المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

101- الصلاة فريضة محكمة لا تسقط في السفر ، ولكن لا إثم على من يقصرها فيه عن الحضر . فالذين يخرجون مسافرين - إن خافوا أن يتعرض لهم الكافرون بما يكرهون - لهم أن يقصروا الصلاة ، فالصلاة التي هي أربع ركعات يصلونها اثنتين ، وإن الحذر من تعرض الكافرين واجب لأنهم أعداء ، عداوتهم واضحة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

قوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض } أي : سافرتم .

قوله تعالى : { فليس عليكم جناح } أي : حرج وإثم .

قوله تعالى : { أن تقصروا من الصلاة } ، يعني من أربع ركعات إلى ركعتين ، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء .

قوله تعالى : { إن خفتم أن يفتنكم } أي : يغتالكم ويقتلكم .

قوله تعالى : { الذين كفروا } ، في الصلاة ، نظيره قوله تعالى : { على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم } [ يونس :83 ] أي : يقتلهم .

قوله تعالى : { إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً } أي : ظاهر العداوة .

اعلم أن قصر الصلاة في السفر جائز بإجماع الأمة ، واختلفوا في جواز الإتمام . فذهب أكثرهم إلى أن القصر واجب ، وهو قول عمر ، وعلي ، وابن عمر ، وجابر ، وابن عباس رضي الله عنهم . وبه قال الحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، وهو قول مالك وأصحاب الرأي ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد صلاة الحضر .

وذهب قوم إلى جواز الإتمام ، روي ذلك عن عثمان ، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ، وبه قال الشافعي رضي الله عنه ، إن شاء أتم هو ، وإن شاء قصر ، والقصر أفضل .

أخبرنا الإمام عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وأتم . وظاهر القرآن يدل على ذلك ، لأن الله تعالى قال :{ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ، ولفظ " لا جناح " إنما يستعمل في الرخص لا فيما يكون حتماً ، فظاهر الآية يوجب أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف ، وليس الأمر على ذلك ، إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو . والقصر جائز في السفر في حال الأمن عند عامة أهل العلم ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود ، عن ابن جريج ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن عبد الله بن باباه عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما قال الله تعالى : { أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ، وقد أمن الناس ، فقال عمر رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته ) .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد الوهاب عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة آمناً ، لا يخاف إلا الله ، فصلى ركعتين .

وذهب قوم إلى أن ركعتي المسافر ليستا بقصر ، إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف ، يروى ذلك عن جابر رضي الله عنه وهو قول عطاء ، وطاووس ، والحسن ، ومجاهد ، وجعلوا شرط الخوف المذكور في الآية باقياً ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الاقتصار على ركعة واحدة لا يجوز . خائفاً كان أو آمناً . واختلف أهل العلم في مسافة القصر فقالت طائفة : يجوز القصر في السفر الطويل والقصير ، روي ذلك عن أنس رضي الله عنه . وقال عمرو بن دينار : قال لي جابر بن زيد : اقصر بعرفة . أما عامة الفقهاء فلا يجوزون القصر في السفر القصير ، واختلف في حد ما يجوز به القصر ، فقال الأوزاعي : مسيرة يوم ، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخاً ، وإليه ذهب مالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وهو قول الحسن ، والزهري قريب من ذلك ، فإنهما قالا : مسيرة يومين ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه ، قال : مسيرة ليلتين قاصدتين ، وقال في موضع : ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي ، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : مسيرة ثلاثة أيام . وقيل : قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } متصل بما بعده من صلاة الخوف ، منفصل عما قبله . روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : نزل قوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } هذا القدر ثم بعد حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً وإذا كنت فيهم } الآية . ومثله في القرآن كثير ، أن يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر ، وهو في الظاهر كالمتصل به ، وهو منفصل عنه ، كقوله تعالى : { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } [ يوسف :51 ] وهذه حكاية عن امرأة العزيز ، وقوله : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } [ يوسف :52 ] إخبار عن يوسف عليه السلام .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مّبِيناً } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } : وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض ، { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ } يقول : فليس عليكم حرج ولا إثم ، { أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } : يعني أن تقصروا من عددها ، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعا ، اثنتين ، في قول بعضهم . وقيل : معناه : لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقلّ عددها في حال ضربكم في الأرض ، أشار إلى واحدة في قول آخرين .

وقال آخرون : معنى ذلك لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا . يعني : إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وفتنتهم إياهم فيما حملهم عليهم وهم فيها ساجدون ، حتى يقتلوهم أو يأسروهم ، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها ، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له .

ثم أخبرهم جلّ ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال : { إنّ الكافِرينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا } يعني : الجاحدون وحدانية الله كانوا لكم عدوّا مبينا ، يقول : عدوّا قد أبانوا لكم عداوتهم ، بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله ، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام ، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة .

واختلف أهل التأويل في معنى القصر الذي وضع الله الجناح فيه عن فاعله ، فقال بعضهم : في السفر من الصلاة التي كان واجبا تمامها في الحضر أربع ركعات ، وأذن في قصرها في السفر إلى اثنتين . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاة إنْ خِفْتُمْ } وقد أمن الناس ! فقال : عجبت مما عجبت منه حتى سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : «صَدَقَةٌ تَصَدّقَ اللّهُ بها عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه عن يعلى بن أمية ، عن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .

حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدّث عن عبد الله بن بابيه ، يحدث عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب أعجب من قصر الناس الصلاة وقد أمنوا ، وقد قال الله تبارك وتعالى : { أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ حِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا } ! فقال عمر : عجبت مما عجبتَ منه ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «صَدَقَةٌ تَصَدّقَ اللّهُ بها عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن أبي العالية ، قال : سافرت إلى مكة ، فكنت أصلي ركعتين ، فلقيني قرّاء من أهل هذه الناحية ، فقالوا : كيف تصلي ؟ قلت : ركعتين ، قالوا : أسنة أو قرآن ؟ قلت : كل ذلك سنة وقرآن ، قلت : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، قالوا : إنه كان في حرب ! قلت : قال الله : { لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ لَتَدْخُلُنّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمْقَصّرينَ لا تخافونَ } وقال : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } فقرأ حتى بلغ : { فإذَا اطْمأْنَنْتُمْ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : أخبرنا يوسف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ ، قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله إنّا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي ؟ فأنزل الله : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } ثم انقطع الوحي . فلما كان بعد ذلك بحَوْل ، غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم ! فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في أثرها . فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين : { إنْ خفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا إنّ الكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا وإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } . . . إلى قوله : { إنّ اللّهَ أعَدّ للكافِرينَ عَذَابا مُهِينا } فنزلت صلاة الخوف .

قال أبو جعفر : وهذا تأويل للاَية حسن لو لم يكن في الكلام «إذا » ، وإذا تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها ، ولو لم يكن في الكلام «إذا » كان معنى الكلام على هذا التأويل الذي رواه سيف ، عن أبي روق : إن خفتم أيها المؤمنون أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم ، وكنت فيهم يا محمد ، فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك ، الاَية . وبعد ، فإن ذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ بن كعب : «وإذا ضَرَبْتُم في الأرض فليس عليكم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا من الصّلاة أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا » .

حدثني بذلك الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا الثوري ، عن واصل بن حيان ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي ، عن أبيه ، عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ : «أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاة أن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُوا » ، ولا يقرأ : «إنْ خِفْتُم » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بكر بن شرود ، عن الثوريّ ، عن واصل الأحدب ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ : «أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم » ، قال بكر : وهي في الإمام مصحف عثمان رحمه الله : { إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا } .

وهذه القراءة تنبىء على أن قوله : { إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا } مواصل قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } وأن معنى الكلام : وإذا ضربتم في الأرض فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ، وأن قوله : { وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ } قصة مبتدأة غير قصة هذه الاَية . وذلك أن تأويل قراءة أبيّ هذه التي ذكرناها عنه : «وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا » ، فحذفت «لا » لدلالة الكلام عليها ، كما قال جلّ ثناؤه : { يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا } بمعنى : أن لا تضلوا . ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف ، عن أبي روق .

وقال آخرون : بل هو القصر في السفر ، غير أنه إنما أذن جلّ ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدوّ يخشى أن يفتنه في صلاته . ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري ، قال : حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد ، قال : ثني عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، قال : سمعت أبي ، يقول : سمعت عائشة تقول في السفر : أتّموا صلاتكم ! فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر ركعتين ؟ فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب وكان يخاف ، هل تخافون أنتم ؟ .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد ، أنه قال لعبد الله بن عمر : إنّا نجد في كتاب الله قصر الصلاة في الخوف ، ولا نجد قصر صلاة المسافر ؟ فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به .

حدثنا عليّ بن سهل الرملي ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن عائشة كانت تصلي في السفر ركعتين .

حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : أيّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمّ الصلاة في السفر ؟ قال : عائشة وسعد بن أبي وقاص .

وقال آخرون : بل عنى بهذه الاَية : قصر صلاة الخوف في غير حال المسايفة ، قالوا : وفيها نزل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } قال : يوم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بُعْسفان والمشركون بَضجَنَان ، فتواقفوا ، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين أو أربعا ، شكّ أبو عاصم ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا . فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، فأنزل الله عليه : { فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } فصلى العصر ، فصفّ أصحابه صفين ، ثم كبر بهم جميعا ، ثم سجد الأوّلون سجدة والاَخرون قيام ، ثم سجد الاَخرون حين قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم كبر بهم وركعوا جميعا ، فتقدم الصفّ الاَخر ، واستأخر الأوّل ، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أوّل مرّة وقصر العصر إلى ركعتين .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان والمشركون بضَجَنَان ، فتواقفوا ، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلاة الظهر ركعتين ركوعهم وسجودهم وقيامهم جميعا ، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } فصلى بهم صلاة العصر ، فصفّ أصحابه صفين ، ثم كبر بهم بهم جميعا ، ثم سجد الأوّلون بسجوده والاَخرون قيام لم يسجدوا ، حتى قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم كبر بهم وركعوا جميعا ، فقدّم الصفّ الاَخر واستأخر الصفّ المقدّم ، فتعاقبوا السجود كما دخلوا أوّل مرّة ، وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد . قال : فصلينا الظهر ، فقال المشركون : كانوا على حال لو أردنا لأصبنا غِرّة ، لأصبنا غفلة . فأنزلت آية القصر بين الظهر والعصر ، فأخذ الناس السلاح ، وصفّوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلي القبلة والمشركون مُسْتَقْبَلَهُمْ ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبروا جميعا ، ثم ركع وركعوا جميعا ، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الصفّ الذي يليه وقام الاَخرون يحرسونهم ، فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء . ثم نكص الصفّ الذي يليه وتقدّم الاَخرون فقاموا في مقامهم ، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركعوا جميعا ، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الصفّ الذي يليه ، وقام الاَخرون يحرسونهم . فلما فرغ هؤلاء من سجودهم ، سجد هؤلاء الاَخرون ، ثم استووا معه ، فقعدوا جميعا ، ثم سلم عليهم جميعا ، فصلاها بعسفان ، وصلاها يوم بني سُلَيْم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن شيبان النحويّ ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي . وعن إسرائيل ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، ثم ذكر نحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن سليمان اليشكري ، أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة ، أيّ يوم أنزل ؟ أو أيّ يوم هو ؟ فقال جابر : انطلقنا نتلقى عير قريش آتية من الشأم ، حتى إذا كنا بنَخْل ، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ! قال : «نَعَمْ » ، قال : هل تخافني ؟ قال : «لا » ، قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : «اللّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ » . قال : فسلّ السيف ثم هدّده وأوعده . ثم نادى بالرحيل وأَخْذِ السلاح ، ثم نُودي بالصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم ، وطائفة أخرى يحرسونهم ، فصلى بالذين يلونه ركعتين ، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم ، فقاموا في مصافّ أصحابهم ، ثم جاء الاَخرون فصلى بهم ركعتين والاَخرون يحرسونهم ، ثم سلم ، فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين ، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة ، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح .

وقال آخرون : بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف ، إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر ، لا في صلاة الإقامة . قالوا : وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان تمام غير قصر ، كما أن صلاة الإقامة أربع ركعات في حال الإقامة ، قالوا : فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم ، فجعلت على النصف ، وهي تمام في السفر ، ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه ، فجعلت على النصف ركعة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا } . . . إلى قوله : { عَدُوّا مُبِينا } إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام ، والتقصير لا يحلّ إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة والتقصير ركعة ، يقوم الإمام ، ويقوم جنده جندين ، طائفة خلفه ، وطائفة يوازون العدوّ ، فيصلي بمن معه ركعة ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم ، وتلك المشية القهقرى ، ثم تأتى الطائفة الأخرى ، فتصلى مع الإمام ركعة أخرى ، ثم يجلس الإمام فيسلم ، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة ثم يرجعون إلى صفهم ، ويقوم الاَخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة ، والناس يقولون : لا ، بل هي ركعة واحدة ، لا يصلى أحد منهم إلى ركعته شيئا ، تجزئه ركعة الإمام ، فيكون للإمام ركعتان ، ولهم ركعة ، فذلك قول الله : { وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ } . . . إلى قوله : { وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } .

حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك الحنفي ، قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ؟ فقال : ركعتان تمام غير قصر إنما القصر صلاة المخافة . فقلت : وما صلاة المخافة ؟ قال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : كيف تكون قصرا وهم يصلون ركعتين ؟ إنما هي ركعة .

حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية ، قال : حدثنا المسعودي ، قال : ثني يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : صلاة الخوف ركعة .

حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحرث ، قال : ثني بكر بن سوادة أن زياد بن نافع حدثه ، عن كعب وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعت يده يوم اليمامة : أن صلاة الخوف لكل طائفة ركعة وسجدتان .

واعتلّ قائلو هذه المقالة من الاَثار بما :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني أشعث بن أبي الشعثاء ، عن الأسود بن هلال ، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي ، قال : كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان ، فقال : أيكم يحفظ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا . فأقامنا خلفه صفّا وصفّ موازي العدوّ ، فصلى بالذين يلونه ركعة ، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ أولئك ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن الركين بن الربيع ، عن القاسم بن حسان ، قال : سألت زيد بن ثابت عنه ، فحدثني بنحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأشعث ، عن الأسود بن هلال ، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي ، عن حذيفة بنحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثني يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي الجهم ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قَرَد ، فصفّ الناس خلفه صفين : صفّا خلفه ، وصفّا موازي العدوّ¹ فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ، ولم يقضوا .

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن أبي بكر بن صخير ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي ، عن أيوب بن عائذ الطائي ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا يعقوب بن ماهان ، قال : حدثنا القاسم بن مالك ، عن أيوب بن عائذ الطائي ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف ، فقام صفّ بين يديه وصفّ خلفه ، فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ثم سلم ، فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة .

حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة ، حدثه عن زيادة بن نافع ، حدثه عن أبي موسى ، أن جابر بن عبد الله حدثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة ، لكل طائفة ركعة وسجدتين .

حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا سعيد بن عبد الهنائي ، قال : حدثنا عبد الله بن شقيق ، قال : حدثنا أبو هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان ، فقال المشركون : إن لهؤلاء صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأبكارهم ، وهي العصر ، فأجمعوا أمركم ، فميلوا عليهم ميلة واحدة ! وإن جبريل أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقسم أصحابه شطرين ، فيصلي بعضهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم فيأخذوا حذرهم وأسلحتهم ، ثم يأمر الأخرى فيصلوا معه ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم ، فتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين .

وقال آخرون : عَنى به القَصْر في السفَر ، إلا أنه عنى به القصْر في شدّة الحرب وعند المسايفة ، فأبيح عند التحام الحرب للمصلى أن يركع ركعة إيماء برأسه حيث توجه بوجهه . قالوا : فذلك معنى قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا } . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } . . . الاَية ، قصر الصلاة إن لقيت العدوّ وقد حانت الصلاة أن تكبر الله وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الاَية قول من قال : عَنَى بالقْصر فيها القصر من حدودها ، وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها ، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها مستقبل القبلة فيها ومستدبرها وراكبا وماشيا ، وذلك في حال الشبكة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف ، وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى : { فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكبْانا } وأذن بالصلاة المكتوبة فيها راكبا إيماء بالركوع والسجود على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا } لدلالة قول الله تعالى : { فإذَا اطْمأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ } على أن ذلك كذلك¹ لأن إقامتها إتمام حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبة في حال الخوف .

فإن ظنّ ظانّ أن ذلك أمر من الله باتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف ، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم غير مقيم صلاته لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين ، فذلك قول إن قاله قائل مخالف لما عليه الأمة مجمعة من أن المسافر لا يستحقّ أن يقال له : إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها ، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين أنه غير مقيم صلاته . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفا من عدوّه أن يفتنه ، أن يقيم صلاته إذا اطمأنّ وزال الخوف ، كان معلوما أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة ، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف ، وإذ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة إقامة صلاته ، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة ترك إقامتها . وقد دللنا على أن ترك إقامتها ، إنما هو ترك حدودها على ما بينا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

انتقال إلى تشريع آخر بمناسبة ذكر السفر للخروج من سلطة الكفر ، على عادة القرآن في تفنين أغراضه ، والتماس مناسباتها . والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها . والضرب في الأرض : السفر .

( وإذا ) مضمّنة معنى الشرط كما هو غالب استعمالها ، فلذلك دخلت الفاء على الفعل الذي هو كجواب الشرط . ( وإذا ) منصوبة بفعل الجواب .

وقصر الصلاة : النقص منها ، وقد عُلم أنّ أجزاء الصلاة هي الركعات بسجداتها وقراءاتها ، فلا جرم أن يعلم أنّ القصر من الصلاة هو نقص الركعات ، وقد بيّنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ صيّر الصلاة ذات الأربع الركعات ذات ركعتين . وأجملت الآية فلم تعيّن الصلوات التي يعتريها القصر ، فبيّنته السنّة بأنّها الظهر والعصر والعشاء . ولم تقصر الصبح لأنّها تصير ركعة واحدة فتكون غير صلاة ، ولم تقصر المغرب لئلاّ تصير شفعاً فإنّها وتر النهار ، ولئلاّ تصير ركعة واحدة كما قلنا في الصبح .

وهذه الآية أشارت إلى قصر الصلاة الرباعية في السفر ، ويظهر من أسلوبها أنّها نزلت في ذلك ، وقد قيل : إنّ قصر الصلاة في السفر شُرع في سنة أربع من الهجرة وهو الأصحّ ، وقيل : في ربيع الآخر من سنة اثنتين ، وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوماً . وقد روى أهل الصحيح قول عائشة رضي الله عنها : فُرِضت الصلاة ركعتين فأقِرّت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر ، وهو حديث بيّن واضح . ومحمل الآية على مقتضاه : أنّ الله تعالى لمّا فرض الصلاة ركعتين فتقرّرت كذلك فلمّا صارت الظهر والعصر والعشاء أربعاً نسخ ما كان من عددها ، وكان ذلك في مبدأ الهجرة ، وإذ قد كان أمر الناس مقاماً على حالة الحضر وهي الغالب عليهم ، بطل إيقاع الصلوات المذكورات ركعتين ، فلمّا غزوا خفف الله عنهم فأذنهم أن يصلّوا تلك الصلوات ركعتين ركعتين ، فلذلك قال تعالى : { فليس عليكم جناح } وقال : { أن تقصروا من الصلاة } وإنّما قالت عائشة « أقرت صلاة السفر » حيث لم تتغيّر عن الحالة الأولى ، وهذا يدلّ على أنّهم لم يصلّوها تامّة في السفر بعد الهجرة ، فلا تعارض بين قولها وبين الآية .

وقوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } شرط دلّ على تخصيص الإذن بالقصر بحَال الخوف من تمكّن المشركين منهم وإبطالِهم عليهم صلاتهم ، وأنّ الله أذن في القصر لتقع الصلاة عن اطمئنان ، فالآية هذه خاصّة بقصر الصلاة عند الخوف ، وهو القصر الذي له هيئة خاصّة في صلاة الجماعة ، وهذا رأي مالك ، يدلّ عليه ما أخرجه في « الموطأ » : أنّ رجلاً من آل خالد بن أسِيد سأل عبد الله بن عُمر « إنّا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر » ، فقال ابن عمر : « يابن أخي إنّ الله بعث إلينا محمداً ولا نعلم شيئاً فإنّما نفعل كما رأيناه يفعل » ، يعني أنّ ابن عمر أقرّ السائل وأشعره بأنّ صلاة السفر ثبتت بالسنّة ، وكذلك كانت ترى عائشة وسعد بن أبي وقّاص أنّ هذه الآية خاصّة بالخوف ، فكانا يكمّلان الصلاة في السفر .

وهذا التأويل هو البيّن في محمل هذه الآية ، فيكون ثبوت القصر في السفر بدون الخوف وقصر الصلاة في الحضر عند الخوف ثابتين بالسنّة ، وأحدهما أسبق من الآخر ، كما قال ابن عمر . وعن يعلى بن أمية أنّه قال : قلت لعمر بن الخطاب : إنّ الله تعالى يقول : { إن خفتم } وقد أمِن الناس . فقال : عجبتُ ممّا عجبتَ منه فسألتُ رسول الله عن ذلك فقال " صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقَته " . ولا شكّ أنّ محمل هذا الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ عمرَ على فهمه تخصيصَ هذه الآية بالقصر لأجل الخوف ، فكان القصر لأجل الخوف رخصة لدفع المشقّة ، وقوله : له صدقة الخ ، معناه أنّ القصر في السفر لغير الخوف صدقة من الله ، أي تخفيف ، وهو دون الرخصة فلا تردّوا رخصته ، فلا حاجة إلى ما تَمَحّلوا به في تأويل القيد الذي في قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وتقتصر الآية على صلاة الخوف ، ويستغني القائلون بوجوب القصر في السفر مثل ابن عباس ، وأبي حنيفة ، ومحمد بن سحنون ، وإسماعيل بن إسحاق من المالكية ؛ والقائلون بتأكيد سنّة القصر مثل مالك بن أنس وعامّة أصحابه ، عن تأويل قوله : { فليس عليكم جناح } بما لا يلائم إطلاق مثل هذا اللفظ . ويكون قوله : { وإذا ضربتم في الأرض } إعادة لتشريع رخصة القصر في السفر لقصد التمهيد لقوله : { وإذا كنت فيهم } الآيات .

أمّا قصر الصلاة في السفر فقد دلّت عليه السنّة الفعلية ، واتَّبعه جمهور الصحابة إلاّ عائشة وسعدَ بن أبي وقاص ، حتّى بالغ من قال بوجوبه من أجل حديث عائشة في « الموطأ » و« الصحيحين » لدلالته على أنّ صلاة السفر بقيت على فرضها ، فلو صلاّها رباعية لكانت زيادة في الصلاة ، ولقول عمر فيما رواه النسائي وابن ماجة : صلاة السفر ركعتان تمامٌ غيرُ قصر . وإنّما قال مالك بأنّه سنّة لأنّه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة السفر إلاّ القصر ، وكذلك الخلفاء من بعده . وإنّما أتمّ عثمان بن عفّان الصلاة في الحج خشية أن يتوهّم الأعراب أنّ الصلوات كلّها ركعتان . غير أنّ مالكاً لم يقل بوجوبه من أجل قوله تعالى : { فليس عليكم جناح } لمنافاته لصيغ الوجوب . ولقد أجاد محامل الأدلّة .

وأخْبِر عن الكافرين وهو جمع بقوله : { عَدُوّاً } وهو مفرد . وقد قدّمنا ذلك عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدوَ لكم } [ النساء : 92 ] .