قوله تعالى :{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } قرأ عاصم : أسوة حيث كان ، بضم الهمزة ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان ، أي : قدوة صالحة ، وهي فعلة من الائتساء ، كالقدوة من الاقتداء ، اسم وضع موضع المصدر ، أي : به اقتداء حسن أن تنصروا دين الله وتؤازروا الرسول ولا تتخلفوا عنه ، وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ كسرت رباعيته وجرح وجهه ، وقتل عمه وأوذي بضروب من الأذى ، فواساكم مع ذلك بنفسه ، فافعلوا أنتم كذلك أيضاً واستنوا بسنته ، { لمن كان يرجو الله } بدل من قوله : لكم وهو تخصيص بعد تعميم للمؤمنين ، يعني : أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان يرجو الله ، قال ابن عباس : يرجو ثواب الله . وقال مقاتل : يخشى الله ، { واليوم الآخر } أي : يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال ، { وذكر الله كثيراً } في جميع المواطن على السراء والضراء .
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة ، وباشر موقف الحرب ، وهو الشريف الكامل ، والبطل الباسل ، فكيف تشحون بأنفسكم ، عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بنفسه فيه ؟ "
فَتأَسَّوْا به في هذا الأمر وغيره .
واستدل الأصوليون في هذه الآية ، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وأن الأصل ، أن أمته أسوته في الأحكام ، إلا ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به .
فالأسوة نوعان : أسوة حسنة ، وأسوة سيئة .
فالأسوة الحسنة ، في الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فإن المتأسِّي به ، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه ، وهو الصراط المستقيم .
وأما الأسوة بغيره ، إذا خالفه ، فهو الأسوة السيئة ، كقول الكفار{[698]} حين دعتهم الرسل للتأسِّي[ بهم ]{[699]} { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ }
وهذه الأسوة الحسنة ، إنما يسلكها ويوفق لها ، من كان يرجو اللّه ، واليوم الآخر ، فإن ما معه{[700]} من الإيمان ، وخوف اللّه ، ورجاء ثوابه ، وخوف عقابه ، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم .
لنستمع إلى القرآن الكريم وهو يصور لنا موقف المؤمنين فى غزوة الأحزاب ، كما يحكى جانبا من فضل الله عليهم ، ومن لطفه بهم فيقول - سبحانه - : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ . . . كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أى : كان لكم قدوة فى النبى صلى الله عليه وسلم حيث بذلك نفسه لنصرة دين الله ، فى خروجه إلى الخندق . والأسوة : القدوة . وقرأ عاصم { أُسوة } بضم الهمزة . والباقون بكسرها . والجمع أسىً وإسِّى - بضم الهمزة وكسرها .
يقال : فلان ائتسى بفلان ، إذا اقتدى به ، وسار على نهجه وطريقته .
وقال الإِمام ابن كثير : هذه الآية الكريمة أصل كبير فى الأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم فى أقواله وأفعاله وأحواله ولهذا أمر الناس بالتأسى بالنبى صلى الله عليه وسلم كان فى هذه الغزوة بصفة خاصة ، وفى غيرها بصفة عامة القدوة الحسنة الطيبة فى كل أقواله وأفعاله وأحواله صلى الله عليه وسلم .
لقد شارك أصحابه فى حفر الخندق ، وفى الضرب بالفأس . وفى حمل التراب بل وشاركهم فى أراجيزهم وأناشديهم ، وهم يقومون بهذا العمل الشاق المتعب .
وشاركهم فى تحمل آلام الجوع ، وآلام السهر . . بل كان صلى الله عليه وسلم هو القائد الحازم الرحيم ، الذى يلجأ إليه أصحابه عندما يعجزون عن إزالة عقبة صادفتهم خلال حفرهم للخندق .
قال ابن إسحاق ما ملخصه : وعمل المسلمون فيه - أى فى الخندق - حتى أحكموه ، وارتجزوا فيه برجل من الملسمين يقال له " جُعَيلٌ " سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمْراً ، فقالوا :
سماه من بعد جعيل عمرا . . . وكان للبائس يما ظهيرا
فإذا مروا بعمرو ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عمرا " وإذا بظهر قال : " ظهرا " .
ثم قال ابن إسحاق : وكان فى حفر الخندق أحاديث بلغتنى فيها تحقيق نبوته صلى الله عليه وسلم فكان فيما بلغنى أن جابر بن عبد الله كان يحدث ، أنهم اشتدت عليهم فى بعض الخندق كُدْيَةٌ - أى صخرة عظيمة - ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ، ثم نضخ ذلك الماء على تلك الكدية ، فيقول من حضرها : فوالذى بعثه بالحق نبيا لانهالت - أى : لتفتت - حتى عادت كالكثيب - أى كالرمل المتجمع - لا ترد فأسا ولا مسحاة .
وهذه الآية الكريمة وإن كان نزولها فى غزوة الأحزاب ، إلا أن المقصود بها وجوب الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فى جميع أقواله وأفعاله ، كما قال - تعالى - : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } والجار والمجرور فى قوله - سبحانه - : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر } متعلق بمحذوف صفة لقوله { حَسَنَةٌ } ، أو بهذا اللفظ نفسه وهو { حَسَنَةٌ } .
والمراد بمن كان يرجو الله واليوم الآخر : المؤمنون الصادقون الذين وفو بعهودهم .
أى : لقد كان لكم - أيها الناس - قدوة حسنة فى نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وهذه القدوة الحسنة كائنة وثابتة للمؤمنين حق الإِيمان . الذين يرجون ثواب الله - تعالى - ، ويؤملون رحمته يوم القيامة ، إذ هم المنتفعون بالتأسى برسولهم صلى الله عليه وسلم وقوله : { وَذَكَرَ الله كَثِيراً } معطوف على { كَانَ } ، أى : هذه الأسوة الحسنة بالرسول صلى الله عليه وسلم ثابتة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، ولمن ذكر الله - تعالى - ذكرا كثيرا ، لأن الملازمة لذكر الله - تعالى - توصل إلى طاعته والخوف منه - سبحانه - .
وجمع - سبحانه - بين الرجاء والإِكثار من ذكره ، لأن التأسى التام بالرسول صلى الله عليه وسلم لا يتحقق إلا بهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الاَخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً * وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُواْ هََذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : أُسْوَةٌ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : «إسْوَةٌ » بكسر الألف ، خلا عاصم بن أبي النجود ، فإنه قرأه بالضمّ : أُسْوَةٌ . وكان يحيى بن وثاب يقرأ هذه بالكسر ، ويقرأ قوله لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ بالضمّ ، وهما لغتان . وذُكر أن الكسر في أهل الحجاز ، والضمّ في قيس . يقولون : أُسوة ، وأُخوة . وهذا عتاب من الله للمتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعسكره بالمدينة ، من المؤمنين به . يقول لهم جلّ ثناؤه : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، أن تتأسوا به ، وتكونوا معه حيث كان ، ولا تتخلّفوا عنه . لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللّهَ يقول : فإن من يرجو ثواب الله ورحمته في الاَخرة لا يرغب بنفسه ، ولكنه تكون له به أُسوة في أن يكون معه حيث يكون هو . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان ، قال : ثم أقبل على المؤمنين ، فقال لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَنْ كانَ يَرْجُو اللّهَ وَاليَومَ الاَخِرَ أن لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، ولا عن مكان هو به . وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرا يقول : وأكثر ذكر الله في الخوف والشدّة والرخاء .
القرطبي: روى عقبة بن حسان الهجري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} قال: في جوع النبي صلى الله عليه وسلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... وهذا عتاب من الله للمتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعسكره بالمدينة، من المؤمنين به. يقول لهم جلّ ثناؤه: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، أن تتأسوا به، وتكونوا معه حيث كان، ولا تتخلّفوا عنه. "لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللّهَ "يقول: فإن من يرجو ثواب الله ورحمته في الآخرة لا يرغب بنفسه، ولكنه تكون له به أُسوة في أن يكون معه حيث يكون هو... "وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرا" يقول: وأكثر ذكر الله في الخوف والشدّة والرخاء.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
الأسوة الحسنة: المشاركة في الأمر، يقال هو مواسيه بماله إذا جعل له نصيباً. وفي المراد بذلك وجهان: أحدهما: الحث على الصبر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه.
{وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} يحتمل وجهين: أحدهما: أي استكثر من العمل بطاعته تذكراً لأوامره. الثاني: أي استكثر من ذكر الله خوفاً من عقابه ورجاء لثوابه. واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين: أحدهما: المنافقون عطفاً على ما تقدم من خطابهم. الثاني: المؤمنون لقوله: {لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَذَكَرَ الله كَثِيراً} وقرن الرجاء بالطاعات الكثيرة والتوفر على الأعمال الصالحة، والمؤتسي برسول الله صلى الله عليه وسلم من كان كذلك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... رجاء الله تعالى تابع للمعرفة به، ورجاء اليوم الآخر ثمرة العمل الصالح، {وذكر الله كثيراً} من خير الأعمال، فنبه عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر تعالى عنهم بهذه الأحوال التي هي غاية في الدناءة، أقبل عليهم إقبالاً يدلهم على تناهي الغضب، فقال مؤكداً محققاً لأجل إنكارهم: {لقد كان لكم} أيها الناس كافة الذين المنافقون في غمارهم {في رسول الله} الذي جاء عنه لإنقاذكم من كل ما يسوءكم، وجلاله من جلاله المحيط بكل جلال، وكماله من كماله العالي على كل كمال، وهو أشرف الخلائق، فرضيتم مخالطة الأجلاف بدل الكون معه {أسوة} أي قدوة عظيمة -على قراءة عاصم بضم الهمزة، وفي أدنى المراتب- على قراءة الباقين بالكسر، تساوون أنفسكم به وهو أعلى الناس قدراً يجب على كل أحد أن يفدي ظفره الشريف ولو بعينه فضلاً عن أن يسوي نفسه بنفسه، فيكون معه في كل أمر يكون فيه، لا يختلف عنه أصلاً.
{حسنة} على قراءة الجماعة بمطلق الصبر في البأساء وأحسنية -على قراءة عاصم بالصبر على الجراح في نفسه والإصابة في عمه وأعزّ أهله وجميع ما كان يفعل في مقاساة الشدائد، ولقاء الأقران، والنصيحة لله ولنفسه وللمؤمنين، وعبر عنه بوصف الرسالة لأنه حظ الخلق منه ليقتدوا بأفعاله وأقواله، ويتخلقوا بأخلاقه وأحواله، ونبه على أن الذي يحمل على التأسي به صلى الله عليه وسلم إنما هو الصدق في الإيمان ولا سيما الإيمان بالقيامة، وأن الموجب للرضا بالدنايا هو التكذيب بالآخرة فقال مبدلا من "لكم "(لمن كان) أي كونا كأنه جبلة له.
{يرجوا الله} أي في جبلته أنه يجدد الرجاء مستمراً للذي لا عظيم في الحقيقة سواه فيأمل إسعاده ويخشى إبعاده.
{واليوم الآخر} الذي لا بد من إيجاده ومجازاة الخلائق فيه بأعمالهم، فمن كان كذلك حمله رجاؤه على كل خير، ومنعه عن كل شر، فإنه يوم التغابن، لأن الحياة فيه دائمة، والكسر فيه لا يجبر.
ولما عبر بالمضارع المقتضي لدوام التجدد اللازم منه دوام الاتصاف الناشئ عن المراقبة لأنه في جبلته، أنتج ان يقال: فأسى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء تصديقاً لما في جبلته من الرجاء، فعطف عليه، أو على "كان" المقتضية للرسوخ قوله: {وذكر الله} الذي له صفات الكمال، وقيده بقوله: {كثيراً} تحقيقاً لما ذكر من معنى الرجاء الذي به الفلاح، وأن المراد منه الدائم في حالي السراء والضراء...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
والآية وإن سيقت للاقتداء به عليه الصلاة والسلام في أمر الحرب من الثبات ونحوه فهي عامة في كل أفعاله صلى الله عليه وسلم إذا لم يعلم أنها من خصوصياته كنكاح ما فوق أربع نسوة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك كان حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في الصفوف، وتلك كانت صورتهم الرديئة. ولكن الهول والكرب والشدة والضيق لم تحول الناس جميعا إلى هذه الصورة الرديئة.. كانت هنالك صورة وضيئة في وسط الظلام، مطمئنة في وسط الزلزال، واثقة بالله، راضية بقضاء الله، مستيقنة من نصر الله، بعد كل ما كان من خوف وبلبلة واضطراب.
ويبدأ السياق هذه الصورة الوضيئة برسول الله [صلى الله عليه وسلم].
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا)..
وقد كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد، مثابة الأمان للمسلمين، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان. وإن دراسة موقفه [صلى الله عليه وسلم] في هذا الحادث الضخم لمما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم؛ وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر؛ وتطلب نفسه القدوة الطيبة؛ ويذكر الله ولا ينساه.
ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال. إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل.
خرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يعمل في الخندق مع المسلمين يضرب بالفأس، يجرف التراب بالمسحاة، ويحمل التراب في المكتل. ويرفع صوته مع المرتجزين، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل، فيشاركهم الترجيع! وقد كانوا يتغنون بأغان ساذجة من وحي الحوادث الجارية: كان هناك رجل من المسلمين اسمه جعيل، فكره رسول الله [صلى الله عليه وسلم] اسمه، وسماه عَمروا. فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز الساذج:
سماه من بعد جعيل عَمروا وكان للبائس يوما ظهرا
فإذا مروا في ترجيعهم بكلمة "عَمرو"، قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: "عمرا". وإذا مروا بكملة "ظهر" قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: "ظهرا".
ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون، والرسول [صلى الله عليه وسلم] بينهم، يضرب بالفأس، ويجرف بالمسحاة، ويحمل في المكتل، ويرجع معهم هذا الغناء. ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم؛ وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز.
وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب. فقال [صلى الله عليه وسلم]" أما إنه نعم الغلام! "وغلبته عيناه فنام في الخندق. وكان القر شديدا. فأخذ عمارة بن حزم سلاحه، وهو لا يشعر. فلما قام فزع. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]:"يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك "! ثم قال: "من له علم بسلاح هذا الغلام"؟ فقال عمارة: يا رسول الله هو عندي. فقال: "فرده عليه". ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا!
وهو حادث كذلك يصور يقظة العين والقلب، لكل من في الصف، صغيرا أو كبيرا. كما يصور روح الدعابة الحلوة الحانية الكريمة:"يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك! "ويصور في النهاية ذلك الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه في كنف نبيهم، في أحرج الظروف..
ثم كانت روحه [صلى الله عليه وسلم] تستشرف النصر من بعيد، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول؛ فيحدث بها المسلمين، ويبث فيهم الثقة واليقين.
قال ابن إسحاق: وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله [صلى الله عليه وسلم] قريب مني. فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة. قال: ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى. قال: ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت، لمع المعول وأنت تضرب؟ قال:"أو قد رأيت ذلك يا سلمان "؟ قال: قلت. نعم: قال:"أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن. وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب. وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق"..
وجاء في "إمتاع الاسماع للمقريزي" أن هذا الحادث وقع لعمر بن الخطاب بحضور سلمان. رضي الله عنهما.
ولنا أن نتصور اليوم كيف يقع مثل هذا القول في القلوب، والخطر محدق بها محيط.
ولنا أن نضيف إلى تلك الصور الوضيئة صورة حذيفة عائدا من استطلاع خبر الأحزاب وقد أخذه القر الشديد ورسول الله [صلى الله عليه وسلم] قائم يصلي في ثوب لإحدى أزواجه. فإذا هو في صلاته واتصاله بربه، لا يترك حذيفة يرتعش حتى ينتهي من صلاته بل يأخذه -صلوات الله وسلامه عليه- بين رجليه، ويلقي عليه طرف الثوب ليدفئه في حنو، ويمضي في صلاته حتى ينتهي، فينبئه حذيفة النبأ، ويلقي إليه بالبشرى التي عرفها قلبه [صلى الله عليه وسلم] فبعث حذيفة يبصر أخبارها!
أما أخبار شجاعته [صلى الله عليه وسلم] في الهول، وثباته ويقينه، فهي بارزة في القصة كلها، ولا حاجة بنا إلى نقلها، فهي مستفيضة معروفة.
وصدق الله العظيم: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا)..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا هو الذي خاطب الله به المسلمين الذين كانوا معه، ليعتبروه أساساً لسلوكهم الإيماني وخطهم الإسلامي، بأن يتطلعوا إليه ليرصدوه في كل عمله، لتكون صورتهم صورته، يتأسّون به، ويقتدون به في مواقفه وسجاياه. وتلك هي ميزة الرسل في شخصيتهم النبويّة، أنهم لا يمثلون الرسالة في الكلمة فقط، بل يجسِّدونها في الموقف، فيرى الناس صورة القيمة الإسلامية في الواقع، كما يسمعونها في الكلمة. وقد كان رسول الله إسلاماً يتحرك على الأرض، فيفهمون الدعوة في سلوكه بعد أن يسمعوها من قوله، ما يوحي لهم بأنها ليست فكراً مثالياً يعيش في عالم المثال وفي آفاق الخيال، بل هي فكر متجسّد في الواقع العملي من شخصية الداعية.
وقد رأى بعض العلماء في هذه الآية إيحاءً بعصمة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لأن الله لا يجعل إنساناً قدوةً مطلقة في كل عمله إلا إذا كان عمله صورةً للحق، ومطابقاً للصواب.
وهكذا كانت هذه الآية خطاباً للمسلمين الذين كانوا يجتمعون حول الرسول ويتصرفون بحرّية الذات المشدودة إلى مزاجها، الباحثة عن رغباتها، الغارقة في شهواتها، بعيداً عن المسؤولية في خط الرسالة، وبعيداً عن الجهاد في سبيل الله، فيهربون عندما تبدو أمامهم مواقع الخطر، ويسقطون أمام تحديات العدو. إنها تريد أن تشدّهم إلى صورة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في ثباته في جهاده، وإخلاصه لربه وقوته في مواجهة العدو، واستهانته بالأخطار المحدقة به...
إنها تريد أن تقدِّم لهم هذه الصورة؛ النموذج الأعلى للإنسان الرسالي الثابت في خط الرسالة، المتحدي في مواجهة العدوّ، ليزدادوا قوّةً بقوته، وليأخذوا الإخلاص من إخلاصه، حتى يكونوا في مستوى التحديات الكبيرة في المعركة، ليكون لهم النصر من خلال هذا الموقف الحاسم القويّ في مواقع الإيمان.
إنه خط القيادة القدوة الذي تسير فيه القاعدة الجماهيرية من الأمة، ولكن الذين يلتزمونه، هم الذين انفتحت قلوبهم على الإيمان بالله، وعاشوا الإخلاص له، ورغبوا في ثوابه، وخافوا من عقابه، وذكروه في السرّ والعلانية، فلم يغب عن أفكارهم، ولا عن ألسنتهم، لأنهم وحدهم الذين يفهمون معنى الرسالة في معناه، وسرّ الإيمان في سره.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً). فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) خير نموذج لكم، لا في هذا المجال وحسب، بل وفي كلّ مجالات الحياة، فإنّ كلاًّ من معنوياته العالية، وصبره واستقامته وصموده، وذكائه ودرايته، وإخلاصه وتوجّهه إلى الله، وتسلّطه وسيطرته على الحوادث، وعدم خضوعه وركوعه أمام الصعاب والمشاكل، نموذج يحتذي به كلّ المسلمين. إنّ هذا القائد العظيم لا يدع للضعف والعجلة إلى نفسه سبيلا عندما تحيط بسفينته أشدّ العواصف، وتعصف بها الأمواج المتلاطمة...
«الاُسوة» تعني في الأصل الحالة التي يتلبّسها الإنسان لدى اتّباعه لآخر، وبتعبير آخر: هي التأسّي والاقتداء، وبناءً على هذا فإنّ لها معنى المصدر لا الصفة، ومعنى جملة: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة) هو أنّ لكم في النّبي (صلى الله عليه وآله) تأسّياً واقتداءً جيّداً، فإنّكم تستطيعون بالاقتداء به واتباعه أن تصلحوا اُموركم وتسيروا على الصراط المستقيم.
والطريف أنّ القرآن الكريم يعتبر هذه الاُسوة الحسنة في الآية أعلاه مختّصة بمن لهم ثلاث خصائص: الثقة بالله، والإيمان بالمعاد، وأنّهم يذكرون الله كثيراً. إنّ الإيمان بالمبدأ والمعاد هو سبب وباعث هذه الحركة في الحقيقة، وذكر الله يعمل على استمراره، إذ لا شكّ أنّ من لم يمتلئ قلبه بهكذا إيمان لا يقدر أن يضع قدمه موضع قدم النّبي، وإذا لم يُدم ذكر الله ويعمّر قلبه به أثناء استمراره في هذا الطريق، ويبعد الشياطين عنه، فسوف لا يكون قادراً على إدامة التأسّي والاقتداء.