نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا} (18)

{ قالوا } أي المعبودات الحي منهم والجماد ، المطيع والعاصي : { سبحانك } أي تنزهت عن أن ينسب إلى غيرك قدرة على فعل من الأفعال .

ولما أنتج التنزيه أنه لا فعل لغيره سبحانه ، عبروا عنه بقولهم : { ما كان ينبغي } أي يصح ويتصور { لنا أن نتخذ } أي نتكلف أن نأخذ باختيارنا من غير إرادة منك { من دونك } وكل ما سواك فهو دونك { من أولياء } أي ينفعوننا ، فإنا مفتقرون إلى من ينفعنا لحاجتنا وفقرنا ، فكيف نترك من بيده كل شيء وهو أقرب إلينا في كل معنى من معاني الولاية من كل شيء من العلم والقدرة وغيرهما إلى من لا شيء بيده ، وهو أبعد بعيد من كل معنى من معاني الولاية ، فلو تكلفنا جعله قريباً لم يكن كذلك ، وهذه عبارة صالحة سواء كانت من الصالحين ممن عبد من الأنبياء والملائكة أو غيرهم ، فإن كانت من الصالحين فمعناها : ما كان ينبغي لنا ذلك فلم نفعله وأنت أعلم ، كما قال تعالى ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس }[ آل عمران : 79 ] الآية ؛ وإن كانت من الجمادات فالمعنى : ما كنا في حيز من يقدر على شيء من ذلك ، ولكن فعلوه بطراً ؛ وإن كانت من مثل فرعون فالمعنى : ما كان لنا هذا ، ولكن هم أنزلونا هذه المنزلة بمجرد دعائنا لهم كما يقول إبليس - فما كان لنا عليهم من سلطان إلا أن دعوناهم فاستجابوا ، وذلك لعدم نظرهم في حقائق الأمور ، فألقى الكل إلى الله يومئذ السلم ، فثبت أنهم ليسوا في تلك الرتبة التي أنزلوهم إياها ، وفائدة السؤال مع شمول علمه تعالى تبكيت المعاندين وزيادة حسراتهم وأسفهم ، وتغبيط المؤمنين إذا سمعوا هذا الجواب ، هذا مع ما في حكايته لنا من الموعظة البالغة ، وقراءة أبي جعفر بالبناء للمفعول بضم النون وفتح الخاء واضحة المعنى ، أي يتخذنا أحد آلهة نتولى أموره .

ولما كان المعنى : إنا ما أضللناهم ، أما إذا قدر من الملائكة ونحوهم فواضح ، وأما من غيرهم فإن المضل في الحقيقة هو الله ، وفي الظاهر بطرهم النعمة ، واتباعهم الشهوات التي قصرت بهم عن إمعان النظر ، وأوقفتهم مع الظواهر ، حسن الاستدراك بقوله : { ولكن } أي ما أضللناهم نحن ، وإنما هم ضلوا بإرادتك لأنك أنت { متعتهم وآباءهم } في الحياة الدنيا بما تستدرجهم به من لطائف المنن ، وأطلت أعمارهم في ذلك { حتى نسوا الذكر } الذي لا ينبغي أن يطلق الذكر على غيره ، وهو الإيمان بكل ما أرسلت به سبحانك رسلك برهان ما يعرفه كل عاقل من نفسه بما وهبته من غريزة العقل من أنه لايصح بوجه أن يكون الإله إلا واحداً ، ما بين العاقل وبين ذكر ذلك إلا يسير تأمل ، مع البراءة من شوائب الحظوظ والحاصل أنك سببت لهم أسباباً لم يقدروا على الهداية معها ، فأنت الملك الفعال لما تريد ، لا فعل لأحد سواك { وكانوا } في علمك بما قضيت عليهم في الأزل { قوماً بوراً* } هلكى .