249- فلما خرج بهم طالوت قال لهم : إن الله مختبركم بنهر تمرُّون عليه في طريقكم فلا تشربوا منه إلا غرفة ، فمن شرب منه أكثر من ذلك فليس من جيشنا ولا من جمعنا لخروجه عن طاعة الله ، ولن يصحبني إلا من لم يشرب منه أكثر من غرفة ، فلم يصبروا على هذا الاختبار وشربوا منه كثيراً إلا جماعة قليلة ، فاصطحب هذه القلة الصابرة واجتاز بها النهر ، فلما ظهرت لهم كثرة عدد عدوهم قالوا : لن نستطيع اليوم قتال جالوت وجنوده لكثرتهم وقلتنا . فقال نفر منهم - ثبت الله قلوبهم لرجائهم في ثواب الله عند لقائه - لا تخافوا فكثيراً ما انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة ، فاصبروا فإن نصر الله يكون للصابرين .
قوله تعالى : { فلما فصل طالوت بالجنود } . أي خرج بهم ، وأصل الفصل : القطع ، يعني قطع مستقره شاخصاً إلى غيره ، فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود ، وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل وقيل : ثمانون ألفاً لم يتخلف عنه إلا كبير لهرمه ، أو مريض لمرضه ، أو معذور لعذره وذلك أنهم لما رأوا التابوت لم يشكو في النصر ، فتسارعوا إلى الجهاد ، فقال طالوت : لا حاجه لي في كل ما أرى ، لا يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه ، ولا صاحب تجارة يشتغل بها ولا رجل عليه دين ، ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ، ولا يتبعني إلا الشباب النشيط الفارغ ، فاجتمع له ثمانون ألفا ممن شرطه ، وكان في حر شديد ، فشكوا قلة الماء بينهم وبين عدوهم فقالوا : إن المياه قليلة لت لا تحملنا ، فادع الله أن يجري لنا نهراً .
قوله تعالى : { قال } . طالوت .
قوله تعالى : { إن الله مبتليكم بنهر } . مختبركم ليرى طاعتكم وهو أعلم . بنهر ، قال ابن عباس والسدي : هو نهر فلسطين ، وقال قتادة . نهر بين الأردن وفلسطين عذب .
قوله تعالى : { فمن شرب منه فليس منه } . أي ليس من أهل ديني وطاعتي .
قوله تعالى : { ومن لم يطعمه } . لم يشربه .
قوله تعالى : { فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } . قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو " غرفة " بفتح الغين ، وقرأ الآخرون بضم الغين ، وهما لغتان ، قال الكسائي : " الغرفة " بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف ، و " الغرفة " : بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر .
قوله تعالى : { فشربوا منه إلا قليلاً منهم } . نصب على الاستثناء ، واختلفوا في القليل الذين لم يشربوا ، فقال السدي : كانوا أربعة آلاف وقال غيره : ثلاثمائة وبضعة عشر ، وهو الصحيح لما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن رجاء أنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزا معه إلا مؤمن ، وهم بضعة عشر وثلاثمائة . وروى ثلاثمائة وثلاثة عشر فلما وصلوا إلى النهر وقد ألقى الله عليهم العطش فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل فمن اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه ، وصح إيمانه وعبر النهر سالماً ، وكفته تلك الغرفة الواحد لشربه وحمله وداوبه والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم ، وغلبهم العطش ، فلم يرووا . وبقوا على شط النهر وجنبوا عن لقاء العدو فلم يجاوزوا ، ولم يشهدوا الفتح . وقيل كلهم جاوزوا ، لكن لم يحضر القتال إلا الذين لم يشربوا .
قوله تعالى : { فلما جاوزه } . يعني النهر .
قوله تعالى : { هو } . يعني طالوت .
قوله تعالى : { والذين آمنوا معه } . يعني القليل .
قوله تعالى : { قالوا } . يعني الذين شربوا وخالفوا أمر الله وكانوا أهل شك ونفاق .
قوله تعالى : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } . وقال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي : فانحرفوا ولم يجاوزوا .
قوله تعالى : { قال الذين يظنون } . يستيقنون .
قوله تعالى : { أنهم ملاقو الله } . وهم الذين ثبتوا مع طالوت .
قوله تعالى : { كم من فئة } . جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه ، وجمعه وفئات ، وفئون في الرفع ، وفئين في الخفض والنصب .
قوله تعالى : { قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } . بقضائه وقدره وإرادته .
ثم بين - سبحانه - ما دار بين طالوت وجنوده فقال : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } .
{ فَصَلَ } بمعنى الفصل . قال الزمخشري : " فصل عن موضع كذا : إذا انفصل عنه وجاوزه . وأصله فصل نفسه . ثم كثر : حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل . وقيل : فصل عن البلد فصولا . ويجوز أن يكون فصله فصلا ، وفصل فصولا كوقف وصد ونحوهما والمعنى انفصل عن بلده . "
و ( النهر ) بالفتح والسكون - : المجرى الواسع الذي يجري فيه الماء مأخوذ من نهر الأرض بمعنى شقها .
أي : فلما انفصل بهم عن المكان الذي كانوا يقيمون فيه ، وتوجهوا معه لقتال جالوت وجنوده ، قال لهم { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } أي مختبركم وممتحنكم بنهر ، وكان طالوت قد سار بهم في أرض قفرة فأصابهم عطش شديد . وفي هذا الابتلايء اختبار لعزيمتهم ، وامتحان لصبرهم على المتاعب حتى يتميز من يصير على الحرب ممن لا يصبر ، ومن شأن القواد الأقوياء العقلاء أنهم يختبرون جنودهم قبل اقتحام المعارك حتى يكونوا على بينة من أمرهم . ثم بين لهم موضع الاختبار فقال . { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ } .
{ يَطْعَمْهُ } أي يذقه من طعم الشيء يطعمه إذا ذاقه مأكولا أو مشروباً .
( الغرفة ) - بالضم - اسم للشيء المغترف وجمعه غراف . وأما الغرفة - بالفتح - فهي اسم للمرأة الواحدة من الغرف وقيل : هما لغتان بمعنى واحد .
أي قال لهم طالوت : من شرب من هذا النهر فليس من شيعتي ، فعليه أن يتركني ولا يصاحبني في خوض هذه المعركة لأنه ثبت ضعفه وخوره ، ومن لم يذقه أصلا فإنه من شيعتي وحزبي الذي سكيون معي في هذه المعركة الخطيرة . ثم أباح لهم أن يغترفوا من النهر غرفة يخففون بها من عطشهم فقال : { إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ } فإنه لا يخرج بذل عن كونه منى .
وفي هذه الجملة الكريمة قدم - سبحانه - جواب الشرط على الاستثناء من الشرط فقد قال { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ } والتأليف المعهود للناس أن يقال : ( ومن لم يطعمه إلا من اغترف بيده فإنه منى ) ولكن الآية الكريمة جاءت بتقديم الجواب على الاستثناء لحكمه بليغه ، وهي المسارعة إلى بيان الحكم ، وإثبات أن أساس الصلة التي تربطهم بنبيهم أن يمتثلوا أمره وألا يشربوا من النهر ، ثم رخص لهم بعد ذلك في الاغتراف باليد غرفة واحدة .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى فقال : فإن قلت : مم استثنى قوله { إِلاَّ مَنِ اغترف } قلت : من قوله : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } والجملة الثانية في حكم المتأخرة إلا أنها قدمت للعناية . . ومعناه : " الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع " .
ثم ختم - سبحانه - ما كان من بني إسرائيل نتيجة لهذا الامتحان فقال : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } .
أي : فشربوا من النهر حتى امتلأت بطونهم مخالفين بذلك أمر قائدهم في وقت تعظم فيه المخالفة لأنه وقت إقدام على الحرب ، إلا عدداً قليلا منهم فإنهم لم يشربوا إلا كما رخص لهم قائدهم . وعلى هذا التفسير - الذي قال به جمهور المفسرين - يكون جميع الذين مع طالوت قد شربوا من النهر إلا أن كثيراً منهم قد شربوا حتى امتلأت بطونهم مخالفين أمر قائدهم ، وقلة منهم شربت غرفة واحدة وهي التي رخص لهم قائدهم في شربها .
وبعض المفسرين يقسم اتباع طالوت ثلاثة أقسام :
قسم شرب كثيراً مخالفاً أمر طالوت .
وقسم شرب غرفة واحدة بيده كما رخص له قائده .
وقسم لم يشرب أصلا لا قليلاً ولا كثيراً مؤثراً العزيمة على الرخصة وهذا القسم هو الذي اعتمد عليه طالوت اعتماداً كبيراً في تناوله لأعدائه .
وممن ذكر هذا التقسيم من المفسرين الإِمام القرطبي فقد قال : " قال ابن عباس : شربوا على قدر يقينهم ، فشرب الكفار شرب الهيم ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً ، وأخذ بعضهم الغرفة ، فأما من شرب فلم يرو بل برح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة " .
ثم بين - سبحانه - ما كان من أتباع طالوت بعد اجتيازهم للنهر معه فقال : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِه } .
أي : فلما جاوز طالوت ومن معه النهر وتخطوه ، وشاهدوا كثرة جند جالوت ، قال بعض الذين مع طالوت لبعض بقلق ووجل : لا قدرة لنا اليوم على محاربة أعدائنا ومقاومتهم فهم أكثر منا عَدداً ، وأوفر عُددا .
والضمير ( هو ) في قوله : { هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ } مؤكد للضمير المستكن في جاوز . والقائلون ، هذا القول هم بعض المؤمنين الذين عبروا معه النهر ، ولم يقولوا ذلك هروباً أو نكوصاً عن القتال ، وإنما قالوه كمظهر من مظاهر الوجل الذي يعتري بعض النفوس عند الاستعداد للقتال ، لأن الذين عصوا الله وخالفوا طالوت بشربهم من النهر جبنوا عن لقاء العدو ولم يسيروا معه لقتالهم . أما المؤمنون الصادقون الذين اتصلت قلوبهم بالله ، والذين أذعنوا أنه لا نصر إلأا منه ولا اعتماد إلا عليه ، فقد حكى القرآن موقفهم المشرف فقال : { قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } .
أي : قال الذين يتيقنون أنهم ملاقوا الله يوم القيامة فيحاسبهم على أعمالهم . قالوا مشجعين لإخوانهم الذين تهيبوا قتال أعدائهم : كم من جماعة قليلة بإيمانها وصبرها تغلبت بإذن الله وتيسيره على جماعة كثيرة بسبب كفرها وجبنها وتفككها ، والله - تعالى - بعونه وتأييده مع الصابرين .
وعلى هذا التفسير يكون المراد بلقاء الله الحشر إليه بعد الموت ، ومجازاة الناس على ما قدموا من عمل ، ويكون المراد بالظن اليقين لأن كل مؤمن متيقن بأن البعث حق .
ويجوز أن يكون المراد بلقاء الله قربهم من رضاه يوم القيامة ، وإثابتهم على جهادهم بالجنة ، وعليه يكون الظن على معناه الحقيقي وهو الاعتقاد الراجح ، لأن خواتيم الحياة لا يعلمها كيف تكون سوى علام الغيوب .
و ( كم ) في قولهم { كَم مِّن فِئَةٍ } خبرية للتكثير ، وفي هذا التعبير الذي حكاه القرآن عنهم دليل على قواه إيمانهم وصفاء نفوسهم وثقتهم في نصر الله ثقة لا تحد ، لأنهم أتوا بصيغة التكثير حتى لكأنما أن القاعدة العامة هي انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة الكافرة .
وفي تعليقهم النصر على إذن الله للإِشعار بأنهم لم يعتمدوا على قوتهم وثباتهم وشجاعتهم فحسب وإنما جعلوا اعتمادهم الأكبر على تأييد الله لهم . وهذا شأن العقلاء يبذلون أقصى جهدهم في بلوغ غايتهم مستعينين على ذلك بتأييد الله وتوفيقه .
ورحم الله الإِمام القرطبي الذي عاصر دول الإِسلام في الأندلس وهي تسير في طريق الضعف والتدهور فقد قال في ختام تفسيره لهذه الآية : قلت : هكذا يجب علينا أن نفعل ؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة ، منعت من ذلك حتى انكسر العدد الكبير منا أمام اليسير من العدو وكما شاهدناه غير مرة ، وذلك بما كسبت أيدينا ! وفي البخاري : وقال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم . وفي البخاري - أيضاً - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل ، والاعتماد ضعيف ، والتقوى زائلة ! ! قال - تعالى - : { اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله } وقال + : { وَعَلَى الله فتوكلوا } وقال : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } وقال : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } وقال : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا " .
ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد ، ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق . . والسياق القرآني على طريقته في سياقة القصص يترك هنا فجوة بين المشهدين . فيعرض المشهد التالي مباشرة وطالوت خارج بالجنود :
( فلما فصل طالوت بالجنود قال : إن الله مبتليكم بنهر . فمن شرب منه فليس مني ، ومن لم يطعمه فإنه مني - إلا من اغترف غرفة بيده . فشربوا منه إلا قليلا منهم ) . .
هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل . . إنه مقدم على معركة ؛ ومعه جيش من أمة مغلوبة ، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة . وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة . هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة . الإرداة التي تضبط الشهوات والنزوات ، وتصمد للحرمان والمشاق ، وتستعلي على الضرورات والحاجات ، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها ، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء . . فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه ، وصموده وصبره : صموده أولا للرغبات والشهوات ، وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب . . واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش . ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه ، ويؤثر العافية . . وصحت فراسته :
( فشربوا منه إلا قليلا منهم ) . .
شربوا وارتووا . فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده ، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف ! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم . انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم . وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف ، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة . والجيوش ليست بالعدد الضخم ، ولكن بالقلب الصامد ، والإرادة الجازمة ، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق .
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي ؛ ولا بد من التجربة العملية ، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها . ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى . . بل مضى في طريقه .
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت - إلى حد - ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد :
( فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) . .
لقد صاروا قلة . وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته : بقيادة جالوت . إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم . ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته . إنها التجربة الحاسمة . تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور . وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم ، فاتصلت بالله قلوبهم ؛ وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم ، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم !
وهنا برزت الفئة المؤمنة . الفئة القليلة المختارة . والفئة ذات الموازين الربانية :
( قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله . والله مع الصابرين ) . .
هكذا . ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ) . . بهذا التكثير . فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله . القاعدة : أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار . ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى ؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة . قوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده ، محطم الجبارين ، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين .
وهم يكلون هذا النصر لله : ( بإذن الله ) . . ويعللونه بعلته الحقيقية : ( والله مع الصابرين ) فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل . .
{ فَلَمّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنّهُ مِنّيَ إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مّنْهُمْ فَلَمّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُمْ مُلاَقُواْ اللّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ }
وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره . ومعنى الكلام : إن في ذلك لاَية لكم إن كنتم مؤمنين ، فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم ، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ، فصدقوا عند ذلك نبيهم ، وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم ، وأذعنوا له بذلك . يدل على ذلك قوله : فَلَمّا فَصلَ طالُوتُ بالجُنُودِ وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له ، لأنه لم يكن ممن يقدرون على إكراههم على ذلك فيظنّ به أنه حملهم على ذلك كرها .
وأما قوله : فَصَلَ فإنه يعني به شخص بالجند ورحل بهم . وأصل الفصل : القطع ، يقال منه : فصل الرجل من موضع كذا وكذا ، يعني به قطع ذلك ، فجاوزه شاخصا إلى غيره ، يفصل فصولاً وفصل العظم والقول من غيره فهو يفصله فصلاً : إذا قطعه فأبانه وفصل الصبيّ فصالاً : إذا قطعه عن اللبن وقول فصل : يقطع فيفرق بين الحقّ والباطل لا يردّ . وقيل : إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل ، لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته ، أو كبير لهرمه ، أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : خرج بهم طالوت حين استوسقوا له ، ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة ، أو ضرير معذور ، أو رجل في ضيعة لا بدّ له من تخلف فيها .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوّة شمعون ، وسلموا ملك طالوت ، فخرجوا معه ، وهم ثمانون ألفا .
قال أبو جعفر : فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا قال : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ يقول : إن الله مختبركم بنهر ، ليعلم كيف طاعتكم له .
وقد دللنا على أن معنى الابتلاء : الاختبار فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قول الله تعالى : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ قال : إن الله يبتلي خلقه بما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه .
وقيل : إن طالوت قال : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوّهم ، وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوّهم نهرا ، فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما فصل طالوت بالجنود ، قالوا : إن المياه لا تحملنا ، فادع الله لنا يجري لنا نهرا فقال لهم طالوت : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ . . . الآية .
والنهر الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به قيل : هو نهر بين الأردنّ وفلسطين . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ قال الربيع : ذكر لنا والله أعلم أنه نهر بين الأردنّ وفلسطين .
4حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ قال : ذكر لنا أنه نهر بين الأردنّ وفلسطين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ قال : هو نهر بين الأردنّ وفلسطين .
4حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس : فَلَمّا فَصَل طَالُوتَ بِالجُنُودِ غازيا إلى جالوت ، قال طالوت لبني إسرائيل : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ قال : نهر بين فلسطين والأردنّ ، نهر عذب الماء طيبه .
وقال آخرون : بل هو نهر فلسطين . ذكر من قال ذلك :
4حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل نهر فلسطين .
4حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ هو نهر فلسطين .
وأما قوله : فمَنْ شَربَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْه فإنّهُ مِنّي إلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن طالوت أنه قال لجنوده إذ شكوا إليه العطش ، فأخبر أن الله مبتليهم بنهر ، ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر ، هو أن من شرب من مائه فليس هو منه ، يعني بذلك أنه ليس من أهل ولايته وطاعته ، ولا من المؤمنين بالله وبلقائه . ويدلّ على أن ذلك كذلك قول الله تعالى ذكره : فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا . ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوّهم من جالوت وجنوده بقوله : قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ وأخبرهم أنه من لم يطعمه ، يعني من لم يطعم الماء من ذلك النهر والهاء في قوله : فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ وفي قوله : وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ عائدة على النهر ، والمعنى لمائه . وإنما ترك ذكر الماء اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك أن المراد به الماء الذي فيه ومعنى قوله : لَمْ يَطْعَمْهُ لم يذقه ، يعني : ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني ، يقول : هو من أهل ولايتي وطاعتي والمؤمنين بالله وبلقائه . ثم استثنى من قوله : ومَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ المغترفين بأيديهم غرفة ، فقال : ومن لم يطعم ماء ذلك النهر إلا غرفة يغترفها بيده فإنه مني .
ثم اختلفت القرّاء في قراءة قوله : إلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فقرأه عامة قراء أهل المدينة والبصرة : «غَرْفَةً » بنصب الغين من الغرفة ، بمعنى الغرفة الواحدة ، من قولك : اغترفت غَرفة ، والغَرْفَة هي الفعل بعينه من الاغتراف . وقرأه آخرون بالضم ، بمعنى : الماء الذي يصير في كفّ المغترف ، فالغُرْفة الاسم ، والغَرْفة المصدر . وأعجب القراءتين في ذلك إليّ ضمّ الغين في الغرفة بمعنى : إلا من اغترف كفا من ماء ، لاختلاف غرفة إذا فتحت غينها ، وما هي له مصدر وذلك أن مصدر اغترف اغترافة ، وإنما غَرْفة مصدر غَرَفْت ، فلما كانت غَرفة مخالفة مصدر اغترف ، كانت الغُرفة التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا أشبه منها بالغَرفة التي هي بمعنى الفعل وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء ، فكان من شرب منه عطش ، ومن اغترف غُرفة روي . ذكر من قال ذلك :
4حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ومَنْ لمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّي إلاّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَربُوا مِنْهُ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فشرب القوم على قدر يقينهم . أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون ، وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتَجزيه وتُرويه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ومَنْ لمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّي إلاّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قال : كان الكفار يشربون فلا يروون ، وكان المسلمون يغترفون غُرفة ، فيجزيهم ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ومَنْ لمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّي إلاّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَربُوا مِنْهُ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ يعني المؤمنين منهم ، وكان القوم كثيرا فشربوا منه إلا قليلاً منهم ، يعني المؤمنين منهم كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت ، آمنوا بنبوّة شمعون ، وسلموا ملك طالوت ، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا . وكان جالوت من أعظم الناس ، وأشدّهم بأسا ، فخرج يسير بين يدي الجند ، ولا تجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي . فلما خرجوا قال لهم طالوت : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ومَنْ لمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّي فشربوا منه هيبة من جالوت ، فعبر منهم أربعة آلاف ، ورجع ستة وسبعون ألفا . فمن شرب منه عطش ، ومن لم يشرب منه إلا غُرفة روي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود ، فقال : لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد فلم يتخلف عنه مؤمن ، ولم يتبعه منافق فلما رأى قلتهم ، قالوا : لن نمسّ من هذا الماء غرفة ولا غيرها وذلك أنه قال لهم : إنّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ . . . الآية . فقالوا : لن نمسّ من هذا غرفة ولا غير غرفة قال : وأخذ البقية الغرفة ، فشربوا منها حتى كفتهم ، وفضل منهم . قال : والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله : فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ومَنْ لمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّي إلاّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه ، فمن اغترف غرفة وأطاعه روي بطاعته ، ومن شرب فأكثر عصى فلم يَرْو لمعصيته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في حديث ذكره ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه في قوله : فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي ومَنْ لمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّي إلاّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ يقول الله تعالى ذكره : فَشَربُوا مِنْهُ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ . وكان فيما يزعمون من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه ، ومن لم يطعمه إلا كما أمر غرفة بيده أجزأه وكفاه .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ، قالُوا لا طاقَةَ لَنا اليَوْم بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ .
يعني تعالى ذكره بقوله : فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ فلما جاوز النهر طالوت . والهاء في «جاوزه » عائدة على النهر ، وهو كناية اسم طالوت . وقوله : وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يعني : وجاوز النهر معه الذين آمنوا . قالُوا لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ .
ثم اختلف في عدّة من جاوز النهر معه يومئذ ومن قال منهم لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، فقال بعضهم : كانت عدتهم عدة أهل بدر ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قالا جميعا : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : كنا نتحدّث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه ، ولم يجز معه إلا مؤمن ، ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء ، قال : كنا نتحدّث أن أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت ثلثمائة رجل وثلاثة عشر رجلاً الذين جاوزوا النهر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كنا نتحدث أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً على عدة أصحاب طالوت من جاز معه ، وما جاز معه إلا مؤمن .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كنا نتحدّث أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر ، وما جاوز معه إلا مسلم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مسعر ، عن أبي إسحاق ، عن البراء مثله .
4حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : «أنْتُمْ بِعَدّةِ أصَحابِ طالُوتَ يَوْم لَقي » ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً .
4حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : محّص الله الذين آمنوا عند النهر وكانوا ثلثمائة ، وفوق العشرة ، ودون العشرين ، فجاء داود صلى الله عليه وسلم فأكمل به العدّة .
وقال آخرون : بل جاوز معه النهر أربعة آلاف ، وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق حين لقوا جالوت . ذكر من قال ذلك :
4حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف ، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضا وقالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، وخلص في ثلثمائة وبضعة عشر عدّة أهل بدر .
4حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : لما جاوزه هو والذين آمنوا معه ، قال الذين شربوا : لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ .
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، ما روي عن ابن عباس وقاله السدي وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة ، والكافر الذي شرب منه الكثير . ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه ، وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق ، وهم الذين قالوا : لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم ، وهم أهل الثبات على الإيمان ، فقالوا : كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ واللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ .
فإن ظنّ ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم ، ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة ، لأن الله تعالى ذكره قال : فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان ، على ما رُوي به الخبر عن البراء بن عازب ، ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان لما خصّ الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ . وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان ، أعنى فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر ، وأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، عن المؤمنين بالمجاوزة ، لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر ، وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين . والذي يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك قول الله تعالى ذكره : فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنا اليَوْم بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الّذِين يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ فأوجب الله تعالى ذكره أن الذين يظنون أنهم ملاقو الله هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر : كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله ، وأن الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله هم الذين قالوا : لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله أو شكّ فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : قالُوا لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةِ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ .
اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين ، أعني القائلين : لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ والقائلين : كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ من هما . فقال بعضهم : الفريق الذين قالوا : لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ هم أهل كفر بالله ونفاق ، وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده ، لأنهم انصرفوا عن طالوت ، ومن ثبت معه لقتال عدوّ الله جالوت ومن معه ، وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي بذلك وهو قول ابن عباس . وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ الذين اغترفوا وأطاعوا الذين مضوا مع طالوت المؤمنون ، وجلس الذين شكوا .
وقال آخرون : كلا الفريقين كان أهل إيمان ، ولم يكن منهم أحد شرب من المَاء إلا غُرفة ، بل كانوا جميعا أهل طاعة ، ولكن بعضهم كان أصحّ يقينا من بعض ، وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا : كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ والاَخرون كانوا أضعف يقينا ، وهم الذين قالُوا : لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةِ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ ويكون المؤمنون بعضهم أفضل جدّا وعزما من بعض ، وهم مؤمنون كلهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ أن النبيّ قال لأصحابه يوم بدر : «أنتم بعدّة أصحاب طالوت ثلثمائة » قال قتادة : وكان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا ، وهم الذين قالوا : كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ اللّهِ واللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ .
ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب أنه لم يجاوز النهر مع طالوت إلا عدة أصحاب بدر أن يكون كلا الفريقين اللذين وصفهما الله بما وصفهما به أمرهما على نحو ما قال فيهما قتادة وابن زيد .
وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس والسدي وابن جريج . وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا .
وأما تأويل قوله : قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ فإنه يعني : قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقوا الله .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ الذين يستيقنون . فتأويل الكلام : قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدّقون بالمرجع إلى الله للذين قالوا : لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ كَمْ مِنْ فِئَةِ قَلِيلَةٍ يعني بكَمْ كثيرا غلبت فئة قليلة فئة كثيرة بإذن الله ، يعني : بقضاء الله وقدره . وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِين يقول : مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته . وقد أتينا على البيان عن وجوه الظنّ وأن أحد معانيه العلم اليقين بما يدلّ على صحة ذلك فيما مضى ، فكرهنا إعادته .
وأما الفئة فإنهم الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه ، وهو مثل الرهط والنفر جمعه فئات وفئون في الرفع ، وفئين في النصب والخفض بفتح نونها في كل حال ، وفئينٌ بالرفع بإعراب نونها بالرفع ، وترك الياء فيها ، وفي النصب فئينا ، وفي الخفض فئينٍ ، فيكون الإعراب في الخفض والنصب في نونها ، وفي كل ذلك مقرّة فيها الياء على حالها ، فإن أضيفت ، قيل : هؤلاء فَئِينُكَ بإقرار النون وحذف التنوين ، كما قال الذين لغتهم هذه سنينٌ في جمع السنة هذه سنينك بإثبات النون وإعرابها ، وحذف التنوين منها للإضافة ، وكذلك العمل في كل منقوص ، مثل مائة وثبة وقلة وعزة ، فأما ما كان نقصه من أوله فإن جمعه بالتاء مثل عدة وعدات وصلة وصلات .
وأما قوله : وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ فإنه يعني : والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته ، وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادّين عن سبيله ، المخالفين منهاج دينه . وكذلك يقال لكل معين رجلاً على غيره هو معه بمعنى هو معه بالعون له والنصرة .
{ فلما فصل طالوت بالجنود } انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة ، وأصله فصل نفسه عنه ولكن لم اكثر حذف مفعوله صار كاللازم . روي : أنه قال لهم لا يخرج معي إلا الشاب النشيط الفارغ ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا ، وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازه وسألوه أن يجري الله لهم نهرا . { قال إن الله مبتليكم بنهر } معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه . { فمن شرب منه فليس مني } فليس من أشياعي ، أو ليس بمتحد معي . { ومن لم يطعمه فإنه مني } أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا قال الشاعر : وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا . وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبيا كما قيل ، أو بإخبار النبي عليه الصلاة والسلام . { إلا من اغترف غرفة بيده } استثناء من قوله فمن شرب منه ، وإنما قدمت عليه الجملة الثانية للعناية بها كما قدم والصائبون على الخبر في قوله : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير ، وقرأ ابن عامر والكوفيون { غرفة } بضم الغين . { فشربوا منه إلا قليلا منهم } أي فكرعوا فيه إذ الأصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط ، وتعميم الأول ليتصل الاستثناء ، أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلا منهم . وقرئ بالرفع حملا على المعنى فإن قوله { فشربوا منه } في معنى فلم يطيعوه والقليل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا . وقيل ثلاثة آلاف . وقيل : ألفا روي أن من اقتصر على الغرفة كفته لشربه وإداوته ، ومن لم يقتصر غلب عليه واسودت شفته ولم يقدر أن يمضي وهكذا الدنيا لقاصد الآخرة . { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } أي القليل الذين لم يخالفوه . { قالوا } أي بعضهم لبعض . { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لكثرتهم وقوتهم . { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } أي قال الخلص منهم الذين تيقنوا لقاء الله وتوقعوا ثوابه ، أو علموا أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله تعالى . وقيل : هم القليل الذين ثبتوا معه ، والضمير في { قالوا } للكثير المنخذلين عنه اعتذارا في التخلف وتخذيلا للقليل ، وكأنهم تقاولوا به والنهر بينهما . { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } بحكمه وتيسيره ، و{ كم } تحتمل الخبر والاستفهام ، و{ من } مبينة أو مزيدة . والفئة الفرقة من الناس من فأوت رأسه إذا شققته ، أو من فاء رجع فوزنها فعة أو فلة . { والله مع الصابرين } بالنصر والإثابة .
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ }
قبل هذه الآية متروك من اللفظ يدل معنى ما ذكر عليه ، وهو فاتفق بنو إسرائيل على طالوت ملكاً وأذعنوا وتهيؤوا لغزوهم عدوهم فلما فصل ، و { فصل } معناه خرج بهم من القطر ، وفصل حال السفر من حال الإقامة( {[2393]} ) ، قال السدي وغيره : كانوا ثمانين ألفاً .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولا محالة أنهم كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان ، وقال وهب بن منبه : ولم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض .
واختلف المفسرون في النهر ، فقال وهب بن منبه : لما فصل طالوت قالوا له إن المياه لا تحملنا( {[2394]} ) فادع الله يجر لنا نهراً ، فقال لهم طالوت { إن الله مبتليكم } الآية ، وقال قتادة : النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين ، وقاله ابن عباس ، وقال أيضاً هو السدي ، النهر نهر فلسطين ، وقرأ جمهور القراء «بنهَر » بفتح الهاء ، وقرأ مجاهد وحميد الأعرج وأبو السمال وغيرهم «بنهْر » بإسكان الهاء في جميع القرآن ، ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم ، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع فيما عدا ذلك ، ومن غلب شهوته في الماء وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى ، وروي أنهم أتوا النهر وهم قد نالهم عطش وهو غاية العذوبة ، والحسن ، ولذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع ، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال إلى الاغتراف بالأيدي لنظافته ، وسهولته ، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الأكف انظف الآنية( {[2395]} ) . ومنه قول الحسن رحمه الله : [ البسيط ] .
لاَ يَدْلِفُونَ إلى مَاءٍ بآنِيةٍ . . . إلاَّ اغترافاً مِنَ الغُدْرانِ بِالرَّاحِ( {[2396]} )
وظاهر قول طالوت { إن الله مبتليكم } هو أن ذلك بوحي إلى النبي وإخبار من النبي لطالوت ، ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه فجرب به جنده ، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم ، وهذه النزعة واجب أن تقع من كل متولي حرب ، فليس يحارب إلاّ بالجند المطيع ، ومنه قول معاوية : «عليّ في أخبث جند وأعصاه وأنا في أصح جند وأطوعه » ، ومنه قول علي رضي الله عنه : «أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان » ، وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين هممهم في غير الرفاهية ، كما قال عروة( {[2397]} ) : [ الطويل ]
وَأَحسوا قَرَاحَ الْمَاءِ والْمَاءُ بَارِد . . . فيشبه أن طالوت أراد تجربة القوم ، وقد ذهب قوم إلى عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم ، لكنه حمله مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم( {[2398]} ) .
وقوله : { فليس مني } أي ليس من أصحابي في هذه الحرب ، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان ، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من غشنا فليس منا ، ومن رمانا بالنبل فليس منا ، وليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود »( {[2399]} ) ، وفي قوله تعالى : { ومن لم يطعمه } سد للذرائع لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم( {[2400]} ) ، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم . ولهذه المبالغات لم يأت الكلام ، ومن لم يشرب منه( {[2401]} ) . وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير «غَرفة » بفتح الغين . وهذا على تعدية الفعل إلى المصدر . والمفعول محذوف ، والمعنى إلا من اغترف ماء غرفة ، وقرأ الباقون «غُرفة » بضم الغين وهذا على تعدية الفعل إلى المفعول به ، لأن الغرفة هي العين المغترفة . فهذا بمنزلة إلاَّ من إغترف ماء ، وكان أبو علي يرجح ضم الغين ، ورجحه الطبري أيضاً من جهة أن «غَرفة » بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف( {[2402]} ) ، ثم أخبر تعالى عنهم أن الأكثر شرب وخالف ما أريد منه ، وروي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن القوم شربوا على قدر يقينهم . فشرب الكفار شرب الهيم ، وشرب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفاً ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً ، وأخذ بعضهم الغرفة ، فأما من شرب فلم يرو ، بل برَّح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }
«جاوز » فاعل من جاز ويجوز . وهي مفاعلة من اثنين في كل موضع . لأن النهر وما أشبهه كأنه يجاوز . واختلف الناس في { الذين آمنوا معه } كم كانوا ؟ فقال البراء بن عازب : كنا نتحدث ان عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، وفي رواية : وثلاثة عشر رجلاً ، وما جاوز معه إلا مؤمن( {[2403]} ) ، وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : «أنتم كعدة أصحاب طالوت »( {[2404]} ) ، وقال السدي وابن عباس : بل جاوز معه أربعة آلاف رجل ، قال ابن عباس : فيهم من شرب ، قالا : فلما نظروا إلى جالوت وجنوده قالوا : لا طاقة لنا اليوم ، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، هذا نص قول السدي ومعنى قول ابن عباس ، فعلى القول الأول( {[2405]} ) قالت الجملة : { لا طاقة لنا اليوم } ، على جهة استكثارا العدو .
فقال أهل الصلابة منهم والتصميم والاستماتة : { كم من فئة قليلة } الآية ، وظن لقاء الله على هذا القول يحسن أن يكون ظناً على بابه ، أي يظنون أنهم يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال ، كما جرى لعبد الله بن حرام في يوم أحد ، ولغيره ، وعلى القول الثاني( {[2406]} ) قال كثير من الأربعة الآلاف : لا طاقة لنا على جهة الفشل والفزع من الموت ، وانصرفوا عن طالوت ، فقال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله وهم عدة أهل بدر : { كم من فئة قليلة } والظن على هذا بمعنى اليقين ، وهو فيما لم يقع بعد ولا خرج إلى الحس .
قال القاضي أبو محمد : وما روي عن ابن عباس من أن في الأربعة الآلاف من شرب يرد عليه قوله تعالى : { هو والذين آمنوا معه } ، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلا غرفة ومن لم يشرب جملة ، ثم كانت بصائر هؤلاء مختلفة ، فبعض كع وقليل صمم ، وقرأ أبي بن كعب «كأين من فئة »( {[2407]} ) ، والفئة الجماعة التي يرجع إليها في الشدائد ، من قولهم : فاء يفيء إذا رجع ، وقد يكون الرجل الواحد فئة تشبيهاً ، والملك فئة الناس ، والجبل فئة ، والحصن ، كل ذلك تشبيه( {[2408]} ) ، وفي قولهم رضي الله عنهم : { كم من فئة } الآية ، تحريض بالمثال وحض واستشعار للصبر ، واقتداء بمن صدق ربه ، { وإذن الله } هنا( {[2409]} ) تمكينه وعلمه ، فمجموع ذلك هو الإذن ، { والله مع الصابرين } بنصره وتأييده .