المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

تحدثت في افتتاحيتها عن الفتح المبين ، الذي يسره الله لرسوله ، وعن آثاره العظيمة في انتشار الإسلام ، وإعزاز المسلمين ، وعن تثبيت اله قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا ، وعن عذاب المنافقين والمشركين ، بتشككهم في نصر الله لرسوله ، وعن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم شاهدا ومبشرا ، ليتحقق الإيمان بالله . وانتقلت بعد ذلك إلى حديث بيعة أهل الصدق والوفاء لرسوله ، وبينت كذب اعتذار المتخلفين عن الخروج مع الرسول ، وأنهم تخلفوا لظنهم أن الله لا ينصره ، وعرضت لطلبهم الخروج معه للغنائم .

ثم بينت أنهم سيدعون إلى قتال قوم ذوي بأس وقوة ، وأنه لا إثم في التخلف عن القتال لعذر صحيح ، كما أوضحت عظم الخير الذي وعد الله به من رضي عنهم في بيعة الرضوان ، وتكلمت عن فرار الكافرين وهزيمتهم إذا ما قاتلوا المؤمنين ، وشرحت حكمة الله في كف الكافرين عن المؤمنين ، والمؤمنين عن الكافرين يوم فتح مكة ، وأنهت الحديث ببيان الله صدق رسوله رؤياه دخول المسجد الحرام ، وأن محمدا والذين آمنوا معه غلاظ على الكفار ، متراحمون فيما بينهم ، وبيان ما يعرف به المؤمنون ، وصفتهم في التوراة ، وصفتهم في الإنجيل ، ووعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة الواسعة والأجر العظيم .

1 - إنا فتحنا لك - يا محمد - فتحا عظيما مبينا بانتصار الحق على الباطل ، ليغفر لك الله ما تقدَّم مما يُعَدُّ لمثل مقامك ذنبا ، وما تأخر منه ، ويكمل نعمته عليك بانتشار دعوتك ، ويُثَبِّتَكَ على طريق الله المستقيم ، وينصرك الله على أعداء رسالتك نصراً قويا غاليا .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية

قال الإمام أحمد{[1]} حدثنا وَكِيع ، حدثنا شُعْبَة ، عن معاوية بن قرة قال : سمعت عبد الله بن مغفل يقول : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجَّع فيها - قال معاوية : لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت لكم قراءته ، أخرجاه من حديث شعبة به{[2]} .

نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله . فلما نحر هديه حيث أحصر ، ورجع ، أنزل الله ، عز وجل ، هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روى عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية .

وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية {[3]} .

وقال{[4]} البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحًا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر . فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاها فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ، ثم تمضمض ودعا ، ثم صبه فيها ، فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا {[5]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح ، حدثنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه {[6]} ، عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، قال : فسألته عن شيء - ثلاث مرات – فلم يرد علي ، قال : فقلت لنفسي : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك ؟ قال : فركبت راحلتي فتقدمت مخافة أن يكون نزل في شيء ، قال : فإذا أنا بمناد ينادي : يا عمر ، أين عمر ؟ قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نزلت{[7]} علي الليلة {[8]} سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } .

ورواه البخاري ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن مالك ، رحمه الله{[9]} ، وقال علي بن المديني : هذا إسناد مديني [ جيد ]{[10]} لم نجده إلا عندهم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض " ، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هنيئا مريئا يا نبي الله ، لقد بين الله ، عز وجل ، ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } حتى بلغ : { فَوْزًا عَظِيمًا } [ الفتح : 5 ] ، أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به{[11]} .

وقال{[12]} الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا مُجَمِّعُ بن يعقوب ، قال : سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن أبي يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري - وكان أحد{[13]} القراء الذين قرءوا القرآن - قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } ، قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله ، وفتح هو ؟ قال : " إي والذي نفس محمد بيده ، إنه لفتح " . فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما ، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهما .

رواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى ، عن مجمع بن يعقوب ، به{[14]} .

وقال{[15]} ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا أبو بحر ، حدثنا شعبة ، حدثنا جامع بن شداد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول{[16]} : لما أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا ، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم ، قال : فقلنا : " امضوا " {[17]} . فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : " افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك [ يفعل ] {[18]} من نام أو نسي " . قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبنها ، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة ، فأتيته بها فركبها {[19]} ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه [ الوحي ]{[20]} اشتد عليه ، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } .

وقد رواه أحمد وأبو داود ، والنسائي من غير وجه ، عن جامع بن شداد به {[21]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة ، قال : سمعت المغيرة بن شعبة{[22]} يقول : كان النبي {[23]} صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه ، فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " أفلا أكون عبدًا شكورًا " .

أخرجاه{[24]} وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به{[25]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر ، عن ابن قسيط ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه{[26]} .

فقالت له عائشة : يا رسول الله ، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا ؟ " .

أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب ، به{[27]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الله بن عون الخراز - وكان ثقة بمكة - حدثنا محمد بن بشر{[28]} حدثنا مسعر ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه - أو قال ساقاه - فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبدًا شكورًا ؟ " غريب من هذا الوجه {[29]} .

فقوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } أي : بينا ظاهرا ، والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض{[26760]} ، وتكلم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان .


[1]:زيادة من أ.
[2]:ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
[3]:في د: "وأديت".
[4]:في د: "إنهم قالوا".
[5]:في د: "تكفروهما".
[6]:تفسير الطبري (11/228).
[7]:في د: "ومال".
[8]:في د: "أن يعذب".
[9]:في د: "اللهم إني أعوذ بك".
[10]:في د: "لا يحتسبون".
[11]:في د: "وجلس".
[12]:في د: "فإذا هو بسمكة".
[13]:في د: "الغالبة".
[14]:في د: "وضربوهما".
[15]:في ف، أ: "زاكية".
[16]:في ف: "قد بلغت مني" وهو خطأ.
[17]:في إسناده عاصم وقد تكلم فيه وشيخه مجهول. ورواه البخاري في صحيحه برقم (4569) ومسلم في صحيحه برقم (763) من طريق كريب عن ابن عباس بنحوه.
[18]:صحيح البخاري برقم (4725).
[19]:في جـ، ر، أ، و: "بيضاء".
[20]:في ت، ف، أ: "فذكره بنحوه".
[21]:في ت، ف، أ: "عن".
[22]:في ت: "قال: فأصاب".
[23]:في أ: "وسباق".
[24]:صحيح البخاري برقم (4727).
[25]:في أ: "فقال وقال".
[26]:في ت: "هل على الأرض"، وفي ف: "هل في الناس".
[27]:في ت: "فبينما".
[28]:في ف، أ: "يريان".
[29]:في و: "طريق أخرى: قال عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا".
[26760]:- (1) في م: "بعضا".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مّبِيناً * لّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخّرَ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً } .

يعني بقوله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا يقول : إنا حكمنا لك يا محمد حكما لمن سمعه أو بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك ، وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر ، لتشكر ربك ، وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم ، وفتحه ما فتح لك ، ولتسبحه وتستغفره ، فيغفر لك بفعالك ذلك ربك ، ما تقدّم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح ، وما تأخّر بعد فتحه لك ذلك ما شكرته واستغفرته .

وإنما اخترنا هذا القول في تأويل هذه الآية لدلالة قول الله عزّ وجلّ إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالفَتْح ، ورأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أفْوَاجا ، فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابا على صحته ، إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة ، وأن يستغفره ، وأعلمه أنه توّاب على من فعل ذلك ، ففي ذلك بيان واضح أن قوله تعالى ذكره : لَيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخّرَ إنما هو خبر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام عن جزائه له على شكره له ، على النعمة التي أنعم بها عليه من إظهاره له ما فتح ، لأن جزاء الله تعالى عباده على أعمالهم دون غيرها .

وبعد ففي صحة الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم حتى ترِم قدماه ، فقيل له : يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : «أفَلا أكُونُ عَبْدا شَكُورا ؟ » ، الدلالة الواضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول ، وأن الله تبارك وتعالى ، إنما وعد نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم غفران ذنوبه المتقدمة ، فتح ما فتح عليه ، وبعده على شكره له ، على نعمه التي أنعمها عليه . وكذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم : «إنّي لأَسْتَغْفِرُ اللّهَ وأتُوبُ إلَيْهِ فِي كُلّ يَوْمٍ مِئَةَ مَرّةٍ » ولو كان القول في ذلك أنه من خبر الله تعالى نبيه أنه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي ذكرنا ، لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية ، ولا لاستغفار نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ربه جلّ جلاله من ذنوبه بعدها معنى يعقل ، إذ الاستغفار معناه : طلب العبد من ربه عزّ وجلّ غفران ذنوبه ، فإذا لم يكن ذنوب تغفر لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى ، لأنه من المحال أن يقال : اللهمّ اغفر لي ذنبا لم أعمله . وقد تأوّل ذلك بعضهم بمعنى : ليغفر لك ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة ، وما تأخر إلى الوقت الذي قال : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ . وأما الفتح الذي وعد الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم هذه العدة على شكره إياه عليه ، فإنه فيما ذُكر الهدنة التي جرت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش بالحديبية .

وذُكر أن هذه السورة أُنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفة عن الحديبية بعد الهدنة التي جرَت بينه وبين قومه . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال : قضينا لك قضاءً مبينا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا والفتح : القضاء .

ذكر الرواية عمن قال : هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ذكرت :

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال : الحديبية .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال : نحرُه بالحديبية وحَلْقُه .

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا أبو بحر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا جامع بن شدّاد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : لما أقبلنا من الحُديبية أعرسنا فنمنا ، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم ، قال : فقلنا أيقظوه ، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «افْعَلُوا كمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ ، فكذلك من نام أو نسي » قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدناها قد تعلّق خطامها بشجرة ، فأتيته بها ، فركب فبينا نحن نسير ، إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه اشتدّ عليه فلما سري عنه أخبرنا أنه أُنزل عليه : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا .

حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، قال : لما رجعنا من غزوة الحديبية ، وقد حيل بيننا وبين نسكنا ، قال : فنحن بين الحزن والكآبة ، قال : فأنزل الله عزّ وجلّ : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ ، وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ، ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما ، أو كما شاء الله ، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَليّ آيَةٌ أحَبّ إليّ مِنَ الدّنْيا جَمِيعا » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، في قوله : إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال : نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية ، وقد حيل بينهم وبين نسكهم ، فنحر الهدي بالحديبية ، وأصحابه مخالطو الكآبة والحزن ، فقال : «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَليّ آيَةٌ أحَبّ إليّ مِنَ الدّنْيا جَمِيعا » ، فَقَرأ إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ . . . إلى قوله : عَزِيزا فقال أصحابه هنيئا لك يا رسول الله قد بين الله لنا ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ، فأنزل الله هذه الآية بعدها لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنات جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارَ خالِدِينَ فِيها . . . إلى قوله : وكانَ ذلكَ عِنْدَ اللّهِ فَوْزا عَظِيما .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا قتادة ، عن أنس ، قال : أُنزلت هذه الآية ، فذكر نحوه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بنحوه ، غير أنه قال في حديثه : فَقال رجل من القوم : هنيئا لك مريئا يا رسول الله ، وقال أيضا : فبين الله ماذا يفعل بنبيه عليه الصلاة والسلام ، وماذا يفعل بهم .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : «نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ مرجعه من الحديبية ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ نَزَلَتْ عَليّ آيَةٌ أحَبّ إليّ مِمّا عَلى الأرْضِ » ، ثم قرأها عليهم ، فقالوا : هنيئا مريئا يا نبيّ الله ، قد بين الله تعالى ذكره لك ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه : لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ . . . إلى قوله : فَوْزا عَظِيما » .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، قال : لما نزلت هذه الآية إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخّرَ ، وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ، ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما قالوا : هنيئا مريئا لك يا رسول الله ، فماذا لنا ؟ فنزلت لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها ، وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدّث عن أنس في هذه الآية إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا قال : الحديبية .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : ما كنا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل ، قال : تكلم سهل بن حنيف يوم صفّين ، فقال : يا أيها الناس اتهموا أنفسكم ، لقد رأيتنا يوم الحديبية ، يعني الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ، ولو نرى قتالاً لقاتلنا ، فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ألسنا على حقّ وهم على باطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : «بَلى » ، قال : ففيم نُعطَى الدنية في ديننا ، ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : «يا بْنَ الخَطّابِ ، إنّي رَسُولُ الله ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي أبَدا » ، قال : فرجع وهو متغيظ ، فلم يصبر حتى أتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ألسنا على حقّ وهم على باطل ؟ أليس قتلانا في الجنة ، وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قال : ففيم نعطَى الدنية في ديننا ، ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : يا بن الخطاب إنه رسول الله ، لن يضيعه الله أبدا ، قال : فنزلت سورة الفتح ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر ، فأقرأه إياها ، فقال : يا رسول الله ، أوَ فَتْح هو ؟ قال : «نَعَمْ » .

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر ، قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : تعدّون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة مِئة ، والحديبية : بئر .

حدثني موسى بن سهل الرملي ، حدثنا محمد بن عيسى ، قال : حدثنا مُجَمع بن يعقوب الأنصاريّ ، قال : سمعت أبي يحدّث عن عمه عبد الرحمن بن يزيد ، عن عمه مجمّع بن جارية الأنصاريّ ، وكان أحد القرّاء الذين قرأوا القرآن ، قال : شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا عنها ، إذا الناس يهزّون الأباعر ، فقال بعض الناس لبعض : ما للناس ، قالوا : أُوحِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا ، لَيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ فقال رجل : أوَ فتحٌ هو يا رسول الله ؟ قال : «نَعَمْ » ، «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّهُ لَفَتْحٌ » ، قال : فقُسّمَت خيبر على أهل الحديبية ، لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، وكان الجيش ألفا وخمس مئة ، فيهم ثلاث مئة فارس ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهما .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : نزلت إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحا مُبِينا بالحديبية ، وأصاب في تلك الغزوة ما لم يصبه في غزوة ، أصاب أن بُويع بيعة الرضوان ، وغُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس ، وبلغ الهَدْىُ مَحِله ، وأُطعموا نخل خيبر ، وفرح المؤمنون بتصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبظهور الروم على فارس .

وقوله تعالى : وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإظهاره إياك على عدوّك ، ورفعه ذكرك في الدنيا ، وغفرانه ذنوبك في الاَخرة ويَهْدِيَكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما يقول : ويرشدك طريقك من الدين لا اعوجاج فيه ، يستقيم بك إلى رضا ربك وَيَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْرا عَزِيزا يقول : وينصرك على سائر أعدائك ، ومن ناوأك نصرا ، لا يغلبه غالب ، ولا يدفعه دافع ، للبأس الذي يؤيدك الله به ، وبالظفر الذي يمدّك به .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } سميت في كلام الصحابة { سورة الفتح } . ووقع في صحيح البخاري عن عبد الله بن مغفل بغين معجمة مفتوحة وفاء مشددة مفتوحة قال : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة { سورة الفتح } فرجع فيها . وفيها حديث سهل بن حنيف لقد رأيتنا يوم الحديبية ولو ترى قتالا لقاتلنا . ثم حكى مقاله عمر إلى أن قال فنزلت سورة الفتح ولا يعرف لها اسم آخر .

ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح متجه الله للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي .

وهي مدنية على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها أو من غيرها . وهذه السورة نزلت بموضع يقال له كراع الغميم بضم الكاف من كراع وبفتح الغين المعجمة وكسر الميم من الغميم موضع بين مكة والمدينة وهو واد على مرحلتين من مكة وعلى ثلاثة أميال من عسفان وهو من أرض مكة . وقيل نزلت بضجنان بوزن سكران وهو جبل قرب مكة ونزلت ليلا فهي من القرآن الليلي .

ونزولها سنة ست بعد الهجرة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وقبل غزوة خيبر . وفي الموطإ عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره أي منصرفه من الحديبية ليلا وعمر بن الخطاب يسير معه فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال : عمر ثكلت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك . قال عمر : فحركت بعيري وتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن ، فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال : لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب الي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } . ومعنى قوله لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس لما اشتملت عليه من قوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك } .

وأخرج مسلم والترمذي عن أنس قال أنزل على النبي { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك } إلى قوله { فوزا عظيما } مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض ثم قرأها .

وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة في ترتيب نزول السور في قول جابر بن زيد . نزلت بعد سورة الصف وقبل سورة التوبة .

وعدة آيها تسع وعشرون .

وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة أنزل الله تعالى { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } فقال رسول الله : لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا وما فيها وفي رواية من أولها إلى آخرها .

أغراضها

تضمنت هذه السورة بشارة المؤمنين بحسن عاقبة صلح الحديبية وأنه نصر وفتح فنزلت به السكينة في قلوب المسلمين وأزال حزنهم من صدهم عن الاعتمار بالبيت وكان المسلمون عدة لا تغلب من قلة فرأوا أنهم عادوا كالخائبين فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم ، وأن دائرة السوء على المشركين والمنافقين .

والتنويه بكرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه ووعده بنصر متعاقب .

والثناء على المؤمنين الذين عزروه وبايعوه ، وأن الله قدم مثلهم في التوراة وفي الإنجيل .

ثم ذكر بيعة الحديبية والتنويه بشأن من حضرها .

وفضح الذين تخلفوا عنها من الأعراب ولمزهم بالجبن والطمع وسوء الظن بالله وبالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنعهم من المشاركة في غزوة خيبر ، وإنبائهم بأنهم سيدعون إلى جهاد آخر فإن استجابوا غفر لهم تخلفهم عن الحديبية .

ووعد النبي صلى الله عليه وسلم بفتح آخر يعقبه فتح أعظم منه وبفتح مكة . وفيها ذكر بفتح من خيبر كما سيأتي في قوله تعالى { فعجل لكم هذه } .

افتتاح الكلام بحرف ( إنّ ) ناشىء على ما أحلّ للمسلمين من الكآبة على أن أجيب المشركون إلى سؤالهم الهدنة كما سيأتي من حديث عمر بن الخطاب وما تقدم من حديث عبد الله بن مغفل فالتأكيد مصروف للسامعين على طريقة التعريض ، وأما النبيء صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقاً بذلك ، وسيأتي تبيين هذا التأكيد قريباً .

والفتح : إزالة غلق البابِ أو الخزانة قال تعالى : { لا تُفتَّح لهم أبواب السماء } [ الأعراف : 40 ] ويطلق على النصر وعلى دخول الغازي بلاد عدوّه لأن أرض كل قوم وبلادهم مواقع عنها فاقتحام الغازي إياها بعد الحرب يشبه إزالة الغلق عن البيت أو الخزانة ، ولذلك كثر إطلاق الفتح على النصر المقترن بدخول أرض المغلوب أو بلده ولم يطلق على انتصار كانت نهايته غنيمة وأسر دون اقتحام أرض فيقال : فتح خيبر وفتح مكة ولا يقال : فتح بَدر . وفتح أُحد . فمن أطلق الفتح على مطلق النصر فقد تسامح ، وكيف وقد عطف النصر على الفتح في قوله : { نصر من الله وفتح قريب } في سورة الصف ( 13 ) . ولعلّ الذي حداهم على عدّ النصر من معاني مادة الفتح أن فتح البلاد هو أعظم النصر لأن النصر يتحقق بالغلبة وبالغنيمة فإذا كان مع اقتحام أرض العدّو فذلك نصر عظيم لأنه لا يتم إلا مع انهزام العدّو أشنع هزيمة وعجزه عن الدفاع عن أرضه . وأطلق الفتح على الحكم قال تعالى : { ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } الآية سورة ألم السجدة ( 28 ) .

ولمراعاة هذا المعنى قال جمع من المفسّرين : المراد بالفتح هنا فتح مكة وأن محمله على الوعد بالفتح . والمعنى : سنفتح . وإنما جيء في الإخبار بلفظ الماضي لتحققه وتيقنه ، شُبه الزمن المستقبل بالزمن الماضي فاستعملت له الصيغة الموضوعة للمضي . أو نقول استعمل { فتحنا } بمعنى : قدّرنا لك الفتح ، ويكون هذا الاستعمال من مصطلحات القرآن لأنه كلام من له التصرف في الأشياء لا يحجزه عن التصرف فيها مانع . وقد جرى على عادة إخبار الله تعالى لأنه لا خلاف في إخباره ، وذلك أيضاً كناية عن علو شأن المخبر مثل { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [ النحل : 1 ] .

وما يندرج في هذا التفسير أن يكون المراد بالفتح صلح الحديبية تشبيهاً له بفتح مكة لأنه توطئة له فعن جابر بن عبد الله : ما كنّا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية ، يريد أنهم أيقنوا بوقوع فتح مكة بهذا الوعد ، وعن البراء بن عازب « تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية » ، يريد أنكم تحملون الفتح في قوله : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } على فتح مكة ولكنه فتح بيعة الرضوان وإن كان فتح مكة هو الغالب عليه اسم الفتح .

ويؤيد هذا المحمل حديث عبد الله بن مغفَّل « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة سورةَ الفتح » ، وفي رواية « دخل مكة وهو يقرأ سورة الفتح على راحلته » .

على أن قرائن كثيرة تُرجح أن يكون المراد بالفتح المذكور في سورة الفتح : أُولاها أنّه جعله مُبيناً .

الثّانية : أنه جعل علّته ( النصر العزيز ) الثانية ، ولا يكون الشيء علّة لنفسه .

الثالثة : قوله { وأثابهم فتحاً قريباً } [ الفتح : 18 ] .

الرّابعة : قوله : { ومغانم كثيرة يأخذونها } [ الفتح : 19 ] .

الخامسة : قوله : { فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً } [ الفتح : 27 ] .

والجمهور على أن المراد في سورة الفتح هو صلح الحديبية ، وجعلوا إطلاق اسم الفتح عليه مجازاً مرسلاً باعتبار أنه آل إلى فتح خيبر وفتِح مكة ، أو كان سبباً فيهما فعن الزهري « لقد كان يوم الحديبية أعظم الفتوح ذلك أن النبيء صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة فلما وقع صلح مشي الناس بعضهم في بعض ، أي تفرقوا في البلاد فدخل بعضهم أرض بعض من أجْل الأمن بينهم ، وعلموا وسمِعوا عن الله فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه ، فما مضت تلك السنتانِ إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكّة في عشرة آلاف » اه ، وفي رواية « فلما كانت الهدنة أمن الناس بعضُهم بعضاً فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة فلم يكلَّم أحد يعقل بالإسلام إلا دخل فيه » . وعلى هذا فالمجاز في إطلاق مادة الفتح على سببه ومآله لا في صورة الفعل ، أي التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه بهذا الاعتبار المجازي قد وقع فيما مضي فيكون اسم الفتح استعمل استعمال المشترك في معنييه ، وصيغةُ الماضي استعملت في معنييها فيظهر وجه الإعجاز في إيثار هذا التركيب . وقيل : هو فتح خيبر الواقع عند الرجوع من الحديبية كما يجىء في قوله : { إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها } [ الفتح : 15 ] .

وعلى هذه المحامل فتأكيد الكلام ب ( إن ) لما في حصول ذلك من تردد بعض المسلمين أو تساؤلهم ، فعن عمر أنه لما نزلت { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } قال : « أوَ فتح هو يا رسول الله ؟ قال : " نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح " . وروى البيهقي عن عروة بن الزبير قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما هذا بفتح صُددنا عن البيت وصُدّ هدينا . فبلغ ذلك رسول الله فقال : بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا ولقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون .

فقال المسلمون : صدق الله ورسوله وهو أعظم الفتوح والله يا رسول الله ما فكرنا فيما ذكرت ، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا » .

وحذف مفعول { فتحنا } لأن المقصود الإعلام بجنس الفتح لا بالمفتوح الخاص .

واللام في قوله : { فتحنا لك } لام العلة ، أي فتحنا لأجلك فتحاً عظيماً مثل التي في قوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] .

وتقديم المجرور قبل المفعول المطلق خلافاً للأصل في ترتيب متعلقات الفعل لقصد الاهتمام والاعتناء بهذه العلة .