قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } . سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا ، وهو أفضل من الكعبة وأقدم ، وهو مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل ، فانزل الله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين . فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } . وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس . واختلف العلماء في قوله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي } . فقال بعضهم : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته ، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي . وقال بعضهم : هو أول بيت بني في الأرض .
روي عن علي بن الحسين : أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور ، وأمر الملائكة أن يطوفوا به ، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثاله وقدرة ، فبنوه واسمه الضراح ، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .
وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام ، فكانوا يحجونه ، فلما حجه آدم قالت له الملائكة : بر حجك يا آدم ، حججنا هذا البيت قبلك بألف عام ، ويروى عن ابن عباس أنه قال : أراد به ، أنه أول بيت بناه آدم في الأرض وقيل : هو أول بيت مبارك وضع هدى للناس ، يعبد الله فيه ، ويحج إليه ، وقيل : أول بيت جعل قبلة للناس . وقال الحسن والكلبي : معناه أنه أول مسجد ومتعبد وضع للناس ، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب . قال الضحاك : أول بيت وضع فيه البركة ، وقيل : أول بيت وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) يعني المساجد .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد ، أنا الأعمش ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال : سمعت أبا ذر يقول : " قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم قال : أينما أدركتك الصلاة بعد فصل ، فإن الفضل فيه " . قوله تعالى ( للذي ببكة ) . قال جماعة : هي مكة نفسها ، وهو قول الضحاك ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، فتقول : سيد رأسه وسمده ، وضربه لازب ولازم ، وقال الآخرون بكة موضع البيت في مكة ، ومكة اسم البلد كله . وقيل : بكة موضع البيت والمطاف ، سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها ، أي يزدحمون يبك بعضهم بعضا ، ويمر بعضهم بين يدي بعض ، . وقال عبد الله بن الزبير : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها فل يقصدها جبار بسور إلا قصمه الله . وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها ، من قول العرب : " مك الفصيل ضرع أمه وأمتكه " إذا امتص كل ما فيه من اللبن ، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بها { مباركاً } نصب على الحال ، أي : ذا بركة { وهدى للعالمين } لأنه قبلة المؤمنين { فيه آيات بينات } قرأ ابن عباس( آية بينة ) على الواحد ، وأراد مقام إبراهيم وحده ، وقرأ الآخرون { آيات بينات } بالجمع ، فذكر منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم ، وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، ومن تلك الآيات في البيت الحجر السود ، والحطيم ، وزمزم والمشاعر كلها ، وقيل : مقام إبراهيم جميع الحرم ، ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه ، وأن الجارحة إذا قصدت صيداً فإذا دخل الصيد الحرم كفت عنه ، وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار ، وأن الطاعة والصدقة فيها تضاعف بمائة ألف .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو محمد بن الحسن بن احمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أخبرنا أبو مصعب احمد بن أبي بكر الزهري ، أنا مالك بن أنس ، عن زيد بن رباح ، أخبرنا عبد الله بن عبد الله الأغر ، عن أبي عبد الله الأعمش عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة ، فيما سواه إلا المسجد الحرام " .
قوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } . من أن يهاج فيه ، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال ( رب اجعل هذا بداً آمناً ) وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضاً ، ويغير بعضهم على بعض ، ومن دخل الحرم أمن من القتل والغارة ، وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) وقيل : المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمناً ، كما قال تعالى ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) وقيل : هو خبر بمعنى الأمر تقديره : ومن دخله فأمنوه ، كقوله تعالى( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصاً أو حدا ، ً فالتجأ إلى الحرم فلا يستوفى منه فيه ولكنه لا يطعم ولا يبايع ولا يشارى حتى يخرج منه فيقتل قاله ابن عباس ، وبه قال أبو حنيفة ، وذهب قوم إلى أن القتل الواجب بالشرع يستوفى فيه ، أما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفي فيه عقوبته بالاتفاق . وقيل معناه : ومن دخله معظماً له ، متقرباً إلى الله عز وجل كان آمناً يوم القيامة من العذاب .
قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } . أي ولله فرض واجب على الناس حج البيت . قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص ( حج البيت ) بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة ، وقرأ الآخرون بفتح الحاء ، وهي لغة أهل الحجاز ، وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد . والحج احد أركان الإسلام .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن موسى ، أنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، والحج " . قال أهل العلم : ولوجوب الحج خمس شرائط : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والاستطاعة ، فلا يجب على الكافر ولا على المجنون ، ولو حجا بأنفسهما لا يصح ، لأن الكافر ليس من أهل القربة ، ولا حكم لفعل المجنون ، ولا يجب على الصبي ، ولا على العبد ، ولو حج صبي يعقل ، أو عبد يصح حجهما تطوعاً ، ولكن لا يسقط به فرض الإسلام عنهما ، فلو بلغ الصبي ، أو أعتق العبد بعدما حج واجتمع في حقه شرائط وجوب الحج ، وجب عليه أن يحج ثانياً ، ولا يجب على غير المستطيع ، لقوله تعالى( من استطاع إليه سبيلاً ) غير أنه لو تكلف فحج يسقط عنه فرض الإسلام . والاستطاعة نوعان : أحدهما أن يكون قادرا مستطيعاًبنفسه ، والآخر : أن يكون مستطيعاً بغيره ، أما الاستطاعة بنفسه فأن يكون قادراً بنفسه على الذهاب ، ووجد الزاد والراحلة .
أخبرنا عبد الواحد بن محمد الكسائي الخطيب ، ثنا عبد العزيز بن احمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سعيد بن سالم ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن محمد بن عباد بن جعفر قال : قعدنا إلى عبد الله ابن عمر فسمعته يقول : " سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما الحاج ؟ قال :الشعث التفل ، فقام رجل آخر فقال : يا رسول الله : أي الحج أفضل ؟ قال : العج والثج فقام رجل آخر فقال : يا رسول الله ما السبيل ؟ قال : زاد وراحلة " .
وتفصيله : أن يجد راحلة تصلح لمثله ووجد الزاد للذهاب والرجوع ، فاضلاً عن نفقة عياله ، ومن تلزمه نفقتهم وكسوتهم لذهابه ورجوعه ، وعن دين يكون عليه ، ووجد رفقة يخرجون في وقت جرت عادة أهل بلده بالخروج في ذلك الوقت ، فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلا أن يقطعوا كل يوم أكثر من مرحلة ، لا يلزمهم الخروج في ذلك الوقت ، ويشترط أن يكون الطريق آمناً ، فإن كان فيه خوف من عدو مسلم أو كافر ، أو رصدي يطلب شيئاً لا يلزمه ، ويشترط أن تكون المنازل الممرورة معمورة ، يجد فيها الزاد والماء ، فإن كان زمان جدوبة تفرق أهلها أو غارت مياهها ، فلا يلزمه ولو لم يجد الراحلة لكنه قادر على المشي ، أو لم يجد الزاد ولكن يمكنه أن يكتسب في الطريق ، لا يلزمه الحج ، ويستحب لو فعل ، وعند مالك يلزمه . أما الاستطاعة بالغير فهي : أن يكون الرجل عاجزاً بنفسه ، بأن كان زمناً أو به مرض غير مرجو الزوال ، لكن له مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه ، يجب عليه أن يستأجر ، أو لم يكن له مال بل بذل له ولده أو أجنبي الطاعة في أن يحج عنه ، يلزمه أن يأمره إذا كان يعتمد صدقه ، لأن وجوب الحج يتعلق بالاستطاعة ، ويقال في العرف : فلان مستطيع لبناء دار وان كان لا يفعله بنفسه ، وإنما يفعله بماله أو بأعوانه . وعند أبي حنيفة : لا يجب الحج ببذل الطاعة ، وعند مالك لا يجب على المعضوب في المال . وحجة من أوجبه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال : " كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ، فقالت : يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج ، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : نعم .
قوله تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } . قال ابن عباس والحسن وعطاء : جحد فرض الحج ، وقال مجاهد : من كفر بالله واليوم الآخر . وقال سعيد بن المسيب : نزلت في اليهود حيث قالوا : الحج إلى مكة غير واجب . وقال السدي : هو من وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفر به .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو الحسن الكلماني ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو ، أخبرنا سهيل بن عمارة ، اخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا شريك عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ، ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا ، وإن شاء نصرانياً " .
ثم مدحه - ثالثا - بقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أى فيه علامات ظاهرات ، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته ، وعلو مكانته .
وهذه الجملة الكريمة مستأنفة لبيان وتفسير بركته وهداه .
ثم بين - سبحانه - بعض هذه الآيات البينات الدالة على عظمه وشرفه فقال : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .
فالآية الأولى الدالة على عظم وشرف البيت الحرام { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أى المقام المعروف بهذا الاسم . وهو الموضع الذى كان يقوم فيه إبراهيم تجاه الكعبة لعبادة الله - تعالى - ولإتمام بناء الكعبة ومعنى أن فى البيت مقام إبراهيم أى أنه فى فنائه ومتصل به .
قال ابن كثير : عن جابر - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين .
والمراد بالمقام إنما هو الحجر الذى كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل بهذا الحجر ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار . . .
ثم قال : وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما . ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلى الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك . وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى ناحية المشرق حيث هو الآن . ليتمكن الطائفون من الطواف ، وليصلى المصلون عنده دون تشويش عليهم من الطائفين .
وقوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } مبتدأ محذوف الخبر أى مقام إبراهيم منها أى من هذه الآيات البينات . أو خبر لمبتدأ محذوف أى فيه آيات بينات أحدها مقام إبراهيم .
وقد رجح ابن جرير أن قوله - تعالى - { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } هو بعض الآيات البينات التى فى البيت الحرام فقال : وأولى الأقوال فى تأويل ذلك بالصواب قول من قال : الآيات البينات منهن مقام إبراهيم . وهو قول قتادة ومجاهد الذى رواه معمر عنهما فيكون الكلام مرادا فيه منهن فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها . فإن قال القائل : فهذا المقام من الآيات البينات فما سائر الآيات التى من أجلها قيل { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ؟ قيل : منهن المقام ، ومنهن الحجر ، ومنهن الحطيم " .
وقال ابن عطية : والراجح عندى أن المقام وآمن الداخلين جعلا مثالا لما فى حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم .
وأما الآية الثانية التى تدل على فضل هذا البيت وشرفه فقد بينها القرآن بقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .
أى من التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل قال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } وفي ذلك إجابة لسيدنا إبراهيم حيث قال - كما حكى القرآن عنه - : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } ولا شك أن فى أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله ؛ لأنه موضع أمان الناس فى بيئة تغرى بالاعتداء لخلوها من الزرع والنبات .
وفى الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن أبى شريح العدوى أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث لمكة - يعنى لقتال عبد الله بن الزبير - : ائذن لى أيها الأمير أن أحدثك قولا قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، - سمعته أذناى ووعاه قلبى ، وأبصرته عيناى - حين تكلم به - : إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها - أى أخذ فيه بالرخصة - فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لى فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب .
فقيل لأبى شريح : ما قال لك عمرو ؟ فقال أبو شريح : قال لى يا أبا شريح أنا أعلم بذلك منك . إن الحرم لا يعيذ عاصيا - أى لا يجيره ولا يعصم دمه - ولا فاراً بدم - أى أن الحرم لا يجير إنساناً هارباً إليه لسبب من الأسباب الموجبة للتقل - ولا فاراً بخربة - أى بسبب سرقة أو خيانة .
ولقد كان أهل الجاهلية يعظمون المسجد الحرام - وخصوصا أهل مكة - فلما جاء الإسلام أقر له هذه الميزة وزكاها ، ووضع لها الضوابط والأحكام التى تضمن استعمالها فى الوجوه التى شرعها الله .
فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى فى الحرم جناية فهو مأخوذ بجنايته سواء أكانت فى النفس أم فيما دونها .
واختلفوا فيمن جنى فى غير الحرم ثم لاذ إليه . فقال أبو حنيفة وابن حنبل : إذا قتل فى غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام فيه ، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل غلى أن يخرج منه فيقتص منه . وإن كانت جنايته فيما دون النفس فى غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه .
وقال مالك والشافعي يقتص منه فى الحرم لذلك كله كما يقتص منه فى الحل . ولكل فريق أدلته المبسوطة فى كتب الفقه .
ثم أخبر - سبحانه - عن وجوب الحج على كل قادر عليه فقال : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } .
أى أن الله - تعالى - فرض على الناس أن يحجوا بيته فى أوقات معينة وبكيفية مخصوصة متى كان فى استطاعتهم أداء هذه الفريضة .
{ وَمَن كَفَرَ } أى من جحد فرضية الحج وأنكرها ، ولم يؤدها مع استطاعته وقدرته على أدائها فإن الله غنى عنه وعن حجه وعن الناس جميعاً .
قال صاحب الكشاف : وفى هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد منها قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعنى أنه حق واجب لله فى رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد :
أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .
والثاني : إن الإيضاح بعد الإيهام ، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له فى صورتين مختلفتين . ومنها قوله : { وَمَن كَفَرَ } مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج فليمت إن شاء الله يهودياً أو نصرانياً "
ومنها ذكر الاستغناء عنه ، لأن فيه الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط .
وقوله : { وَللَّهِ } خبر مقدم متعلق بمحذوف أى واجب . { عَلَى الناس } متعلق بهذا المحذوف . وقوله : { حِجُّ البيت } مبتدأ مؤخر .
والناس عام مخصوص بالمتسطيع ، وقد خصص ببدل البعض فى قوله : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } إذ هذه الجملة بدل من الناس بدل البعض من الكل . والضمير فى البدل مقدر أى من استطاع منهم إليه سبيلا .
و " من " فى قوله : { وَمَن كَفَرَ } يحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، وعلى الاحتمالين استغنى فيا بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل ومن كفر فغن الله غنى عنه فاستغنى بالظاهر عن المضمر .
قال ابن كثير : والجمهور يرى أن هذه الآية هى آية وجوب الحج . وقيل بل هى آية ( وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ) والأول أظهر . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقوائمه ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروياً وإنما يجب على المكلف فى العمرة مرة واحدة بالنص والإجماع فعن ابيى هريرة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، وإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه " .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما السبيل يا رسول الله ، فقال : الزاد والراحلة " .
وبذلك تكون هاتان الآيتان والآيات التى قبلهما قد ردت على اليهود فى دعواهم أن ما حرمه الله عليهم من طيبات لم يكن عقوبة لهم بسبب ظلمهم وبغيهم ، وكذبتهم فى دعواهم أن بيت المقدس أفضل من المسجد الحرام .
وقد اشتمل هذا الرد على ما يثبت افتراءهم من واقع التاريخ ، فقد أمر الله - تعالى - النبى صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بإحضار التوراة إن كانوا صادقين فى دعواهم ، فبهوتوا وانقلبوا صاغرين ، واثبت القرآن أن البيت الحرام أول بيت وضع فى الأرض لعبادة الله ، فهو يسبق بيت المقدس فى أولوية الشرف والزمان . وإذن فجدال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الأمور ما هو إلا نوع من عنادهم وجحودهم للحق ، والمعاند والجاحد لا ينفع معهما دليل أو برهان .
وقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أي : دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم ، وأن الله تعالى عَظَّمه وشرفه .
ثم قال تعالى : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } يعني : الذي لَمَّا ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران ، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل ، وقد كان ملتصقا{[5355]} بجدار البيت ، حتى أخّره عُمَر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، في إمارته إلى ناحية الشرق{[5356]} بحيث يتمكن الطُّوَّاف ، ولا يُشَوِّشون على المصلين عنده بعد الطواف ؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] وقد قدمنا الأحاديث في ذلك ، فأغْنَى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة .
وقال العَوْفي عن ابن عباس في قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أي : فمنهُنَّ{[5357]} مقام إبراهيم والمَشْعَر .
وقال مجاهد : أثرُ قدميه في المقام آية بينة . وكذا روي عن عُمر بن عبد العزيز ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومُقَاتِل بن حَيّان ، وغيرهم .
ومَوْطئ إبراهيم في الصخر رَطْبةٌ *** على قدميه حافيًا غير ناعلِ
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد وعَمْرو الأوْدِي قالا حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ } قال : الحَرَم كله مقام إبراهيم . ولفظ عمرو : الحَجَر كله مقام إبراهيم .
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : الحج مقام إبراهيم . هكذا رأيت في النسخة ، ولعله الحَجَر كله مقام إبراهيم ، وقد صرح بذلك مجاهد .
وقوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } يعني : حَرَمُ مكة إذا دخله الخائف يأمنُ من كل سوء ، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية ، كما قال الحسن البصري وغيره : كان الرجل يَقْتُل فيَضَع في عُنُقِه صوفَة ويدخل{[5358]} الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يُهَيِّجْهُ حتى يخرج .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو يحيى التَّيْمِيّ ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ، ولكن لا يؤوى ولا يُطْعَم ولا يُسقى ، فإذا خرج أُخذ بذنبه .
وقال الله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] وقال تعالى : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 ، 4 ] وحتى إنه من جملة تحريمها حُرْمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره ، وحُرْمة قطع أشجارها وقَلْع ثمارها حَشيشها ، كما ثبتت الأحاديث والآثار{[5359]} في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعا وموقوفًا .
ففي الصحيحين ، واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة : " لا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ ونية ، وإذَا استَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا " ، وقال يوم الفتح فتح مكة : " إنَّ هَذَا الْبَلَدَ{[5360]} حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحرمَةِ الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شَوْكُهُ ، ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، ولا يَلْتَقطْ لُقَطتَه إلا من عَرَّفها ، ولا يُخْتَلى خَلاها{[5361]} فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذْخَرَ ، فإنه لقَيْنهم ولبُيوتهم ، فقال : " إلا الإذْخَر " {[5362]} .
ولهما عن أبي هريرة ، مثله أو نحوه{[5363]} ولهما واللفظ لمسلم أيضًا عَن أبي شُرَيح العَدوي أنه قال لعَمْرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكةَ : ائذَنْ لي أيها الأمير أن أُحدِّثك قَولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغَدَ من يوم الفتح سَمعَتْه أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به ، إنه حَمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إنَّ مَكِّةَ حَرَّمَهَا اللهُ ولَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ، فَلا يَحِلُّ لامرئ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخر أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا ، ولا يَعْضد بِهَا شَجَرةً ، فَإنْ أحَد تَرخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا له : إنَّ اللهَ أذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وإنَّمَا أذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأمْسِ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهدُ الغائِبَ " فقيل لأبي شُرَيح : ما قال لك عَمْرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحَرَم لا يُعيذ عاصيا ولا فَارا بِدَمٍ ولا فارا بخَزْيَة{[5364]} {[5365]} .
وعن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يَحِلُّ لأحَدِكُمْ أنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلاحَ " {[5366]} رواه مسلم .
وعن عبد الله بن عَدِيّ بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، وهو واقف بالحَزْوَرَة في سوق مكة : " واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ اللهِ ، وأحَبُّ أرْضِ اللهِ إلَى اللهِ ، ولَوْلا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ " .
رواه الإمام أحمد ، وهذا لفظه ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة . وقال الترمذي : حسن صحيح{[5367]} وكذا صَحَّح من حديث ابن عباس نحوه{[5368]} وروى أحمد عن أبي هريرة ، نحوه{[5369]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا بِشْر بن آدم ابن بنت أزهر السمان{[5370]} حدثنا أبو عاصم ، عن زُرَيق بن مسلم{[5371]} الأعمى مولى بني مخزوم ، حدثني زياد بن أبي عياش ، عن يحيى بن جَعْدَةَ بن هُبَيْرَة ، في قوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } قال : آمنا من النار .
وفي معنى هذا القول الحديثُ الذي رواه البيهقي : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عَبْدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن سليمان الواسطي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا ابن المُؤَمَّل ، عن ابن مُحَيْصِن ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ ، وَخَرَجَ مَغْفُورًا له " : ثم قال : تفرد به عبد الله بن المؤمل ، وليس بقوي{[5372]} .
وقوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } هذه آية وُجُوب الحج عند الجمهور . وقيل : بل هي قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ البقرة : 196 ] والأول أظهر .
وقد وَرَدَت الأحاديثُ المتعددة بأنه أحدُ أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا ، وإنما يجب على المكلَّف في العُمْر مَرّة واحدة بالنص والإجماع .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا الربيع بن مسلم القُرَشيّ ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا " . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثًا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ " . ثم قال : " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ " . ورواه مسلم ، عن زُهَير بن حرب ، عن يزيد بن هارون ، به نحوه{[5373]} .
وقد روى سُفْيان بن حسين ، وسليمان بن كثير ، وعبد الجليل بن حُمَيد ، ومحمد بن أبي حفصة ، عن الزهري ، عن أبي سنَان الدؤلي - واسمه يزيد بن أمية - عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يَأيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُم الحَجَّ " . فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ قال : " لَوْ قُلْتُهَا ، لَوَجَبَتْ ، ولَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا ، وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْمَلُوا بِهَا ؛ الحَجُّ مَرَّةً ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ " .
رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، والحاكم من حديث الزهري ، به . ورواه شريك ، عن سِمَاك ، عن عِكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه . وروي من حديث أسامة يزيد{[5374]} .
[ و ]{[5375]} قال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وَرْدَان ، عن علي بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن أبي البَخْتَرِيّ ، عن علِيّ قال : لما نزلت : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قالوا : يا رسول الله ، في كل عام ؟ فسكت ، قالوا : يا رسول الله ، في كل عام ؟ قال : " لا ولَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ " . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [ المائدة : 101 ] .
وكذا رواه الترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، من حديث منصور بن وَرْدان ، به : ثم قال{[5376]} الترمذي : حسن غريب . وفيما قال نظر ؛ لأن البخاري قال : لم يسمع أبو البَخْتَرِيّ من عليّ{[5377]} .
وقال ابن ماجة : حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَيْر ، حدثنا محمد بن أبي عُبَيدة ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك قال : قالوا : يا رسول الله ، الحج في كل عام ؟ قال : " لَوْ قُلْتُ : نعم ، لوجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَقُومُوا{[5378]} بِهَا ، ولَوْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَعُذِّبتُمْ " {[5379]} .
وفي الصحيحين من حديث ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن جابر ، عن{[5380]} سُراقة بن مالك قال : يا رسول الله ، مُتْعَتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ قال : " لا بَلْ لِلأبَدِ " . وفي رواية : " بل لأبَد أبَدٍ " {[5381]} .
وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود ، من حديث واقد بن أبي واقد الليثي ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته : " هَذِه ثُمَّ ظُهُورَ الحُصْر " {[5382]} يعني : ثم الزَمْنَ ظُهور الحصر ، ولا تخرجن من البيوت .
وأما الاستطاعة فأقسام : تارة يكون الشخص مستطيعا بنفسه ، وتارة بغيره ، كما هو مقرر في كتب الأحكام .
قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عَبْدُ بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد قال : سمعت محمَّد بن عَبَّاد بن جعفر يحدث عن ابن عمر قال : قام رجل إلى رسول الله{[5383]} صلى الله عليه وسلم فقال : مَن الحاجّ يا رسول الله ؟ قال : " الشَّعثُ التَّفِل " {[5384]} فقام آخر فقال : أيّ الحج أفضل يا رسول الله ؟ قال : " العَجُّ والثَّجُّ " ، فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله{[5385]} ؟ قال : " الزَّادُ والرَّاحِلَة " .
وهكذا رواه ابن ماجة من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخُوزي . قال الترمذي : ولا نعرفه{[5386]} إلا من حديثه ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه . كذا قال هاهنا . وقال في كتاب الحَجّ : هذا حديث حسن{[5387]} .
[ و ]{[5388]} لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الخوزي هذا ، وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث .
لكن قد تابعه غيره ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله العامري ، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، عن محمد بن عباد بن جعفر قال : جلست إلى عبد الله بن عمر قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ما السبيل ؟ قال : " الزَّادُ والرِّحْلَة " . وكذا رواه ابن مَرْدُويَه من رواية محمد بن عبد الله بن عُبَيد بن عمير ، به .
ثم قال ابن أبي حاتم : وقد روي عن ابن عباس ، وأنس ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة - نحو ذلك{[5389]} .
وقد روي هذا الحديث من طُرُق أخَر من حديث أنس ، وعبد الله بن عباس ، وابن مسعود ، وعائشة كُلها مرفوعة ، ولكن في أسانيدها مقال{[5390]} كما هو مقرر في كتاب الأحكام ، والله أعلم .
وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه بجمع طرق هذا الحديث . ورواه الحاكم من حديث قَتَادَة{[5391]} عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } فقيل{[5392]} ما السبيل{[5393]} ؟ قال : " الزَّاد والرَّاحِلَة " . ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه{[5394]} .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن يُونس ، عن الحسن قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قالوا : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال : " الزَّادُ والرَّاحِلَةُ " {[5395]} .
ورواه وَكِيع في تفسيره ، عن سفيان ، عن يونس ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا الثوري ، عن إسماعيل - وهو أبو إسرائيل الملائي - عن فُضَيْل - يعني ابن عمرو - عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَعَجَّلُوا إلى الحَجِّ - يعني الفريضة - فإنَّ أحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرضُ لَهُ " {[5396]} .
وقال أحمد أيضًا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الحسن بن عمرو الفُقَيْمي ، عن مِهْرَان بن أبي صفوان{[5397]} عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ " .
ورواه أبو داود ، عن مسدد ، عن أبي معاوية الضرير ، به{[5398]} .
وقد روى ابن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قال : من مَلَك ثلاثمائة دِرْهم فقد استطاع إليه سبيلا .
وعن عِكْرمة مولاه أنه قال : السبيل الصِّحَّة .
وروى وَكِيعُ بن الجَرّاح ، عن أبي جَنَاب{[5399]} - يعني الكلبي - عن الضحاك بن مُزاحِم ، عن ابن عباس قال : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قال : الزاد والبعير .
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : أي ومن جَحَد فريضة الحج فقد كفر ، والله غني عنه{[5400]} .
وقال سَعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن عِكْرِمة قال : لما نزلت : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } قالت اليهود : فنحن مسلمون . قال الله ، عز وجل{[5401]} فاخْصَمْهُمْ فَحَجَّهُمْ - يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى الْمسلمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاع إِلَيْه سَبِيلا " فقالوا : لم يكتب علينا ، وأبَوْا أن يحجوا . قال الله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }{[5402]} .
وروى ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، نَحْوَه .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم وشَاذ {[5403]} بن فياض قالا أخبرنا هلال أبو هاشم الخُراساني ، أخبرنا أبو إسحاق الهمداني ، عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللهِ ، فَلا يَضُرُّهُ مَاتَ يَهُودِيّا أوْ نَصْرانِيّا ، ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ قَالَ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } .
ورواه ابن جرير من حديث مسلم بن إبراهيم ، به .
وهكذا رواه ابنُ أبي حاتم عن أبي زُرْعة الرازي : حدثنا هلال بن فياض ، حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني ، فذكره بإسناده مثله . ورواه الترمذي عن محمد بن يحيى القُطَعي ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن هلال بن عبد الله مولى رَبيعة بن عَمْرو بن مسلم الباهلي ، به ، وقال : [ هذا ]{[5404]} حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده{[5405]} مقال ، وهلال مجهول ، والحارث يضعف في الحديث{[5406]} .
وقال البخاري : هلال هذا منكر الحديث . وقال ابن عَدِيّ : هذا الحديث ليس بمحفوظ .
وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ من حديث [ أبي ]{[5407]} عمرو الأوزاعي ، حدثني إسماعيل بن عبيد الله{[5408]} بن أبي المهاجر ، حدثني عبد الرحمن بن غَنْم أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا .
وهذا إسناد صحيح إلى عمر{[5409]} رضي الله عنه ، وروى سَعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال : قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جَدةٌ فلم{[5410]} يحج ، فيضربوا عليهم الجِزْية ، ما هم بمسلمين . ما هم بمسلمين{[5411]} .
{ فيه ءايات بينات مقام إبراهيم ومن دخله وكان ءامنا }
جملة { فيه آيات بيِّنات } استئناف ثناء على هذا البيت بما حفّ به من المناقب والمزايا فغيّر الأسلوب للاهتمام ولذلك لم تجعل الجملة حالاً ، فتعطف على الحالين قبلها ، لأنّ مباركاً وهدى وصفان ذاتيّان له ، وحالان مقارنان ، والآيات عوارض عرضت في أوقات متفاوتة ، أو هي حال ثالثة ولم تعطف بالواو لأنّها جملة وما قبلها مفردان ولئلاّ يتوهم أن الواو فيها واو الحال ، فتكون في صورتها جارية على غير صورة الأفصح في مثلها من عدم الاقتران بالواو ، على ما حقَّقه الشَّيخ عبد القاهر ، فلو قرنت بواو العطف لالتبست بواو الحال ، فكرهت في السمع ، فيكون هذا من القطع لدفع اللبس ، أو نقول هي حال ولم تعطف على الأحوال الأخرى لأنّها جملة ، فاستغنت بالضّمير عن رابط العطف .
ووصف الآيات ببيِّناتٍ لظهورها في علم المخاطبين . وجماع هذه الآيات هي ما يسّره الله لسكّان الحرم وزائريه من طرق الخير ، وما دفع عنهم من الأضرار ، على حالة اتّفق عليها سائر العرب ، وقمعوا بها أنفسهم وشهواتهم ، مع تكالبهم على إرضاء نفوسهم .
وأعظمها الأمن ، الّذي وطن عليه نفوس جميع العرب في الجاهلية مع عدم تديّنهم ، فكان الرجل يلاقي قاتل أبيه في الحرم فلا يناله بسوء ، وتَواضُعُ مثل هذا بين مختلف القبائل ، ذات اختلاف الأنساب والعوائد والأديان ، آية على أنّ الله تعالى وقَر ذلك في نفوسهم . وكذلك تأمين وحْشِه مع افتتان العرب بحبّ الصّيد . ومنها ما شاع بين العرب من قصم كلّ من رامه بسوء ، وما انصرافُ الأحباش عنه بعد امتلاكهم جميع اليمن وتهامة إلا آية من آيات الله فيه . ومنها انبثاق الماء فيه لإسماعيل حين إشرافه على الهلاك . وافتداء الله تعالى إيّاه بذبح عظيم حين أراد أبوه إبراهيم عليْه السّلام قربانه . ومنها ما شاع بين العرب وتوارثوا خبره أباً عن جدّ من نزول الحجر الأسود من السَّماء على أبي قبيس بمرأى إبراهيم ، ولعلَّه حجر كوكبي . ومنها تيسير الرزق لساكنيه مع قُحولة أرضه ، وملوحة مائه .
وقوله : { مقام إبراهيم } أصل المقام أنّه مَفْعَل من القيام ، والقيام يطلق على المعنى الشَّائع وهو ضدّ القعُود ، ويطلق على خصوص القيام للصّلاة والدعاء ، فعلى الوجه الثَّاني فرفع مقام على أنّه خبر لضمير محذوف يعود على { للذى ببكّة } ، أي هو مقام إبراهيم ، أي البيتُ الَّذى ببكّة . وحذْفُ المسند إليه هنا جاء على الحذف الَّذي سمَّاه علماء المعاني ، التَّابعين لاصطلاح السكاكي ، بالحذف للاستعمال الجاري على تركه ، وذلك في الرفع على المدح ، أو الذم ، أو الترحّم ، بعد أن يجري على المسند إليه من الأوصاف قبل ذلك ما يبيّن المراد منه كقول أبي الطمحان القيني :
فإنّ بني لأمِ بن عمرو أرومة *** سَمَتْ فوق صعب لا تُنالُ مراقبه
نجوم سماءٍ كلّما انْقَضَّ كوكبٌ *** بَدَا كوكب تأْوِي إليه كواكبــه
هذا هو الوجه في موقع قوله تعالى : { مقام إبراهيم } .
وقد عبّر عن المسجد الحرام بأنّه مقام إبراهيم أي محلّ قيامه للصلاة والطواف قال تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [ البقرة : 125 ] ويدل لذلك قول زيد بن عَمرو بن نُفَيل :
عُذْتُ بما عاذَ به إبْرَاهِمْ *** مستقبلَ الكَعْبَةِ وهو قائم
وعلى الوجه الأول يكون المراد الحجر الَّذى فيه أثر قَدَمي إبراهيم عليه السّلام في الصّخرة التي ارتقى عليها ليرفع جدران الكعبة ، وبذلك فسر الزجّاج وتبعه على ذلك الزمخشري ، وأجاب الزمخشري عمَّا يعترض به من لزوم تبيين الجمع بالمفرد بأنّ هذا المفرد في قوّة جماعة من الآيات لأنّ أثر القدم في الصّخرة آية ، وغوصَه فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض الصّخر دون بعض آية ، وأنا أقول : إنَّه آيات لدلالته على نبوّة إبراهيم بمعجزة له وعلى علممِ الله وقدرته ، وإنّ بقاء ذلك الأثر مع تلاشي آثار كثيرة في طيلة القرون آية أيضاً .
وقوله : { ومن دخله كان آمناً } عطف على مَزايا البيت وفضائله من الأمن فيه على العموم ، وامتنان بما تقرّر في ماضِي العصور ، فهو خبر لفظاً مستعمل في الامتنان ، فإنّ الأمن فيه قد تقرّر واطّرد ، وهذا الامتنان كما امتنّ الله على النَّاس بأنَّه خلق لهم أسماعاً وأبصَاراً فإنّ ذلك لا ينقض بمن ولد أكمه أو عرض له ما أزال بعض ذلك .
قال ابن العربي : هذا خبر عمّا كان وليس فيه إثبات حكم وإنّما هو تنبيه على آيات ونعم متعددات ؛ أنّ الله سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته ، وصرف الأيدي عن إذايتِه . وروي هذا عن الحسن . وإذا كان ذلك خبراً فهو خبر عمّا مضى قبل مجيء شريعة الإسلام حين لم يكن لهم في الجاهلية وازع فلا ينتقض بما وقع فيه من اختلال الأمن في القتال بين الحَجَّاج وابن الزبير وفي فتنة القرامطة . وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى : { وأخر متشابهات أوّل هذه السورة } [ آل عمران : 7 ] .
ومن العلماء من حمل قوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } أنَّه خبر مستعمل في الأمر بتأمين داخله من أن يُصاب بأذى ، وروي عن ابن عبَّاس ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، والشعبي .
وقد اختلف الصائرون إلى هذا المعنى في محمل العمل بهذا الأمر ؛ فقال جماعة : هذا حكمٌ نُسخ يعنون نسختْه الأدلّة الَّتي دلّت على أنّ الحرم لا يُعيذ عاصياً . روى البخاري ، عن أبي شُريح الكعبي ، أنَّه قال لعَمْرِو بن سعيد وهو يبعث البُعوث إلى مكّة أي لحرب ابن الزبير : ائذن لي أيُّهَا الأمير أحدثْك قولاً قام به رسول الله الغدَ من يوم الفتح ، سمعتْه أُذناي ووعاه قلبي وأبصرتْه عيناي حين تكلَّم به : إنَّه حمد الله وأثنى عليه ثُمّ قال : « إنّ مكَّة حرَّمها الله ولم يحرّمها النَّاس ؛ لا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد بها شجرة . فإنْ أحَد تَرَخَّص لقتال رسول الله فيها فقولوا له : إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنَّما أذِن لي فيها ساعة من نهار وقد عَادَتْ حُرْمَتُها اليَومَ كحرمتها بالأمس وليبلّغ الشاهدُ الغائبَ » . قال : فقال لي عَمْرو : أنا أعلمَ بذلك منكَ يا أبا شُرَيح إنّ الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارّاً بدَم ولا فارّا بخَرْبة ( الخَربة بفتح الخاء وسكون الراء الجناية والبلية الَّتي تكون على النَّاس ) وبما ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم أمر بأن يُقْتل ابن خَطل وهو متعلِّق بأستار الكعبة يوم الفتح .
وقد قال مالك ، والشَّافعى : إنّ من أصاب جناية في الحرم أو خارجه ثُمّ عاذ بالحرم يقام عليه الحدّ في الحرم ويقاد منه .
وقال أبو حنيفة ، وأصحابه الأربعة : لا يقتصّ في الحرم من اللاجىء إليه من خارجه ما دام فيه ؛ ولكنَّه لا يبايَع ولا يؤاكَلُ ولا يجالَسُ إلى أن يخرج من الحرم .
ويروون ذلك عن ابن عبَّاس ، وابنِ عُمر ، ومَنْ ذكرناه معهما آنفا .
وفي أحكام ابن الفرس أن عبد الله بن عمر قال : « من كان خائفاً من الاحتيال عليه فليس بآمن ولا تجوز إذايته بالامتناع من مكالمته » .
وقال فريق : هو حكم محكم غير منسوخ ، فقال فريق منهم : قوله : { ومن دخله } يفهم منه أنَّه أتى ما يوجب العقوبة خارجَ الحرم فإذا جنى في الحرم أقيد منه ، وهذا قول الجمهور منهم ، ولعلّ مستندهُم قوله تعالى : { والحرمات قصاص } [ البقرة : 194 ] أو استندوا إلى أدلّة من القياس ، وقال شذوذ : لا يقام الحدّ في الحرم ، ولو كان الجاني جنى في الحرم وهؤلاء طردوا دليلهم .
وقد ألممنا بذلك عند قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتَّى يقاتلوكم فيه } [ البقرة : 191 ] .
وقد جعل الزجّاج جملة { ومن دخله كان آمناً } آية ثانية من الآيات البيّنات فهى بيان ل { آيات } ، وتبعه الزمخشري ، وقال : يجوز أن يطلق لفظ الجمع على المثنّى كقوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] . ( وإنَّما جاز بيان المفرد بجملة لأنّ هذه الجملة في معنى المفرد إذ التَّقدير : مقامُ إبراهيم وأمْنُ مَن دخَله . ولم ينظر ذلك بما استعمل من كلام العرب حتَّى يُقَرّب هذا الوجه . وعندي في نظيره قول الحرث بن حلزة :
مَنْ لنا عنده من الخيْر آيا *** تٌ ثلاثٌ في كلهنّ القضاء
آيةٌ شارق الشقيقة إذ جـا *** ءَت مَعَدّ لِكلّ حيّ لــواء
ثُمّ حُجْرا أعني ابن أم قَطامٍ *** وله فارسية خضــراء
وفككنا غُلّ امرىء القيس عنه ** بعد ما طال حَبسه والعَناء
فجعل ( وفككنا ) هي الآية الرابعة باتِّفاق الشرّاح إذ التقدير : وفَكُّنا غُل امرىء القيس .
وجوّز الزمخشري أن يكون آيات باقياً على معنى الجمع وقد بُيّن بآيتين وتركت الثَّالثة كقول جرير :
كانَتْ حنيفةُ أثلاثا فثُلْثهُمُ *** من العبيدِ وثُلث من مواليها
أي ولم يذكر الثلث الثالث وهو تنظير ضعيف لأنّ بيت جرير ظهر منه الثُلث الثالث ، فَهُم الصميم ، بخلاف الآية فإنّ بقية الآيات لم يُعرف . ويجوز أن نجعل قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } إلخ متضمّناً الثالثة من الآيات البيّنات .
{ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } .
حُكم أعقب به الامتنان : لما في هذا الحكم من التَّنويه بشأن البيت فلذلك حسن عطفه . والتَّقدير : مباركاً وهدى ، وواجباً حجّه . فهو عطف على الأحوال .
والحجّ تقدّم عند قوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات } في سورة [ البقرة : 197 ] ، وفيه لغتان فتح الحاء وكسرها ولم يقرأ في جميع مواقعه في القرآن بكسر الحاء إلاّ في هذه الآية : قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر بكسر الحاء .
ويتّجه أن تكون هذه الآية هي الَّتي فرض بها الحجّ على المسلمين ، وقد استدلّ بها علماؤنا على فرضية الحجّ ، فما كان يقع من حجّ النّبيء والمسلمين ، قبل نزولها ، فإنَّما كان تقرّباً إلى الله ، واستصحاباً للحنيفية .
وقد ثبت أنّ النّبيء حجّ مرّتين بمكّة قبل الهجرة ووقف مع النَّاس . فأمَّا إيجاب الحجّ في الشَّريعة الإسلاميَّة فلا دليل على وقوعه إلاّ هذه الآية وقد تمالأ علماء الإسلام على الاستدلال بها على وجوب الحجّ ، فلا يعد ما وقع من الحجّ قبل نزولها ، وبعد البعثة إلاّ تحنّثاً وتقرّباً ، وقد صحّ أنَّها نزلت سنة ثلاث من الهجرة ، عقب غزوة أحدُ ، فيكون الحجّ فرض يومئذ . وذكر القرطبي الاختلاف في وقت فرضية الحجّ على ثلاثة أقوال : فقيل : سنة خمس ، وقيل : سنة سبع ، وقيل : سنة تسع ، ولم يعز الأقوال إلى أصحابها ، سوى أنَّه ذكر عن ابن هشام ، عن أبي عبيد الواقدي أنَّه فرض عام الخندق ، بعد انصراف الأحزاب ، وكان انصرافهم آخر سنة خمس . قال ابن إسحاق : وولى تلك الحجَّة المشركون . وفي مقدّمات ابن رشد ما يقتضي أنّ الشافعي يقول : إنّ الحجّ وجب سنة تسع ، وأظهر من هذه الأقوال قول رابع تمالأ عليه الفقهاء وهو أنّ دليل وجوب الحجّ قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } . وقد استدلّ الشَّافعي بها على أنّ وجوبه على التَّراخي ، فيكون وجوبه على المسلمين قد تقرَّر سنة ثلاث ، وأصبح المسلمون منذ يومئذ مُحْصَرين عن أداء هذه الفريضة إلى أن فتح الله مكّة ووقعت حجّة سنة تسع .
وفي هذه الآية من صيَغ الوجوب صِيغتان : لام الاستحقاق ، وحرف ( على ) الدال على تقرّر حقّ في ذمة المجرور بها . وقد تعسّر أو تعذّر قيام المسلمين بأداء الحجّ عقب نزولها ، لأنّ المشركين كانوا لا يسمحون لهم بذلك ، فلعلّ حكمة إيجاب الحجّ يومئذ أن يكون المسلمون على استعداد لأداء الحجّ مهما تمكّنوا من ذلك ، ولتقوم الحجَّة على المشركين بأنَّهم يمنعون هذه العبادة ، ويصدّون عن المسجد الحرام ، ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه .
وقوله : { من استطاع إليه سبيلا } بدل من النَّاس لتقييد حال الوجوب ، وجوّز الكسائي أن يكون فاعل حَجّ ، وردّ بأنَّه يصير الكلام : لله على سائر النَّاس أن يحجّ المستطيع منهم ، ولا معنى لتكليف جميع النَّاس بفعل بعضهم ، والحقّ أنّ هذا الردّ لا يتّجه لأنّ العرب تتفنَّن في الكلام لعلم السامع بأنّ فرض ذلك على النَّاس فرض مجمل يبيِّنه فاعل حَجّ ، وليس هو كقولك : استطَاع الصّوم ، أو استطاع حمل الثقل ، ومعنى { استطاع سبيلاً } وجد سبيلاً وتمكّن منه ، والكلام بأواخره . والسَّبيل هنا مجاز فيما يتمكّن به المكلّف من الحجّ .
وللعلماء في تفسير السبيل أقوال اختلفت ألفاظها ، واتَّحدت أغراضها ، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتاً في كتب التَّفسير وغيرها ، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جداً ، وسبيل البعيد الراحلة والزاد ، ولذلك قال مالك : السبيل القدرة والنَّاس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم .
واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحْتِرَاف في طريقه : فقال مالك : إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه ، وقال بمثله ابن الزبير ، والشعبي ، وعكرمة . وعن مالك كراهية السفر في البحر للحجّ إلا لمن لا يجد طريقاً غيره كأهل الأندلس ، واحتجّ بأنّ الله تعالى قال : { يأتوك رجالاً وعلى كُلّ ضامر } [ الحج : 27 ] ولم أجد للبحر ذكراً . قال الشيخ ابن عطية : هذا تأنيس من مالك وليست الآية بالَّتي تقتضي سقوط سفر البحر . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ناس من أمَّتِي عُرِضوا عليّ غُزاة في سبيل الله يركبون ثَبَج هذا البحر » وهل الجهادِ إلاّ عبادة كالحجّ ، وكره مالك للمرأة السَّفر في البحر لأنَّه كشفة لها ، وكلّ هذا إذا كانت السَّلامة هي الغالب وإلا لم يجز الإلقاء إلى التهلكة ، وحال سفر البحر اليوم أسلم من سفر البرّ إلاّ في أحوال عارضة في الحروب إذا شملت البحارَ .
وظاهر قوله تعالى : { من استطاع إليه سبيلا } أنّ الخطاب بالحجّ والاستطاعة للمرءِ في عمله لا في عمل غيره ، ولذلك قال مالك : لا تصحّ النِّيابة في الحجّ في الحياة لعذر ، فالعاجز يسقط عنه الحجّ عنده ولم ير فيه إلاّ أنّ للرجل أن يوصي بأن يُحَجّ عنه بعد موته حجّ التَّطوع ، وقال الشَّافعي ، وأحمد ، وإسحاق بن راهويه : إذا كان له عذر مانع من الحجّ وكان له من يطيعه لو أمره بأن يحجّ عنه ، أو كان له مال يستأجر به من يحجّ عنه ، صار قادراً في الجملة ، فيلزمه الحجّ ، واحتجّ بحديث ابن عبَّاس : أنّ امرأة من خثعم سألت النّبيء صلى الله عليه وسلم يوم حجَّة الوداع فقالت : إنّ فريضة الله على عباده في الحجّ أدركتْ أبي شيخاً كبيراً لا يثبُت على الراحلة أفيُجْزِىء أن أحجّ عنه ؟ قال : نعم ، حُجِّي عنه أرَأيْتِ لو كان على أبيكِ دَيْن أكُنْتِ قاضيتَهُ ؟ قالت : نعم ، قال : فَدَيْن الله أحقّ أن يقضى . وأجاب عنه المالكية بأنّ الحديث لم يدلّ على الوجوب بل أجابها بما فيه حثّ على طاعة أبيها ، وطاعة ربِّها .
وقال عليّ بن أبي طالب ، وسفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، وابن المبارك . لا تجزىء إلاّ إنابة الأجرة دون إنابة الطَّاعة .
وظاهر الآية أنَّه إذا تحقّقت الاسْتطاعة وجب الحجّ على المستطيع على الفور ، وذلك يندرج تحت مسألة اقتضاءِ الأمر الفورَ أو عدممِ اقتضائِه إيّاه ، وقد اختلف علماء الإسلام في أنّ الحجّ واجب على الفور أو على التَّراخي . فذهب إلى أنَّه على الفور البغداديون من المالكية : ابنُ القصار ، وإسماعيل بن حَماد ، وغيرهما ، وتأوّلوه من قول مالك ، وهو الصّحيح من مذهب أبي حنيفة ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وداوود الظاهري . وذهب جمهور العلماء إلى أنّه على التَّراخي وهو الصحيح من مذهب مالك ورواية ابن نافع وأشهب عنه وهو قول الشَّافعي وأبي يوسف .
واحتجّ الشّافعي بأنّ الحجّ فرض قبل حجّ النّبيء صلى الله عليه وسلم بسنين ، فلو كان على الفور لما أخّره لعُذْر لبيّنه أي لأنَّه قدوة للنَّاس . وقال جماعة : إذا بلغ المرء الستِّين وجب عليه الفور بالحجّ إن كان مستطيعاً خشية الموت ، وحكاه ابن خويزَ مَنْدادَ عن ابن القاسم .
ومعنى الفور أن يوقعه المكلّف في الحجَّة الَّتي يحين وقتها أولاً عند استكمال شرط الاستطاعة .
وقوله : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } ظاهره أنَّه مقابل قوله { من استطاع إليه سبيلاً } فيكون المراد بمن كفر من لم يحجّ مع الاستطاعة ، ولذلك قال جمع من المحقّقين : إنّ الإخبار عنه بالكفر هنا تغليظ لأمر ترك الحجّ . والمراد كفر النعمة . ويجوز أيضاً أن يراد تشويه صنعه بأنَّه كصنيع من لا يؤمن بالله ورسله وفضيلة حَرمه . وقال قوم : أراد ومن كفر بفرض الحجّ ، وقال قوم بظاهره : إنّ ترك الحجّ مع القدرة عليه كفر . ونسب للحسن . ولم يلتزم جماعة من المفسِّرين أنّ يكون العطف للمقابلة وجعلوها جملة مستقلّة . كالتذييل ، بيّن بها عدم اكتراث الله بمن كفر به .
وعندي أنَّه يجوز أن يكون المراد بمن كفر من كفر بالإسلام ، وذلك تعريض بالمشركين من أهل مكّة بأنَّه لا اعتداد بحجّهم عند الله وإنَّما يريد الله أن يحجّ المؤمنون به والموحّدون له .
وفي قوله : { غني عن العالمين } رمز إلى نزعه ولاية الحرم من أيديهم : لأنَّه لمّا فرضَ الحجّ وهُم يصدّون عنه ، وأعلمنا أنَّه غني عن النَّاس ، فهو لا يعجزه من يصدّ النَّاس عن مراده تعالى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه قراء الأمصار: {فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ} على جماع آية، بمعنى: فيه علامات بينات. وقرأ ذلك ابن عباس: «فيه آية بينة» يعني بها: مقام إبراهيم، يراد بها علامة واحدة.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ} وما تلك الآيات. فقال بعضهم: مقام إبراهيم والمشعر الحرام، ونحو ذلك.
وقال آخرون: الآيات البينات {مَقَام إبرَاهيم وَمن دَخَلَهُ كانَ آمِنا}.
وقال آخرون: الآيات البينات: هو مقام إبراهيم. وأما الذين قرأوا ذلك: {فيه آية بينة} على التوحيد، فإنهم عنوا بالآية البينة: مقام إبراهيم.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: الآيات البينات منهن مقام إبراهيم، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما، فيكون الكلام مرادا فيهن «منهنّ»، فترك ذكره اكتفاءً بدلالة الكلام عليها. فإن قال قائل: فهذا المقام من الآيات البينات، فما سائر الآيات التي من أجلها قيل: {آيَاتٌ بَيّنَاتٌ}؟ قيل: منهنّ: المقام، ومنهنّ الحِجر، ومنهنّ الحطيم. وأصحّ القراءتين في ذلك قراءة من قرأ {فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ} على الجماع، لإجماع قراء أمصار المسلمين على أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها.
فتأويل الآية إذا: إن أوّل بيت وضع للناس مباركا وهدًى للعالمين، للذي ببكة، فيه علامات من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم منهن أثر قدم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الحجَر الذي قام عليه...
{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا}: واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: تأويله: الخبر عن أن كلّ من جرّ في الجاهلية جريرة ثم عاذ بالبيت لم يكن بها مأخوذا.
فتأويل الآية على قول هؤلاء: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، والذي دخله من الناس كان آمنا بها في الجاهلية. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن يدخله يكن آمنا بها، بمعنى: الجزاء، كنحو قول القائل: من قام لي أكرمته: بمعنى من يقم لي أكرمه. وقالوا: هذا أمر كان في الجاهلية، كان الحرم مفزع كل خائف، وملجأ كلّ جانٍ، لأنه لم يكن يُهاج له ذو جريرة، ولا يعرض الرجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء. قالوا: وكذلك هو في الإسلام، لأن الإسلام زاده تعظيما وتكريما.
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن دخله يكن آمنا من النار.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب من قال معنى ذلك: ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذا به كان آمنا ما كان فيه، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحدّ إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه، وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه. فتأويل الآية إذا: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن يدخله من الناس مستجيرا به يكن آمنا مما استجار منه ما كان فيه، حتى يخرج منه...
{وَللّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً}: وفرض واجب لله على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حجّ بيته الحرام الحجّ إليه.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عزّ وجلّ: {مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً}، وما السبيل التي يجب مع استطاعتها فرض الحجّ؟ فقال بعضهم: هي الزاد والراحلة... وقال آخرون: السبيل التي إذا استطاعها المرء كان عليه الحجّ: الطاقة للوصول إليه. قال: وذلك قد يكون بالمشي وبالركوب، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إليه، بامتناع الطريق من العدوّ الحائل، وبقلة الماء وما أشبه ذلك. قالوا: فلا بيان في ذلك أبين مما بينه الله عزّ وجلّ بأن يكون مستطيعا إليه السبيل، وذلك الوصول إليه بغير مانع ولا حائل بينه وبينه، وذلك قد يكون بالمشي وحده، وإن أعوزه المركب، وقد يكون بالمركب وغير ذلك. وقال آخرون: السبيل إلى ذلك: الصحة. وقال آخرون: من وجد قوّة في النفقة والجسد والحُمْلان...
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: إن ذلك على قدر الطاقة، لأن السبيل في كلام العرب: الطريق، فمن كان واجدا طريقا إلى الحجّ لا مانع له منه من زمانة، أو عجز، أو عدوّ، أو قلة ماء في طريقه، أو زاد، وضعف عن المشي، فعليه فرض الحجّ لا يجزيه إلا أداؤه. فإن لم يكن واجدا سبيلاً، أعني بذلك: فإن لم يكن مطيقا الحجّ بتعذّر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه، فهو ممن لا يجد إليه طريقا، ولا يستطيعه، لأن الاستطاعة إلى ذلك هو القدرة عليه، ومن كان عاجزا عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيل. وإنما قلنا هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها، لأن الله عزّ وجلّ لم يخصص إذ ألزم الناس فرض الحجّ بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه فذلك على كل مستطيع إليه سبيلاً بعموم الآية...
{وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ}: ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حجّ بيته، فأنكره وكفر به، فإن الله غنيّ عنه، وعن حجه وعمله، وعن سائر خلقه من الجنّ والإنس...
وقال آخرون: معنى ذلك: أن لا يكون معتقدا في حجه أن له الأجر عليه، ولا أن عليه بتركه إثما ولا عقوبة...
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بالله واليوم الاَخر...
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بهذه الآيات التي في مقام إبراهيم...
وقال آخرون: من كفر بالبيت. وقال آخرون: كفره به: تركه إياه حتى يموت...
وأولى التأويلات بالصواب في ذلك قول من قال: معنى {وَمَنْ كَفَرَ}: ومن جحد فرض ذلك وأنكر وجوبه، فإن الله غنيّ عنه وعن حجه وعن العالمين جميعا. وإنما قلنا ذلك أولى به، لأن قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} بعقب قوله: {وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} بأن يكون خبرا عن الكافر بالحجّ، أحقّ منه بأن يكون خبرا عن غيره، مع أن الكافر بفرض الحجّ على من فرضه الله عليه بالله كافر، وإن الكفر أصله الجحود، ومن كان له جاحدا ولفرضه منكرا، فلا شكّ إن حجّ لم يرج بحجه برّا، وإن تركه فلم يحجّ لم يره مأثما. فهذه التأويلات وإن اختلفت العبارات بها فمتقاربات المعاني.
الآية في مقام إبراهيم عليه السلام أن قدميه دخلتا في حَجَرٍ صَلْدٍ بقدرة الله تعالى، ليكون ذلك دلالة وآية على توحيد الله وعلى صحة نبوة إبراهيم عليه السلام. ومن الآيات فيه ما ذكرنا من أمْنِ لوحش وأُنْسِهِ فيه مع السباع الضارية المتعادية، وأمْنِ الخائف في الجاهلية فيه ويُتَخَطَّف الناس من حولهم، وإمحاق الجمار على كثرة الرامي من لَدُنْ إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا مع أن حَصَى الجِمَارِ إِنما تنقل إلى موضع الرّمْي من غيره، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته وقد كانت العادة بذلك جارية، ومن إهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا لإخرابه بالطير الأبابيل... فهذه كلها من آيات الحرم سوى ما لا نحصيه منها، وفي جميع ذلك دليل على أن المراد بالبيت هنا الحَرَمُ كله؛ لأن هذه الآيات موجودة في الحرم، ومقام إبراهيم ليس في البيت إنما هو خارج البيت؛ والله أعلم...
لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ} موجودة في جميع الحرم، ثم قال: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}، وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} يقتضي أمْنَهُ على نفسه سواء كان جانياً قبل دخوله أو جَنَى بعد دخوله، إلاّ أن الفقهاء متّفقون على أنه مأخوذ بجنايته في الحرم في النفس وما دونها، ومعلوم أن قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} هو أمرٌ وإنْ كان في صورة الخبر، كأنه قال: هو آمن في حكم الله تعالى وفيما أمر به، كما نقول: هذا مباح وهذا محظور؛ والمراد أنه كذلك في حكم الله وما أمر به عباده، وليس المراد أن مبيحاً يستبيحه ولا أن معتقداً للحَظْرِ يحظره، وإنما هو بمنزلة قوله في المباح:"افْعَلْهُ على أن لا تَبِعَةَ عليك فيه ولا ثواب" وفي المحظور: "لا تفعله فإنك تستحق العقاب به"؛ وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} هو أمرٌ لنا بإيمانه وحَظْرِ دمه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191] فأخبر بجواز وقوع القتل فيه وأمرنا بقتل المشركين فيه إذا قاتلونا؟ ولو كان قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} خبراً لما جاز أن لا يوجد مخبره، فثبت بذلك أن قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} هو أمرٌ لنا بإيمانه ونَهْيُ لنا عن قتله. ثم لا يخلو ذلك من أن يكون أمراً لنا بأن نؤمنه من الظلم والقتل الذي لا يستحق أو أن نؤمنه من قَتْلٍ قد استحقه بجنايته، فلما كان حمله على الإيمان من قَتْلٍ غير مستحَقٍّ عليه بل على وجه الظلم، تسقط فائدة تخصيص الحرم به؛ لأن الحرم وغيره في ذلك سواء، إذْ كان علينا إيمان كل أحد من ظلم يقع به من قِبَلِنَا أو من قِبَلِ غيرنا إذا أمكننا ذلك، علمنا أن المراد الأمر بالإيمان مِنْ قِبَلِ مُسْتَحقٍّ، فظاهره يقتضي أن نؤمنه من المستحَقّ من ذلك بجنايته في الحرم وفي غيره، إلا أن الدلالة قد قامت من اتفاق أهل العلم على أنه إذا قَتَل في الحرم قُتِلَ، قال الله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191] ففرّق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه...
ونظير قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} قوله عز وجل: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت:67]، وقوله: {أولم نمكن لهم حرماً آمناً} [القصص:57]، وقوله: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وآمناً} [البقرة: 125]، فهذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حَظْرِ قَتْلِ من لجأ إليه وإن كان مستحقّاً للقتل قبل دخوله. ولمّا عبّر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم دلّ على أن الحرم في حُكْمِ البيت في باب الأمْنِ وَمَنْعِ قَتْلِ من لجأ إليه. ولما لم يختلفوا أنه لا يُقتل من لجأ إلى البيت لأن الله تعالى وصفه بالأمن فيه، وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه...
والذي يقتضيه ظاهر قوله تعالى: {وللّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ} حَجَّة واحدة، إذ ليس فيه ما يوجب تكراراً؛ فمتى فعل الحج فقد قضى عهدة الآية.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{فيه آيات بينات}: أي المشاعر والمناسك كلها ثم ذكر بعضها فقال {مقام إبراهيم}: أي منها مقام إبراهيم. {ومن دخله كان آمنا}: أي من حجه فدخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك وقيل من النار. {ولله على الناس حج البيت}: عمم الإيجاب ثم خص وأبدل من الناس فقال: {من استطاع إليه سبيلا}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا"؛ إن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد، كقوله تعالى: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] والثاني: اشتماله على آيات لأنّ أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية. ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، لأنّ الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة. ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما. دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما...
قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلاً، وفيه ضربان من التأكيد: أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له، والثاني أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين. ومنها قوله: {وَمَن كَفَرَ} مكان ومن لم يحج تغليظاً على تارك الحج؛ ... ونحوه من التغليط "من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر "ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان، ومنها قوله: {عَنِ العالمين} وإن لم يقل عنه، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدلّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الضمير في قوله: {فيه} عائد على البيت، وساغ ذلك مع كون «الآيات» خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه... [و] منهن {مقام إبراهيم}؛ قال القاضي: والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر... ومن آياته، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر، وأن العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل، وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه، وسلامة الشجر، وذلك كله للبركة التي خصه الله بها، والدعوة من الخليل عليه السلام في قوله، {اجعل هذا بلداً آمناً}، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون ناه، ولا زاجر، آية عظمى تقوم بها الحجة، وهي التي فسرت بقوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً}...
وقوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}: فهذا كفر معصية، كقوله عليه السلام، (من ترك الصلاة فقد كفر) وقوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)، على أظهر محتملات هذا الحديث. وبيّن أن من أنعم الله عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة، ومعنى قوله تعالى: {غني عن العالمين} الوعيد لمن كفر، والقصد بالكلام، فإن الله غني عنهم، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى، وينتبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به افتقار إلى شيء، لا رَبَّ سواه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {مَقَامُ إبْرَاهِيمَ}.
أحدهما: أنه الحجر المعهود، وإنما جُعِل آيةً للناس؛ لأنه جماد صَلْد وقف عليه إبراهيم، فأظهر اللهُ فيه أثَرَ قدَمِه آيةً باقية إلى يوم القيامة.
الثاني: قال ابنُ عباس: {مَقَامُ إبْرَاهِيمَ} هو الحجّ كلّه؛ وهذا بيِّن، فإنَّ إبراهيم قام بأمْرِ اللهِ سبحانَه، ونادى بالحجِّ عبادَ الله، فجمع اللهُ العبادَ على قَصْده، وكانت شرعه من عَهْده، وحجَّةً على العرب الذين اقتَدَوْا به من بعده.
وفيه من الآيات أنَّ مَنْ دخله خائفاً عادَ آمِناً؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى قد كان صرفَ القلوبَ عن القَصْدِ إلى معارضته، وصَرَف الأيدي عن إذايته، وجمعها على تعظيم الله تعالى وحرمته.
وهذا خبرٌ عمَّا كان، وليس فيه إثباتُ حُكْم، وإنما هو تنبيهٌ على آيات، وتقرير نِعَم متعدّدات، مقصودها وفائدتها وتمامُ النعمة فيه بعثه محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فمن لم يشهدْ هذه الآياتِ ويرى ما فيها من شرَفِ المقدّمات لحرمة مَنْ ظهر من تلك البقعة فهو من الأموات.
المسألة الخامسة: قال أبو حنيفة: إنَّ من اقترف ذَنْباً واستوجب به حدّاً، ثم لجأ إلى الحرَم عصمَه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً}، فأوجب اللهُ سبحانه الأمْنَ لمن دخله، ورُوي ذلك عن جماعةٍ من السلف، منهم ابنُ عباس وغيره من الناس.
وكلّ مَنْ قال هذا فقد وهم من وجهين:
أحدهما: أنه لم يفهم معنى الآية أنه خبرٌ عما مضى، ولم يُقْصد بها إثباتُ حكم مستقبل.
الثاني: أنه لم يعلم أنّ ذلك الأمْن قد ذهب، وأنَّ القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها، وخبرُ الله سبحانه لا يقعُ بخلاف مخبره؛ فدلَّ على أنه في الماضي...
المسألة السادسة: قال بعضُهم: مَنْ دخله كان آمِناً من النار؛ ولا يصحُّ هذا على عمومه، ولكنه «مَن حجَّ فلم يَرْفُث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، «والحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة». قال ذلك كلَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون تفسيراً للمقصود، وبياناً لخصوص العموم، إن كان هذا القَصْد صحيحاً.
هذا، والصحيحُ ما قدمناه من أنه قصد به تعديد النعم على مَنْ كان بها جاهلاً ولها مُنْكِراً من العرب، كما قال تعالى {أوَلم يَرَوْا أنَّا جعَلْنا حَرَماً آمِناً ويُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِم، أفبالباطلِ يُؤْمِنونَ وبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرون} [العنكبوت:67].
الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً، وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
المسألة الأولى: قال علماؤنا: هذا من أوْكد ألفاظ الوجوب عند العرب، إذا قال العربي: لفلان عليّ كذا فقد وكَّدَهُ وأوجبه.
قال علماؤنا: فذكر اللهُ سبحانه الحج فأبلغ ألفاظ الوجوب؛ تأكيداً لحقّه، وتعظيماً لحرمته، وتقويةً لفَرْضِه.
المسألة الثانية: كان الحجُّ معلوماً عند العرب مشروعاً لديهم، فخُوطِبوا بما علموا وألزمُوا ما عرفوا، وقد حجّ النبيُّ معهم قبل فَرْضِ الحج؛ فوقف بعَرفة ولم يغيِّر مِنْ شَرْع إبراهيم ما غيَّروا حيث كانت قريش تقف بالْمُزْدَلفة، ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه ونحن الْحُمْس.
المسألة الثالثة: هذا يدلُّ على أنَّ ركْن الحج القصد إلى البيت. وللحج ركنان:
أحدهما: الطواف بالبيت. والثاني: الوقوف بعرفة: لا خلاف في ذلك، وكل ما وراءه نازل عنه مختلَف فيه.
فإن قيل: فأين الإحرام، وهو متّفق عليه؟
قلنا: هو النية التي تلزم كلَّ عبادة، وتتعيَّن في كل طاعة، وكل عمل خلافها لم يكن به اعتداد؛ فهي شَرْط لا رُكْن.
المسألة السادسة: قوله تعالى: {عَلَى النَّاسِ} عامٌّ في جميعهم، مسترسل على جميعهم من غير خلافٍ بيه الأمّة في هذه الآية، وإن كان الناسُ قد اختلفوا في مطلق العمومات، بَيْدَ أنهم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكَرِهم وأنثاهم، خلا الصغير؛ فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف، فلا يقال فيه: إنّ الآية مخصوصة فيه، وكذا العبد لم يدخل فيها؛ لأنه أخْرَجَه عن مطلق العموم الأول قولُه سبحانه في تمام الآية: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً}، والعبْدُ غير مستطيع؛ لأنَّ السيد يمنعه بشَغله بحقوقه عن هذه العبادة؛ وقد قدَّم الله سبحانه حقَّ السيدِ على حقه رفقاً بالعباد ومصلحةً لهم.
ولا خلافَ فيه بين الأمة ولا بين الأئمة، ولا نهرف بما لا نعرف، ولا دليل عليه إلا الإجماع.
المسألة الثامنة: إذا وُجدت الاستطاعة توجَّه فَرْض الحج بلا خلافٍ إلا أن تعرض له آفةٌ.
{مقام إبراهيم} لا تعلق له بقوله {فيه ءايات بينات} فكأنه تعالى قال: {فيه ءايات بينات} ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه، لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم فسر الهدى بقوله: {فيه آيات بينات} وقوله: {مقام إبراهيم} أي أثر قدمه عليه الصلاة والسلام في الحجر حيث قام لتغسل كنته رأسه الشريف -... وهو وحده آيات لعظمه ولتعدد ما فيه من تأثير القدم، وحفظه إلى هذا الزمان مع كونه منقولاً، وتذكيره بجميع قضايا إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان أمن أهله في بلاد النهب والغارات التي ليس بها حاكم يفزع إليه ولا رئيس يعول في ذلك عليه من أدل الآيات قال سبحانه وتعالى: {ومن دخله} أي فضلاً عن أهله {كان آمناً} أي عريقاً في الأمن، أو فأمنوه بأمان الله، وتحويل العبارة عن "وأمن داخله "لأن هذا أدل على المراد من تمكن الأمن، وفيه بشارة بدخول الجنة.
ولما أوضح سبحانه وتعالى براءتهم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمخالفتهم إياه بعد دعواهم بهتاناً أنه على دينهم، وكانت المخالفة في الواجب أدل قال سبحانه وتعالى: {ولله} أي الملك الذي له الأمر كله {على الناس} أي عامة، فأظهر في موضع الإضمار دلالة على الإحاطة والشمول -كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي في {استطعما أهلها} [الكهف:77] في الكهف، وذلك لئلا يدعي خصوصة بالعرب أو غيرهم {حج البيت} أي زيارته زيارة عظيمة، وأظهر أيضاً تنصيصاً عليه وتنويهاً بذكره تفخيماً لقدره، وعبر هنا بالبيت لأنه في الزيارة، وعادة العرب زيارة معاهد الأحباب وأطلالهم وأماكنهم وحلالهم، وأعظم ما يعبر به عن الزيارة عندهم الحج، ثم مَن بالتخفيف بقوله مبدلاً من الناس، تأكيداً بالإيضاح بعد الإبهام وحملاً على الشكر بالتخفيف بعد التشديد وغير ذلك من البلاغة: {من استطاع} أي منهم {إليه سبيلاً} فمن حجه كان مؤمناً.
ولما كان من الواضح أن التقدير: ومن لم يحجه مع الاستطاعة كفر بالنعمة إن كان معترفاً بالوجوب، وبالمروق من الدين إن جحد، عطف عليه قوله: {ومن كفر} أي بالنعمة أو بالدين {فإن الله} اي الملك الأعلى {غني} ولما كان غناه مطلقاً دل عليه بقوله موضع عنه: {عن العالمين} أي طائعهم وعاصيهم، صامتهم وناطقهم، رطبهم ويابسهم، فوضح بهذه الآية وما شاكلها أنهم ليسوا على دينه كما وضح بما تقدم أنه ليس على دينهم، فثبتت بذلك براءته منهم، والآية من الاحتباك لأن إثبات فرضه أولاً يدل على كفر من أباه، وإثبات {ومن كفر} ثانياً يدل على إيمان من حجه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(فيه آيات بينات مقام إبراهيم) أي فيه دلائل أو علامات ظاهرة لا تخفى على أحد. أحدها، أو منها: مقام إبراهيم، أي موضع قيامه فيه للصلاة والعبادة تعرف ذلك العرب بالنقل المتواتر. فأي دليل أبين من هذا على كون هذا البيت أو بيت من بيوت العبادة الصحيحة المعروفة في ذلك العهد وضع ليعبد الناس فيه ربهم- وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم بجعل النبوة والملك فيهم لا يعرف لنبي قبله أثر ولا يحفظ له نسب.
وقوله: (ومن دخله كان آمنا) آية ثانية بينة لا يمتري فيها أحد، وهي اتفاق قبائل العرب كلها على احترام هذا البيت وتعظيمه لنسبته إلى الله، حتى أن من دخله يأمن على نفسه لا من الاعتداء عليه وإيذائه فقط بل يأمن أن يثأر منه من سفك هو دماءهم واستباح حرماتهم مادام فيه. مضى على هذا عمل الجاهلية على اختلافها في المنازع والأهواء والمعبودات وكثرة ما بينها من الأحقاد والأضغان وأقره الإسلام.
ويرد على إقرار الإسلام لحرمة البيت فتح مكة بالسيف، وأجيب عنه: بأنها حلت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار لم تحل لأحد قبله ولن تحل لأحد بعده، كما ورد في الحديث. وذلك لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه لما وضع له. وأقول: إن حرمة مكة كلها وما يتبعها من ضواحيها وحلها للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار أمر زائد على ما نحن فيه، وهو أمن من دخل البيت والنبي لم يستحل البيت ساعة ولا بعض ساعة، وإنما كان مناديه ينادي بأمره:"من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن" ولما أخبر أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم بقول سعد بن عُبادة حامل لواء الأنصار له في الطريق: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة: قال صلى الله عليه وسلم "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة".
وأما فعل الحجاج -أخزاه الله- فقد قال الأستاذ الإمام: إنه كان من الشذوذ الذي لا ينافي الاتفاق على احترام البيت وتعظيمه، وتأمين من دخله، وهذا الجواب مبني على أن أمن من دخل البيت ليس معناه: أن البشر يعجزون عن الإيقاع به عجزا طبيعيا على سبيل خرق العادة. وإنما معناه: أنه تعالى ألهمهم احترامه لاعتقادهم نسبته إليه عز وجل، وحرم الإلحاد والاعتداء فيه. ولم يكن الحجاج وجنده يعتقدون حل ما فعلوا من رمي الكعبة بالمنجنيق، ولكنها السياسة تحمل صاحبها على مخالفة الاعتقاد، وتوقعه في الظلم والإلحاد... فلا نلجأ إلى تأويل الأمان بمثل ما أوله به من قال: إن المراد به الأمن من العذاب يوم القيامة. وقد رد الأستاذ الإمام هذا التأويل، وقال ما معناه: إنه هدم للدين كله، فإن الأمن هناك إنما يكون لأهل التوحيد الخالص والعمل الصالح، الذين أقاموا الدين في الدنيا كما أمر الله تعالى، وما دخول البيت إلا بعض أعمال الإيمان، إذا أخلص صاحبه فيه. أقول: ولا تنسى في هذا المقام مثل قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) [الأنعام: 82] وما رووه في ذلك من الآثار لا ينافي المتبادر المختار، وما أظن أن ذلك يصح عن الإمام جعفر الصادق كما قيل.
أما قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) فهو بيان آية ثالثة من آيات هذا البيت جاءت بصيغة الإيجاب والفرضية في معرض ذكر مزاياه ودلائل كونه أول بيوت العبادة المعروفة للمعترضين من اليهود على استقباله في الصلاة، فهو يفيد بمقتضى السياق معنى خبريا وبمقتضى الصيغة معنى إنشائيا، وهو وجوب الحج على المستطيع من هذه الأمة. أشار إلى ذلك الأستاذ الإمام بقوله: هذه الجملة – وإن جاءت بصيغة الإيجاب- هي واردة في معرض تعظيم البيت، وأي تعظيم أكبر من افتراض حج الناس إليه؟ وما زالوا يحجونه من عهد إبراهيم إلى عهد محمد صلى الله عليهما وعلى آلهما وسلم. ولم يمنع العرب عن ذلك شركها، وإنما كانوا يحجون عملا بسنة إبراهيم. يعني أن الحج عام جروا عليه جيلا بعد جيل على أنه من دين إبراهيم، وهذه آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى إبراهيم. فهي أصح من نقول المؤرخين التي تحتمل الصدق والكذب. وبهذا وبما سبقه بطل اعتراض أهل الكتاب، وثبت أن النبي على ملة إبراهيم دونهم.
أما الحج فمعناه في أصل اللغة القصد... وأما استطاعة السبيل: فهي عبارة عن القدرة على الوصول إليه. وهي تختلف باختلاف الناس في أنفسهم وفي بعدهم عن البيت وقربهم منه. وكل مكلف أعلم بنفسه – وإن كان عاميا- من غيره وإن كان عالما نحريرا. وما زاد الناس اختلاف العلماء في تفسير الاستطاعة إلا بعدا عن حقيقتها الواضحة من الآية أتم الوضوح إذ قال بعضهم: إن الاستطاعة صحة البدن والقدرة على المشي. وقال بعضهم: إنها القدرة على الزاد والراحلة. واشترطوا فيها: أمن الطريق، ولم يشترطوا الأمن في أرض الحرم، لأنها كانت آمنة قطعا...
وقال الأستاذ الإمام في قوله تعالى:"من استطاع إليه سبيلا "أنه بيان لموقع الإيجاب ومحله، وإعلام بأن الفرضية موجه أولا وبالذات إلى هذا العمل، ولكن الله رحم من لا يستطيع إليه سبيلا. والاستطاعة تختلف باختلاف الأشخاص: ولم يزد على ذلك.
وقوله تعالى: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) تأكيد لما سبق ووعيد على جحوده، وبيان لتنزيه الله تعالى بإزالة ما عساه يسبق إلى أوهام الضعفاء عند سماع نسبة البيت إلى الله، والعلم بفرضه على الناس أن يحجوه من كونه محتاجا إلى ذلك. فالمراد بالكفر: جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه إبراهيم للعبادة الصحيحة، بعد إقامة الحجج على ذلك وعدم الإذعان لما فرض الله من حجه والتوجه إليه بالعبادة. هذا هو المتبادر. وحمله بعضهم على الكفر مطلقا على أنه مستقل لا متمم لما قبله. وهو بعيد جدا، وبعضهم على ترك الحج وهو بعيد أيضا، وإن دعموه بحديث أبي هريرة مرفوعا:"من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا "رواه ابن عدي، وحديث أبي أمامة عند الدارمي والبيهقي:"من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا "ورواه غيرهم باختلاف في اللفظ والروايات كلها ضعيفة إلا ما قيل في رواية موقوفة؛ بل عده ابن الجوزي من الموضوعات. واعترض عليه لكثرة طرقه. وأمثل طرقه المرفوعة: ما روي عن علي كرم الله وجهه بلفظ:"من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) الآية "رواه الترمذي، وقال: غريب، في إسناده مقال، والحارث يضعف. وهلال بن عبد الله الراوي له عن إسحاق مجهول. وقد قال بعضهم: إن تعدد طرق الحديث ترتقي به إلى درجة الحسن لغيره كما يقولون في مثله، ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني: لا يصح في هذا الباب شيء، إذ لا ندعي أن هناك شيئا صحيحا. وأشد من ذلك أثر عمر عند سعيد بن منصور في سننه قال:"لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جِدَة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين "واستدل بهذه الروايات على أن الحج واجب على الفور. وبه قال كثير من أهل الفقه والأثر. والآخرون يقولون: إنه على التراخي. والاحتياط أن لا يؤخر المستطيع الحج بغير عذر صحيح لئلا يفاجئه الموت قبل ذلك.
أقول: إن الآية تشتمل على مزايا وآيات لبيت الله الحرام. فالمزايا كونه أول مسجد وضع للناس، وكونه مباركا. وكونه هدى للعالمين، والآيات: مقام إبراهيم وأمن داخله، والحج إليه على ما بينا، ويذكر له المفسرون هنا خصائص ومزايا أخرى يعدونها من الآيات على تقدير "منها مقام إبراهيم "ومنهم من قال: إنها هي الآيات، وإن قوله" مقام إبراهيم "كلام مستقل. قال الرازي: فكأنه قال: فيه آيات بينات؛ ومع ذلك هو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه، اه. ولعل الدافع لهم إلى هذا: فهمهم أن" مقام إبراهيم "تفسير للآيات وهو مفرد، وقد علمت أن ما بعده تابع له في ذلك. وما يؤيد ذلك: محاولة الآخرين أن يجعلوا مقام إبراهيم بمنزلة عدة آيات. قال الرازي: إن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام، وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين ألوف السنين آية. فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة، اه.
أقول: وقد تقدم في تفسير (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [البقرة: 125] أن بعضهم يقول: إن مقامه عبارة عن موقعه حيث ذلك الأثر للقدمين وإن هذا ضعيف. والكلام هنا في أن مقام إبراهيم مشتمل على ما ذكره من الأثر، وهذا هو الصحيح أما الأثر نفسه. فقد كانت العرب تعتقد أنه أثر قدمي إبراهيم.
وقد يؤخذ من قوله" رطبة "أن الصخرة كانت عندما وطئ عليها رطبة لم تتحجر ثم تحجرت بعد ذلك وبقي أثر قدميه فيها. وعلى هذا لا يظهر معنى كونه آية إلا على الوجه الذي جرينا عليه في تفسير" آيات بينات "دون ما جرى عليه الجمهور من كون الآيات بمعنى الخوارق الكونية. وقد يكون مراده أنها كانت رطبة كرامة له، وقال بعضهم. إن" مقام "مصدر بمعنى الجمع، والمراد مقامات إبراهيم، أي ما قام به من المناسك وأعمال الحج. والمتبادر ما ذكرناه في موضعه.
ومما عدوه من الآيات. قصم من يقصده من الجبابرة بسوء كأصحاب الفيل، ويرد عليهم ما كان من الحجاج ومن هم شر من الحجاج، وعدم تعرض ضواري السباع للصيود فيه. وهذا القول ظاهر الضعف؛ إذ ليس ذلك آية وعدم نفرة الطير من الناس هناك. ويرد عليه أن الطير تألف الناس لعدم تعرضهم لهذا. ولذلك نظائره في الأرض، وانحراف الطير عن موازاته وليس بمتحقق، وكون وقوع الغيث فيه دليلا على الخصب، فإذا عمه كان الخصب عاما وإذا وقع في جهة من جهاته كان الخصب في تلك الجهة من الأرض، وهي آية وهمية.
ولعمري إن بيت الله غني عن اختراع الآيات وإلصاقها به مع براءته منها. فحسبه شرفا كونه حرما آمنا ومثابة للناس وأمنا ومباركا وهدى للعالمين، وما فيه من الآيات التي ذكرها الله وإقسامه تعالى به وما ورد عن رسوله في حرمته وتحريمه وفضله، ككونه لا يسفك فيه دم ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه أي لا يقطع نباته ولا ينفر صيده ولا تملك لقطته، وكون قصده مكفرا للذنوب ماحيا للخطايا، وكون العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره وكون استلام الحجر الأسود فيه رمزا إلى مبايعة الله تعالى على إقامة دينه والإخلاص له فيه، وكون الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره. والأحاديث الواردة في ذلك تطلب من الصحيحين وكتب السنن.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
من الآيات البينات فيها أن من دخله كان آمنا شرعا وقدرا، فالشرع قد أمر الله رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد باحترامه وتأمين من دخله، وأن لا يهاج، حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها... وأما تأمينها قدرا فلأن الله تعالى بقضائه وقدره وضع في النفوس حتى نفوس المشركين به الكافرين بربهم احترامه، حتى إن الواحد منهم مع شدة حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه...