46- قل لهم : إنما آمركم بخصلة واحدة هي : أن تقوموا - مخلصين لله بعيدين عن التقليد - في البحث بإخلاص لله ، ومتفرقين اثنين اثنين ليتعاونا في التأمل ، وواحداً واحداً ينظر بعدل وإنصاف ، ثم تتفكروا في أمر صاحبكم - محمد - الذي عاشرتموه وعرفتم سلامة عقله . ما به من جنون حين تصدى لهذا الأمر . إن هو إلا نذير لكم بعذاب شديد مقبل أمامكم .
قوله تعالى : { قل إنما أعظكم } آمركم وأوصيكم بواحدة ، أي : بخصلة واحدة ، ثم بين تلك الخصلة فقال : { أن تقوموا لله } لأجل الله ، { مثنى } أي : اثنين اثنين ، { وفرادى } أي : واحداً واحد { ثم تتفكروا } جميعاً أي : تجتمعون فتنظرون وتتحاورون وتنفردون ، فتفكرون في حال محمد صلى الله عليه وسلم فتعلموا ، { ما بصاحبكم من جنة }أي : جنون ، وليس المراد من القيام القيام الذي هو ضد الجلوس ، وإنما هو قيام بالأمر الذي هو في طلب الحق ، كقوله : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } { إن هو } ما هو ، { إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } قال مقاتل : تم الكلام عند قوله : ثم تتفكروا أي : في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقها واحد لا شريك له ، ثم ابتدأ فقال : { ما بصاحبكم من جنة } .
بعد كل ذلك لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم الحجج القاطعة ، والأقوال الحكيمة ، التى تهدى إلى الرشد بأبلغ أسلوب ، واصدق بيان ، فقال - تعالى - : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ . . . إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } .
قوله - تعالى - { أَعِظُكُمْ } من الوعظ ، وهو تذكير الغير بالخير والبر بكلام مؤثر رقيق يقال : وعظه يعظه وعظا وعظه ، إذا أمره بالطاعة ووصاه بها .
وقوله { بِوَاحِدَةٍ } صفة لموصوف محذوف .
والتقدير : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين الذين قالوا الكذب فى شأنك وفى شأن ما جئت به ، قل لهم : إنما أعظكم وآمركم وأوصيكم بكلمة واحدة ، أو بخصلة واحدة .
ثم فسر - سبحانه - هذه الكلمة بقوله : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى } . والمراد بالقيام هنا : التشمير عن ساعد الجد ، وتلقى ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم بقلب مفتوح . وعقل واع ، ونفس خالية من التعصب والحقد والعكوف على التقليد .
و { مثنى وفرادى } أى : متفرقين اثنين اثنين ، وواحدة واحدا ، وهما منصوبان على الحال .
{ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } بعد ذلك فى أمر هذا الرسول صلى الله عليه وسلم وفى أمر رسالته ، وفى أمر ما جاء به من عند ربه ، فعند ذلك ترون أنه على الحق ، وأنه قد جاءكم بما يسعدكم .
فالآية الكريمة تأمرهم أن يفكر كل اثنين بموضوعية وإنصاف فى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يعرض كل واحد منهما حصيلة تفكيره على صاحبه ، وأن يفكر كل واحد منهم على انفراد - أيضا فى شأن هذا الرسول ، من غير تعصب وهوى .
وقدم الاثنين فى القيام على المنفرد ، لأن تفكير الاثنين فى الأمور بإخلاص واجتهاد وتقدير ، أجدى فى الوصول إلى الحق من تفكير الشخص الواحد ولم يأمرهم بأن يتفكروا فى جماعة ، لأن العقلية الجماعية كثيرا ما تتبع الانفعال الطارئ . وقلما تتريث فى الحكم على الأمور .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها ، أصبتم الحق ، وتخلصتم من الباطل - وهى : أن تقوموا لوجه الله خالصا ، متفرقين اثنين اثنين ، وواحدا واحدا ، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به .
أما الاثنان : فيتكفر ان ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه ، وينظران فيه متصادقين متناصفين ، لا يميل بهما اتباع هوى ، ولا ينبض لهما عرق عصبية ، حتى يهجم بهما الفكر الصالح ، والنظر الصحيح على جادة الحق يفكر فى نفس .
وكذلك الفرد : ه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها ، ويعرض فكره على عقله وذهنه ، وما استقر عنده من عادات العقلاء ، ومجارى أحوالهم . والذى أوجب تفرقهم مثنى وفرادى ، أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ، ويعمى البصائر ، ويمنع من الروية ، ويخلط القول . ومع ذلك يقل الإِنصاف ويكثر الاعتساف : ويثور عجاج التعصب .
وقوله - سبحانه - : { مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } كلام مستأنف بجئ به لتنزيه ساحته صلى الله عليه وسلم عما افتراه عليه المفرتون من كونه قد أصيب بالجنون .
أى : اجتمعوا اثنين اثنين ، أو واحدا واحدا ، ثم تفكروا بإخلاص وروية فترون بكل تأكيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس به شئ من الجنون ، إنما هو أرجح الناس عقلا ، وأصدقهم قولا ، وأفضلهم علما ، وأحسنهم عملا ، وأزكاهم نفسا ، وأنقاهم قلبا ، وأجمعهم لكل كمال بشرى .
وقوله - تعالى - { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بيان لوظيفته صلى الله عليه وسلم أى : ليس به صلى الله عليه وسلم من جنون ، وإنما هو نذير لكم ، يحذركم ويخوفكم من العذاب الشديد الذى سينزل بكم يوم القيامة ، إذا ما بقيتم على شرككم وكفركم ، وهذا العذاب ليس بعيدا عنكم .
قال الإِمام ابن كثير : " قال الامام أحمد : حدثنا بشير بن المهاجر ، حدثنى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال : " أيها الناس أتدرون ما مثلى ومثلكم " ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم فقال : " إنما مثلى ومثلكم كمثل قوم خافوا عدوا يأتيهم . فبعثوا رجلا يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم وخشى أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبته وقال : أيها الناس أوتيتم . أيها الناس وأتيتم . . " " .
وبهذا الاسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت أنا والساعة جميعا ، إن كادت لتسبقنى " .
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون : { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي : إنما آمركم بواحدة ، وهي : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } أي : تقوموا قياما خالصًا لله ، من غير هوى ولا عصبية ، فيسأل بعضكم بعضا : هل بمحمد من جنون ؟ فينصح بعضكم بعضا ، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } أي : ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ، ويتفكر في ذلك ؛ ولهذا قال : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } .
هذا معنى ما ذكره مجاهد ، ومحمد بن كعب ، والسُّدِّيّ ، وقتادة ، وغيرهم ، وهذا هو المراد من الآية .
فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «أعطيت ثلاثا لم يعطهن مَن قبلي ولا فخر : أحلت لي الغنائم ، ولم تحل لمن قبلي ، كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها . وبُعثت إلى كل أحمر وأسود ، وكان كل نبي يبعث إلى قومه ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، أتيمم بالصعيد ، وأصلي حيث أدركتني الصلاة ، قال الله : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي " - فهو حديث ضعيف الإسناد ، وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد ، ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة ، فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها{[24399]} والله أعلم .
وقوله : { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } : قال{[24400]} البخاري عندها :
حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن خَازم ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرَّة ، عن سعيد بن جُبَيْر{[24401]} ، عن ابن عباس قال : صَعدَ النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم ، فقال : " يا صباحاه " . فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك ؟ فقال : " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يُصَبّحكم أو يُمَسّيكم ، أما كنتم تصدقوني ؟ " قالوا : بلى . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبا لك ! ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد ] . {[24402]}
وقد تقدم عند قوله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا بشير بن المهاجر ، حدثني عبد الله بن بريدة ، {[24403]} عن أبيه قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال : " أيها الناس ، أتدرون ما مثلي ومثلكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " إنما مثلي ومثلكم مثلُ قوم خافوا عدوا يأتيهم ، فبعثوا رجلا يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه : أيها الناس ، أوتيتم . أيها الناس ، أوتيتم - ثلاث مرات " .
وبهذا الإسناد{[24404]} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة جميعًا ، إن كادت لتسبقني » . تفرد به الإمام أحمد في مسنده . {[24405]}
{ قل إنما أعظكم بواحدة } أرشدكم وانصح لكم بخصلة واحدة هي ما دل عليه : { أن تقوموا لله } وهو القيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو الانتصاب في الأمر خالصا لوجه الله معرضا عن المراء والتقليد . { مثنى وفرادى } متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا ، فإن الازدحام يشوش الخاطر وبخلط القول . { ثم تتفكروا } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيقته ، ومحله الجر على البدل أو البيان أو الرفع أو النصب بإضمار هو أعني . { ما بصاحبكم من جنة } فتعلموا ما به من جنون يحمله على ذلك ، أو استئناف منبه لهم على أن ما عرفوا من رجاحة عقله كاف في ترجيح صدقه ، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير وخطب عظيم من غير تحقق ووثوق ببرهان ، فيفتضح على رؤوس الأشهاد ويلقي نفسه إلى الهلاك ، فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة . وقيل { ما } استفهامية والمعنى : ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون : { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } قدامه لأنه مبعوث في نسيم الساعة .
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى عبادة الله والنظر في حقيقة نبوته هو ويعظهم بأمر مقرب للأفهام فقوله { بواحدة } معناه بقضية واحدة إيجازاً لكم وتقريباً عليكم ، وقوله { أن } مفسرة ، ويجوز أن تكون بدلاً من { واحدة } ، وقوله { تقوموا لله مثنى وفرادى } يحتمل أن يريد بالطاعة والإخلاص والعبادة فتكون الواحدة التي وعظ بها هذه ، ثم عطف عليها أن يتفكروا في أمره هل هو به جنة أو هو بريء من ذلك والوقف عند أبي حاتم { ثم تتفكروا } .
قال الفقيه الإمام القاضي : فيجيء { ما بصاحبكم } نفياً مستأنفاً وهو عند سيبويه جواب ما تنزل منزلة القسم لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التحقيق كتبين وتكون الفكرة على هذا في آيات الله والإيمان به ، ويحتمل أن يريد بقيامهم أن يكون لوجه الله في معنى التفكر في محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الواحد التي وعظ بها أن يقوموا لمعنى الفكرة - في أمر صاحبهم ، وكأن المعنى أن يفكر الواحد بينه وبين نفسه ويتناظر الاثنان على جهة طلب التحقيق ، هل بمحمد صلى الله عليه وسلم جنة أم لا ؟ وعلى هذا لا يوقف على { تتفكروا } وقدم المثنى لأن الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة ، فإذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة وقد قال الشاعر : [ الطويل ]
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة . . . فيزداد بعض القوم من بعضهم علما{[9673]}
وقرأ يعقوب «ثم تفكروا » بتاء واحدة ، وقال مجاهد بواحدة معناه بلا إله إلا الله وقيل غير هذا مما لا تعطيه الآية ، وقوله { بين يدي } مرتب على أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء في الزمن من قبل العذاب الشديد الذي توعدوا به .
افتتح بالأمر بالقول هنا وفي الجُمل الأربع بعده للاهتمام بما احتوت عليه . وهذا استئناف للانتقال من حكاية أحوال كفر المشركين وما تخلل ذلك من النقض والاستدلال والتسلية والتهديد ووصف صدودهم ومكابرتهم إلى دعوتهم للإِنصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطؤهم فيما ارتكبوه من العسف في تلقي دعوة الإِسلام وما ألصقوا به وبالداعي إليه ، وأرشدوا إلى كيفية النظر في شأنهم والاختلاء بأنفسهم لمحاسبتها على سلوكها ، استقصاء لهم في الحجة وإعذاراً لهم في المجادلة { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حَيِي عن بينة } [ الأنفال : 42 ] .
ولذلك اجتلبت صيغة الحصر ب { إنما } ، أي ما أعظكم إلا بواحدة ، طيّاً لبساط المناظرة وإرساء على الخلاصة من المجادلات الماضية ، وتقريباً لشقة الخلاف بيننا وبينكم .
وهو قصر إضافي ، أي لا بغيرها من المواعظ المفصلة ، أي إن استكثرتم الحجج وضجرتم من الردود والمطاعن فأنا أختصر المجادلة في كلمة واحدة فقد كانوا يتذمرون من القرآن لأبي طالب : أمَا ينتهي ابن أخيك عن شتم آلهتنا وآبائنا . وهذا كما يقول المناظر والجدلي بعد بسط الأدلة فيقول : والخلاصة أو والفذلكة كذا .
وقد ارتكب في هذه الدعوة تقريب مسالك النظر إليهم باختصاره ، فوصف بأنه خصلة واحدة لئلا يتجهّموا الإِقبال على هذا النظر الذي عقدوا نياتهم على رفضه ، فأعلموا بأن ذلك لا يكلفهم جهداً ولا يضيع عليهم زمناً فَلْيتأملوا فيه قليلاً ثم يقضوا قضاءهم ، والكلام على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يخاطبهم به .
والوعظ : كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في ضده . وتقدم عند قوله تعالى : { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظةً وتفصيلاً لكل شيء } في سورة الأعراف ( 145 ) ، وقوله : { يعظكم اللَّه } في سورة النور ( 17 ) .
و واحدة صفة لمحذوف يدل عليه المقام ويفرضه السامع نحو : بخصلة ، أو بقضية ، أو بكلمة .
والمقصود من هذا الوصف تقليلها تقريباً للأفهام واختصاراً في الاستدلال وإيجازاً في نظم الكلام واستنزالاً لطائر نفورهم وإعراضهم .
وبنيت هذه الواحدة بقوله : أن تقوموا لله مثنى وفرادى } إلى آخره ، فالمصدر المنسبك من { أن } والفعل في موضع البدل من « واحدة » ، أو قُل عطف بيان فإن عطف البيان هو البدل المطابق . وإنما اختلف التعبير عنه عند المتقدمِين فلا تَخُضْ في محاولة الفرق بينهما كالذي خاضوا .
والقيام في قوله : { أن تقوموا } مراد به المعنى المجازي وهو التأهب للعمل والاجتهاد فيه كقوله تعالى : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } [ النساء : 127 ] .
واللام للتعليل ، أي لأجل الله ولذاته ، أي جاعلين عملكم لله لا لمرضاة صاحب ولا عشيرة ، وهذا عكس قوله تعالى : { وقال إنما اتخذتم من دون اللَّه أوثاناً مودّةً بينكم } [ العنكبوت : 25 ] ، أو لأجل معرفة الله والتدبر في صفاته .
وكلمة { مثنى } معدول بها عن قولهم : اثنين اثنين ، بتكرير كلمة اثنين تكريراً يفيد معنى ترصيف الأشياء المتعددة بجعل كل ما يُعدّ بعدد اثنين منه مرصفاً على نحو عدده .
وكلمة { فرادى } معدول بها عن قولهم : فرداً فرداً تكريراً يفيد معنى الترصيف كذلك . وكذلك سائر أسماء العدد إلى تسع أو عشر ومنه قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } وتقدم في سورة النساء ( 3 ) .
وانتصب { مثنى وفرادى } على الحال من ضمير { تقوموا } ، أي أن تكونوا في القيام على هذين الحالين فيجوز أن يكون المعنى : أن تقوموا لحق الله وإظهاره على أي حال من اجتماع وانفراد ، فيكون { مثنى } كناية عن التعدد وهو من استعمال معنى التثنية في التكرر لأن التثنية أول التكرير فجعل التكرر لازماً للتثنية ادعاءً كما في قوله تعالى : { ثم ارجع البصر كرّتين ينقلبْ إليك البصرُ خاسئاً وهو حسير } [ الملك : 4 ] فإن البصر لا يرجع خاسئاً من إعادة نظرة واحدة بل المراد منه تكرير النظر ، ومنه قولهم : لبَّيك وسَعديك ، وقولهم : دواليكَ .
ويجوز أن يكون المعنى أن تقوموا لحق الله مستعيناً أحدكم بصاحب له أو منفرداً بنفسه فإن من أهل النظر من ينشط إليه بالمدارسة ما لا ينشطه بالخَلوة . ومنهم من حاله بعكس هذا ، فلهذا اقتصر على { مثنى وفرادى } لأن ما زاد على ذلك لا اضطرار إليه . وقدم { مثنى } لأن الاستعانة أعون على الفهم فيكون المراد دفع عوائق الوصول إلى الحق بالنظر الصحيح الذي لا يُغالِط فيه صاحبُ هوىً ولا شبهةٍ ولا يخشى فيه الناظر تشنيعاً ولا سمعة ، فإن الجماهير إذا اجتمعت لم يخل مجتمعهم من ذي هوى وذي شبهة وذي مكر وذي انتفاع ، وهؤلاء بما يلازم نواياهم من الخبث تصحبهم جُرأة لا تترك فيهم وازعاً عن الباطل ولا صدًّا عن الاختلاق والتحريف للأقوال بعمد أو خطأٍ ، ولا حياء يهذبُ من حِدّتهم في الخصام والأذى ، ثم يطيرون بالقالة وأعمال أهل السفالة .
فللسلامة من هذه العوائق والتخلص من تلك البوائق الصادة عن طريق الحق قيل هنا { مثنى وفرادى } فإن المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرْضَ لها بغير النصح ، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنما يختار ثانيه أعلق أصحابه به وأقربهم منه رَأياً فسلم كلاهما من غش صاحبه .
وحرف { ثمّ } للتراخي في الرتبة لأن التفكر في أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أهم في إصلاح حال المخاطبين المعرضين عن دعوته ، بخلاف القيام لله فإنهم لا يأبَوْنه .
والتفكر : تكلف الفكر وهو العلم ، وتقدم عند قوله تعالى : { أفلا تتفكرون } في الأنعام ( 50 ) .
وقوله : ما بصاحبكم من جنة } نفي يُعلّق فعلَ { تتفكروا } عن العمل لأجل حرف النفي .
والمعنى : ثم تعلَموا نفي الجنون عن صاحبكم ، أي تعلموا مضمون هذا . فجملة { ما بصاحبكم من جنة } معمولة ل { تتفكروا } . ومن وقف على { تتفكروا } لم يتقن التفكر .
والمراد بالصاحب : المخالط مطلقاً بالموافقة وبالمخاصمة ، وهو كناية عن التبصر في خُلقه كقول الحجّاج في خطبته للخوارج « ألستُمْ أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدْر واستبطنتم الكفر » يعني فلا تخفى عليّ مقاصدكم . وتقدم في قوله تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنّة } في سورة الأعراف ( 184 ) .
والتعبير { بصاحبكم } إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : ما بي من جِنّة إذ الكلام جار على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفاً . وفائدته التنبيه على أن حاله معلوم لديهم لا يلتبس عليهم لشدة مخالطته بهم مخالطة لا تَذَر للجهالة مجالاً فهم عرفوه ونشأ بينهم حتى جاءهم بالحق فهذا كقوله : { فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون } [ يونس : 16 ] .
والاقتصار في التفكر المطلوب على انتفاء الجِنة عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أن أصل الكفر هو الطعن في نبوءته وهم لما طعنوا فيه قالوا : مجنون ، وقالوا : ساحر ، وقالوا : كاذب . فابتدىء في إرجاعهم إلى الحق بنفي الجِنّة عنه حتى إذا أذعنوا إلى أنه من العقلاء انصرف النظر إلى أن مثل ما جاء به لا يأتي به إلا عاقل وهم إنما ابتدأوا اختلاقهم بأنه مجنون كما جاء في القرآن ، قال تعالى : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } [ القلم : 2 ] في السورة الثانية نزولاً . وقال : { وما صاحبكم بمجنون في السورة السابعة } [ التكوير : 22 ] وذلك هو الذي استمرّوا عليه قال تعالى : { ثم تولّوا عنه وقالوا معلّم مجنون } [ الدخان : 14 ] إذ دعوى الجنون أروج بين أهل مكة لأن الجنون يطرأ على الإِنسان دفعة فلم يجدوا تعلة أقرب للقبول من دعوى أنه اعتراه جنون كما قالت عاد لهود { إِن نقول إلاّ اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [ هود : 54 ] ، وقالت ثمود لصالح { قد كنت فينا مَرجُوًّا قبل هذا } [ هود : 62 ] .
فبقيت دعواهم أنه ساحر وأنه كاهن وأنه شاعر وأنه كاذب ( حاشاه ) . فأما السحر والكهانة فسهل نفيهما بنفي خصائصهما ؛ فأما انتفاء السحر فبيّن لأنه يحتاج إلى معالجة تعلّم ومزاولة طويلة والنبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم لا يَخفى عليهم أمره ، وأما الشعر فمسحته منفية عن القرآن كما قال الوليد بن المغيرة ، فلم يبق في كنانة مطاعنهم إلا زعمهم أنه كاذب على الله ، وهذا يزيفه قوله : { بصاحبكم } فإنهم عرفوه برجاحة العقل والصدق والأمانة في شبيبته وكهولته فكيف يصبح بعد ذلك كاذباً كما قال النضر بن الحارث : فلما رأيتم الشَيْب في صدغيه قلتُم شاعر وقلتم كاهن وقلتم مجنون ، ووالله ما هو بأولئكم . وإذا كان لا يكذب على الناس فكيف يكذب على الله ، كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله : هل جربتم عليه كذباً قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : لا . قال : فقد علمت أنه لم يكن ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله .
ومن أجل هذا التدرج الذي طُوي تحت جملة { ما بصاحبكم من جنة } أعقب ذلك بحصر أمره في النذراة بقرب عذاب واقع ، أي في النذارة والرسالة الصادقة .
قال في « الكشاف » : أي مثل هذه الدعوى لا يتصدى لها إلا رجلان : إما مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان ، وإما عاقل راجح العقل لا يدعي مثله إلا بعد صحته بالحجة ، وإلا فما يجدي العاقل دعوى شيء لا بينة عليه وقد علمتم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما به من جِنّة بل علمتموه أرجح قريش عقلاً وأرزنَهم حِلماً وأثقبهم ذهناً وآصلهم رأياً وأصدقهم قولاً وأجمعهم لما يُحمد عليه الرجال فكان مظنة لأن تظنّوا به الخير وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب » اهـ .
فالقصر المستفاد من { إن هو إلا نذير لكم } قصر موصوف على صفة قصراً إضافياً ، أي هو مقصور على صفة النذارة لا تحوم حوله الأوصاف التي لمزتموه بها .
ومعنى { بين يدي عذاب } القرب ، أي قرب الحصول فيقتضي القبلية ، أي قبل عذاب ، وقد تقدم آنفاً في هذه السورة ، والمراد عذاب الآخرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} لكفار مكة {إنما أعظكم بواحدة} بكلمة واحدة كلمة الإخلاص.
{أن تقوموا لله} الحق {مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} ألا يتفكر الرجل وحده ومع صاحبه فيعلم ويتفكر في خلق السماوات والأرض وما بينهما أن الله جل وعز خلق هذه الأشياء وحده وأن محمدا لصادق وما به جنون.
{إن هو} يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
{إلا نذير لكم} مبين، يعني بينا.
{بين يدي عذاب شديد} في الآخرة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: إنما أعظكم أيّها القوم بواحدة وهي طاعة الله...
وقوله:"أنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى" يقول: وتلك الواحدة التي أعظكم بها هي أن تقوموا لله اثنين اثنين، وفُرادَى فُرادَى... وقيل: إنما قيل: إنما أعظكم بواحدة، وتلك الواحدة أن تقوموا لله بالنصيحة وترك الهوى. مَثْنَى يقول: يقوم الرجل منكم مع آخر فيتصادقان على المناظرة، هل علمتم بمحمد صلى الله عليه وسلم جنونا قطّ؟ ثم ينفرد كل واحد منكم، فيتفكر ويعتبر فردا هل كان ذلك به؟ فتعلموا حينئذٍ أنه نذير لكم.
وقوله: "ثُمّ تَتَفَكّرُوا ما بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنّةٍ "يقول: لأنه ليس بمجنون.
وقوله: "إنْ هُوَ إلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" يقول: ما محمد إلاّ نذير لكم ينذركم على كفركم بالله عقابه أمام عذاب جهنم قبل أن تَصْلَوْها، وقوله: «هو» كناية اسم محمد صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: {بواحدة} أي بكلمة واحدة كقول الرجل لصاحبه: أكلّمك كلمة واحدة، واسمع مني كلمة... لكن الواحدة التي وعظهم بها عندنا ما ذكر على إثره حين قال: {أن تقوموا لله} بها جميعا {مثنى وفرادى ثم تتفكّروا} وتنظروا في ما بينكم هل أرى منكم جنونا به قط؟...
وقال بعضهم: يريد بال {مثنى} أن يتناظر الرجلان في أمر النبي {وفرادى} أن يتفكر كل واحد، فإن في ذلك ما يدل على أن النبي ليس بمجنون ولا كذّاب على ما يزعمون...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا أمر من الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) أن يقول للكفار:"إنما أعظكم بواحدة".
الوعظ: الدعاء إلى ما ينبغي أن يرغب في ما ينبغي أن يجوز منه مما يلين القلب إلى الاستجابة للحق بالنبي (صلى الله عليه وآله) والنبي أجل وأعظم وأكبر داع بما أعطاه الله من الحكمة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أراد بقيامهم: إما القيام على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرّقهم عن مجتمعهم عنده، وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين، ولكن الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة.
والذي أوجب تفرّقهم مثنى وفرادى: أنّ الاجتماع مما يشوش الخواطر، ويعمي البصائر، ويمنع من الروية، ويخلط القول؛ ومع ذلك يقل الإنصاف، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب، ولا يسمع إلاّ نصرة المذهب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقدم المثنى لأن الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، فإذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة.
{بين يدي} مرتب على أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء في الزمن من قبل العذاب الشديد الذي توعدوا به...
ذكر الأصول الثلاثة في هذه الآية بعد ما سبق منه تقريرها بالدلائل، فقوله: {أن تقوموا لله} إشارة إلى التوحيد وقوله: {ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم} إشارة إلى الرسالة وقوله: {بين يدي عذاب شديد} إشارة إلى اليوم الآخر.
المسألة الأولى: قوله: {إنما أعظكم بواحدة} يقتضي أن لا يكون إلا بالتوحيد، والإيمان لا يتم إلا بالاعتراف بالرسالة والحشر، فكيف يصح الحصر المذكور بقوله: {إنما أعظكم بواحدة} فنقول التوحيد هو المقصود ومن وحد الله حق التوحيد يشرح الله صدره ويرفع في الآخرة قدره، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بما يفتح عليهم أبواب العبادات ويهئ لهم أسباب السعادات، وجواب آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال إني لا آمركم في جميع عمري إلا بشيء واحد، وإنما قال أعظكم أولا بالتوحيد ولا آمركم في أول الأمر بغيره لأنه سابق على الكل ويدل عليه قوله تعالى: {ثم تتفكروا} فإن التفكر أيضا صار مأمورا به وموعوظا.
المسألة الثانية: {بواحدة} قال المفسرون أنثها على أنها صفة خصلة، أي أعظكم بخصلة واحدة، ويحتمل أن يقال المراد حسنة واحدة لأن التوحيد حسنة وإحسان وقد ذكرنا في قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} أن العدل نفي الإلهية عن غير الله والإحسان إثبات الإلهية له.
المسألة الثالثة: {مثنى وفرادى} إشارة إلى جميع الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو يكون وحده، فإذا كان مع غيره دخل في قوله: {مثنى} وإذا كان وحده دخل في قوله: {فرادى} فكأنه يقول تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله.
المسألة الرابعة: {ثم تتفكروا} يعني اعترفوا بما هو الأصل والتوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعد ما بان وظهر، ثم تتفكروا فيما أقول بعده من الرسالة والحشر فإنه يحتاج إلى تفكر، وكلمة ثم تفيد ما ذكرنا، فإنه قال: {أن تقوموا لله ثم تتفكروا}.
المسألة الخامسة: {ما بصاحبكم من جنة} يفيد كونه رسولا وإن كان لا يلزم في كل من لا يكون به جنة أن يكون رسولا، وذلك لأن النبي عليه السلام كان يظهر منه أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر ممن تظهر منه العجائب، إما الجن أو الملك، وإذا لم يكن الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الجن يكون بواسطة الملك أو بقدرة الله تعالى من غير واسطة، وعلى التقديرين فهو رسول الله.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} أي: ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه... وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال:"أيها الناس، أتدرون ما مثلي ومثلكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "إنما مثلي ومثلكم مثلُ قوم خافوا عدوا يأتيهم، فبعثوا رجلا يتراءى لهم، فبينما هو كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه: أيها الناس، أوتيتم. أيها الناس، أوتيتم -ثلاث مرات". وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة جميعًا، إن كادت لتسبقني». تفرد به الإمام أحمد في مسنده...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أبطل شبههم كلها، وليّن من عريكتهم بالتنبيه على التحذير، فصاروا جديرين بقبول الوعظ، وكان مما رموه به -وحاشاه- الجنون وتعمد الكذب، أمره بالإقبال عليهم به مخففاً له لئلا ينفروا من طوله فقال: {قل} وأكده زيادة في استجلابهم إلى الإقبال عليه فقال: {إنما أعظكم بواحدة} أي فاسمعوا ولا تنفروا خوفاً من أن أملّكم؛ ثم استأنف قوله بياناً لها: {أن تقوموا} أي توجهوا نفوسكم إلى تعرف الحق، وعبر بالقيام إشارة إلى الاجتهاد {لله} أي الذي لا أعظم منه على وجه الإخلاص واستحضار ما له من العظمة بما له لديكم من الإحسان لا لإرادة المغالبة حال كونكم {مثنى} أي اثنين اثنين، وقدمه إشارة إلى أن أغلب الناس ناقص العقل {وفرادى} أي واحداً واحداً، من وثق بنفسه في رصانه عقله وأصالة رأيه قام وحده ليكون أصفى لسره، وأعون على خلوص فكره ومن خاف عليها ضم إليه آخر ليذكره إن نسي ويقومه إن زاغ، ولما كان هذا القسم أكثر وجوداً في الناس قدمه.
{ما بصاحبكم} أي الذي دعاكم إلى الله وقد بلوتموه صغيراً ويافعاً وشاباً وكهلاً، وأعرق في النفي بقوله: {من جنة} وخصها لأنها مما يمكن طروءه، ولم يعرّج على الكذب لأنه مما لا يمكن فيمن عاش بين أناس عمراً طويلاً ودهراً دهيراً يصحبهم ليلاً ونهاراً صباحاً ومساءً سراً وعلناً في السراء والضراء، وهو أعلاهم همة وأوفاهم مروءة، وأزكاهم خلائق وأظهرهم شمائل، وأبعدهم عن الأدناس ساحة في مطلق الكذب، فكيف بما يخالف أهواءهم فكيف بما ينسب إلى الله فكيف وكلامه الذي ينسب فيه إلى الكذب معجز بما فيه من الحكم والأحكام، والبلاغة والمعاني التي أعيت الأفهام...
ولما ثبت بهذا إعلاماً وإفهاماً براءته مما قذفوه به كله، حصر أمره في النصيحة من الهلاك، فقال منبهاً على أن هذا الذي أتاهم به لا يدعيه إلا أحد رجلين: إما مجنون أو صادق هو أكمل الرجال، وقد انتفى الأول فثبت الثاني: {إن} أي ما {هو} أي المحدث عنه بعينه {إلا نذير لكم} أي خاصاً إنذاره وقصده الخلاص بكم، وهول أمر العذاب بتصويره صورة من له آلة بطش محيطة بمن تقصده فقال: {بين يدي} أي قبل حلول {عذاب شديد} قاهر لا خلاص منه، إن لم ترجعوا إليه حل بكم سريعاً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها دعوة إلى القيام لله، بعيداً عن الهوى، بعيداً عن المصلحة، بعيداً عن ملابسات الأرض، بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب، فتبعد به عن الله، بعيداً عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة، والمؤثرات الشائعة في الجماعة، دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة، ولا مع العبارات المطاطة، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة في بساطتها دعوة إلى منطق الفطرة الهادىء الصافي، بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس؛ والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة، وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة. منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات، وعلى مراقبة الله وتقواه... وهي (واحدة).. إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق، القيام لله.. لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة.. التجرد، الخلوص.. ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتح بالأمر بالقول هنا وفي الجُمل الأربع بعده للاهتمام بما احتوت عليه؛ وهذا استئناف للانتقال من حكاية أحوال كفر المشركين، وما تخلل ذلك من النقض والاستدلال والتسلية والتهديد، ووصف صدودهم ومكابرتهم، إلى دعوتهم للإِنصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطؤهم فيما ارتكبوه من العسف في تلقي دعوة الإِسلام وما ألصقوا به وبالداعي إليه، وأرشدوا إلى كيفية النظر في شأنهم والاختلاء بأنفسهم لمحاسبتها على سلوكها، استقصاء لهم في الحجة وإعذاراً لهم في المجادلة، {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حَيِي عن بينة} [الأنفال: 42]. ولذلك اجتلبت صيغة الحصر ب {إنما}، أي ما أعظكم إلا بواحدة؛ طيّاً لبساط المناظرة وإرساء على الخلاصة من المجادلات الماضية، وتقريباً لشقة الخلاف بيننا وبينكم.
والوعظ: كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في ضده.
وواحدة صفة لمحذوف يدل عليه المقام ويفرضه السامع نحو: بخصلة، أو بقضية، أو بكلمة. والمقصود من هذا الوصف تقليلها تقريباً للأفهام واختصاراً في الاستدلال.
وبنيت هذه الواحدة بقوله: أن تقوموا لله مثنى وفرادى} إلى آخره، فالمصدر المنسبك من {أن} والفعل في موضع البدل من « واحدة»، أو قُل عطف بيان فإن عطف البيان هو البدل المطابق.
والقيام في قوله: {أن تقوموا} مراد به المعنى المجازي وهو التأهب للعمل والاجتهاد فيه كقوله تعالى: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط} [النساء: 127]. واللام للتعليل، أي لأجل الله ولذاته، أي جاعلين عملكم لله لا لمرضاة صاحب ولا عشيرة، أو لأجل معرفة الله والتدبر في صفاته.
وكلمة {مثنى} ويجوز أن يكون المعنى أن تقوموا لحق الله مستعيناً أحدكم بصاحب له أو منفرداً بنفسه فإن من أهل النظر من ينشط إليه بالمدارسة ما لا ينشطه بالخَلوة. ومنهم من حاله بعكس هذا.
{مثنى وفرادى} فإن المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرْضَ لها بغير النصح، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنما يختار ثانيه أعلق أصحابه به وأقربهم منه رَأياً فسلم كلاهما من غش صاحبه.
وحرف {ثمّ} للتراخي في الرتبة لأن التفكر في أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أهم في إصلاح حال المخاطبين المعرضين عن دعوته، بخلاف القيام لله فإنهم لا يأبَوْنه. والتفكر: تكلف الفكر وهو العلم
وقوله: ما بصاحبكم من جنة} نفي يُعلّق فعلَ {تتفكروا} عن العمل لأجل حرف النفي. والمعنى: ثم تعلَموا نفي الجنون عن صاحبكم، أي تعلموا مضمون هذا. فجملة {ما بصاحبكم من جنة} معمولة ل {تتفكروا}. ومن وقف على {تتفكروا} لم يتقن التفكر.
والمراد بالصاحب: المخالط مطلقاً بالموافقة وبالمخاصمة، وهو كناية عن التبصر في خُلقه.
والاقتصار في التفكر المطلوب على انتفاء الجِنة عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أن أصل الكفر هو الطعن في نبوءته وهم لما طعنوا فيه قالوا: مجنون، وقالوا: ساحر، وقالوا: كاذب. فابتدئ في إرجاعهم إلى الحق بنفي الجِنّة عنه حتى إذا أذعنوا إلى أنه من العقلاء انصرف النظر إلى أن مثل ما جاء به لا يأتي به إلا عاقل وهم إنما ابتدأوا اختلاقهم بأنه مجنون كما جاء في القرآن، قال تعالى: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 2] في السورة الثانية نزولاً.
وقال: {وما صاحبكم بمجنون في السورة السابعة} [التكوير: 22] وذلك هو الذي استمرّوا عليه قال تعالى: {ثم تولّوا عنه وقالوا معلّم مجنون} [الدخان: 14] إذ دعوى الجنون أروج بين أهل مكة، لأن الجنون يطرأ على الإِنسان دفعة فلم يجدوا تعلة أقرب للقبول من دعوى أنه اعتراه جنون.
ومن أجل هذا التدرج الذي طُوي تحت جملة {ما بصاحبكم من جنة} أعقب ذلك بحصر أمره في النذارة بقرب عذاب واقع، أي في النذارة والرسالة الصادقة. فالقصر المستفاد من {إن هو إلا نذير لكم} قصر موصوف على صفة، قصراً إضافياً، أي هو مقصور على صفة النذارة لا تحوم حوله الأوصاف التي لمزتموه بها.
بعد أنْ أعطاهم الحق سبحانه درساً وعبرة بمَنْ سبقهم من المكذبين يعود ليخاطبهم من جديد، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يعني: لهم {إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} الوعظ ليس إنشاءَ حكم، إنما هو تذكير بحكم سبق ونسيه الناس، فالواعظ يُبيِّن للناس أموراً يعرفونها ويؤمنون بها من الدين، لكم أَنْستهم الشهوات والغفلة هذه الأمور، فهو مُذكِّر بها، والعِظَة لا تكون إلا من مُحبٍّ لك حريص على مصلحتك.
لذلك فالحق -تبارك وتعالى- يعطينا نموذجاً للوعظ في قصة لقمان حين يعِظ ولده: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ..} [لقمان: 13].
ومعنى {بِوَاحِدَةٍ} يعني: موعظة واحدة فيها كل الآحاد، واستخدم السياق {إِنَّمَآ} الدالة على القصر يعني: لا أعظكم إلا بواحدة، ما هي؟ {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ} يعني: إياك أنْ تقوم لشهوة نفسك، أو لسيادة تحافظ عليها، إياك أنْ تقوم وأنت تريد الاستعلاء على هذا النبي، إنما يكون قيامك لله، يعني: تتجرد عن هواك، وتتجرَّد عن شهواتك وعن تعصُّبك.
وما دُمْتَ تتودد إليهم أنْ يقوموا لله فلا بُدَّ أن لله تعالى مكانة في قلوبهم، وهو سبحانه في بالهم بدليل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [لقمان: 25].
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].
إذن: كانوا يؤمنون بأن الله تعالى هو خالقهم، وهو خالق السماوات والأرض؛ لأن هذه المسألة من الوضوح بحيث لا ينكرها منكر، مهما بلغ من الكفر والإلحاد...
والقيام المراد هنا لا يشترط فيه الجماعة ولا الجماهيرية؛ لأنه قيام للتفكُّر، فينبغي أنْ يكون {مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ..} مثنى: يعنى: اثنين اثنين، وفرادى: واحداً واحداً. بحيث يختلي كُلٌّ مع نفسه ليفكر في أمر محمد بواقعية وتجرُّد: كيف كان بينكم، وكيف كانت سيرته وأخلاقه، وهل جرَّبتم عليه كذباً، أو سحراً، أو كهانة؟ وهل سبق له أنْ ادَّعَى ما ليس له؟ هل رأيتم عليه قبل بعثته علامة من علامات الجنون؟ {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ}.
وهذا التفكُّر في حال رسول الله يحتاج إلى موضوعية؛ لذلك اختار أنْ ينفردوا به، إما مثنى مثنى، وإما فرادى، فالإنسان حين يكون بمفرده، فلا يوجد له نظير ينهزم أمامه، ولا نظير يهيجه على غير الحق، فرأيه في هذه الحالة يكون أقرب للصواب.
والمنفرد إنْ تفكَّر وصل إلى الحق؛ لأنه لن يغشَّ نفسه، ولن يخدعها، ولن يستكبر أنْ يعود للحق، إما أن كانوا جماعة فلا بُدَّ أن يحاول كل منهم أنْ يثبت حجته، ولو اضطر للكذب وللخداع كما نراهم في مثل هذه المواقف، كُلٌّ يحلف أنه على الحق وغيره على الباطل.
فكأن الحق بهذه الطريقة في التفكير يحمينا ويعصمنا من غوغائية الجماهيرية في الحكم، هذه الغوغائية التي نشاهدها مثلاً في المظاهرات، حيث يهتف كُلٌّ بما يريد، فتختلط الأصوات، وتتداخل الهتافات، فلا تستطيع أنْ تميزها...
فالحق يُعلِّمنا كيفية التفكُّر مثنى أو فرادى، ويحمينا من الغوغائية...
كذلك إنْ كانوا مثنى مثنى، فالاثنان كما نقول: الرأي والرأي الآخر، ولو انهزم أحدهما أمام الآخر فهزيمته مستورة؛ لذلك دائماً ما نسمع من يقول لخصمه: أريد أن أجلس أنا وأنت على انفراد؟ لأنكما طرفا المسألة ولا يوجد طرف ثالث يُسبِّب لواحد منكما إحراجاً، أو إذلالاً، يتسبب في تغيُّر مسلكك أمامه.
ومعنى {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ} ليس القيام الذي يقابله القعود، إنما مَنْ قام بالأمر يعني: فعله وأدَّاه، وإنْ كان قاعداً، ومن ذلك نقول: فلان يقوم بأمر فلان، أو فلان يؤدي وظيفة فلان. أي: يقوم بها.
ومعنى {مَا بِصَاحِبِكُمْ} يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم {مِّن جِنَّةٍ} جنون؛ لأنهم قالوا على رسول الله أنه مجنون، وعجيب منهم وهم أعرف الناس به، أنْ يصفوه بالجنون، وهم لم يَرواْ عليه علامة من علامات الجنون، ولم يصنع شيئاً مخالفاً لمجتمعه الذي عاش فيه، بل كانوا قبل البعثة يقولون عنه: الصادق الأمين، فكما ظهر كذبهم في قولهم (ساحر)، كذلك ظهر كذبهم في قولهم (مجنون).
ولو خَلاَ الواحد منهم إلى نفسه، ثم تفكَّر في شخص رسول الله لوصل بنفسه إلى الحق، ولو أدار في عقله هذه الاتهامات لوجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريئ منها، وما دام منفرداً في هذا التفكُّر، فلن يخجل أبداً أنْ يعود إلى الحق؛ لأنه لن ينهزم أمام أحد...
والحق -سبحانه وتعالى- هنا لم يذكر لنا نتيجة التفكُّر والبحث مثنى وفرادى؛ لأنه معلوم وواضح، إلا أنه قال عنه صلى الله عليه وسلم: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}.
شيء آخر: هل آمن الناس كلهم برسول الله بعد أن سمعوا منه قرآناً مُعْجزاً لنقول: إن القرآن هو المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول؟ نقول: لا، إنما منهم مَنْ لم يؤمن بعد أن سمع القرآن، ومنهم مَنْ آمن قبل نزول القرآن، وبمجرد أنْ قال محمد: إني رسول الله. وأولهم السيدة خديجة، والصِّدِّيق أبو بكر، فما حيثية إيمانهم برسول الله؟ وما المعجزة التي عرفوا بها صِدْقه؟ حيثيته ومعجزته عند هؤلاء سيرته صلى الله عليه وسلم فيهم أولاً، فهي كافية لأنْ يؤمنوا به إنْ قال: أنا رسول الله إليكم. أما القرآن فهو معجزة وتحدٍّ لمن جحد.
لذلك نرى سيدنا رسول الله يُذكِّر قومه بهذه السيرة بينهم ويتخذها حجة له، "فلما بُعِث صعد إلى الصفا، ونادى في القوم، فلما اجتمعوا حوله قال: "أرأيتم لو حدثتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي جاءت لتُغير عليكم، أكنتم مُصَدِّقي؟ "قالوا: ما جرَّبنا عليك مِنْ كذب، فقال:"أنا رسول الله إليكم "فقالوا لِتَوِّهم: أنت كذاب تباً لك، أَلهذا جمعتنا؟"...
وتلحظ أن الذين صادموا رسول الله في أول البعثة، والذين اتهموه بالكذب من أهله وأقرب للناس إليه، وعمه هو الذي قال له: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ وهنا موطن حكمة وحجة في بعثة سيدنا رسول الله، جعلها الله ليعلم الناس أن مكانة قريش وسيادتها في الجزيرة العربية لم تكن هي التي صنعت رسالة محمد ليسودوا بها العالم، فأعدى أعدائه كانوا من قريش، ولم يجد رسول الله نُصْرة في مكة، إنما كانت نصرته في يثرب.
لذلك سبق أن قلنا: إن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد، لا أن العصبية لمحمد هي التي خلقتْ الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ففي الآية الاُولى إشارة إلى اللبنة الأساسية في كلّ التحوّلات والتبدلات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والثقافية، فتقول وبجمل قصيرة وعميقة المعنى (قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثمّ تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة إن هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد). كلمات وتعبيرات هذه الآية يشير كلّ منها إلى موضوع هامّ، نجملها في عشرة نقاط كما يلي:
جملة «أعظكم» توضّح في الحقيقة واقع أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله) يريد القول بأنّي ألحظ فيما أقول لكم خيركم وصلاحكم دون أيّ شيء آخر.
التعبير ب «واحدة» مع ارتباطه بالتأكيد بواسطة «إنّما» إشارة معبّرة إلى أنّ أصل جميع الإصلاحات الفردية والجماعية، إنّما هي بإعمال الفكر، فما دام تفكير الأمّة في سبات فستكون هدفاً لسرّاق ولصوص الدين والإيمان والحرية والاستقلال، ولكن حينما تصحوا الأفكار فإنّها تقطع الطريق أمام هؤلاء.
التعبير ب «قيام» ليس معناه مجرّد الوقوف على القدمين، بل معناه الاستعداد لإنجاز العمل، بلحاظ أنّ الإنسان بوقوفه على قدميه إنّما يكون مستعدّاً لإتمام البرامج الحياتية المختلفة، وعليه فإنّ التفكّر يحتاج إلى استعداد قبلي، لكي يوجد السبب والمحرّك في الإنسان الذي يدفعه بالإرادة والتصميم إلى التفكّر.
تعبير «لله» يوضّح أنّ القيام والاستعداد يجب أن يكون باعثه إلهياً، والتفكّر الذي يكون صادراً عن هذا الدافع له قيمة عالية، فالإخلاص في العمل عادةً وحتّى في التفكّر هو الأساس للنجاة والسعادة والبركة.
والملفت للنظر هو اعتبار الإيمان بالله هنا أمراً مسلّماً، وعليه فالتفكّر المطلوب إنّما هو في مسائل أخرى، وتلك إشارة إلى أنّ التوحيد إنّما هو أمر فطري واضح يدرك حتّى بدون تفكّر.
التعبير ب «مثنى وفرادى» إشارة إلى أنّ التفكّر يجب أن يكون بعيداً عن الغوغائية والفوضى، بأن يقوم الناس آحاداً أو على الأكثر مثنى ويتفكّرون، لأنّ التفكّر وسط الضوضاء والغوغائية لا يمكنه أن يكون عميقاً، خصوصاً وأنّ عوامل الذاتية والتعصّب في طريق الدفاع عن الاعتقادات الشخصية ستكون أشدّ فعلا في التجمّعات الأكبر.
بعض المفسّرين احتمل أن يكون هذان التعبيران إشارة إلى الإفادة من المشورة بالخلط بين الأفكار الفردية والجماعية، فالإنسان يجب أن يتفكّر منفرداً وكذلك يستفيد من أفكار الآخرين، لأنّ الاستبداد بالرأي والفكر سبب للعجب، والتشاور والتعاون لأجل حلّ المشكلات العلمية والذي لا يؤدّي إلى الغوغاء سيعطي حتماً أثراً أفضل، ويمكن أن يكون تقديم «مثنى» على «فرادى» في الآية لهذا السبب.
الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول هنا «تتفكّروا» دون أن يذكر بماذا؟ فحذف المتعلّق دليل على العموم، أي في كلّ شيء، في الحياة المعنوية والمادية، في الاُمور الكبيرة والصغيرة. وبكلمة: في كلّ أمر يجب التفكّر أوّلا، وأهمّ من ذلك كلّه هو التفكّر للعثور على الإجابة للأسئلة الأربعة التالية: من أين جئت؟ لأي شيء أتيت؟ إلى أين أذهب؟ وأين أنا الآن؟
ولكن بعض المفسّرين ذهبوا إلى أن «تتفكّروا» تتعلّق بالجملة التي تليها وهي «ما بصاحبكم من جنّة» بمعنى أنّكم لو تفكّرتم قليلا لوجدتم أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله) منزّه عن اتّهامكم الواهي له بالجنون. والظاهر أنّ المعنى الأوّل أوضح.
ومن البديهي أنّ من الاُمور التي يجب التفكّر بها هي مسألة النبوّة والصفات العالية التي كان يتمتّع بها شخص النّبي (صلى الله عليه وآله) دون أن تكون منحصرة بذلك.
تعبير «صاحبكم» إشارة إلى الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وإنّه ليس نكرة بالنسبة لكم، فقد كان بينكم لسنوات طويلة. لقد عرفتموه بالأمانة والصدق والاستقامة، ولم تجدوا حتّى الآن نقطة ضعف واحدة في مسيرة حياته، لذا فعليكم بالإنصاف قليلا، فالتّهم التي تلصقونها به لا أساس لها جميعاً.
«جنّة» بمعنى «جنون» وفي الأصل من مادّة «جن» بمعنى ستر الشيء عن الحاسّة، ومن كون أنّ المجنون سُتر عقله، فقد اُطلق عليه هذا التعبير، والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ العبارة تريد الكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ من يدعو إلى التفكّر والانتباه كيف يكون هو مجنوناً، والحال أنّ مناداته بالتفكّر إنّما هي دليل على تمام عقله ودرايته.
جملة (إن هو إلاّ نذير لكم) تلخّص رسالة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مسألة «الإنذار» أي: التحذير من المسؤولية، ومن المحكمة الإلهية، والعقاب الإلهي، صحيح أنّ للرسول (صلى الله عليه وآله) رسالة في «التبشير» أو «البشارة» ولكن الذي يدفع الإنسان أكثر إلى التحرّك هو «الإنذار»، لذا فقد ذُكرت مسألة «الإنذار» في آيات اُخرى من القرآن الكريم على أنّها وظيفة الرّسول الأكرم الأساسية، كما في الآية (9) من سورة الأحقاف (وما أنا إلاّ نذير مبين)، كما ورد كذلك شبيه هذا المعنى في الآية 65 من سورة (ص) وآيات اُخرى.
التعبير ب (بين يدي عذاب شديد) إشارة إلى أنّ القيامة قريبة إلى درجة وكأنّها أمام العين، والحقّ أنّها كذلك بالنسبة إلى عمر الدنيا، كذلك فقد ورد في الروايات الإسلامية نظير هذا المعنى كما في الأثر عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضمّ (صلى الله عليه وآله) الوسطى والسبّابة.