الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا} (18)

" قالوا سبحانك " أي قال المعبودون من دون الله سبحانك ، أي تنزيها لك " ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " فإن قيل : فإن كانت الأصنام التي تعبد تحشر فكيف تنطق وهي جماد ؟ قيل له : ينطقها الله تعالى يوم القيامة كما ينطق الأيدي والأرجل . وقرأ الحسن وأبو جعفر : " أن نتخذ " بضم النون وفتح الخاء على الفعل المجهول . وقد تكلم في هذه القراءة النحويون ، فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر : لا يجوز " نتخذ " . وقال أبو عمرو : لو كانت " نتخذ " لحذفت " من " الثانية فقلت : أن نتخذ من دونك أولياء . كذلك قال أبو عبيدة : لا يجوز " نتخذ " لأن الله تعالى ذكر " من " مرتين ، ولو كان كما قرأ لقال : أن نتخذ من دونك أولياء . وقيل : إن " من " الثانية صلة . قال النحاس : ومثل أبي عمرو على جلالته ومحله يستحسن ما قال ؛ لأنه جاء ببينة . وشرح ما قال أنه يقال : ما اتخذت رجلا وليا ، فيجوز أن يقع هذا للواحد بعينه ، ثم يقال : ما اتخذت من رجل وليا فيكون نفيا عاما ، وقولك " وليا " تابع لما قبله فلا يجوز أن تدخل فيه " من " لأنه لا فائدة في ذلك . " ولكن متعتهم وآباءهم " أي في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر بعد موت الرسل صلوات الله عليهم .

" حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرا وجهلا فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك . وفي الذكر قولان : أحدهما : القرآن المنزل على الرسل ، تركوا العمل به ، قاله ابن زيد . الثاني : الشكر على الإحسان إليهم والإنعام عليهم . إنهم " كانوا قوما بورا " أي هلكى ، قال ابن عباس . مأخوذ من البوار وهو الهلاك . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حمص : يا أهل حمص ! هلم إلى أخ لكم ناصح ، فلما اجتمعوا حوله قال : ما لكم لا تستحون ! تبنون ما لا تسكنون ، وتجمعون ما لا تأكلون ، وتأملون ما لا تدركون ، إن من كان قبلكم بنوا مشيدا وجمعوا عبيدا ، وأملوا بعيدا ، فأصبح جمعهم بورا ، وآمالهم غرورا ، ومساكنهم قبورا . فقوله : " بورا " أي هلكى . وفي خبر آخر : فأصبحت منازلهم بورا ، أي خالية لا شيء فيها . وقال الحسن : " بورا " لا خير فيهم . مأخوذ من بوار الأرض ، وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير . وقال شهر بن حوشب : البوار . الفساد والكساد ، مأخوذ من قولهم : بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد ، ومنه الحديث : ( نعوذ بالله من بوار الأيم ) . وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث . قال ابن الزبعرى :

يا رسولَ المَليك إن لساني *** راتِقٌ ما فَتقتُ إذ أنا بُورُ

إذ أُباري الشيطانَ في سنن الغَ *** يِّ ومن مالَ ميلَه مثبورُ

وقال بعضهم : الواحد بائر والجمع بور . كما يقال : عائذ وعوذ ، وهائد وهود . وقيل : " بورا " عميا عن الحق .