سورة مكية نزلت بعد سورة إبراهيم ، وآياتها 112 آية ، وهي تبين قرب الساعة ، مع غفلة المشركين عنها . وقد ادعوا أن الرسول لا يكون بشرا ، وقالوا مرة عن القرآن سحر ، ومرة شعر ، ومرة أضغاث أحلام . والنذر بين أيديهم قائمة ، وما كان الرسل إلا رجالا مثل محمد صلي الله عليه وسلم وأن السابقين قبلهم كذبوا كما كذبت قريش فدمر فقصم الله قراهم ، وهو القادر علي الإهلاك والإبقاء ، وله كل ما في السماوات والأرض ، والملائكة في معارجهم يسبحون الله تعالي ولا يفترون ، وإن صلاح السماوات والأرض دليل علي أن منشيءهما واحد ، فلو شاركه أحد لفسدتا ، والرسل جميعا جاءت بعبادة الله وحده ليس له ولد . ولا يقول أحد إن إلها آخر مع الله وإلا فجزاؤه جهنم . وبين سبحانه شأن عظمة خلقه وعجائب التكوين في السماوات والأرض ، وبين حال المشركين والكافرين ، ونبه سبحانه وتعالي إلي حفظ الله تعالي للناس ، وأشار سبحانه إلي ما يكون مكن جزاء يوم القيامة للكافرين . وذكر قصة موسى وهارون مع فرعون ، وقصة إبراهيم مع قومه وإنعامه عليه بالذرية الطيبة ، وذكر سبحانه قصة لوط وقومه وهلاكهم ، وقصة نوح عليه السلام وكفر قومه ، وإبادتهم إلا من آمن ، ثم أشار سبحانه وتعالي إلي قصص سليمان ، وداود ، وأيوب ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون ، وزكريا ، ومريم وابنها عيسى ، وتحدث عن يأجوج ومأجوج ، وبين سبحانه العمل الصالح وثمرته ، وما يجازى به الذين اتقوا وأحسنوا وحالهم يوم القيامة ، ورحمة الله في الرسالة المحمدية ، وإنذار الله للمشركين ، وأن الأمر له يحكم وهو خير الحاكمين .
1- دنا للمشركين وقت حسابهم يوم القيامة ، وهم غافلون عن هوله ، معرضون عن الإيمان به .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فهذا تفسير تحليلي لسورة ( الأنبياء ) وأسأل الله –تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده وشفيعا لنا يوم نلقاه . ( يوم لا ينفع مال ولا بنون . إلا من أتى الله بقلب سليم ) .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1- سورة الأنبياء ، من السور المكية . وعدد آياتها اثنتا عشرة ومائة عند الكوفيين .
وعند غيرهم إحدى إحدى عشرة آية ومائة . وكان نزولها بعد سورة إبراهيم .
قال الآلوسي : وهي سورة عظيمة ، فيها موعظة فخيمة ، فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرمه عامر ، وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه . وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك .
فقال عامر : لا حاجة لي في ذلك ، فقد نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا .
ثم قرأ : [ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . . ]( {[1]} ) .
2- وعندما نقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، نراها في مطلعها تسوق لنا ما يهز القلوب ، ويحملها على الاستعداد لاستقبال يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح ، ويزجرها عن الغفلة والإعراض .
قال –تعالى- : [ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . . ] .
3- ثم تحكي السورة بعد ذلك ألوانا من الشبهات التي أثارها المشركون حول الرسول صلى الله عليه وسلم وحول دعوته ، وردت عليهم بما يبطل شبهاتهم وأقوالهم ، فقال –تعالى- : [ بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه ، بل هو شاعر ، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون* ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون* وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون* وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ] .
4- ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك أدلة متعددة على وحدانية الله –تعالى- وعلى شمول قدرته . منها قوله –عز وجل- : [ أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون* لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون* لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ] .
وقوله –سبحانه- : [ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ، وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون* وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم* وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون* وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ] .
5- وبعد أن ذكرت السورة ألوانا من نعم الله على خلقه ، وحكت جانبا من تصرفات المشركين السيئة مع النبي صلى الله عليه وسلم أتبعت ذلك بتسليته صلى الله عليه وسلم عما قالوه في شأنه .
قال –تعالى- : [ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ] .
6- ثم عرضت السورة الكريمة جانبا من قصص بعض الأنبياء ، تارة على سبيل الإجمال ، وتارة بشيء من التفصيل ، فتحدثت عن موسى وهارون ، وعن إبراهيم ولوط ، وعن إسحاق ويعقوب ، وعن نوح وأيوب ، وعن داود وسليمان ، وعن إسماعيل وإدريس ، وعن يونس وزكريا .
وفي نهاية حديثها عنهم –صلوات الله وسلامه عليهم- عقبت بالمقصود الأساسي من رسالتهم ، وهو دعوة الناس جميعا إلى إخلاص العبادة لله –تعالى- ، وأنهم جميعا قد جاءوا برسالة واحدة في جوهرها ، فقال –تعالى- : [ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ] .
7- ثم تحدثت في أواخرها عن أشراط الساعة ، وعن أهوالها ، وعن أحوال الناس فيها .
قال –تعالى- : [ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون* واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ، يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ] .
8- ثم ختم –سبحانه- سورة الأنبياء بالحديث عن سنة من سننه التي لا تتخلف ، وعن رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم وعن موقفه من أعدائه ، فقال –تعالى- :
[ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون* إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين* وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين* قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون* فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء ، وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون* إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون* وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين* قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ] .
وبعد : فهذا عرض إجمالي لسورة الأنبياء ، ومنه نرى أنها قد أقامت ألوانا من الأدلة على وحدانية الله –تعالى- ، وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن يوم القيامة حق . . .
كما حكت شبهات المشركين وردت عليها بما يبطلها ، كما ساقت نماذج متعددة من قصص الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام .
ونسأل الله –تعالى- أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
قوله - سبحانه - : { اقترب } من القرب الذى هو ضد البعد .
والمعنى : قرب الزمن الذى يحاسب فيه الناس على أعمالهم فى الدنيا ، والحال أن الكافرين منهم فى غفلة تامة عن هذا الحساب ، وفى إعراض مستمر عن الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح .
قال الإمام ابن كثير : هذا تنبيه من الله - عز وجل - على اقتراب الساعة ودنوها ، وأن الناس فى غفلة عنها ، أى لا يعملون لها ، ولا يستعدون من أجلها .
قال - تعالى - : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } وقال : { اقتربت الساعة وانشق القمر وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } وعبر سبحانه - بالقرب مع أنه قد مضى على نزول هذه الآية وأمثالها أكثر من أربعة عشر قرنا ، لأن كل آت وإن طالت أوقات استقباله وترقبه ، قريب الوقوع ، ولأن ذلك الوقت وإن كان كبيرا فى عرف الناس ، إلا أنه عند الله - تعالى - قليل ، كما قال - سبحانه - : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وقال - تعالى - : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } وقال - تعالى - : { اقترب لِلنَّاسِ . . . } بلفظ العموم ، مع أن ما بعده من ألفاظ الغفلة والإعراض يشعر بأن المراد بهم الكافرون ، للتنبيه على أن الحساب سيشمل الجميع ، إلا أنه بالنسبة للكافرين سيكون حسابا عسيرا .
قال صاحب الكشاف : وصفهم بالغفلة مع الإعراض ، على معنى : أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون فى عاقبتهم ، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم ، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسىء . وإذا قرعت لهم العصا ، ونبهوا عن سنة الغفلة ، وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر ، أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا .
وفى التعبير عن اقتراب يوم القيامة باقتراب الحساب ، زيادة فى الترهيب والتخويف ، وفى الحض على الاستعداد لهذا اليوم ، لأنه يوم يحاسب فيه الناس على أعمالهم فى الدنيا حسابا دقيقا ، ولن تملك فيه نفس لنفس شيئا ، وإنما يجازى فيه كل إنسان بحسب عمله .
بِسمِ اللّهِ الرحمَن الرّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى : { اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مّعْرِضُونَ } .
يقول تعالى ذكره : دنا حساب الناس على أعمالهم التي عملوها في دنياهم ونعمهم التي أنعمها عليهم فيها في أبدانهم ، أجسامهم ، ومطاعمهم ، ومشاربهم ، وملابسهم وغير ذلك من نعمه عندهم ، ومسئلته إياهم ماذا عملوا فيها وهل أطاعوه فيها ، فانتهوا إلى أمره ونهيه في جميعها ، أم عصوه فخالفوا أمره فيها ؟ وَهُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ يقول : وهم في الدنيا عما الله فاعل بهم من ذلك يوم القيامة ، وعن دنوّ محاسبته إياهم منهم ، واقترابه لهم في سهو وغفلة ، وقد أعرضوا عن ذلك ، فتركوا الفكر فيه والاستعداد له والتأهب ، جهلاً منهم بما هم لاقوه عند ذلك من عظيم البلاء وشديد الأهوال .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ قال أهل التأويل ، وجاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : ثني أبو معاوية ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ قال : «في الدنيا »
{ بسم الله الرحمن الرحيم } { اقترب للناس حسابهم } بالإضافة إلى ما مضى أو ما عند الله لقوله تعالى { إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا } وقوله { ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } أو لأن كل ما هو آت قريب وإنما البعيد ما انقرض ومضى ، واللام صلة ل { اقترب } أو تأكيد للإضافة وأصله اقترب حساب الناس ثم اقترب للناس الحساب ثم اقترب للناس حسابهم ، وخص الناس بالكفار لتقييدهم بقوله : { وهم في غفلة } أي في غفلة عن الحساب . { معرضون } عن التفكر فيه وهما خبران للضمير ، ويجوز أن يكون الظرف حالا من المستكن في { معرضون } .
سورة الأنبياء هذه السورة مكية بإجماع وكان عبد الله بن مسعود يقول : الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهي من تلادي{[1]} يريد من قديم ما كسبت وحفظت من القرآن كالمال التلاد{[2]} .
روي أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يبني جداراً فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة فقال الذي كان يبني الجدار ماذا نزل اليوم من القرآن ؟ فقال الآخر نزل اليوم { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون } فنفض يده من البنيان وقال والله لا بنيت أبداً وقد اقترب الحساب ، وقوله تعالى : { اقترب للناس حسابهم } عام في جميع الناس ، المعنى وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش ويدل على ذلك ما بعد من الآيات ، وقوله { وهم في غفلة معرضون } يريد الكفار .
قال القاضي أبو محمد : ويتجه من هذه الألفاظ على العصاة من المؤمنين قسطهم .
سماها السلف ( سورة الأنبياء ) . ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : بنو إسرائيل ، والكهف ، ومريم ، طه ، والأنبياء ، هن من العتاق الأول وهن من تلادي . ولا يعرف لها اسم غير هذا .
ووجه تسميتها سورة الأنبياء أنها ذكر فيها أسماء ستة عشر نبيا ومريم ولم يأت في سورة القرآن مثل هذا العدد من أسماء الأنبياء في سورة من سور القرآن عدا ما في سورة الأنعام . فقد ذكر فيها أسماء ثمانية عشر نبيا في قوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } إلى قوله : { ويونس ولوطا } فإن كانت سورة الأنبياء هذه نزلت قبل سورة الأنعام فقد سبقت بالتسمية بالإضافة إلى الأنبياء ، وإلا فاختصاص سورة الأنعام بذكر أحكام الأنعام أوجب تسميتها بذلك الاسم فكانت سورة الأنبياء أجدر من بقية سور القرآن بهذه التسمية ، على أن من الحقائق المسلمة أن وجه التسمية لا يوجبها .
وهي مكية بالاتفاق . وحكي ابن عطية والقرطبي الإجماع على ذلك ونقل السيوطي في الإتقان استثناء قوله تعالى : { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون } ، ولم يعزه إلى قائل . ولعله أخذه من رواية عن مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن المعنى ننقصها بفتح البلدان ، أي بناء على أن المراد من الرؤية في الآية الرؤية البصرية ، وأن المراد من الأرض أرض الحجاز ، وأن المراد من النقص نقص سلطان الشرك منها . وكل ذلك ليس بالمتعين ولا بالراجح . وسيأتي بيانه في موضعه . وقد تقدم بيانه في نظيرها من سورة الرعد التي هي أيضا مكية بالأرجح أن سورة الأنبياء مكية كلها .
وهي السورة الحادية والسبعون في ترتيب النزول نزلت بعد حم السجدة وقبل سورة النحل ، فتكون من أواخر السور النازلة قبل الهجرة . ولعلها نزلت بعد إسلام من أسلم من أهل المدينة كما يقتضيه قوله تعالى : { وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } ، كما سيأتي بيانه ، غير أن ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس أن قوله تعالى في سورة الزخرف : { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } ، أن المراد بضرب المثل هو المثل الذي ضربه ابن الزبعري لما نزل قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } كما يأتي يقتضي أن سورة الأنبياء نزلت قبل سورة الزخرف . وقد عدت الزخرف ثانية وستين في النزول .
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة مائة وإحدى عشر وفي عد أهل الكوفة مائة واثنتا عشرة .
والأغراض التي ذكرت في هذه السور هي : الإنذار بالبعث ، وتحقيق وقوعه وإنه لتحقق وقوعه كان قريبا .
وإقامة الحجة عليه بخلق السماوات والأرض عن عدم وخلق الموجودات من السماء .
التحذير من التكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله .
والتذكير بأن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا كأمثاله من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاء به الرسل من قبله .
وذكر كثير من أخبار الرسل عليهم السلام .
والتنويه بشأن القرآن وأنه نعمة من الله على المخاطبين وشأن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وأنه رحمة للعالمين .
والتذكير بما أصاب الأمم السالفة من جراء تكذيبهم رسلهم وأن وعد الله للذين كذبوا واقع ولا يغرهم تأخيره فهو جاء لا محالة .
وحذرهم من أن يغتروا بتأخيره كما اغتر الذين من قبلهم حتى أصابهم بغتة ، وذكر من أشراط الساعة فتح يأجوج ومأجوج .
وذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من الدلالة على الخالق .
ومن الإيماء إلى أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أتقن وأحكم لتجزي كل نفس بما كسبت وينتصر الحق على الباطل .
ثم ما في ذلك الخلق من الدلائل على وحدانية الخالق إذا لا يستقيم هذا النظام بتعدد الآلهة .
وتنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن الأولاد والاستدلال على وحدانية الله تعالى .
وما يكرهه على فعل ما لا يريد .
وأن جميع المخلوقات صائرون إلى الفناء .
وأعقب ذلك تذكيرهم بالنعمة الكبرى عليهم وهي نعمة الحفظ .
ثم عطف الكلام إلى ذكر الرسل والأنبياء .
وتنظير أحوالهم وأحوال أممهم بأحوال محمد صلى الله عليه وسلم وأحوال قومه .
وكيف نصر الله الرسل على أقوامهم واستجاب دعواتهم .
وأن الرسل كلهم جاءوا بدين الله وهو دين واحد في أصوله قطعه الضالون قطعا .
وأثنى على الرسل وعلى من آمنوا بهم .
وأن العاقبة للمؤمنين في خير الدنيا وخير الآخرة ، وأن الله سيحكم بين الفريقين بالحق ويعين رسله على تبليغ شرعه .
افتتاح الكلام بهذه الجملة أسلوب بديع في الافتتاح لما فيه من غرابة الأسلوب وإدخال الروع على المنذَرين ، فإن المراد بالناس مشركو مكة ، والاقتراب مبالغة في القرب ، فصيغة الافتعال الموضوعة للمطاوعة مستعملة في تحقق الفعل أي اشتد قرب وقوعه بهم .
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب استعارة تمثيلية شبه حال إظلال الحساب لهم بحالة شخص يسعى ليقرب من ديار ناس ، ففيه تشبيه هيئة الحساب المعقولة بهيئة محسوسة ، وهي هيئة المغير والمُعَجِّل في الإغارة على القوم فهو يلح في السير تكلفاً للقرب من ديارهم وهم غافلون عن تطلب الحساب إياهم كما يكون قوم غارّين معرضين عن اقتراب العدوّ منهم ، فالكلام تمثيل .
والمراد من الحساب إما يوم الحساب ، ومعنى اقترابه أنه قريب عند الله لأنه محقق الوقوع ، أو قريب بالنسبة إلى ما مضى من مدة بقاء الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم " بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين " أو اقترب الحساب كناية عن اقتراب موتهم لأنهم إذا ماتوا رأوْا جَزاء أعمالهم ، وذلك من الحساب . وفي هذا تعريض بالتهديد بقرب هلاكهم وذلك بفنائهم يوم بدر .
أو المراد بالحساب المؤاخذة بالذنب كما في قوله تعالى : { إنْ حسابهم إلاّ على ربي } [ الشعراء : 113 ] وعليه فالاقتراب مستعمل في حقيقته أيضاً فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه .
واللام في قوله { للناس } إن أبقيت على معناها الأصلي من الاختصاص فذكرها تأكيد لمعنى اللام المقدرة في الإضافة في قوله { حسابهم } لأن تقديره : حسابٌ لهم . والضمير عائد إلى { الناس } فصار قوله { للناس } مساوياً للضمير الذي أضيف إليه ( حساب ) فكأنه قيل : اقترب حساب للناس لهم فكانَ تأكيداً لفظياً ، وكما تقول : أزف للحي رَحيلُهم ، أصله أزف الرحيلُ للحيّ ثم صار أزف للحي رحيلُهم ، ومنه قول العرب : لا أبَا لك ، أصله لا أباكَ ، فكانت لام ( لك ) مؤكدة لمعنى الإضافة لإمكان إغناء الإضافة عن ذكر اللام . قال الشاعر :
أبالموت الذي لا بد أني *** مُلاق لا أباك تخوّفيني
وأصل النظم : اقترب للناس الحساب . وإنما نظم التركيب على هذا النظم بأن قدم ما يدل على المضاف إليه وعُرِّف { الناس } تعريف الجنس ليحصل ضرب من الإبهام ثم يقع بعده التبيين ، ولِما في تقديم الجار والمجرور من الاهتمام بأن الاقتراب للناس ليعلم السامع أن المراد تهديد المشركين لأنهم الذين يُكنَّى عنهم بالناس كثيراً في القرآن ، وعند التقديم احتيج إلى تقدير مضاف فصار مثل : اقترب حساب للناس الحساب ، وحذف المضاف لدلالة مفسره عليه . ولما كان الحساب حساب الناس المذكورين جيء بضمير الناس ليعود إلى لفظ الناس فيحصل تأكيد آخر وهذا نمط بديع من نسج الكلام ، ويجوز أن تكون اللام بمعنى ( من ) أو بمعنى ( إلى ) متعلقة ب { اقترب } فيكون المجرور ظرفاً لغواً ، وعن ابن مالك أنه مَثّل لانتهاء الغاية بقولهم : « تقربت منك » .
وجملة { وهم في غفلة معرضون } حال من { الناس ، } أي اقترب منهم الحساب في حال غفلتهم وإعراضهم . والمراد بالناس المشركون لأنهم المقصود بهذا الكلام كما يدل عليه ما بعده .
والغفلة : الذهول عن الشيء وعن طرق علمه ، وقد تقدمت عند قوله تعالى : { وإن كنا عن دراستهم لغافلين } في سورة [ الأنعام : 156 ] ، وقوله تعالى : { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } في [ سورة الأعراف : 146 ] .
والإعراض : صرف العقل عن الاشتغال بالشيء . وتقدم في قوله : { فأعرض عنهم وعظهم } في سورة [ النساء : 63 ] ، وقوله : { فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } في سورة [ الأنعام : 68 ] .
ودلت ( في ) على الظرفية المجازية التي هي شدة تمكن الوصف منهم ، أي وهم غافلون أشد الغفلة حتى كأنهم منغمسون فيها أو مظروفون في محيطها ، ذلك أن غفلتهم عن يوم الحساب متأصلة فيهم بسبب سابق كفرهم . والمعنى : أنهم غافلون عن الحساب وعن اقترابه .
وإعراضهم هو إبايتهم التأمل في آيات القرآن التي تذكرهم بالبعث وتستدل لهم عليه ، فمتعلق الإعراض غير متعلق الغفلة لأن المعرض عن الشيء لا يعد غافلاً عنه ، أي أنهم لما جاءتهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وإنذارهم بيوم القيامة استمروا على غفلتهم عن الحساب بسبب إعراضهم عن دلائل التذكير به . فكانت الغفلة عن الحساب منهم غير مقلوعة من نفوسهم بسبب تعطيلهم ما شأنه أن يقلع الغفلة عنهم بإعراضهم عن الدلائل المثبتة للبعث .