قوله تعالى : { إذ تصعدون } . يعني ولقد عفا عنكم إذ تصعدون هاربين ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن ، وقتادة ، تصعدون بفتح التاء والعين ، والقراءة المعروفة بضم التاء وكسر العين . والإصعاد السير في مستوى الأرض ، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح ، قال أبو حاتم : يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره ، وقال المبرد : أصعد إذا أبعد في الذهاب ، وكلتا القراءتين صواب ، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد ، وقال المفضل : صعد وأصعد بمعنى واحد .
قوله تعالى : { ولا تلوون على أحد } . أي لا تعرجون ولا تقيمون على أحد لا يلتفت بعضكم إلى بعض .
قوله تعالى : { والرسول يدعوكم في أخراكم } . أي : في آخركم ومن ورائكم " إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة " .
قوله تعالى : { فأثابكم } . فجازاكم ، جعل الإثابة بمعنى العقاب ، وأصلها في الحسنات لأنه وضعها موضع الثواب ، كقوله تعالى ( فبشرهم بعذاب أليم ) . جعل البشارة في العذاب ، ومعناه جعل مكان الثواب الذي كنتم ترجون .
قوله تعالى : { غماً بغم } . وقيل : الباء بمعنى على ، أي غماً على غم ، وقيل : غماً متصلاً بغم ، فالغم الأول : ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والغم الثاني ما نالوا من القتل والهزيمة . وقيل : الغم الأول ما أصابهم من القتل والجراح . والغم الثاني ما سمعوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فأنساهم الغم الأول وقيل : الغم الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم بخيل المشركين ، والغم الثاني : حين أشرف عليهم أبو سفيان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه ، فقال " أنا رسول الله " صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرح النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه ، حتى وقفوا بباب الشعب ، فلما نظر المسلمون إليهم أهمهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس لهم أن يعلونا اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم . وقيل : إنهم غموا الرسول بمخالفة أمره ، فجازاهم الله بذلك الغم غم القتل والهزيمة .
قوله تعالى : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } . من الفتح والغنيمة .
قوله تعالى : { ولا ما أصابكم } . أي ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة .
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بما كان من بعضهم بعد أن اضطربت أحوالهم وجاءهم أعداؤهم من أمامهم ومن خلفهم بسبب ترك معظم الرماة لأماكنهم ، فقال - تعالى - { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .
وقوله : { تُصْعِدُونَ } من الإصعاد وهو الذهاب فى صعيد الأرض والإبعاد فيه .
يقال : أصعد فى الأرض إذا أبعد فى الذهاب وأمعن فيه ، فهو الصعد .
قال القرطبى : الإصعاد : السير فى مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب .
والصعود : الارتفاع على الجبال والدرج .
وقوله { إِذْ تُصْعِدُونَ } متعلق بقوله { صَرَفَكُمْ } أو بقوله { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أو بمحذوف تقديره اذكروا .
أى اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن كنتم مصعدين تهرولون بسرعة فى بطن الوادى بعد أن اختلت صفوفكم - واضطرب جمعكم . وصرتم لا يعرج بعضكم على بعض ولا يتلفت أحدكم إلى غيره من شدة الهرب ، والحال أن رسولكم صلى الله عليه وسلم { يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } أى يناديكم فى أخراكم أو فى جماعتكم الأخرى أو من خلفكم يقال .
جاء فلان فى آخر الناس وأخراهم إذا جاء خلفهم ، كما يقال : جاء فى أولهم وأولاهم .
والمراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو المنهزمين إلى الثبات وإلى ترك الفرار من الأعداء وإلى معاودة الهجوم عليهم وهو ثابت لم يتزعزع ومعه نفر من أصحابه .
قال ابن جرير لما اشتد المشكرون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إلىَّ عباد الله " ! فذكر الله صعودهم إلى الجبل ، ثم ذكر دعاء النبى صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .
ففى هذه الجملة الكريمة تصوير بديع معجز لحال المسلمين عندما اضطربت صفوفهم فى غزوة أحد ، فهى تصور حالهم وهم مصعدون فى الوادى بدون تمهل أو تثبت ، وتصور حالهم وقد أخذ منهم الدهش مأخذه بحيث أصبح بعضهم لا يلتفت إلى غيره أو يسمع له نداء ، أو يجيب له طلبا وتصور حال النبى صلى الله عليه وسلم وقد ثبت كالطود الأشم بدون اضطراب أو وجل ومعه صفوة من أصحابه وقد أخذ ينادى الفارين بقوله : " إلى عباد الله ، إلى عباد الله أنا رسول الله ، من يكر فله الجنة " .
وقوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } .
بيان للنتيجة التى ترتبت على هذا الاضطراب وهو معطوف على قوله { صَرَفَكُمْ } أو على قوله { تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ } ولا يضر كونهما مضارعين فى اللفظ لأن إذ المضافة إليهما صيرتهما ماضيين فى المعنى .
وأصل الإثابة إعطاء الثواب ، وهو شىء يكون جزاء على عطاء أو فعل ولفظ الثواب لا يستعمل فى الأعم الأغلب إلا في الخير ، والمراد به هنا العقوبة التى نزلت بهم . وسميت العقوبة التى نزلت بهم ثوابا على سبيل الاستعارة التهكمية كما فى قوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ويجوز أن يكون اللفظ مستعملا فى حقيقته ، لأن لفظ الثواب فى أصل اللغة معناه ما يعود على الفاعل من جزاء فعله ، سواء أكان خيراً أو شراً .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ } الغم فى اللغة التغطية . يقال : غممت الشىء أى غطيته . ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين .
قال مجاهد وقتادة وغيرهما ، والغم الأول القتل والجراح والغم الثانى الإرجاف بمقتل النبى صلى الله عليه وسلم وقيل الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة والثانى : استعلاء المشركين عليهم . وعند ذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم
والباء فى { بِغَمٍّ } على هذا بمعنى على . وقيل هى على بابها والمعنى أنهم غموا النبى صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم " .
ويجوز أن يكون الكلام لمجرد التكثير أى جازاكم بغموم وأحزان كثيرة متصل بعضها ببعض بأن منع عنكم نصره وحرمكم الغنيمة وأصابتكم الجراح الكثيرة وأشيع بينكم أن نبيكم قد قتل . . وكل ذلك بسبب أنكم خالفتم وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم وتغلب حب الدنيا وشهواتها على قلوب بعضكم فلم تخلصوا لله الجهاد فأصابكم ما أصابكم .
وقوله { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } تعليل لقوله { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أى : ولقد عفا الله - تعالى - عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر ، ولا على ما أصابكم من جراح وآلام ، فإن عفو الله - تعالى - يذهب كل حزن ويمسح كل ألم .
وير صاحب الكشاف أن معنى " لكى لا تحزنوا " لتتمرنوا على تجرع الغموم فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار .
ثم قال : ويجوز أن يكون الضمير فى { فَأَثَابَكُمْ } للرسول . أى : فآساكم فى الاغتمام - أى فصار أسوتكم - لأنه كما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرها فقد غمه ما نزل بكم . فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ولا على ما أصابكم من غلبة العدو " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أى : والله - تعالى - عليم بأعمالكم ونياتكم علما كاملا ، وخير بما انطوت عليه نفوسكم فهو - سبحانه - لا تخفى عليه خافية مهما صغرت ، فاتقوه وراقبوه واتبعوا ما كلفكم به لتنالوا الفوز والسادة .
وقوله : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ } أي : صرفكم عنهم { إِذْ تُصْعِدُونَ } أي : في الجبل هاربين من أعدائكم .
وقرأ الحسن وقتادة : { إِذْ تُصْعِدُونَ } أي : في الجبل { وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ } أي : وأنتم لا تلوون على أحد من الدَّهَش والخوف والرعب { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } أي : وهو قد خلفتموه وراء ظُهوركم يدعوكم إلى تَرْك الفرار من الأعداء ، وإلى الرجعة والعودة والكرة .
قال السُّدِّي : لما شَدّ المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها ، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إليَّ عِبَادَ اللهِ ، إليَّ عباد الله " . فذكر{[5871]} الله صعودهم على{[5872]} الجبل ، ثم ذكر دُعَاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } .
وكذا قال ابنُ عباس ، وقتادة والربيع ، وابن زيد .
وقد قال عبد الله بن الزّبَعْري يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته - وهو مشرك بعد لم يسلم - التي يقول في أولها :
يا غُرابَ البَيْنِ أسْمَعْتَ فَقُل *** إنما تَنْطقُ شيئًا قَدْ فُعلْ
إنّ للخير وللشر مَدى *** وكلا ذلك وجْه وقَبلْ
لَيْتَ أشياخي ببدر شهدوا *** جَزَعَ الخزرج من وقع الأسَلْ
حين حَكَّت{[5873]} بقُباء بَرْكها{[5874]} *** واستحر القتل في عبد الأشل
ثم خَفّوا{[5875]} عنْدَ ذَاكُم رُقَّصا *** رقص الحَفَّان يعلو{[5876]} في الجَبَل
فقتلنا الضعف من أشرافهم *** وعَدَلنا مَيْل{[5877]} بدر فاعتدَل{[5878]}
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثني عشر رجلا من أصحابه ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا زُهَير ، حدثنا أبو إسحاق أن البراء بن عازب قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلا - عبد الله بن جُبير قال : ووضعهم موضعًا وقال : " إنْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إلَيْكُمْ وَإنْ رَأيْتُمُونَا ظَهَرنَا عَلَى الْعَدُوّ وأوَطأناهُمْ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرسِلَ إلَيْكُمْ قال : فهزموهم . قال : فأنا والله رأيت النساء يَشْتددن{[5879]} على الجبل ، وقد بدت أسْؤُقُهنّ وخَلاخلُهُن رافعات ثيابهُن ، فقال أصحاب عبد الله : الغَنِيمة ، أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون{[5880]} ؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم{[5881]} ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : إنا والله لَنَأتيَن الناس فَلنُصِبيَنَّ من الغنيمة . فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين ، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم ، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه أصابوا من المشركين يوم بَدْر أربعين ومائة : سبعين أسيرًا وسبعين قتيلا . قال أبو سفيان : أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ - ثلاثا - قال : فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قُحَافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثم أقبل على أصحابه فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا ، قد كُفيتُمُوه . فما ملك عُمَر نفسَه أن قال : كذبتَ والله يا عدو الله ، إن الذين عَدَدْتَ لأحياء كلهم ، وقد بَقي لك ما يسوؤك . فقال{[5882]} يوم بيوم بدر ، والحرب سِجَال ، إنكم ستجدون في القوم مَثُلَةً لم آمر بها ولم تسؤني{[5883]} ثم أخذ يرتجز ، يقول : اعلُ هُبَلْ . اعل هُبَلْ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا تُجِيبُوه{[5884]} ؟ " قالوا : يا رسول الله ، ما نقول ؟ قال : " قُولُوا : الله أعلى وأجل " . قال : لنا العُزَّى ولا عزَّى لكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا تُجِيبُوهُ ؟ " . قالوا : يا رسول الله ، وما نقول ؟ قال : " قُولُوا : اللهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ " {[5885]} .
وقد رواه البخاري من حديث زُهَير بن معاوية مختصرا ، ورواه من حديث إسرائيل ، عن أبي
إسحاق بأبسط من هذا ، كما تقدم . والله أعلم .
وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة{[5886]} بن غَزِيَّة ، عن أبي الزُّبَير ، عن جابر قال : انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار ، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد{[5887]} الجبل ، فلقيهم المشركون ، فقال : " ألا أحَدٌ لِهَؤُلاءِ ؟ " فقال طلحة : أنا يا رسول الله ، فقال : " كمَا أنْتَ يَا طَلْحَةُ " . فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله ، فقاتل عنه ، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه ، ثم قُتل الأنصاري فلحقوه فقال : " ألا رجُلٌ لِهؤُلاءِ ؟ " فقال طلحة مثل قوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله ، فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله ، فقاتل عنه وأصحابه يصعدن ، ثم قتل فلحقوه ، فلم يزل يقول مثل قوله الأول فيقول{[5888]} طلحة : فأنا {[5889]} يا رسول الله ، فيحبسه ، فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذَنُ له ، فيقاتل{[5890]} مثل من كان قبله ، حتى لم يبق معه إلا طلحة فَغشَوْهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لِهَؤلاءِ ؟ " فقال طلحة : أنا . فقاتل مثْل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله ، فقال : حس ، فقال رسول الله : " لوْ قُلْتَ : بِاسْمِ اللهِ ، وذَكرت اسْمَ الله ، لَرَفَعَتْكَ الملائِكَة والنَّاسُ يَنْظُرونَ إلَيْكَ ، حَتَّى تلجَ بِكَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ " ، ثم صعد{[5891]} رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون{[5892]} .
وقد روى البخاري ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وَكِيع ، عن إسماعيل ، عن قَيْس بن أبي حازم قال : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم - يعني يوم أحد{[5893]} .
وفي الصحيحين من حديث مُعْتَمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي عُثمان النَّهْدِي قال : لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام ، التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَيْرُ طلحةَ بن عبيد الله وسعد ، عن حَديثهما{[5894]} وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش ، فلما رَهِقُوه قال : " مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ - أو : وهو رفيقي في الجنة ؟ " فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، ثم رهقوه أيضا ، فقال : " من يردهم عنا وله الجنة ؟ " فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل . فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه : ما أنْصَفْنَا أصْحَابنا " .
رواه مسلم عن هُدبة بن خالد ، عن حماد بن مسلمة{[5895]} به نحوه{[5896]} .
وقال الحسن بن عرفة : حدثنا ابن مروان بن معاوية ، عن هاشم بن هاشم الزهري ، قال سمعت سعيد بن المسيَّب يقول : سمعت سعد بن أبي وقاص [ رضي الله عنه ]{[5897]} يقول : نَثُل لي رسول{[5898]} الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد قال : " ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمِّي " .
وأخرجه البخاري ، عن عبد الله بن محمد ، عن مروان بن معاوية{[5899]} .
وقال محمد بن إسحاق{[5900]} حدثني صالح بن كيسان ، عن بعض آل سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ؛ أنه رمى يوم أحد دونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال سعد : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النَّبْلَ ويقول : " ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمِّي " حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل ، فأرمي به .
وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه ، عن جده ، عن سعد بن أبي وقاص{[5901]} قال : رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين ، عليهما ثياب بيض ، يقاتلان عنه أشد القتال ، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده ، يعني : جبريل وميكائيل عليهما السلام{[5902]} .
وقال أبو الأسود ، عن عروة بن الزبير قال : كان أبَيُّ بن خَلَف ، أخو بني جُمَح ، قد حلف وهو بمكة لَيَقْتُلَن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حَلْفَتُه قال : " بَلْ أنَا أقْتُلُهُ ، إنْ شَاءَ الله " . فلما كان يوم أحد أقبل أبَي في الحديد مُقَنَّعا ، وهو يقول : لا نَجَوْتُ إن نجا محمد . فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتْله ، فاستقبله مُصْعَب بن عُمَير ، أخو بني عبد الدار ، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ، فقتل مصعب بن عمير ، وأبصر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تَرْقُوَة أبي بن خلف من فَرْجةَ بين سابغة الدرع والبيضة ، وطعنه فيها بحربته ، فوقع إلى الأرض عن فرسه ، لم يخرج من طعنته دم ، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خُوار الثور ، فقالوا له : ما أجزعك إنما هو خدش ؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أقْتُلُ أُبيا " . ثم قال : والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المَجَاز لماتوا أجمعون . فمات إلى النار ، فسحقا لأصحاب السعير .
وقد رواه موسى بن عُقْبة في مغازيه ، عن الزُّهْري ، عن سعيد بن المسيّب بنحوه .
وذكر محمد بن إسحاق قال : لما أسْنِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، أدركه أبي بن خَلَفَ وهو يقول : لا نجوتُ إن نجوتَ فقال القوم : يا رسول الله ، يَعْطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دَعُوُه " فلما دنا تناول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[5903]} الحربة من الحارث بن الصِّمَّة ، فقال بعض القوم ما ذكر{[5904]} لي : فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة ، تطايرنا عنه تطاير الشّعْر عن ظهر البعير إذا انتفض ، ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدَأ منها عن فرسه مرارًا .
وذكر الواقدي ، عن يونس بن بُكَير ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمرو بن قتادة ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه نحو ذلك{[5905]} .
قال الواقدي : كان ابن عمر يقول : مات أبَيّ بن خلف ببطن رَابِغٍ ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا أنا بنار تتأجّح {[5906]}فهبتها ، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش ، وإذا رجل يقول : لا تسقه ، فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا أبيّ بن خلف .
وثبت في الصحيحين ، من رواية عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن هَمَّام بن مُنَبِّه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللهِ - وهو حينئذ يشير إلى رباعيته - اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللهِ " {[5907]} .
ورواه البخاري أيضًا{[5908]} من حديث ابن جُرَيج ، عن عَمْرو بن دينار ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بيده في سبيل الله ، اشتد غضب الله على قوم دَمَّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله : أصيبت رَبَاعِية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج في وَجْنَته ، وكُلِمَت شَفَتُه{[5909]} وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص .
فحدثني صالح بن كَيْسان ، عمن حدثه ، عن سعد بن أبي وقاص قال : ما حَرَصْتُ على قتل أحد قَط ما حرصت على قتل عُتْبة بن أبي وقاص وإن كان ما علمته لسيئ الخلُق ، مُبْغَضًا في قومه ، ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم " {[5910]} .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معْمَر ، عن الزهري ، عن عثمان الجزَري ، عن مقْسَم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عُتْبةَ بن أبي وقاص يوم أحُد حين كَسر رَبَاعيتَه ودَمى وجهه فقال : " اللَّهُمَّ لا تحل{[5911]} عَلَيْهِ الْحَوْل حَتَّى يموتَ كَافِرًا " . فما حال عليه الحولُ حتى مات كافرًا إلى النار{[5912]} .
ذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة ، عن أبي الحُويرث ، عن نافع بن جبير قال : سمعتُ رجُلا من المهاجرين يقول : شهدت أحُدًا فنظرت إلى النَّبْل يأتي من كل ناحية ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم{[5913]} وسطها ، كُلُّ ذلك يُصْرَف عنه ، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ : دُلّوني على محمد ، لا نَجَوتُ إن نجا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه{[5914]} أحد ، ثم جاوره{[5915]} فعاتبه في ذلك صَفْوان ، فقال : والله ما رأيته ، أحلف بالله إنه منا ممنوع . خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله ، فلم نخلص إلى ذلك .
قال الواقدي : الثَّبْتُ عندنا أن الذي رمى في وَجْنَتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قَميئة{[5916]} والذي دَمى شفته{[5917]} وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص{[5918]} .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا ابن المبارك ، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله ، أخبرني عيسى بن طلحة ، عن أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان أبو بكر ، رضي الله عنه ، إذا ذكر يوم أحد قال{[5919]} ذاك{[5920]} يوم كُله لطلحة ، ثم أنشأ يحدث قال : كنت أول من فَاء يوم أحد ، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه - وأراه قال : حَميَّة فقال{[5921]} فقلت : كن طَلْحَةَ ، حيث فاتني ما فاتني ، فقلت : يكون رجلا من قومي أحب إلي ، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه ، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، وهو يخطف المشي خطفا لا أحفظه{[5922]} فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح ، فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقد كسرت رَبَاعِيتُه وشُجّ في وجهه ، وقد دخل في وَجْنَته حلقتان من حِلَق المِغْفَر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَليكُما صَاحِبَكُما " . يريد طلحة ، وقد نزف ، فلم نلتفت إلى قوله ، قال : وذهبت لأن أنزع{[5923]} ذلك{[5924]} من وجهه ، فقال أبو عبيدة : أقسمت عليك بحقي لما تركتني . فتركته ، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي النبي{[5925]} صلى الله عليه وسلم ، فَأزَمَّ عليها{[5926]} بِفِيهِ فاستخرج إحدى الحلقتين ، ووقعت ثَنيَّته مع الحلقة ، ذهبت لأصنع ما صنع ، فقال : أقسمت عليك بحقي لما تركتني ، قال : ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى ، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة ، فكان أبو عبيدة ، رضي الله عنه ، أحسن{[5927]} الناس هَتْما ، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار ، فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورَمْيَة وضربة ، وإذا قد قُطعَتْ إصبعه ، فأصلحنا من شأنه .
ورواه الهيثم بن كُلَيب ، والطبراني ، من حديث إسحاق بن يحيى به . وعند الهيثم : فقال أبو عبيدة : أنشدك{[5928]} يا أبا بكر إلا تركتني ؟ فأخذ أبو عبيدة السّهم بفيه ، فجعل يُنَضْنِضه كراهيةَ{[5929]} أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اسْتل السهم بفيه فبدرت{[5930]} ثنية أبي عبيدة .
وذكر تمامه ، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه{[5931]} وقد ضَعّف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا ، فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان ، وأحمد ، ويحيى بن معين ، والبخاري ، وأبو زُرعة ، وأبو حاتم ، ومحمد بن سعد ، والنسائي وغيرهم .
وقال ابن وَهْب : أخبرني عَمْرو بن الحارث : أن عُمَر بن السائب حدثه : أنه بلغه أن مالكا أبا [ أبي ]{[5932]} سعيد الخُدْري لمَّا جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مَصّ الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض ، فقيل له : مُجَّه . فقال : لا والله لا أمجه أبدا . ثم أدبر يقاتل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة ، فلينظُرْ إلى هذا " فاستشهد{[5933]} .
وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي حازم{[5934]} عن أبيه ، عن سَهْل بن سَعْد أنه سئل عن جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جُرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسِرت رَبَاعِيتُه ، وهُشِمَت البَيْضة على رأسه ، فكانت{[5935]} فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم ، وكان عَلِي يسكب عليها{[5936]} بالمِجَنّ{[5937]} فلما رأت فاطمة [ رضي الله عنها ]{[5938]} أن الماء لا يزيدُ الدم إلا كثرة ، أخذت قطعةَ حَصِير فأحرقته ، حتى إذا صار{[5939]} رمادا ألصقته بالجُرْح ، فاستمسك الدم{[5940]} .
وقوله : { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } أي : فجازاكم غَما على غَم كما تقول العرب : نزلت ببني فلان ، ونزلت على بني فلان .
قال ابن جرير : وكذا قوله : { وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [ طه : 71 ] [ أي : على جذوع النخل ]{[5941]} .
قال ابن عباس : الغم الأول : بسبب الهزيمة ، وحين قيل : قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، والثاني : حين علاهم المشركون فوق الجبل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا " .
وعن عبد الرحمن بن عوف : الغم الأول : بسبب الهزيمة ، والثاني : حين قيل : قُتِلَ محمد صلى الله عليه وسلم ، كان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة .
رواهما ابن مَرْدُويَه ، وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك . وذكر ابن أبي حاتم عن قتادة نَحْوَ ذلك أيضا .
وقال السُّدِّي : الغم الأول : بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح ، والثاني : بإشراف العدو عليهم .
وقال محمد بن إسحاق { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } أي : كَرْبا بعد كرب ، قَتْل مَنْ قُتل من إخوانكم ، وعُلُو عدوكم عليكم ، وما وقع في أنفسكم من قول من قال : " قُتل نبيكم " {[5942]} فكان{[5943]} ذلك متتابعا{[5944]} عليكم غما بغم .
وقال مجاهد وقتادة : الغم الأول : سماعهم قتل محمد ، والثاني : ما أصابهم من القتل والجراح . وعن قتادة والربيع بن أنس عكسُه .
وعن السُّدِّي : الأول : ما فاتهم من الظَّفَر والغنيمة ، والثاني : إشراف العدو عليهم ، وقد تقدم هذا عن السدي .
قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصواب قولُ من قال : { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } فأثابكم بغَمكُم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمةَ المشركين والظَّفر بهم والنصرَ عليهم ، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ - بعد الذي أراكم{[5945]} في كل ذلك ما تحبون - بمعصيتكم ربكم ، وخلافكم أمر النبي{[5946]} صلى الله عليه وسلم ، غَم ظنكم أن نبيكم قد قتل ، وميل العدو عليكم بعد فُلولكم منهم .
وقوله : { لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ } أي : على ما فاتكم من الغنيمة بعدوكم { وَلا مَا أَصَابَكُمْ } من القتل والجراح ، قاله ابن عباس ، وعبد الرحمن بن عوف ، والحسن ، وقتادة ، والسدي { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
{ إذ تصعدون } متعلق بصرفكم ، أو ليبتليكم أو بمقدر كاذكروا . والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض يقال : أصعدنا من مكة إلى المدينة . { ولا تلوون على أحد } لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره . { والرسول يدعوكم } كان يقول إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة . { في أخراكم } في ساقتكم أو في جماعتكم الأخرى { فأثابكم غما بغم } عطف على صرفكم ، والمعنى فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم غما متصلا بغم ، من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو فجازاكم غما بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له . { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا ضر لاحق . وقيل { لا } مزيدة والمعنى لتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجرح والهزيمة عقوبة لكم . وقيل الضمير في فأثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي فآساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم ، كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم كيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا على ما أصابكم من الهزيمة { والله خبير بما تعملون } عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها .
{ إذ تصعدون } متعلّق بقوله : { ثم صرفكم عنهم } [ آل عمران : 152 ] أي دفعكم عن المشركين حين أنتم مصعدون .
والإصْعاد : الذهاب في الأرض لأنّ الأرض تسمّى صعيداً ، قال جعفر بن عُلْبة :
* هَوَاي مَع الرَكْب اليَمَانِينَ مُصْعِد *
والإصعاد أيضاً السَّير في الوادي ، قال قتادة والربيع : أصعدوا يوم أحُد في الوادي . والمعنى : تفرّون مصعدين ، كأنَّه قيل : تذهبون في الأرض أي فراراً ، فـ ( إذ ) ظرف للزمان الَّذي عقب صرف الله إيّاهم وكان من آثاره .
{ ولا تلوون على أحد } أي في هذه الحالة . واللَّيُّ مجاز بمعنى الرّحمة والرفق مثل العطف في حقيقته ومجازه ، فالمعنى ولا يلوي أحد عن أحد فأوجز بالحذف ، والمراد على أحد منكم ، يعني : فررتم لا يرحم أحد أحداً ولا يرفق به ، وهذا تمثيل للجدّ في الهروب حتَّى إنّ الواحد ليدوس الآخر لو تعرّض في طريقه .
وجملة { والرسول يدعوكم في أُخراكم } حال ، والأخرى آخر الجيش أي من ورائكم . ودعاء الرسول دعاؤه إيّاهم للثبات والرجوع عن الهزيمة ، وهذا هو دعاء الرسول النَّاس بقوله : « إليّ عباد الله من يَكُر فله الجنَّة » .
وقوله : { فأثابكم غما } إن كان ضمير { فأثابكم } ضميرَ اسم الجلالةَ ، وهو الأظهر والموافق لقوله بعده : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم } [ آل عمران : 154 ] فهو عطف على { صَرَفكم } [ آل عمران : 152 ] أي ترتّب على الصرف إثابتكم . وأصلُ الإثابة إعطاء الثَّواب وهو شيء يكون جزاء على عطاء أو فعل . والغمّ ليس بخير ، فيكونُ أثابكم إمّا استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم :
قَرَينَاكُم فَعَجَّلْنَا قِراكم *** قبيلَ الصبح مِرداة طحونا
أي جازاكم الله على ذلك الإصعاد المقارن للصرف أن أثابكم غمّاً أي قلقَا لكم في نفوسكم ، والمراد أن عاقبكم بغمّ كقوله : { فبشّرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] وفي هذا الوجه بعد : لأنّ المقام مقام ملام لا توبيخ ، ومقام لا تنديم . وإمّا مشاكلةً تقديرية لأنَّهم لما خرجوا للحرب خرجوا طالبين الثَّواب ، فسلكوا مسالك باءوا معها بعقاب فيكون كقول الفرزدق :
أخاف زياداً أن يكون عطاؤُه *** أدَاهِم سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا
قلتُ : اطبُخوا لي جُبَّةً قميصاً .
ونكتة هذه المشاكلة أن يتوصّل بها إلى الكلام على ما نشأ عن هذا الغمّ من عبرة ، ومن توجّه عناية الله تعالى إليهم بعده .
والباء في قوله : { بغمّ } للمصاحبة أي غمّاً مع غمّ ، وهو جملة الغموم الَّتي دخلت عليهم من خيبة الأمل في النَّصر بعد ظهور بَوارقه ، ومن الانهزام ، ومن قتل من قُتل ، وجرح من جرح ، ويجوز كون الباء للعوض ، أي : جازاكم الله غمّاً في نفوسكم عوضاً عن الغمّ الَّذي نسبتم فيه للرسول وإن كان الضّمير في قوله : { فأثابكم } عائداً إلى الرسول في قوله : { والرسول يدعوكم } ، وفيه بعد ، فالإثابة مجاز في مقابلة فعل الجميل بمثله أي جازاكم بغمّ .
والباء في قوله : { بغمّ } باء العوض . والغمّ الأوّل غمّ نفس الرسول ، والغمّ الثَّاني غمّ المسلمين ، والمعنى أنّ الرسول اغتمّ وحزن لما أصابكم ، كما اغتممتم لما شاع من قتله فكان غمّه لأجلكم جزاءاً على غمّكم لأجله .
وقوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } تعليل أوّل ل ( أثابكم ) أي ألهاكم بذلك الغمّ لئلاّ تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ، وما أصابكم من القتل والجراح ، فهو أنساهم بمصيبة صغيرة مصيبة كبيرة ، وقيل : ( لا ) زائدة والمعنى : لتحزنوا ، فيكون زيادة في التوبيخ والتنديم إن كان قوله : { أثابكم } تهكّماً أو المعنى فأثابكم الرسول غمّاً لكيلا تحزنوا على ما فاتكم : أي سكت عن تثريبكم ، ولم يظهر لكم إلاّ الاغتمام لأجلكم ، لكيلا يذكّركم بالتثريب حزناً على ما فاتكم ، فأعرض عن ذكره جَبراً لخواطركم . وقيل : المعنى أصابكم بالغمّ الَّذي نشأ عن الهزيمة لتعتادوا نزول المصائب ، فيذهب عنكم الهلع والجزع عند النوائب .
وفي الجمع بين { ما فاتكم } و { ما أصابكم } طباق يؤذن بطباق آخر مقدّر ، لأنّ ما فات هو النافع وما أصاب هو من الضّار .