قوله تعالى : { ذلك الذي } ذكرت من نعيم الجنة ، { يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنهم أهله ، { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد ابن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة قال : سمعت طاوساً عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سئل عن قوله : { إلا المودة في القربى } قال سعيد بن جبير : قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : عجلت ، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة . وكذلك روى الشعبي و طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :( إلا المودة في القربى ) يعني : أن تحفظوا قرابتي وتودوني وتصلوا رحمي . وإليه ذهب مجاهد ، وقتادة ، وعكرمة ، ومقاتل ، والسدي ، والضحاك ، رضي الله عنهم . وقال عكرمة : لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجراً إلا أن تحفظوني في قرابتي بيني وبينكم ، وليس كما يقول الكاذبون . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في معنى الآية : إلا أن تودوا الله وتتقربوا إليه بطاعته ، وهذا قول الحسن ، قال : هو القربى إلى الله ، يقول : إلا التقرب إلى الله والتودد إليه بالطاعة والعمل الصالح . وقال بعضهم : معناه إلا أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني ، وهو قول سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب . واختلفوا في قرابته فقيل : فاطمة الزهراء وعلي وابناهما ، وفيهم نزل : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } ( الأحزاب-32 ) . وروينا عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " . قيل : لزيد بن أرقم : من أهل بيته ؟ قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا خالد ، حدثنا شعبة عن واقد قال : سمعت أبي يحدث عن ابن عمر عن أبي بكر قال : ارقبوا محمداً في أهل بيته . وقيل : هم الذين تحرم عليهم الصدقة من أقاربه ويقسم فيهم الخمس ، وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، الذين لم يتفرقوا في جاهلية ولا في إسلام . وقال قوم : هذه الآية منسوخة وإنما نزلت بمكة ، وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية فأمرهم فيها بمودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصلة رحمه ، فلما هاجر إلى المدينة وآواه الأنصار ونصروه أحب الله عز وجل أن يلحقه بإخوانه من الأنبياء عليهم السلام حيث قالوا : { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } ( الشعراء-109 ) فأنزل الله تعالى : { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله } ، فهي منسوخة بهذه الآية ، وبقوله : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكفلين } ( ص-86 ) ، وغيرها من الآيات . وإلى هذا ذهب الضحاك بن مزاحم ، والحسين بن الفضل . وهذا قول غير مرضي ، لأن مودة النبي صلى الله عليه وسلم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه ، والتقرب إلى الله بالطاعة ، والعمل الصالح من فرائض الدين ، وهذه أقاويل السلف في معنى الآية ، فلا يجوز المصير إلى نسخ شيء من هذه الأشياء . وقوله : ( إلا المودة في القربى ) ، ليس باستثناء متصل بالأول حتى يكون ذلك أجراً في مقابلة أداء الرسالة ، بل هو منقطع ، ومعناه : ولكني أذكركم المودة في القربى وأذكركم قرابتي منكم ، كما روينا في حديث زيد بن أرقم : " أذكركم الله في أهل بيتي " . قوله عز وجل : { ومن يقترف حسنةً نزد له فيها حسناً } أي : من يكتسب طاعة نزد له فيها حسناً بالتضعيف ، { إن الله غفور } للذنوب ، { شكور } للقليل حتى يضاعفها .
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : { ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } .
أى : ذلك الفضل الكبير ، هو البشارة العظمى ؛ والعطاء الجزيل ، الذى يمنحه الله - تعالى - يوم القيامة لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
قال الآلوسى قوله : { ذَلِكَ } أى : الفضل الكبير ، أو الثواب المفهوم من السياق ، هو { الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أى : يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول ، كما هو عادتهم فى التدريج فى الحذف ولا مانع من حذفهما دفعة .
وجوز كون { ذَلِكَ } إشارة إلى التبشير المفهوم من " يبشر " . أى : ذلك التبشير يبشره الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم - أن يؤكد لأولئك المشركين من قومه ، أنه لا يسألهم أجرا على دعوته ، وإنما يسألهم المودة والمعاملة الحسنة لقرابته منهم فقال : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } .
والضمير المجرور فى { عَلَيْهِ } يعود إلى التبليغ والتبشير والإِنذار الذى يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - معهم { القربى } مصدر كالقرابة والخطاب لكفار قريش .
وللعلماء فى تفسير هذه الآية أقوال : أولها : أن المراد بالقربى : الصلة والقرابة التى تربط بين الرسول وبين كفار قريش .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الكافرين إنى لا اسألكم على التبليغ أجرا ، لكن أسألكم أن تودونى لقرابتى فيكم ، فتكفوا عنى أذاكم ، وتمنعوا عنى أذى غيركم ، وتستجيبوا لدعوتى ، فإن صلة القرابة والرحم التى بينى وبينكم توجب عليكم ذلك .
فالقربى هنا : بمعنى القرابة وصلة الرحم . و { فِي } للسببية بمعنى لام التعليل كما جاء فى الحديث الشريف : " دخلت امرأة النار فى هرة " .
ولا شك أن منع أذاهم عنه - صلى الله عليه وسلم - بسبب قرابته فيهم ليس أجرا .
وثانيها : أن المراد بالقربى : هنا : أقاربه وعشيرته وعترته فيكون المعنى لا أسألكم أجرا على دعوتى لكم إلى الخير والحق ، ولكن أسألكم أن تحفظونى فى قرابتى وأهل بيتى ، بأن تحسنوا إليهم ولا تؤذوهم بأى نوع من الأذى .
ولا شك - أيضا - أن إحسانهم إلى أقاربه ، ليس أجرا منهم له على ذلك لأن الإِحسان إلى الناس ، شئ قررته جميع الشرائع وتقتضيه مكارم الأخلاق .
وثالثها : أن المراد بالقربى هنا : التقرب إلى الله - تعالى - بالإِيمان والعمل الصالح .
أى : لا أسألكم على التبليغ أجرا ، ولكن أسألكم أن تتقربوا إلى الله - تعالى - بما يرضيه بأن تتركوا الكفر والفسوق والعصيان ، وتدخلوا فى الإِيمان والطاعة لله - تعالى - .
وهذا الذى طلبه منهم ، ليس أجرا على التبليغ ، لأن التقرب إلى الله بالطاعات فرض عليهم . وقد رجح العلماء القول الأول ، واستدلوا على هذا الترجيح بأحاديث منها : ما رواه البخارى عن ابن عباس أن سئل عن معنى قوله - تعالى - { إِلاَّ المودة فِي القربى } ، فقال سعيد بن جبير : " قربى آل محمد " فقال ابن عباس : عَجِلت . إن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة . فقال : إلا أن تصلوا ما بينى وبينكم من القرابة .
وقال ابن كثير بعد أن ساق هذا الحديث وغيره ، وبهذا الرأى قال مجاهد وعكرمة ، وقتادة ، والسدى ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد ، وغيرهم .
وقال الإِمام ابن جرير - بعد أن ساق هذه الأقوال فى ذلك بالصواب ، وأشببها بظاهر التنزيل ، قول من قال معناه : لا أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش ، إلا أن تودونى فى قرابتى منكم ، وتصلوا الرحم حتى بينى وبينكم .
وإنما قلت هذا التأويل أولى بتأويل الآية ، لدخول { فِي } فى قوله : { إِلاَّ المودة فِي القربى } .
ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال إلا أن تودوا قرابتى ، أو تتقربوا إلى الله ، لم يكن لدخول { فِي } فى الكلام فى هذا الموضع وجه معروف ولكان التنزيل إلا مودة القربى ، إن عنى به الأمر بمودة قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إلا المودة بالقربى إن عنى به الأمر بالتودد والتقرب إلى الله - تعالى - .
وفى دخول { فِي } فى الكلام أوضح الدليل على أن معناه إلا مودتى فى قرابتى منكم .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ } .
وقوله { يَقْتَرِفْ } من القرف بفتح إلى الله تعالى ، نضاعف له - بفضلنا وإحساننا - ثوابها ، إن الله تعالى واسع المغفرة لعباده . كثير الشكر للطائعين بأن يعطيهم من فضله أكثر مما يستحقون ويرجون .
( ذلك الذي يبشر الله عباده )فهو بشرى حاضرة ، مصداقاً للبشرى السالفة . وظل البشرى هنا هو أنسب الظلال .
وعلى مشهد هذا النعيم الرخاء الجميل الظليل يلقن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يقول لهم : إنه لا يطلب منهم أجراً على الهدى الذي ينتهي بهم إلى هذا النعيم ، وينأى بهم عن ذلك العذاب الأليم . إنما هي مودته لهم لقرابتهم منه ، وحسبه ذلك أجراً :
( قل : لا أسألكم عليه أجرا . إلا المودة في القربى . ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا . إن الله غفور شكور ) . .
والمعنى الذي أشرت إليه ، وهو أنه لا يطلب منهم أجرا ، إنما تدفعه المودة للقربى - وقد كانت لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قرابة بكل بطن من بطون قريش - ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى ، ويحقق الخير لهم إرضاء لتلك المودة التي يحملها لهم ، وهذا أجره وكفى !
هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها . وهناك تفسير مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري :
قال البخاري حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة ، قال :
سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سأل عن قوله تعالى : ( إلا المودة في القربى )فقال سعيد بن جبير : " قربى آل محمد . فقال ابن عباس : عجلت . إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن بطن من بطون قريش إلا كان له فيهم قرابة . فقال : " إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة " .
ويكون المعنى على هذا : إلا أن تكفوا أذاكم مراعاة للقرابة . وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم إليه . فيكون هذا هو الأجر الذي أطلبه منكم لا سواه .
وتأويل ابن عباس - رضي الله عنهما - أقرب من تأويل سعيد بن جبير - رضي الله عنه - ولكنني ما أزال أحس أن ذلك المعنى أقرب وأندى . . والله أعلم بمراده منا .
وعلى أية حال فهو يذكرهم - أمام مشهد الروضات والبشريات - أنه لا يسألهم على شيء من هذا أجراً . ودون هذا بمراحل يطلب عليه الأدلاء أجرا ضخماً ! ولكنه فضل الله الذي لا يحاسب العباد حساب التجارة ، ولا حساب العدل ، ولكن حساب السماحة وحساب الفضل :
( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ) . .
فليس هو مجرد عدم تناول الأجر . بل إنها الزيادة والفضل . . ثم هي بعد هذا كله المغفرة والشكر :
الله يغفر . ثم . . الله يشكر ويشكر من ? يشكر لعباده . وهو وهبهم التوفيق على الإحسان . ثم هو يزيد لهم في الحسنات ، ويغفر لهم السيئات . ويشكر لهم بعد هذا وذاك . . فيا للفيض الذي يعجز الإنسان عن متابعته . فضلاً على شكره وتوفيته !
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنة ، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات : { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : هذا حاصل لهم كائن لا محالة ، ببشارة الله لهم به .
وقوله : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش : لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه ، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات{[25814]} ربي ، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة .
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة قال : سمعت طاوسا{[25815]} عن ابن عباس : أنه سئل عن قوله تعالى : { إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد . فقال ابن عباس : عَجِلْتَ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة . انفرد به البخاري{[25816]} .
ورواه الإمام أحمد ، عن يحيى القطان ، عن شعبة به . وهكذا روى عامر الشعبي ، والضحاك ، وعلي بن أبي طلحة ، والعَوْفي ، ويوسف بن مِهْران وغير واحد ، عن ابن عباس ، مثله . وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني {[25817]} حدثنا هاشم بن يزيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا حدثنا آدم بن أبي أياس ، حدثنا شريك ، عن خُصَيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تَوَدّوني في نفسي لقرابتي منكم ، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم " {[25818]} .
وروى الإمام أحمد ، عن حسن بن موسى : حدثنا قَزَعَة يعني ابن سُوَيد - وابن أبي حاتم - عن أبيه ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن قَزَعة بن سويد - عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا ، إلا أن تُوَادوا الله ، وأن تقربوا إليه بطاعته " {[25819]} .
وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري ، مثله .
وهذا كأنه تفسير بقول ثان ، كأنه يقول : { إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي : إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى .
وقول ثالث : وهو ما حكاه البخاري وغيره ، رواية عن سعيد بن جبير ، ما معناه أنه قال : معنى ذلك أن تودوني في قرابتي ، أي : تحسنوا إليهم وتبروهم .
وقال السدي ، عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين أسيرا ، فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم ، وقطع قرني الفتنة . فقال له علي بن الحسين : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم . قال : أقرأت آل حم ؟ قال : قرأت القرآن ، ولم أقرأ آل حم . قال : ما قرأت : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ؟ قال : وإنكم أنتم{[25820]} هم ؟ قال : نعم .
وقال : أبو إسحاق السَّبِيعيّ : سألت عمرو بن شعيب عن قوله تعالى : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فقال : قربى النبي صلى الله عليه وسلم . رواهما ابن جرير{[25821]} .
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا عبد السلام ، حدثني يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : قالت الأنصار : فعلنا وفعلنا ، وكأنهم فخروا فقال ابن عباس - أو : العباس ، شك عبد السلام - : لنا الفضل عليكم . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال : " يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي ؟ " قالوا : بلى ، يا رسول الله . قال : ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله قال : " أفلا تجيبوني ؟ " قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : " ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك ؟ أو لم يكذبوك فصدقناك ؟ أو لم يخذلوك فنصرناك " ؟ قال : فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله . قال : فنزلت : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } {[25822]} .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن علي بن الحسين ، عن عبد المؤمن بن علي ، عن عبد السلام ، عن يزيد بن أبي زياد - وهو ضعيف - بإسناده مثله ، أو قريبا منه .
وفي الصحيحين - في قسم غنائم حنين - قريب من هذا السياق ، ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية . وذكْرُ نزولها في المدينة فيه نظر ؛ لأن السورة مكية ، وليس يظهر بين هذه الآية الكريمة وبين السياق مناسبة ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا رجل سماه ، حدثنا حسين الأشقر ، عن قيس ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير{[25823]} عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال : " فاطمة وولدها ، عليهم السلام " {[25824]} .
وهذا إسناد {[25825]} ضعيف ، فيه مبهم لا يعرف ، عن شيخ شيعي مُتَخَرّق{[25826]} ، وهو حسين الأشقر ، ولا يقبل خبره في هذا المحل . وذكر نزول هذه الآية في المدينة بعيد ؛ فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلية ، فإنها لم تتزوج بعلي إلا بعد بدر من{[25827]} السنة الثانية من الهجرة .
والحق تفسير الآية بما فسرها به الإمام حَبرُ الأمة ، وترجمان القرآن ، عبد الله بن عباس ، كما رواه عنه البخاري [ رحمه الله ] {[25828]} ولا تنكر الوصاة{[25829]} بأهل البيت ، والأمر بالإحسان إليهم ، واحترامهم وإكرامهم ، فإنهم من ذرية طاهرة ، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض ، فخرًا وحسبًا ونسبًا ، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية ، كما كان عليه سلفهم ، كالعباس وبنيه ، وعلي وأهل بيته وذريته ، رضي الله عنهم أجمعين .
و [ قد ثبت ] {[25830]} في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغَدِير خُمّ : " إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض " {[25831]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث {[25832]} ، عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت : يا رسول الله ، إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن ، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها ؟ قال : فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، وقال : " والذي نفسي بيده ، لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله " {[25833]} .
ثم قال أحمد {[25834]} حدثنا جرير ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد المطلب بن ربيعة قال : دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنا لنخرج فنرى قريشا تُحدث ، فإذا رأونا
سكتوا . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودَرّ عِرْق بين عينه{[25835]} ، ثم قال : " والله لا يدخل قلب امرئ {[25836]} إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي " {[25837]} .
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا خالد ، حدثنا شعبة ، عن واقد قال : سمعتُ أبي يحدّث {[25838]} عن ابن عمر ، عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قال : ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته{[25839]} .
وفي الصحيح : أن الصديق قال لعلي ، رضي الله عنهما : والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي{[25840]} {[25841]} .
وقال عمر بن الخطاب للعباس ، رضي الله عنهما : والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم ؛ لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب .
فحال الشيخين ، رضي الله عنهما ، هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك ؛ ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين ، رضي الله عنهما ، وعن سائر الصحابة أجمعين .
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أبي حَيّان التيمي ، حدثني يزيد ابن حيان قال : انطلقت أنا وحُسَيْن بن مَيْسَرة ، وعمر{[25842]} بن مسلم إلى زيد {[25843]} بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيتَ يا زيد {[25844]} خيرا كثيرا ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمعت حديثه وغزوت معه ، وصليت معه . لقد رأيت يا زيد خيرا كثيرا . حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : يا ابن أخي ، والله كَبُرت{[25845]} سني ، وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما حدثتكم فاقبلوه ، وما لا فلا تُكَلّفونيه . ثم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطيبًا فينا ، بماء يدعى خُمّا - بين مكة والمدينة - فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ووعظ ، ثم قال : " أما بعد ، ألا أيها الناس ، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين ، أولهما : كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه ، وقال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده قال : ومن هم ؟ قال : هم آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل العباس ، قال : أكل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم .
وهكذا رواه مسلم [ في فضائل ] {[25846]} والنسائي من طرق عن يزيد بن حَيّان به{[25847]} .
وقال أبو عيسى الترمذي {[25848]} حدثنا علي بن المنذر الكوفي ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد - والأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن زيد بن أرقم - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من {[25849]} السماء إلى الأرض ، والآخر عترتي : أهل بيتي ، ولن يَتَفَرَّقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما "
تفرد بروايته الترمذي{[25850]} ثم قال : هذا حديث حسن غريب .
وقال الترمذي أيضا {[25851]} حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحسن ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله {[25852]} قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة ، وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : " يا أيها الناس ، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله ، وعترتي : أهل بيتي "
تفرد به الترمذي أيضا{[25853]} ، وقال : حسن غريب . وفي الباب عن أبي ذر ، وأبي سعيد ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن أسيد .
ثم قال الترمذي : حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا يحيى بن مَعِين ، حدثنا هشام بن يوسف ، عن عبد الله بن سليمان النوفلي ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عباس{[25854]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحبوا الله لما يغذوكم{[25855]} من نعمه ، وأحبوني{[25856]} بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي بحبي "
ثم قال{[25857]} حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه{[25858]} .
وقد أوردنا أحاديث أُخَر عند قوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33 ] {[25859]} ، بما أغنى عن إعادتها هاهنا ، ولله الحمد والمنة .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سويد بن سَعِيد ، حدثنا مفضل بن عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن حَنَش قال : سمعت أبا ذر وهو آخذ بحلقة الباب يقول : يا أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما مثل أهل بيتي فيكم مَثَل سفينة نوح ، من دخلها نجا ، ومن تخلف عنها هلك " {[25860]} .
وقوله : { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا } أي : ومن يعمل حسنة { نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا } أي : أجرا وثوابا ، كقوله { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] .
وقال بعض السلف : [ إن ] {[25861]} من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، ومن جزاء السيئة( السيئة ) بعدها .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } أي : يغفر الكثير من السيئات ، ويكثر القليل من الحسنات ، فيستر ويغفر ، ويضاعف فيشكر .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ الّذِي يُبَشّرُ اللّهُ عِبَادَهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَىَ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } .
يقول تعالى ذكره : هذا الذي أخبرتكم أيها الناس أني أعددته للذين آمنوا وعملوا الصالحات في الاَخرة من النعيم والكرامة ، البشرى التي يبشر الله عباده الذين آمنوا به في الدنيا ، وعملوا بطاعته فيها قُلْ لا أسألُكمْ عَلَيْهِ أجْرا يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للذين يمارونك في الساعة من مشركي قومك : لا أسألكم أيها القوم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحقّ الذي جئتكم به ، والنصيحة التي أنصحكم ثوابا وجزاءً ، وعوضا من أموالكم تعطونَنِيه إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبى .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبى فقال بعضهم : معناه : إلا أن تودّوني في قرابتي منكم ، وتصلوا رحمي بيني وبينكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ويعقوب ، قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، في قوله : لا أسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قال : لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم إلا قرابة ، فقال : «قُل لا أسألكم عليه أجرا أن تودّوني في القرابة التي بيني وبينكم » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس ، في قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قال : سئل عنها ابن عباس ، فقال ابن جبير : هم قربى آل محمد ، فقال ابن عباس : عجلتَ ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من بطون قريش إلا وله فيهم قرابة ، قال : فنزلت قُلْ لا أسألْكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبى قال : «إلا القرابة التي بيني وبينكم أن تصلوها » .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة في جميع قريش ، فلما كذّبوه وأبَوْا أن يبايعوه قال : «يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونُصرتي منكم » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قُلْ لا أسألْكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، قال لقريش : «لا أسألكم من أموالكم شيئا ، ولكن أسألكم أن لا تؤذوني لقرابة ما بيني وبينكم ، فإنكم قومي وأحقّ من أطاعني وأجابني » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عكرمة ، قال : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان واسطا من قريش ، كان له في كلّ بطن من قريش نسب ، فقال : «لا أسألْكُمْ على ما أدْعُوكُمْ إلَيْهِ إلاّ أنْ تَحْفَظُوني في قَرَابَتِي ، قُل لا أسألُكُمْ عَلَيْه أجْرا إلاّ المَوَدّةَ في القُرّبَى » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أَبي مالك ، قال : فقال الله عزّ وجلّ : قُلْ لا أسألُكُم عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى : «إلا أن تودّوني لقرابتي منكم وتحفظوني » .
حدثنا أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبثر ، قال : حدثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الاَية : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وأمه من بني زهرة وأم أبيه من بني مخزوم ، فقال : «احفظوني في قرابتي » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حرمى ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عمارة ، عن عكرمة ، في قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قال : تعرفون قرابتي ، وتصدّقونني بما جئت به ، وتمنعوني .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى وإن الله تبارك وتعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن لا يسأل الناس على هذا القرآن أجرا إلا أن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة ، وكلّ بطون قريش قد ولدته وبينه وبينهم قرابة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى أن تتبعوني ، وتصدقوني وتصلوا رحمي .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قال لم يكن بطن من بطون قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ولادة ، فقال : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودّوني لقرابتي منكم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَودّةَ فِي القُرْبَى يعني قريشا . يقول : إنما أنا رجل منكم ، فأعينوني على عدوّي ، واحفظوا قرابتي ، وإن الذي جئتكم به لا أسألكم عليه أجرا إلا المودّة في القُربى ، أن تودّوني لقرابتي ، وتعينوني على عدوي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبى قال : يقول : إلا أن تودّوني لقرابتي كما توادّون في قرابتكم وتواصلون بها ، ليس هذا الذي جئت به يقطع ذلك عني ، فلست أبتغي على الذي جئت به أجرا آخذه على ذلك منكم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن عطاء بن دينار ، في قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى يقول : لا أسألكم على ما جئتكم به أجرا ، إلا أن تودّوني في قرابتي منكم ، وتمنعوني من الناس .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : قُلْ لا أسألُكمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قال : كل قريش كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة ، فقال : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودّوني بالقرابة التي بيني وبينكم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قل لمن تبعك من المؤمنين : لا أسألكم على ما جئتكم به أجرا إلا أن تودّوا قرابتي . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، قال : حدثنا الصباح بن يحيى المريّ ، عن السديّ ، عن أبي الديلم قال : لما جيء بعليّ بن الحسين رضي الله عنهما أسيرا ، فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشأم فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم ، وقطع قربى الفتنة ، فقال له عليّ بن الحسين رضي الله عنه : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم ، قال : أقرأت آل حم ؟ قال : قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم ، قال : ما قرأت قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى ؟ قال : وإنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، قال : حدثنا عبد السلام ، قال : حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : قالت الأنصار : فعلنا وفعلنا ، فكأنهم فخروا ، فقال ابن عباس ، أو العباس ، شكّ عبد السلام : لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم في مجالسهم ، فقال : «يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أَلَمْ تَكُونُوا أذِلّةً فأعَزّكُمُ اللّهُ بِي ؟ » قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : «أَلَمْ تَكُونُوا ضُلاّلاً فَهَداكُمُ اللّهُ بِي ؟ » قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : «أفَلاَ تُجِيبُونِي ؟ » قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : «ألا تقولونَ : أَلَمْ يُخْرِجْكَ قَوْمُكَ فآوَيْناكَ ، أوَ لَمْ يُكَذّبوكَ فَصَدّقْناكَ ، أوَ لَمْ يَخْذُلُوكَ فَنَصَرْناكَ ؟ » قال : فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله ، قال : فنزلت قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا مروان ، عن يحيى بن كثير ، عن أبي العالية ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قال : هي قُربى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ومحمد بن خلف قالا : حدثنا عبيد الله قال أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق قال : سألت عمرو بن شعيب ، عن قول الله عزّ وجلّ : قُلْ لا أسألْكُمْ عَلَيه أجْرا إلاّ الموَدّةَ فِي القُرْبَى قال : قُربى النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قل لا أسألكم أيها الناس على ما جئتكم به أجرا إلا أن تَوَدّدوا إلى الله ، وتتقرّبوا بالعمل الصالح والطاعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ومحمد بن داود أخوه أيضا قالا : حدثنا عاصم بن علي ، قال : حدثنا قزعة بن سويد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «قُلْ لا أسألُكُمْ على ما أتَيْتُكُمْ بِهِ مِنَ البَيّناتِ وَالهُدَى أجْرا إلاّ أنُ تَوَدّدُوا للّهِ ، وتَتَقَرّبُوا إلَيْهِ بطاعَتِهِ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن أنه قال في هذه الاَية قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْه أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قال : القُربى إلى الله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قال : إلا التقرّب إلى الله ، والتودّد إليه بالعمل الصالح .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : في قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قل لا أسألكم على ما جئتكم به ، وعلى هذا الكتاب أجرا ، إلا المودّة في القربى ، إلا أن تودّدوا إلى الله بما يقرّبكم إليه ، وعمل بطاعته .
قال بشر : قال يزيد : وحدثنيه يونس ، عن الحسن ، حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبى إلا أن تودّدوا إلى الله فيما يقرّبكم إليه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إلا أن تصلوا قرابتكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن عبد الله بن القاسم ، في قوله : إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبَى قال : أمرت أن تصل قرابتك .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال : معناه : قل لا أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش ، إلا أن تودّوني في قرابتي منكم ، وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم .
وإنما قلت : هذا التأويل أولى بتأويل الاَية لدخول «في » في قوله : إلاّ المَوَدَةَ فِي القُرْبَى ، ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال : إلا أن تودّوا قرابتي ، أو تقربوا إلى الله ، لم يكن لدخول «في » في الكلام في هذا الموضع وجه معروف ، ولكان التنزيل : إلا مودّة القربى إن عُنِيَ به الأمر بمودّة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إلا المودّة بالقُرْبَى ، أو ذا القربَى إن عُنِيَ به التودّد والتقرّب . وفي دخول «في » في الكلام أوضح الدليل على أن معناه : إلا مودّتي في قرابتي منكم ، وأن الألف واللام في المودّة أدخلتا بدلاً من الإضافة ، كما قيل : فَإنّ الجَنّةَ هِيَ المَأوَى . وقوله : «إلا » في هذا الموضع استثناء منقطع . ومعنى الكلام : قل لا أسألكم عليه أجرا ، لكن أسألكم المودّة في القُربى ، فالمودّة منصوبة على المعنى الذي ذكرت . وقد كان بعض نحويي البصرة يقول : هي منصوبة بمضمر من الفعل ، بمعنى : إلا أن أذكر مودّة قرابتي .
وقوله : وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنا يقول تعالى ذكره : ومن يعمل حسنة ، وذلك أن يعمل عملاً يطيع الله فيه من المؤمنين نَزِدْ لَهُ فيها حُسْنا يقول : نضاعف عمله ذلك الحسن ، فنجعل له مكان الواحد عشرا إلى ما شئنا من الجزاء والثواب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قول الله عزّ وجلّ : وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً قال : يعمل حسنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنا قال : من يعمل خيرا نزد له . الاقْتراف : العمل .
وقوله : إنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ يقول : إن الله غفور لذنوب عباده ، شكور لحسناتهم وطاعتهم إياه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنّ اللّهَ غَفُورٌ للذنوب شَكُورٌ للحسنات يضاعفها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ قال : غفر لهم الذنوب ، وشكر لهم نعما هو أعطاهم إياها ، وجعلها فيهم .
{ ذَلِكَ الذى يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } .
اسم الإشارة مؤكد لنظيره الذي قبله ، أي ذلك المذكور الذي هو فضل يحصل لهم في الجنّة هو أيضاً بشرى لهم من الحياة الدنيا .
والعائد من الصلة إلى الموصول محذوف تقديره : الذي يبشر الله به عباده . وحذفه هنا لتنزيله منزلة الضمير المنصوب باعتبار حذف الجار على طريقة حذفه في نحو قوله : { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] بتقدير : من قومه ، فلما عومل معاملة المنصوب حذف كما يحذف الضمير المنصوب .
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر ويعقوب وخلف { يبشر } بضم التحتية وفتح الموحدة وتشديد الشين المكسورة ، وهو من بشّره ، إذا أخبره بحادثثٍ يسره . وقرأه ابن كثير وأبو عمر وحمزة والكسائي { يَبْشُر } بفتح التحتية وسكون الموحدة وضم الشين مخففة ، يقال : بشرت الرجل بتخفيف الشين أبشرُهُ من باب نصر إذا غبطه بحادث يَسرّه .
وجَمعُ العباد المضافُ إلى اسم الجلالة أو ضميرِه غَلَب إطلاقه في القرآن في معرض التقريب وترفيع الشّأن ، ولذلك يكون موقع { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } هنا موقع عطف البيان على نحو قوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ يونس : 62 ، 63 ] إذ وقع { الذين آمنوا موقع عطف البيان من أولياء الله .
{ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى } .
استئناف ابتدائي بمناسبة ذكر ما أعد للمشركين من عذاب وما أعد للمؤمنين من خير ، وضمير جماعة المخاطبين مراد به المشركون لا محالة وليس في الكلام السابق ما يتوهم منه أن يكون { قل لا أسألكم } جواباً عنه ، فتعين أن جملة { قل لا أسألكم عليه أجراً } كلام مستأنف استئنافاً ابتدائياً .
ويظهر مما رواه الواحدي في « أسباب النزول » عن قتادة : أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض : أترون محمداً يَسأل على ما يتعاطاه أجراً . فنزلت هذه الآية ، يعنون : إن كان ذلك جمعنا له مالاً كما قالوه له غير مرة ، أنها لا اتصال لها بما قبلها وأنها لما عرض سبب نزولها نزلت في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها فتكون جملة ابتدائية . وكان موقعها هنا لمناسبة ما سبق من ذكر حجاج المشركين وعنادهم فإن مناسبتها لما معها من الآيات موجودة إذ هي من جملة ما واجه به القرآن محاجّة المشركين ، ونفَى به أوهامهم ، واستفتح بصائرهم إلى النظر في علامات صدق الرسول ؛ فهي جملة ابتدائية وقعت معترضة بين جملة { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } وجملة { ومن يقترف حسنة } .
وابتدئت ب { قل } إما لأنها جواب عن كلام صدر منهم ، وإمّا لأنها مما يهتم بإبلاغه إليهم كما أن نظائرها افتتحت بمثل ذلك مثل قوله تعالى :
{ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم } [ سبأ : 47 ] وقوله : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } [ ص : 86 ] وقوله : { قل لا أسألكم عليه أجراً } [ الأنعام : 90 ] .
وضمير { عليه } عائد إلى القرآن المفهوم من المقام .
والأجر : الجزاء الذي يعطاه أحد على عمل يعمله ، وتقدم عند قوله تعالى : { إن الله عنده أجر عظيم } في سورة براءة ( 22 ) .
والمودّة : المحبة والمعاملة الحسنة المشبهة معاملة المتحابين ، وتقدمت عند قوله { مودّة بينكم في الحياة الدنيا } في سورة العنكبوت ( 25 ) . والكلام على تقدير مضاف أي معاملة المودة ، أي المجاملة بقرينة أن المحبة لا تُسأل لأنها انبعاث وانفعال نفساني .
و{ في } للظرفية المجازية لأنه مجرورها وهو { القربى } لا يصلح لأن يكون مظروفاً فيه .
ومعنى الظرفية المجازية هنا : التعليل ، وهو معنى كثير العروض لحرف { في } كقوله : { وجاهدوا في الله } [ الحج : 78 ] .
و { القربى } : اسم مصدر كالرُجعى والبُشرى ، وهي قَرابة النسب ، قال تعالى : { وآتِ ذا القُربى حقّه } [ الإسراء : 26 ] ، وقال زهير :
وظُلمُ ذوي القربى أشدّ مضاضَةً . . . البيت
وتقدم عند قوله تعالى : { ولذي القربى } في سورة الأنفال ( 41 ) .
ومعنى الآية على ما يقتضيه نظمها : لا أسألكم على القرآن جزاء إلا أن تَوَدُّوني ، أي أن تعاملوني معاملة الوِدِّ ، أي غير معاملة العداوةِ ، لأجل القرابة التي بيننا في النسب القرشي .
وفي « صحيح البخاري » و« جامع الترمذي » سئل ابن عباس عن هذه الآية بحضرة سعيد بن جبير فابتدر سعيد فقال : قُربى آل محمد ، فقال ابنُ عباس : عَجِلْتَ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلاّ أنْ تَصِلُوا ما بيني وبينكم من القرابة . وذكر القرطبي عن الشعبي أنه قال : أكثرَ الناسُ علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها فكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط الناس في قريش فليس بطن من بطونهم إلا وقد وَلَدَهُ فقال الله له : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } إلاَّ أن تَوَدوني في قرابتي منكم ، أي تَرَاعُوا ما بيني وبينكم فتصدّقوني ، فالقربى ههنا قرابة الرحم كأنه قال : اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنُبوءةِ . انتهى كلام القرطبي . وما فسر به بعض المفسرين أن المعنى : إلا أن تودّوا أقاربي تلفيق معنى عن فهم غير منظور فيه إلى الأسلوب العربي ، ولا تصح فيه رواية عمن يعتد بفهمه .
أمّا كون محبة آل النبي صلى الله عليه وسلم لأجل محبة ما له اتصال به خُلُقاً من أخلاق المسلمين فحاصل من أدلة أخرى ، وتحديد حدودها مُفصَّل في « الشفاء » لعياض . والاستثناء منقطع لأن المودّة لأجل القرابة ليست من الجزاء على تبليغ الدعوة بالقرآن ولكنها مما تقتضيه المروءة فليس استثناؤها من عموم الأجر المنفي استثناء حقيقياً . والمعنى : لا أسألكم على التبليغ أجراً وأسألُكم المودّة لأجل القربى . وإنما سألهم المودّة لأن معاملتهم إياه معاملةَ المودّة معِينة على نشر دعوة الإسلام ، إذ تَلِين بتلك المعاملة شكيمتهم فيتركون مقاومته فيتمكن من تبليغ دعوة الإسلام على وجه أكمل .
فصارت هذه المودة غرضاً دينياً لا نفع فيه لنفس النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي بعض الأخبار الموضوعة في أسباب النزول أن سبب نزول هذه الآية : أن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا قدم المدينة كانت تنوبه نوائب لا يسعها ما في يديه . فقالت الأنصار : إن هذا الرجل هداكم الله به فنجمع له مالاً ، ففعلوا ثم أتوه به ، فنزلت . وفي رواية : أن الأنصار قالوا له يوماً : أنفسُنا وأموالنا لك ، فنزلت . وقيل نزل { ذلك الذي يبشر الله عباده } إلى قوله : { إنه عليم بذات الصدور } [ الشورى : 23 ، 24 ] . ولأجل ذلك قال فريق : إن هذه الآيات مدنية كما تقدم في أول السورة وهي أخبار واهية .
وتضمنت الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم منزّه عن أن يتطلب من الناس جزاء على تبليغ الهدى إليهم فإن النبوءة أعظم مرتبة في تعليم الحقّ وهي فوق مرتبة الحكمة ، والحكماء تنزّهوا عن أخذ الأجر على تعليم الحكمة ، فإن الحكمة خير كثير والخير الكثير لا تقابله أعراض الدنيا ، ولذلك أمر الله رُسُله بالتنزّه عن طلب جزاء على التبليغ ، فقال حكاية عن نوح { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين } [ الشعراء : 109 ] . وكذلك حكى عن هود وصالح ولوط وشعيب .
{ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ الله غَفُورٌ شكور } .
تذييل لجملة { ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات } والمعنى : وكلما عمل مؤمن حسنة زدناه حسناً من ذلك الفضل الكبير . وهذا في معنى قوله تعالى : { والله يضاعف لمن يشاء } [ البقرة : 261 ] والواو اعتراضية .
والاقتراف : افتعال من القَرْف ، وهو الاكتساب ، فالاقتراف مبالغة في الكسب نظيرَ الاكتساب ، وليس خاصاً باكتساب السوء وإن كان قد غلب فيه ، وأصله من قَرَفَ الشجرةَ ، إذا قشر قِرْفَها ، بكسر القاف ، وهو لِحَاؤها ، أي قَشْرُ عودها ، وتقدم عند قوله تعالى : { وليَقترفوا ما هم مقترفون } في سورة الأنعام ( 113 ) ، وعند قوله : { وأموالٌ اقترفتموها } في سورة براءة ( 24 ) .
والحسنة : الفَعْلة ذات الحسن صفة مشبهة غلبت في استعمال القرآن والسنة على الطاعة والقربة فصارت بمنزلة الجوامد عَلَماً بالغلبة وهي مشتقة من الحسن وهو جمال الصورة . والحُسن : ضد القبح وهو صفة في الذات تقتضي قبول منظرها في نفوس الرّائين وميلهم إلى مداومة مشاهدتها . وتوصف المعنويات بالحسن فيراد به كون الفعل أو الصفة محمودة عند العقول مرغوباً في الاتصاف بها .
ولما كانت الحسنة مأخوذة من الحُسن جعلت الزيادة فيها من الزيادة في الحسن مراعاة لأصل الاشتقاق فكان ذكر الحُسْن من الجناس المعبر عنه بجناس الاشتقاق نحو قوله تعالى : { فأقم وجهك للدّين القيم } [ الروم : 43 ] ، وصار المعنى نزِد له فيها مماثلاً لها . ويتعين أن الزيادة فيها زيادة من غير عَملِه ولا تكون الزيادة بعمل يعمله غيره لأنها تصير عملاً يستحق الزيادة أيضاً فلا تنتهي الزيادة فتعيّن أن المراد الزيادة في جزاء أمثالها عند الله . وهذا معنى قوله تعالى : { من جاء بالحسنة فله عشْر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] وقوله { والله يضاعف لمن يشاء } [ البقرة : 261 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم « من هَم بحسنة فعمِلها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف » .
وجملة { إن الله غفور شكور } تذييل وتعليل للزيادة لقصد تحقيقها بأن الله كثيرة مغفرته لمن يستحقها ، كثير شكره للمتقربين إليه . والمقصود بالتعليل هو وصف الشكور ، وأما وصف الغفور فقد ذكر للإشارة إلى ترغيب المقترفين السيئات في الاستغفار والتوبة ليغفر لهم فلا يقنطوا من رحمة الله .