قوله تعالى : { ولا تمدن عينيك } قال أبو رافع : " نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فبعثني إلى يهودي فقال لي : قل له إن رسول الله يقول لك بعني كذا وكذا من الدقيق وأسلفني إلى هلال رجب فأتيته فقلت له ذلك فقال : والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : والله لئن باعني وأسلفني لقضيته وإني لأمين في السماء وأمين في الأرض ، اذهب بدرعي الحديد إليه ، فنزلت هذه الآية : { ولا تمدن عينيك } ، لا تنظر ، { إلى ما متعنا به } أعطينا { أزواجاً } أصنافاً ، { منهم زهرة الحياة الدنيا } أي زينتها وبهجتها ، وقرأ يعقوب : ( زهرة ) بفتح الهاء وقرأ العامة بجزمها ، { لنفتنهم فيه } ، أي لنجعل ذلك فتنة لهم بأن أزيد لهم النعمة فيزيدوا كفراً وطغياناً ، { ورزق ربك } في المعاد ، يعني : الجنة ، { خير وأبقى } ، قال أبي بن كعب : من لم يستعز بعزة الله تقطعت نفسه حسرات ، ومن يتبع بصره فيما في أيدي الناس يطل حزنه ، ومن ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل علمه وحضر عذابه .
وبعد هذا الأمر بالتسبيح ، جاء النهى عن الإعجاب بالدنيا وزينتها فقال - تعالى : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ . . . } .
أى : أكثر - أيها الرسول الكريم - من الاتجاه إلى ربك ، ومن تسبيحه وتنزيهه ومن المداومة على الصلاة ولا تطل نظر عينيك بقصد الرغبة والميل { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } .
أى : إلى ما متعنا به أصنافا من هؤلاء المشركين ، بأن منحناهم الجاه والمال والولد .
وما جعلناه لهم فى هذه الدنيا بمثابة الزهرة التى سرعان ما تلمع ثم تذبل وتزول .
قال الآلوسى : ما ملخصه : { أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } أى : أصنافا من الكفرة ، وهو مفعول { مَتَّعْنَا } قدم عليه الجار والمجرور للاعتناء به .
. . وقيل الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - والمراد أمته ، لأنه كان أبعد الناس عن إطالة النظر إليه ، وهو القائل : " الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلا ما أريد به وجه الله - تعالى - " وكان - صلى الله عليه وسلم - شديد النهى عن الاغترار بها .
ويؤخذ من الآية أن النظر غير الممدود معفو منه ، وكأن المنهى عنه فى الحقيقة هو الإعجاب بذلك ، والرغبة فيه ، والميل إليه .
وقوله : { زَهْرَةَ الحياة الدنيا } أى : زينتها وبهجتها . وهو منصوب بمحذوف يدل عليه { مَتَّعْنَا } .
أى : جعلنا لهم زهرة ، أو على أنه مفعول ثان ، بتضمين متعنا معنى أعطينا ، فأزواجا مفعول أول ، وزهرة هو المفعول الثانى . . .
وقوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } بيان للحكمة من هذا التمتيع والعطاء أى متعنا هؤلاء الكافرين بالأموال والأولاد . . . لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم بهذا المتاع ، فإذا آمنوا وشكروا زدناهم من خيرنا ، وإذا استمروا فى طغيانهم وجحودهم وكفرهم ، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر .
فالجملة الكريمة تنفر العقلاء من التطلع إلى ما بين أيدى الكفار من متاع ، لأن هذا المتاع سىء العاقبة ، إذا لم يستعمل فى طاعة الله - تعالى - .
وقوله - سبحانه - : { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى } تذييل قصد به الترغيب فيما عند الله - تعالى - من طيبات .
أى : وما رزقك الله إياه - أيها الرسول الكريم - فى هذه الدنيا من طيبات . وما ادخره لك فى الآخرة من حسنات ، خير وأبقى مما متع به هؤلاء الكافرين من متاع زائل سيحاسبهم الله - تعالى - عليه يوم القيامة حسابا عسيرا ، لأنهم لم يقابلوا نعم الله عليهم بالشكر ، بل قابلوهم بالجحود والكفران .
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد رسمت للمؤمن أفضل الطرق وأحكمها ، لكى يحيا حياة فاضلة طيبة ، حياة يعتز فيها صاحبها بالمعانى الشريفة الباقية ، ويعرض عن المظاهر والزخارف الزائلة .
اتجه إلى ربك بالعبادة ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم )من عرض الحياة الدنيا ، من زينة ومتاع ومال وأولاد وجاه وسلطان . ( زهرة الحياة الدنيا )التي تطلعها كما يطلع النبات زهرته لامعة جذابة . والزهرة سريعة الذبول على ما بها من رواء وزواق . فإنما نمتعهم بها ابتلاء ( لنفتنهم فيه )فنكشف عن معادنهم ، بسلوكهم مع هذه النعمة وذلك المتاع . وهو متاع زائل كالزهرة سرعان ما تذبل ( ورزق ربك خير وأبقى )وهو رزق للنعمة لا للفتنة . رزق طيب خير باق لا يذبل ولا يخدع ولا يفتن .
وما هي دعوة للزهد في طيبات الحياة ، ولكنها دعوة إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية وبالصلة بالله والرضى به . فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء ، ولا تفقد اعتزازها بالقيم العليا ، وتبقى دائما تحس حرية الاستعلاء على الزخارف الباطلة التي تبهر الأنظار . .
يقول تعالى لنبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه : لا تنظر إلى هؤلاء المترفين{[19562]} وأشباههم ونظرائهم ، وما فيه من النعم{[19563]} فإنما هو زهرة زائلة ، ونعمة حائلة ، لنختبرهم بذلك ، وقليل من عبادي الشكور .
وقال مجاهد : { أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } يعني : الأغنياء فقد آتاك [ الله ]{[19564]} خيرًا مما آتاهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } [ الحجر : 87 ، 88 ] ، وكذلك{[19565]} ما ادخره الله تعالى لرسوله في الدار الآخرة أمر عظيم لا يُحَدّ ولا يوصف ، كما قال تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [ الضحى : 5 ] ولهذا قال : { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } .
وفي الصحيح : أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه ، حين آلى منهم فرآه متوسدًا مضطجعًا على رمال حصير وليس في البيت إلا صُبْرَة من قَرَظ ، وأهَب{[19566]} معلقة ، فابتدرت عينا عمر بالبكاء ، فقال رسول الله : " ما يبكيك{[19567]} ؟ " .
فقال : يا رسول الله ، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت صفوة الله من خلقه ؟ فقال : " أوفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا " . {[19568]}
فكان صلوات الله وسلامه عليه{[19569]} أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها ، إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا ، في عباد الله ، ولم يدخر لنفسه شيئًا لغد .
قال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس ، أخبرني ابن وهب ، أخبرني مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله{[19570]} من زهرة{[19571]} الدنيا " . قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال : " بركات الأرض " {[19572]} .
وقال قتادة والسدي : زهرة الحياة الدنيا ، يعني : زينة الحياة الدنيا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تنظر إلى ما جعلنا لضُرباء هؤلاء المعرضين عن آيات ربهم وأشكالهم، مُتْعة في حياتهم الدنيا، يتمتعون بها، من زهرة عاجل الدنيا ونضرتها "لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ "يقول: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك، ونبتليهم، فإِن ذلك فانٍ زائل، وغُرور وخُدَع تضمحلّ. "وَرِزْقُ رَبّكَ" الذي وعدك أن يرزقكه في الآخرة حتى ترضى، وهو ثوابه إياه "خَيْرٌ" لك مما متعناهم به من زهرة الحياة الدنيا، "وأبْقَى" يقول: وأدوم، لأنه لا انقطاع له ولا نفاذ...
ويعني بقوله: "أزْوَاجا مِنْهُمْ": رجالاً منهم أشكالاً، وبزهرة الحياة الدنيا: زينة الحياة الدنيا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: {ولا تمدن عينيك} أي لا ترغبن في هذه الدنيا، ولا تركنن إلى ما متعنا هؤلاء من ألوانها وبهرتها، وهو كقوله تعالى: {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم} الآية [التوبة: 85]...
والثاني: قوله: {ولا تمدن عينيك} على حقيقة مد البصر، أي لا تمدن بصرك إلى أعين الدنيا وإلى ظاهر ما هم عليه من الغرور والتزيين، ولكن انظر إلى الدنيا ما جعلت الدنيا وإلى ما فيها من سمومها وتنغيصها على أهلها؛ فإن من نظر إليها لما فيها من سمومها وتنغيصها زهد فيها، ورغب عنها، ومن نظر إليها وإلى عينها وظاهر ما هي عليها من الغرور والتزيين لاغتر بها، ورغب فيها، وركن إليها. ومن نظر إلى حقيقة ما هي عليه، وجعلت على ما ذكرنا زهد فيها، ورغب عنها...
ثم معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمد بصره إلى الدنيا، أو يركن إليها، ويرغب فيها لها، ولكن إنما هو ابتداء نهي رسوله... وقوله تعالى: {لنفتنهم فيه} قال أهل التأويل: أي لنبتليهم، ونختبرهم. وكأن الفتنة، هي المحنة التي فيها شدة وبلاء. كأنه أخبر أنه إنما متعهم بما متع من زهرة الحياة الدنيا ليمتحنهم فيها بالشدائد كقوله: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} الآية [التوبة: 55]. وقال في آية أخرى {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] وقال: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [الأعراف: 168] ففي هذه الآيات دلالة أن السعة والضيق فيها ليس لفضل أهله ولأهوائهم، ولكن إنما هو محنة يمتحنهم، فيمتحن بعضهم بالسعة والغنى، وبعضهم بالشدة والضيق، فالتكلم بأن هذا خير من هذا وهذا أفضل من هذا لا معنى له...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"أزواجا منهم" معناه أشكالا منهم، من المزاوجة بين الأشياء، وهي المشاكلة، وذلك أنهم اشكال في الذهاب عن الصواب.
وقوله: "زهرة الحياة الدنيا" فالزهرة: الأنوار التي تروق عند الرؤية...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا...} الفتنة ما يُشْغَل به عن الحقِّ، ويستولي حُبُّه على القلب، ويُجَسِّر وجودُه على العصيان، ويحمل الاستمتاع به على البَطَر والأشَر. قوله جلّ ذكره: {وَرِزْقُ رَبِكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} القليلُ من الحلال -وفيه رضاءُ الرحمن- خيرٌ من الكثير من الحرام والحطام.. ومعه سُخْطُه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي نظر عينيك: ومدّ النظر: تطويله، وأن لا يكاد يرده، استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به، وتمنياً أن يكون له، كما فعل نظارة قارون حين قالوا: {ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِي قارون إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ} [القصص: 79] حتى واجههم أولو العلم والإيمان ب {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صالحا} [القصص: 80] وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه، وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف. ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وأنّ من أبصر منها شيئاً أحب أن يمدّ إليه نظره ويملأ منه عينيه قيل: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي لا تفعل ما أنت معتاد له وضار به... {أزواجا مّنْهُمْ} أصنافاً من الكفرة... {وَرِزْقُ رَبّكَ} هو ما ادّخر له من ثواب الآخرة الذي هو خير منه في نفسه وأدوم، أو ما رزقه من نعمة الإسلام والنبوّة، أو لأن أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة من بعض الوجوه، والحلال {خَيْرٌ وأبقى}...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال بعض الناس سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل به ضيف فلم يكن عنده شيء فبعث إلى يهودي ليسلفه شعيراً فأبى اليهودي إلا برهن فبلغ الرسول بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «والله إني لأمين في السماء وأمين في الأرض» فرهنه درعه فنزلت الآية في ذلك...
وهذا معترض أن يكون سبباً لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، لأنَّه مات ودرعه مرهونة بهذه القصة التي ذكرت، وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها وذلك أن الله تعالى وبخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم والصبر على أقوالهم والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا إذ ذاك منحصر عندهم صائر بهم إلى خزي.
أحكام القرآن لابن الفرس 595 هـ :
في هذه الآية النهي عن التشوف إلى ما في أيدي الناس.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
... والمعنى على هذا: ولا تعجب يا محمد مما متعناهم به من مال وبنين ومنازل ومراكب وملابس ومطاعم، فإنما ذلك كله كالزهرة التي لا بقاء لها ولا دوام، وإنها عما قليل تفنى وتزول ...
والخطاب وإن كان في الظاهر للرسول صلى الله عليه وسلم فالمراد أمته وهو كان صلى الله عليه وسلم أبعد شيء عن النظر في زينة الدنيا وأعلق بما عند الله من كل أحد، وهو القائل في الدنيا « ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله» وكان شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها {ولا تمدن} أبلغ من لا تنظر لأن مد البصر يقتضي الإدامة والاستحسان بخلاف النظر
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى لنبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه: لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظرائهم، وما فيه من النعم فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، لنختبرهم بذلك، وقليل من عبادي الشكور...
{أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} يعني: الأغنياء فقد آتاك [الله] خيرًا مما آتاهم، كما قال في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر: 87، 88]، وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله في الدار الآخرة أمر عظيم لا يُحَدّ ولا يوصف، كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ولهذا قال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. وفي الصحيح: أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه، حين آلى منهم فرآه متوسدًا مضطجعًا على رمال حصير وليس في البيت إلا صُبْرَة من قَرَظ، وأهَب معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فقال رسول الله:"ما يبكيك؟". فقال: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه؟ فقال: "أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا"...
فكان صلوات الله وسلامه عليه أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا، في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئًا لغد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
كانت النفس ميالة إلى الدنايا، مرهونة بالحاضر من فاني العطايا، وكان تخليها عن ذلك هو الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها، قال مؤكداً إيذاناً بصعوبة ذلك: {ولا تمدن} مؤكداً له بالنون الثقيلة {عينيك} أي لا تطوّل نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها قاصداً النظر للاستحسان {إلى ما متعنا به} بما لنا من العظمة التي لا ينقصها تعظم أعدائنا به في هذه الحياة الفانية {أزواجاً} أي أصنافاً متشاكلين {منهم} أي من الكفرة {زهرة} أي تمتيع {الحياة الدنيا} لا ينتفعون به في الآخرة لعدم صرفهم له في أوامر الله، فهو مصدر من المعنى مثل جلست قعوداً، ثم علل تمتيعهم بقوله تعالى: {لنفتنهم فيه} أي لنفعل بهم فعل المختبر، فيكون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى، وفي الآخرة بالعذاب الأليم، فصورته تغر من لم يتأمل معناها حق التأمل، فما أنت فيه خير مما هم فيه {ورزق ربك} الذي عود به أولياءه -وهو في دار السفر- الكفاف الطيب المقرون بالتوفيق {خير} من زهرتهم، لأنه يكفي ولا يطغي وزادك ما يدني إلى جنابه فيعلي {وأبقى} فإنه وفقك لصرفه في الطاعة فكتب لك من أجره ما توفاه يوم الحاجة على وجه لا يمكن أحداً من الخلق حصره، وتكون الدنيا كلها فضلاً عما في أيديهم أقل من قطرة بالنسبة إلى بحره، وإضافة رزقه دون رزقهم إليه سبحانه -وإن كان الكل منه- للتشريف، وفي التعبير بالرب إيذان بالحل، وفيه إشارة إلى ظهوره عليهم وحياته بعدهم كما هو الشأن في الصالحين والطالحين.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وفي التعبير ب (الزهرة) إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: لا تمد عينيك معجبا، ولا تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها -بقطع النظر عن الآخرة- القوم الظالمون، ثم تذهب سريعا، وتمضي جميعا، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارا، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملا، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا* وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}...
{وَرِزْقُ رَبِّكَ} العاجل من العلم والإيمان، وحقائق الأعمال الصالحة، والآجل من النعيم المقيم، والعيش السليم في جوار الرب الرحيم {خير} مما متعنا به أزواجا، في ذاته وصفاته {وَأَبْقَى} لكونه لا ينقطع، أكلها دائم وظلها، كما قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وفي هذه الآية، إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه طموحا إلى زينة الدنيا، وإقبالا عليها، أن يذكرها ما أمامها من رزق ربه، وأن يوازن بين هذا وهذا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
اتجه إلى ربك بالعبادة (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) من عرض الحياة الدنيا، من زينة ومتاع ومال وأولاد وجاه وسلطان. (زهرة الحياة الدنيا) التي تطلعها كما يطلع النبات زهرته لامعة جذابة. والزهرة سريعة الذبول على ما بها من رواء وزواق. فإنما نمتعهم بها ابتلاء (لنفتنهم فيه) فنكشف عن معادنهم، بسلوكهم مع هذه النعمة وذلك المتاع. وهو متاع زائل كالزهرة سرعان ما تذبل (ورزق ربك خير وأبقى) وهو رزق للنعمة لا للفتنة. رزق طيب خير باق لا يذبل ولا يخدع ولا يفتن. وما هي دعوة للزهد في طيبات الحياة، ولكنها دعوة إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية وبالصلة بالله والرضى به. فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء، ولا تفقد اعتزازها بالقيم العليا، وتبقى دائما تحس حرية الاستعلاء على الزخارف الباطلة التي تبهر الأنظار..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فإضافة {رزق ربك} إضافة تشريف، وإلا فإن الرزق كلّه من الله، ولكن رزق الكافرين لما خالطه وحف به حال أصحابه من غضب الله عليهم، ولما فيه من التبعة على أصحابه في الدنيا والآخرة لكفرانهم النعمة جعل كالمنكور انتسابه إلى الله، وجعل رزق الله هو السالم من ملابسة الكفران ومن تبعات ذلك. و {خير} تفضيل، والخيرية حقيقة اعتبارية تختلف باختلاف نواحيها. فمنها: خير لصاحبه في العاجل شرّ عليه في الآجل، ومنها خير مشوب بشرور وفتن، وخير صَاف من ذلك، ومنها ملائم ملاءَمَةً قوية، وخير ملائم ملاءمة ضعيفة، فالتفضيل باعتبار توفر السلامة من العواقب السيّئة والفتن كالمقرون بالقناعة، فتفضيل الخيرية جاء مجملاً يظهر بالتدبر. {وأبقى} تفضيل على ما مُتّع به الكافرون لأنّ في رزق الكافرين بقاءً، وهو أيضاً يظهر بقاؤه بالتدبّر فيما يحف به وعواقبه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفي الكلام مجاز، فقد عبر سبحانه عن عدم الالتفات إلى ما أعطاهم من زخارف بقوله {ولا تمدن عينيك}، أي لا تطل النظر وتسترسل فيه، وذلك يوجب ألا يلتفت، فشبه حال الالتفات بحال من يمد بصره، وذلك للإمعان في التأمل وفي ذلك تتبع، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه السلام للفضل بن عباس، وقد أطال النظر في امرأة "الأولى لك والثانية عليك". وقوله تعالى: {إلى ما متعنا به أزواجنا منهم} "إلى "هي نهاية المد، كأن البصر يكون ممتدا من العين إلى متعهم، وذلك قد يؤدي إلى النظر إليهم غابطا لهم، وما هم في غبطة، أو ما يغبطون عليه و {أزواجا} معناها أشباها متقابلة كبيرة، و {زهرة الحياة الدنيا} مفعول لفعل محذوف أو ل {متعنا}، بتضمينها {أعطينا}، والتعبير عن هذه الزخارف، وغيرها من أسباب القوة الظاهرة ب {زهرة} تدل على أمرين أحدهما أنها كالزهرة، والزهرة عمرها قصير، فهي لا تبقى طويلا، والثاني الإشارة إلى أن متعة الدنيا بريق لا يكون بعده قوة حقيقية، فهي متع كالسراج المزهر سرعان ما ينطفئ، وما أنت عليه يا محمد لا ينطفئ نوره أبدا. وإن غاية هذه الزهرات إلى انطفاء، وهي اختبار لهم، ولذلك قال تعالى: {لنفتنهم فيه}، أي لنعاملهم معاملة المختبرين فيزدادوا طغيانا على طغيانهم. وتنكشف حقيقة أمرهم، ويعرف ما فيهم من غي وشر، والتعدية بقوله {فيه} دون التعبير بالباء، وللإشارة إلى أنهم مغمورين في فتنة دائمة قد أحاطت بهم فهم يسارعون فيها من جنبة إلى جنبة وقد أحيط بهم. {ورزق ربك خير وأبقى} والرزق هو ما يعطيه الله لعباده من أسباب النفقة وقد يطلق على المعاني، لأنها غذاء القلوب وقوت العقول، ويكون ذلك من باب المجاز، وقد رزق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين أنواعا ثلاثة من الرزق أولها وأعلاها وأكملها الهداية، وثانيها: المال الطاهر النقي، والثالث: القوة في ذات أنفسهم كما بدت في الجهاد. وهذا خير، لأنه أبقى في ذاته، وأبقى لأن له جزاء يوم القيامة، وهو النعيم المقيم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ}: مدّ العين: مدّ نظرها وإطالته إلى شيء، وهو كناية عن التعلق به وحبه.
{زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: زينتها وبهجتها.
{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} فقد يغفل القلب فيستغرق في الأجواء المحيطة به، وقد يسرح البصر فينشغل بالزخارف والمباهج التي تمتد أمامه، فتتحرك العينان في قلبه وفي وجهه.. لتتلهيا بما أغدقه الله على هؤلاء الطغاة أو غيرهم، من مال وجاه وبنين وشهوات، يؤدي إلى الانبهار بالدنيا المحيطة بهم، والمتحركة في أوساطهم، فيتمنى الإنسان لنفسه ما قسمه الله لغيره، ويشعر بالحسرة إذا لم يحصل على ما حصلوا عليه، فيندفع للاعتداء على الآخرين بهدف الحصول على ما يريد ولو بطريقة غير شرعية، فينحرف عن الخط المستقيم، وينزلق إلى مهاوي الدنيا ومغرياتها. ولكن الدنيا زائلة مهما كبرت واتسعت وامتدت، لأن زخارفها زينة ليس إلاّ، وهي لا ترفع شأناً ولا تضع وزراً، بل هي شيء يحلو للنظر فينبهر به، أو هي شيء يتوهّج ويشتعل ويلتهب، ثم يخبو تدريجياً ويتحول إلى رماد. ولهذا فإن على الإنسان المؤمن ألاّ يتعلق بها إن أقبلت أو يتحسر عليها إن أدبرت، بل أن يراها على حقيقتها كظاهرة طارئة فانية مستهلكة زائلة، وزعها الله على عباده تبعاً لحكمته وبحسب مقادير الأشياء في الكون على كل المستويات.
{وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} بما يهيئه لك من رزق الدنيا والآخرة، فهو الأقرب إلى صلاحك في الدنيا في ما يصلح لك فيه أمر حياتك، وهو الأقرب إلى سعادتك في الآخرة في ما يقرر لك سعادتك في مصيرك، فتطلع إليه، فهو الأفضل والأبقى، ولا تتطلع إلى غيره، وحاول أن تشغل نفسك بمسؤوليتك في ما أوكل الله إليك أمره من مسؤوليات.
هل هذا دعوة إلى الابتعاد عن الحياة، لتكون من آيات الزهد العملي الذي ينصرف فيه الإنسان عن مباهج الحياة وطيباتها وزخارفها؟ أو هي دعوة للتوازن في النظرة إليها، فلا يستغرق فيها، ولا يتحسر عليها، لما يحقق التوازن في التعاطي معها بالمقادير المناسبة ودون مغالاة أو مبالغة؟!. إننا نفهم من الآية المعنى الثاني الذي يريد للإنسان أن يقنع بما رزقه الله، وألاّ يعيش الانبهار الذي يسقط روحه، ويثقل فكره، والله العالم.