19- أو حالهم في حيرتهم وشدة الأمر عليهم وعدم إدراكهم لما ينفعهم ويضرهم ، كحال قوم نزل عليهم مطر من السماء ورعد وصواعق ، يضعون أطراف أصابعهم في آذانهم كي لا يسمعوا أصوات الصواعق خائفين من الموت ، زاعمين أن وضع الأصابع يمنعهم منه .
وهؤلاء إذا نزل القرآن - وفيه بيان لظلمات الكفر والوعيد عليه ، وبيان الإيمان ونوره المتألق ، وبيان النذر وألوان العذاب - أعرضوا عنه وحاولوا الخلاص منه زاعمين أن إعراضهم عنه سيعفيهم من العقاب ولكن الله عليم بالكافرين مسيطر عليهم من كل جهة بعلمه وقدرته .
{ أو كصيب من السماء } عطف على الذي استوقد أي : كمثل ذوي صيب لقوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } و{ أو } في الأصل للتساوي في الشك ، ثم اتسع فيها فأطلقت للتساوي من غير شك مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، وقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } . فإنها تفيد التساوي في حسن المجالسة ووجوب العصيان ومن ذلك قوله : { أو كصيب } ومعناه أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين ، وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما ، وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيهما شئت . والصيب : فيعل من الصوب ، وهو النزول ، يقال للمطر وللسحاب . قال الشماخ :
وأسحم دان صادق الرعد صيب *** . . .
وفي الآية يحتملهما ، وتنكيره لأنه أريد به نوع من المطر شديد . وتعريف السماء للدلالة على أن الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء كلها فإن كل أفق منها يسمى سماء كما أن كل طبقة منها سماء ، وقال :
ومن بعد أرض بيننا وسماء *** . . .
أمد به ما في الصيب من المبالغة من جهة الأصل والبناء والتنكير ، وقيل المراد بالسماء السحاب فاللام لتعريف الماهية .
{ فيه ظلمات ورعد وبرق } إن أريد بالصيب المطر ، فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر ، وظلمة غمامه مع ظلمة الليل وجعله مكانا للرعد والبرق لأنهما في أعلاه ومنحدره ملتبسين به . وإن أريد به السحاب ، فظلماته سحمته وتطبيقه مع ظلمة الليل . وارتفاعها بالظرف وفاقا لأنه معتمد على موصوف . والرعد : صوت يسمع من السحاب . والمشهور أن سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح من الارتعاد . والبرق ما يلمع من السحاب ، من برق الشيء بريقا ، وكلاهما مصدر في الأصل ولذلك لم يجمعا .
{ يجعلون أصابعهم في آذانهم } الضمير لأصحاب الصيب وهو وإن حذف لفظه وأقيم الصيب مقامه لكن معناه باق ، فيجوز أن يعول عليه كما عول حسان في قوله :
يسقون من ورد البريص عليهم *** بردى يصفق بالرحيق السلسل
حيث ذكر الضمير لأن المعنى ماء بردى ، والجملة استئناف فكأنه لما ذكر ما يؤذن بالشدة والهول قيل فكيف حالهم مع مثل ذلك ؟ فأجيب بها ، وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة .
{ من الصواعق } متعلق بيجعلون أي من أجلها يجعلون ، كقولهم سقاه من العيمة . والصاعقة قصفة رعد هائل معها نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، من الصعق وهو شدة الصوت ، وقد تطلق على كل هائل مسموع أو مشاهد ، يقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت ، وقرئ من " الصواقع " وهو ليس بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصرف يقال صقع الديك ، وخطيب مصقع ، وصقعته الصاقعة ، وهي في الأصل إما صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد . والتاء للمبالغة كما في الرواية أو مصدر كالعافية والكاذبة . { حذر الموت } نصب على العلة كقوله :
وأغفر عوراء الكريم ادخاره *** وأصفح عن شتم اللئيم تكرما
والموت : زوال الحياة ، وقيل عرض يضادها لقوله : { خلق الموت والحياة } ، ورد بأن الخلق بمعنى التقدير ، والإعدام مقدرة .
{ والله محيط بالكافرين } لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط ، لا يخلصهم الخداع والحيل ، والجملة اعتراضية لا محل لها .
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } .
عطف على التمثيل السابق وهو قوله : { كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده ، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين ، بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار ، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه .
وقد استقريْتُ من استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرىء القيس في معلقته :
أصاحِ ترى برقاً أُريك وميضَه *** كلمعِ اليدين في حَبِيٍّ مُكَلَّل
يُضيءُ سَناه أو مصابيحِ راهب *** أَمال السليطَ بالذُّبال المُفَتَّل
وقوللِ لَبيد في معلقته يصف راحلته :
فلها هِبَاب في الزمام كأنها *** صهباءُ خفَّ مع الجَنوب جَهَامها{[89]}
أو مُلْمِعٌ وسَقَتْ لأَحْقَبَ لاَحَه *** طَرْدُ الفُحول وضَرْبُها وكِدَامُها
وكثر أن يكون العطف في نحوه بأو دون الواو ، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها معنى التسوية وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة أي لتختار التشبيه بهذا أم بذلك وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما :
أَفتلك أم وحْشية مسبوعة *** خذلت وهادية الصِّوار قِوامها{[90]}
وقال ذو الرمة في تشبيه سير ناقته الحثيث :
وثْبَ المُسَحَّجِ من عَانَاتِ مَعْقُلَةٍ *** كأنَّه مستبان الشَّكِّ أو جَنِـبُ
ثم قال : أذاك أم نَمِشٌ بالوشْي أَكْرُعُـه *** مسفَّع الخَد غَادٍ نَاشِعٌ شَبَـبُ
ثم قال : أَذاك أم خاضب بالسَّيِّ مَرْتَعُه *** أبو ثلاثين أَمسى وهو مُنْقلب{[91]}
وربما عطفوا بالواو كما في قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون } [ الزمر : 29 ] الآية ثم قال : { وضرب الله مَثَلاً رجلين } [ النحل : 76 ] الآية . وقوله : { ما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور } [ فاطر : 19 21 ] الآية بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالى : { حتى جعلناهم حصيداً خامدين } [ الأنبياء : 15 ] وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي فإنه لعزته مفرداً تعز استطاعةُ تكريره .
و { أو } عطفت لفظ { صيب } على { الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] بتقدير مَثَل بين الكاف وصيب . وإعادةُ حرف التشبيه مع حرف العطف المغني عن إعادة العامل ، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسَّنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف الحالين المشبهين كما سنبينه وهم في الغالب لا يكررونه في العطف .
والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة ، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْ في قوله تعالى : { مَثَلُهم كمَثَل الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] بنوع إطلاق وتقييد .
فقوله : { أَو كصيب } تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله : { كمثل الذي استوقد } دل على تقدير قوم قوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } وقولُه : { يخطف أبصارهم } [ البقرة : 20 ] . الآية ، لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يَجيء فيه ما جازَ في قوله : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] الخ . فشبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان أهلها كانِّين في مساكنهم كما عُلم ذلك من قوله : { كلَّما أضاءَ لهم مشَوْا فيه } [ البقرة : 20 ] فذلك الغيث نفع أهل الأرض ولم يصبهم مِمَّا اتصل به من الرعد والصواعف ضُر ولم ينفع المارين بها وأضرَّ بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق ، فالصيب مستعار للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغَيث وارد . وفي الحديث الصحيح : " مَثَل ما بَعثني الله به من الهُدى كمثل الغيث أصابَ أرضاً فكان منها نَقِيَّةٌ " الخ . وفي القرآن : { كمثل غيث أعجب الكفار نباته } [ الحديد : 20 ] . ولا تَجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع التمثيل القرآني ، ومنه أخذ أبو الطيب قوله :
فتى كالسحاب الجَوْن يُرجَى ويُتَّقَى *** يُرَجَّى الحَيَا منه وتُخْشى الصواعق
والظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر ، والرعد لقوارع القرآن وزواجره ، والبَرْق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل .
والصيب فيعل من صاب يصوب صوباً إذا نزل بشدة ، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الاسمية فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل .
والظاهر أن قوله : { من السماء } ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرىء القيس :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كجلمود صخرٍ حَطَّه السيل من عَلٍ
إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير ، وكقوله تعالى : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] ، وقوله : { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } [ الأنعام : 71 ] وقال تعالى : { فأَمْطِرْ علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] .
والسماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء ، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى : { كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء } [ إبراهيم : 24 ] وتطلق على السحاب ، وتطلق على المطر نفسه ففي الحديث : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر سماء " الخ ، ولما كان تكوُّن المطر من الطبقة الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن .
ويمكن أن يكون قوله : { من السماء } تقييداً للصيب إما بمعنى من جميع أقطار الجو إذا قلنا إن التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في « الكشاف » على بعد فيه إذ لم يعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسم كلي ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل الأجزاء منزلة أفراد الجنس ولا يعرف له نظير في الاستعمال فالذي يظهر لي إن جعلنا قوله : { من السماء } قيداً للصيب أن المراد من السماء أعلى الارتفاع والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عالياً كان أدوم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريباً من الأرض غير مرتفع .
وضمير { فيه } عائد إلى { صيب } والظرفية مجازية بمعنى معه ، والظلمات مضى القول فيه آنفاً .
والمراد بالظلمات ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل وسحابة الليل أشد مطراً وبرقاً وتسمى سارية . والرعد أصوات تنشأ في السحاب . والبرق لامع ناري مضيء يظهر في السحاب ، والرعدُ والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب فإذا تكاثفت سحابتان في الجو إحداهما كهرباؤُها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكّتا جذبت الأقوى منهما الأضعف فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد وهو فرقعة هوائية من فعل الكهرباء ، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين وذلك يسبب انقداح البرق .
وقد علمت أن الصيب تشبيه للقرآن وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد بأنها تسر أقواماً وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير أهل تلك الدار ، فكذلك الآيات تسر المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة على أحوالهم .