ، وقال الضَّحَّاك : لما نَزلَتْ آية الحَجِّ ، فأعْلَمِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذَلِكَ أَهْلَ المِلَلِ ، وقَالَ : ( إنَّ اللَّه تعالى كَتَبَ عَلَيْكُمْ الحَجُّ ، فحُجُّوا ، فَآمَنَ بِهِ المُسْلِمُونَ ، وَكَفَرَ غَيْرُهُم فَنَزَلَتِ الآيةُ ، قَالَ الفَخْرُ : وهذا هو الأقوى ، واللَّه أعلم ، اه .
ومعنى قوله تعالى : { غَنِيٌّ عَنِ العالمين } الوعيدُ لِمَنْ كفر ، والقَصْدُ بالكلامِ ، فَإنَّ اللَّه غنيٌّ عنهم ، ولكن عمَّم اللفظ ، ليَبْرَعَ المعنى ، وتنتبه الفِكَرُ لقدرته سبحانه ، وعظيم سلطانه ، واستغنائه عن جميعِ خَلْقِهِ لا ربَّ سواه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.