الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا} (18)

قوله : { يَنبَغِي } : العامَّةُ على بنائِه للفاعل . وأبو عيسى الأسودُ القارىء " يُنَبَغى " مبنياً للمفعولِ . قال ابنُ خالويه : " زعم سيبويه أن يُنْبَغَى لغة " .

قوله : { أَن نَّتَّخِذَ } فاعلُ " ينبغي " أو مفعولٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ في قراءةِ الأسود . وقرأ العامَّةُ " نَتَّخِذَ " مبنياً للفاعل . و " من أولياء " مفعولُه ، وزِيْدَتْ فيه " مِنْ " . ويجوز أن يكونَ مفعولاً أولَ على أنَّ " اتَّخَذَ " متعديةٌ لاثنين ، ويجوز أَنْ لا تكون المتعديةَ لاثنين بل لواحدٍ ، فعلى هذا " مِنْ دونِك " متعلِّقٌ بالاتِّخاذ ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ " أولياء " .

وقرأ أبو الدَّرْداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء والحسن وأبو جعفر في آخرين " نُتَّخَذَ " مبنيَّاً للمفعول . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها المتعديةُ لاثنينِ ، والأولُ همز ضمير المتكلمين . والثاني : قولُه : " مِنْ أولياء " و " مِنْ " للتبعيضِ أي : ما كان ينبغي أَنْ نَتَّخِذَ بعضَ أولياء ، قاله الزمخشري . الثاني : أنَّ " مِنْ أولياء " هو المفعولُ الثاني ايضاً ، إلاَّ أنَّ " مِنْ " مزيدةٌ في المفعولِ الثاني . وهذا مردودٌ : بأنَّ " مِنْ " لا تُزاد في المفعول الثاني ، إنما تُزاد في الأولِ . قال ابن عطية : " ويُضْعِفُ هذه القراءةَ دخولُ " مِنْ " في قوله : " مِنْ أولياء " . اعتَرَض بذلك سعيدُ بن جبير وغيرُه " . الثالث : أَنْ يكونَ " مِنْ أولياء " في موضعِ الحالِ . قاله ابن جني إلاَّ أنه قال : " ودَخَلَتْ " مِنْ " زيادةً لمكانِ النفيِ المتقدم ، كقولك : ما اتَّخذت زيداً مِنْ وكيل " . قلت : فظاهرُ هذا أنه جَعَلَ الجارَّ والمجرورَ في موضعِ الحالِ ، وحينئذٍ يَسْتحيلُ أَنْ تكونَ " مِنْ " مزيدةً ، ولكنه يريدُ أنَّ هذا المجرورَ هو الحالُ نفسُه و " مِنْ " مزيدةٌ فيه ، إلاَّ أنه لا تُحفظ زيادةُ " مِنْ " في الحالِ وإنْ كانَتْ منفيةً ، وإنما حُفِظ زيادةُ الباءِ فيها على خلافٍ في ذلك .

وقوله : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ } { أَمْ هُمْ ضَلُّوا } إنما قَدَّم الاسمَ على الفعل لمعنىً ذكرْتُه في قولِه تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] .

وقرأ الحَجَّاج " نتخذ مِنْ دونِك [ أولياءَ ] " فبلغ عاصماً فقال : " مُقِتَ المُخْدِجُ . أَوَ عَلِم أنَّ فيها " مِنْ " ؟

قوله : { وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ } لَمَّا تََضَمَّن كلامُهم أنَّا لم نُضِلَّهم ، ولم نَحْمِلْهم على الضلالِ ، حَسُن هذا الاستدراكُ وهو أَنْ ذَكَرُوا سبَبَه أي : أَنْعَمْتَ عليهم وتَفَضَّلْتَ فَجَعَلوا ذلك ذَرِيْعةً إلى ضلالهم عكسَ القضية .

قوله : { بُوراً } يجوز فيه وجهان أحدُهما : أنه جمعُ بائرِ كعائذِ وعُوذ . والثاني : أنه مصدرٌ في الأصلِ ، فَيَسْتوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنثُ . وهو مِنْ البَوارِ وهو الهَلاكُ . وقيل : من الفسادِ . وهي لغةٌ للأزد يقولون :/ بارَتْ بضاعتُه أي : فَسَدَتْ . وأمرٌ بائِرٌ أي : فاسدٌ . وهذا معنى قولِهم : " كَسَدَتِ البضاعةُ " . وقال الحسن : " وهو مِنْ قولِهم : أرضُ بُوْرٌ أي : لا نباتَ بها . وهذا يَرْجعُ إلى معنى الهلاكِ والفساد " .