البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا} (18)

و { سبحانك } تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادة أحد أو يفرد بعبادة فأنّى لهم أن يقع منهم إضلال أحدوهم المنزهون المقدسون ، أن يكون أحد منهم نداً وهو المنزه عن الند والنظير .

وقال الزمخشري : { سبحانك } تعجب منهم مما قيل لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه انتهى .

وقرأ علقمة ما ينبغي بسقوط كان وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى لأنهم أخبروا عن حال كانت في الدنيا ووقت الإخبار لا عمل فيه .

وقرأ أبو عيسى الأسود القاري { يُنْبَغي لنا } مبنياً للمفعول .

وقال ابن خالويه : زعم سيبويه أن ينبغي لغة .

وقرأ الجمهور : { أن نتخذ } مبنياً للفاعل و { من أولياء } مفعول على زيادة { من } وحسن زيادتها انسحاب النفي على { نتخذ } لأنه معمول لينبغي .

وإذا انتفى الابتغاء لزم منه انتفاء متعلقة وهو اتخاذ وليّ من دون الله .

ونظيره { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير } أي خير والمعنى ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحداً دونك ، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك .

وقال أبو مسلم { ما كان ينبغي لنا } أن نكون أمثال الشياطين نريد الكفر فنتولى الكفار قال { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن عليّ وأخوه الباقر ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبو بشر والزعفراني أن يُتخذ مبنياً للمفعول واتخذ مما يتعدى تارة لواحد كقوله { أم اتخذوا آلهة من الأرض } وعليه قراءة الجمهور وتارة إلى اثنين كقوله { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } فقيل : هذه القراءة منه فالأول الضمير في { نتخذ } والثاني { من أولياء } و { من } للتبعيض أي لا يتخذ بعض أولياء وهذا قول الزمخشري .

وقال ابن عطية : ويضعف هذه القراءة دخول { من } في قوله { من أولياء } اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره .

وقال أبو الفتح { من أولياء } في موضع الحال ودخلت { من } زيادة لمكان النفي المتقدم كما تقول : ما اتخذت زيداً من وكيل .

وقيل { من أولياء } هو الثاني على زيادة { من } وهذا لا يجوز عند أكثر النحويين إنما يجوز دخولها زائدة على المفعول الأول بشرطه .

وقرأ الحجاج أن نتخذ من دونك أولياء فبلغ عاصماً فقال : مقت المخدّج أو ما علم أن فيها { من } ولما تضمن قولهم { ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } أنّا لم نضلهم ولم نحملهم على الامتناع من الإيمان صلح أن يستدرك بلكن ، والمعنى لكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعم وأطلت أعمارهم وكان يجب عليهم شكرها والإيمان بما جاءت به الرسل ، فكان ذلك سبباً للإعراض عن ذكر الله .

قيل : ولكن متعتهم كالرمز إلى ما صرح به موسى من قوله { إن هي إلاّ فتنتك } أي أنت الذي أعطيتهم مطالبهم من الدنيا حتى صاروا غرقى في بحر الشهوات فكان صارفاً لهم عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك و { الذكر } ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء أو الكتب المنزلة أو القرآن .

والبور : قيل مصدر يوصف به الواحد والجمع .

وقيل : جمع بائر كعائذ وعوذ .

قيل : معناه هلكى .

وقيل : فسدى وهي لغة الأزد يقولون : أمر بائر أي فاسد ، وبارت البضاعة : فسدت .

وقال الحسن : لا خير فيهم من قولهم أرض بور أي معطلة لا نبات فيها .

وقيل { بوراً } عمياً عن الحق .

{ فقد كذبوكم } هذا من قول الله بلا خلاف وهي مفاجأة ، فالاحتجاج والإلزام حسنة رابعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وهو على إضمار القول كقوله { يا أهل الكتاب } إلى قوله { فقد جاءكم } أي فقلنا قد جاءكم .

وقول الشاعر :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

أي فقلنا قد جئنا وكذلك هذا أي فقلنا قد كذبوكم ، فإن كان المجيب الأصنام فالخطاب للكفار أي قد كذبتكم معبوداتكم من الأصنام بقولهم { ما كان ينبغي لنا } وإن كان الخطاب للمعبودين من العقلاء عيسى والملائكة وعزير عليهم السلام ، وهو الظاهر لتناسق الخطاب مع قوله { أأنتم أضللتم } أي كذبكم المعبودون { بما تقولون } أي بقولهم أنكم أضللتموهم ، وزعمهم أنكم أولياؤهم من دون الله .

ومن قرأ { بما تقولون } بتاء الخطاب فالمعنى فيما تقولون أي { سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } .

وقيل : الخطاب للكفار العابدين أي كذبكم المعبودون بما تقولون من الجواب .

{ سبحانك ما كان ينبغي لنا } أو فيما تقولون أنتم من الافتراء عليهم خوطبوا على جهة التوبيخ والتقريع .

وقيل : هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي قد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد والشرع .