18- فيكون جوابهم : تنزَّهت وتقَّدست ، ما كان يحق لنا أبداً أن نطلب من دونك ولياً ينصرنا ويتولي أمرنا ، فكيف مع هذا ندعو أحداً أن يعبدنا دونك ؟ ولكن السبب في كفرهم هو إنعامك عليهم بأن متّعتهم طويلا بالدنيا هم وآباؤهم ، فأطغاهم ذلك ونسوا شكرك والتوجه إليك - وحدك - بالعبادة ، وكانوا بذلك الطغيان والكفر قوماً مستحقين للهلاك .
قرأ الأكثرون بفتح " النون " من قوله : { نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } أي : ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك ، لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك ، بل هم قالوا{[21435]} ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم ، كما قال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40 - 41 ] . {[21436]} وقرأ آخرون : " مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ " أي : ما ينبغي لأحد أن يعبدنا ، فإنا عبيد لك ، فقراء إليك . وهي قريبة المعنى من الأولى .
{ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ } أي : طال عليهم العمر حتى نَسُوا الذكر ، أي : نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك ، من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك .
{ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } قال ابن عباس : أي هلكى . وقال الحسن البصري ، ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم . وقال ابن الزبعرى حين أسلم :
يا رَسُولَ المَليك إنّ لسَاني *** رَاتقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ
إذْ أجاري الشَّيطَانَ في سَنَن الغ *** يِّ ، وَمَن مالَ مَيْلَه مَثْبُورُ
{ قالوا سبحانك } تعجبا مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون ، أو جمادات لا تقدر على شيء أو إشعارا بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده فكيف يليق بهم إضلاله عبيده ، أو تنزيها لله تعالى عن الأنداد . { ما كان ينبغي لنا } ما يصح لنا . { أن نتخذ من دونك أولياء } للعصمة أو لعدم القدرة فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحدا دونك ، وقرئ { نتخذ } على البناء للمفعول من اتخذ الذي له مفعولان كقوله تعالى : { واتخذ الله إبراهيم خليلا } ومفعوله الثاني { من أولياء } و{ من } للتبعيض وعلى الأول مزيدة لتأكيد النفي . { ولكن متعتهم وآباءهم } بأنواع النعم فاستغرقوا في الشهوات . { حتى نسوا الذكر } حتى غفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك والتدبر في آياتك ، وهو نسبة للضلال إليهم من حيث إنه بكسبهم وإسناد له إلى ما فعل الله بهم فحملهم عليه ، وهو عين ما ذهبنا إليه فلا ينتهض حجة علينا للمعتزلة . { وكانوا } في قضائك . { قوما بورا } هالكين مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع ، أو جمع بائر كعائذ وعوذ .
وقرأ جمهور الناس «نَتخذ » بفتح النون وذهبوا بالمعنى إلى أنه من قول من يعقل وأن هذه الآية بمعنى التي في سورة سبأ : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم }{[8796]} [ سبأ : 40 - 41 ] ، وكقول عيسى عليه السلام { وما قلت لهم إلا ما أمرتني به }{[8797]} [ المائدة : 117 ] ، و { من أولياء } في هذه القراءة في موضع المفعول به ، وقرأ أبو جعفر والحسن وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة ومكحول وزيد بن علي وحفص بن حميد{[8798]} «نُتخذ » بضم النون ، وتذهب هذه مذهب من يرى أن الموقف المجيب الأوثان ويضعف هذه القراءة دخول { من } في قوله { من أولياء } ، اعترض بذلك سعيد بن جبير ، وغيره ، قال أبو الفتح { من أولياء } في موضع الحال{[8799]} ودخلت { من } زائدة لمكان النفي المتقدم كما تقول ما اتخذت زيداً من وكيل ، وقرأ علقمة «ما ينبغي » بسقوط «كان » وثبوتها أمكن في المعنى ، لأنهم أخبروا على حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه ، وفسّر هذا المجيب بحسب الخلاف فيه الوجه في ضلال الكفار كيف وقع ، وأنه لما متعهم الله تعالى بالنعم الدنياوية وأدرها لهم ولأسلافهم الأحقاب الطويلة { نسوا الذكر } أي ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء ، و { بوراً } ، معناه هلكاً ، والبوار الهلاك واختلف في لفظة بور ، فقالت فرقة هو مصدر يوصف به الجمع والواحد ومنه قول ابن الزبعرى : { الخفيف ]
يا رسول المليك إن لساني . . . راتق ما فتقت إذ أنا بور{[8800]}
وقالت فرقة هي جمع بائر وهو الذي قد فارقه الخير فحصل بذلك في حكم الهلاك باشره الهلاك بعد أو لم يباشر ، قال الحسن البائر الذي لا خير فيه .
{وكانوا قوما بورا}... قال مالك عن الزهري: أي: لا خير فيهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى: تنزيها لك يا ربنا وتبرئه مما أضاف إليك هؤلاء المشركون، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم، أنت ولينا من دونهم، ولكن متعتهم بالمال يا ربنا في الدنيا والصحة حتى نَسُوا الذكر وكانوا قوما هَلْكى قد غلب عليهم الشقاء والخِذْلان...
عن ابن عباس، قوله: وَلَكِنّ مَتّعْتَهُمْ وآباءَهُمْ حتى نَسُوا الذّكْرَ وكانُوا قَوْما بُورا يقول: قوم قد ذهبت أعمالهم وهم في الدنيا، ولم تكن لهم أعمال صالحة... قال ابن زيد، في قوله:"وكانُوا قَوْما بُورا" قال: يقول: ليس من الخير في شيء. البور: الذي ليس فيه من الخير شيء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سبحانك} تعجب منهم، قد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون، فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه. أو نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون المتقدّسون الموسومون بذلك. فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده؟ أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، وأن يكون له نبيّ أو ملك أو غيرهما ندّاً، ثم قالوا: ما كان يصحّ لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحداً دونك، فكيف يصحّ لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك. أو ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{قَالُواْ} يعني الأصنام {سُبْحَانَكَ} نزهوا الله تعالى أن يعبد غيره {مَا كَانَ ينبغي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} نواليهم؛ والمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نعبد نحن غيرك، فكيف ندعوا إلى عبادتنا؟! فدل هذا الجواب على أنهم لم يأمروا بعبادتهم... {وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ} أي: أطلت لهم العمر وأوسعت لهم الرزق {حتى نسوا الذكر}، أي: تركوا الإيمان بالقرآن والاتعاظ به..
ذكروا في تفسير هذه الآية وجوها؛
أولها: وهو الأصح الأقوى، أن المعنى: إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك أولياء فكيف ندعوا غيرنا إلى ذلك...
{ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا}...معنى الآية أنك يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم وهي توجب الشكر والإيمان لا الإعراض والكفران، والمقصود من ذلك بيان أنهم ضلوا من عند أنفسهم لا بإضلالنا، فإنه لولا عنادهم الظاهر، وإلا فمع ظهور هذه الحجة لا يمكن الإعراض عن طاعة الله تعالى...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك، لا نحن ولا هم، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك، بل هم قالوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم... {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} أي: طال عليهم العمر حتى نَسُوا الذكر، أي: نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك، من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قالوا} أي المعبودات الحي منهم والجماد، المطيع والعاصي: {سبحانك} أي تنزهت عن أن ينسب إلى غيرك قدرة على فعل من الأفعال... {ما كان ينبغي} أي يصح ويتصور {لنا أن نتخذ} أي نتكلف أن نأخذ باختيارنا من غير إرادة منك {من دونك} وكل ما سواك فهو دونك {من أولياء} أي ينفعوننا، فإنا مفتقرون إلى من ينفعنا لحاجتنا وفقرنا... {ولكن} أي ما أضللناهم نحن، وإنما هم ضلوا بإرادتك لأنك أنت {متعتهم وآباءهم} في الحياة الدنيا بما تستدرجهم به من لطائف المنن، وأطلت أعمارهم في ذلك {حتى نسوا الذكر} الذي لا ينبغي أن يطلق الذكر على غيره... {وكانوا} في علمك بما قضيت عليهم في الأزل {قوماً بوراً} هلكى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهذا المتاع الطويل الموروث -على غير معرفة بواهب النعمة ولا توجه ولا شكر- قد آلهاهم وأنساهم ذكر المنعم، فانتهت قلوبهم إلى الجدب والبوار. كالأرض البور لا حياة فيها ولا زرع ولا ثمار. والبوار الهلاك، ولكن اللفظ يوحي كذلك بالجدب والخواء. جدب القلوب، وخواء الحياة
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والأولياء: جمع الولي بمعنى التابع في الولاء فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء، أي على السيد والعبد، أو الناصر والمنصور. والمراد هنا: الوليّ التابع كما في قوله: {فتكون للشيطان ولياً} في سورة مريم (45)، أي لا نطلب من الناس أن يكونوا عابدين لنا... والذكر: القرآن لأنهُ يُتذكر به الحق..
كلمة (سبحان) أي: تنزيها لله تعالى في ذاته عن مشابهة الذوات، وتنزيها لله تعالى في صفاته وأفعاله عن مشابهة الصفات والأفعال...وقد تقال سبحان الله ويقصد بها التعجب، فحين تسمع كلاما عجيبا تقول: سبحان الله يعني: أنا أنزه أن يكون هذا الكلام حدث. لذلك يقولون هنا: {سبحانك} يعني: عجيبة أننا نضل، كيف ونحن نعبدك نجعل الآخرين يعبدوننا، والمعنى: أن هذا لا يصح منا، كيف ونحن ندعو الناس إلى عبادتك، وليس من المعقول أننا ندعوهم إلى عبادتك ونتحول نحن لكي يعبدونا...