{ إذ تصعدون } متعلق بصرفكم ، أو ليبتليكم أو بمقدر كاذكروا . والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض يقال : أصعدنا من مكة إلى المدينة . { ولا تلوون على أحد } لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره . { والرسول يدعوكم } كان يقول إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة . { في أخراكم } في ساقتكم أو في جماعتكم الأخرى { فأثابكم غما بغم } عطف على صرفكم ، والمعنى فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم غما متصلا بغم ، من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو فجازاكم غما بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له . { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا ضر لاحق . وقيل { لا } مزيدة والمعنى لتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجرح والهزيمة عقوبة لكم . وقيل الضمير في فأثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي فآساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم ، كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم كيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا على ما أصابكم من الهزيمة { والله خبير بما تعملون } عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها .
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ }
العامل في { إذ } قوله : { عفا } [ آل عمران : 152 ] وقرأ جمهور الناس بضم التاء وكسر العين من «أصعد » ومعناه : ذهب في الأرض ، وفي قراءة أبي بن كعب ، «إذ تصعدون في الوادي » .
قال القاضي أبو محمد : والصعيد وجه الأرض ، وصعدة اسم من أسماء الأرض ، فأصعد معناه : دخل في الصعيد ، كما أصبح دخل في الصباح إلى غير ذلك ، والعرب تقول أصعدنا من مكة وغيرها ، إذا استقبلوا سفراً بعيداً وأنشد أبو عبيدة لحادي الإبل : [ الرجز ]
قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ على الإصْعادِ . . . فَالآنَ صرَّحَتِ وَصَاحَ الحادِي
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو عبد الرحمن واليزيدي{[3615]} ومجاهد وقتادة «إذ تَصعَدون » بفتح التاء والعين ، من صعد إذا علا ، والمعنى بهذا صعود من صعد في الجبل والقراءة الأولى أكثر ، وقوله تعالى { ولا تلوون } مبالغة في صفة الانهزام وهو كما قال دريد :
وهل يرد المنهزم شيء ؟ . . . وهذا أشد من قول امرىء القيس : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أخو الْجَهْدِ لاَ يلْوي على من تَعَذَّرا{[3616]}
وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل «إذ يصعدون ولا يلوون » بالياء فيهما على ذكر الغيب ، وقرأ بعض القراء «ولا تلؤون » بهمز الواو المضمومة ، وهذه لغة ، وقرأ بعضهم «ولا تلون » بضم اللام وواو واحدة ، وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت إحدى الواوين الساكنتين ، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية أبي بكر «تُلوون » بضم التاء من ألوى وهي لغة ، وقرأ حميد بن قيس «على أُحُد » بضم الألف والحاء ، يريد الجبل ، والمعنى بذلك رسول الله عليه السلام ، لأنه كان على ا لجبل ، والقراءة الشهيرة أقوى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه ، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم ، وروي أنه كان ينادي : ( إليَّ عباد الله ){[3617]} ، والناس يفرون . وفي قوله تعالى : { في أخراكم } مدح للنبي عليه السلام فإن ذلك هو موقف الأبطال في أعقاب الناس ، ومنه قول الزبير بن باطا{[3618]} ما فعل مقدمتنا إذ حملنا وحاميتنا إذ فررنا ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس ، ومنه قول سلمة بن الأكوع ( كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ) {[3619]} ، وقوله تعالى : { فأثابكم } معناه : جازاكم على صنيعكم ، وسمي الغم ثواباً على معنى أنه القائم في هذه النازلة مقام الثواب ، وهذا كقوله : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَحِيَّةُ بَيْنهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ{[3620]} ***
وكقول الآخر : [ الفرزدق ] : [ الطويل ]
أخَافُ زِياداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ . . . أَدَاهِمَ سوداً أَوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرا{[3621]}
فجعل القيود والسياط عطاء ، ومحدرجة : بمعنى مدحرجة ، واختلف الناس في معنى قوله تعالى : { غماً بغم } فقال قوم : المعنى «أثابكم غماً » بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين ، بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم .
قال القاضي أبو محمد : فالباء على هذا باء السبب ، وقال قوم : { أَثابكم غماً بغم } ، الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر .
قال القاضي أبو محمد : فالباء باء معادلة ، كما قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال ، وقالت جماعة كبيرة من المتأولين : المعنى أثابكم غماً على غم ، أو غماً مع غم ، وهذه باء الجر المجرد ، واختلفوا في ترتيب هذين الغمين فقال قتادة ومجاهد : الغم الأول أن سمعوا : ألا إن محمداً قد قتل ، والثاني ، القتل والجراح الواقعة فيهم ، وقال الربيع وقتادة أيضاً بعكس هذا الترتيب ، وقال السدي ومجاهد أيضاً وغيرهما : بل الغم الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق ، والغم الثاني هو إشراف أبي سفيان على النبي ومن كان معه ، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى قوم من أصحابه قد علوا صخرة في سفح الجبل فمشى نحوهم فأهوى إليه رجل بسهم ليرميه ، فقال : أنا رسول الله ، ففرحوا بذلك ، وفرح هو عليه السلام إذ رأى من أصحابه الامتناع ، ثم أخذوا يتأسفون على ما فاتهم من الظفر ، وعلى من مات من أصحابهم فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم أبو سفيان من علو في خيل كثيرة ، فنسوا ما نزل بهم أولاً ، وأهمهم أمر أبي سفيان ، فقال رسول الله عليه وسلم : ( ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد ){[3622]} ، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة ، وأغنى هنالك عمر بن الخطاب حتى أنزلوهم . واختلفت الروايات في هذه القصة من هزيمة -أحد - اختلافاً كثيراً ، وذلك أن الأمر هول ، فكل أحد وصف ما رأى وسمع ، قال كعب بن مالك : أول من ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ، رأيت عينيه تزهران تحت المغفر{[3623]} ، وروي أن الخيل المستعلية إنما كانت حملة خالد بن الوليد ، وأن أبا سفيان إنما دنا ، والنبي عليه السلام في عرعرة{[3624]} الجبل ، ولأبي سفيان في ذلك الموقف قول كثير ، ولعمر معه مراجعة محفوظة اختصرتها إذ لا تخص الآية ، وقوله تعالى : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } معناه : من الغنيمة و { ما أصابكم } معناه : من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم .
قال القاضي أبو محمد : واللام من قوله : { لكيلا } متعلقة بأثابكم ، المعنى : لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم آذيتم أنفسكم ، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه وفي قوله تعالى : { والله خبير بما تعملون } توعد .