المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

101- الصلاة فريضة محكمة لا تسقط في السفر ، ولكن لا إثم على من يقصرها فيه عن الحضر . فالذين يخرجون مسافرين - إن خافوا أن يتعرض لهم الكافرون بما يكرهون - لهم أن يقصروا الصلاة ، فالصلاة التي هي أربع ركعات يصلونها اثنتين ، وإن الحذر من تعرض الكافرين واجب لأنهم أعداء ، عداوتهم واضحة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

تفسير الشافعي 204 هـ :

... فكان بينا في كتاب الله تعالى أن قصر الصلاة في الضرب في الأرض والخوف تخفيف من الله عز وجل عن خلقه، لا أن فرضا عليهم أن يقصروا،... أخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي عمار، عن عبد الله بن باباه، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله عز وجل: {أن تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلَوَاةِ إِنْ خِفْتُمُ أَنْ يَّفْتِنَكُمُ اَلذِينَ كَفَرُواْ}. فقد أمن الناس؟! فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»...

التقصير لمن خرج غازيا خائفا، في كتاب الله عز وجل... وقال الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوَاتِ وَالصَّلَواةِ اِلْوُسْطى} إلى {رُكْبَانًا} فدل إرخاصه في أن يصلوا رجالا وركبانا على أن الحال التي أذن لهم فيها بأن يصلوا رجالا وركبانا من الخوف، غير الحال الأولى التي أمرهم فيها أن يحرس بعضهم بعضا. فعلمنا أن الخوفين مختلفان، وأن الخوف الآخر الذي أذن لهم فيه أن يصلوا رجالا وركبانا، لا يكون إلا أشد من الخوف الأول...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ}: وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض، {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ}: فليس عليكم حرج ولا إثم، {أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ}: أن تقصروا من عددها، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعا، اثنتين، في قول بعضهم. وقيل: معناه: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقلّ عددها في حال ضربكم في الأرض، أشار إلى واحدة في قول آخرين.

وقال آخرون: معنى ذلك لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. يعني: إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وفتنتهم إياهم فيما حملهم عليهم وهم فيها ساجدون، حتى يقتلوهم أو يأسروهم، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له.

ثم أخبرهم جلّ ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال: {إنّ الكافِرينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا} يعني: الجاحدون وحدانية الله كانوا لكم عدوّا مبينا، يقول: عدوّا قد أبانوا لكم عداوتهم، بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة.

واختلف أهل التأويل في معنى القصر الذي وضع الله الجناح فيه عن فاعله، فقال بعضهم: في السفر من الصلاة التي كان واجبا تمامها في الحضر أربع ركعات، وأذن في قصرها في السفر إلى اثنتين... حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا يوسف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن عليّ، قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنّا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بحَوْل، غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم! فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين: {إنْ خفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا إنّ الكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا وإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}... إلى قوله: {إنّ اللّهَ أعَدّ للكافِرينَ عَذَابا مُهِينا} فنزلت صلاة الخوف.

وهذا تأويل للآية حسن لو لم يكن في الكلام «إذا»، وإذا تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها، ولو لم يكن في الكلام «إذا» كان معنى الكلام على هذا التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق: إن خفتم أيها المؤمنون أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم، وكنت فيهم يا محمد، فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك، الآية. وبعد، فإن ذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ بن كعب: «وإذا ضَرَبْتُم في الأرض فليس عليكم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا من الصّلاة أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا».

وهذه القراءة تنبئ على أن قوله: {إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا} مواصل قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} وأن معنى الكلام: وإذا ضربتم في الأرض فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، وأن قوله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ} قصة مبتدأة غير قصة هذه الآية. وذلك أن تأويل قراءة أبيّ هذه التي ذكرناها عنه: «وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا»، فحذفت «لا» لدلالة الكلام عليها، كما قال جلّ ثناؤه: {يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا} بمعنى: أن لا تضلوا. ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق.

وقال آخرون: بل هو القصر في السفر، غير أنه إنما أذن جلّ ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدوّ يخشى أن يفتنه في صلاته. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا ابن أبي فديك، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، أنه قال لعبد الله بن عمر: إنّا نجد في كتاب الله قصر الصلاة في الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به.

وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية: قصر صلاة الخوف في غير حال المسايفة، قالوا: وفيها نزل. عن مجاهد في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} قال: يوم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنَان، فتواقفوا، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين أو أربعا، شكّ أبو عاصم ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا. فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله عليه: {فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فصلى العصر، فصفّ أصحابه صفين، ثم كبر بهم جميعا، ثم سجد الأوّلون سجدة والاَخرون قيام، ثم سجد الاَخرون حين قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم كبر بهم وركعوا جميعا، فتقدم الصفّ الاَخر، واستأخر الأوّل، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أوّل مرّة وقصر العصر إلى ركعتين، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سُلَيْم.

وقال آخرون: بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف، إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر، لا في صلاة الإقامة. قالوا: وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان تمام غير قصر، كما أن صلاة الإقامة أربع ركعات في حال الإقامة، قالوا: فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم، فجعلت على النصف، وهي تمام في السفر، ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه، فجعلت على النصف ركعة. عن السديّ: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا}... إلى قوله: {عَدُوّا مُبِينا} إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام، والتقصير لا يحلّ إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة والتقصير ركعة، يقوم الإمام، ويقوم جنده جندين، طائفة خلفه، وطائفة يوازون العدوّ، فيصلي بمن معه ركعة ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتلك المشية القهقرى، ثم تأتى الطائفة الأخرى، فتصلى مع الإمام ركعة أخرى، ثم يجلس الإمام فيسلم، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة ثم يرجعون إلى صفهم، ويقوم الاَخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة، والناس يقولون: لا، بل هي ركعة واحدة، لا يصلى أحد منهم إلى ركعته شيئا، تجزئه ركعة الإمام، فيكون للإمام ركعتان، ولهم ركعة، فذلك قول الله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ}... إلى قوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}.

عن جابر بن عبد الله، قال: صلاة الخوف ركعة.

وقال آخرون: عَنى به القَصْر في السفَر، إلا أنه عنى به القصْر في شدّة الحرب وعند المسايفة، فأبيح عند التحام الحرب للمصلى أن يركع ركعة إيماء برأسه حيث توجه بوجهه. قالوا: فذلك معنى قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا}. عن ابن عباس: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ}... الآية، قصر الصلاة إن لقيت العدوّ وقد حانت الصلاة أن تكبر الله وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا.

وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: عَنَى بالقْصر فيها القصر من حدودها، وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها مستقبل القبلة فيها ومستدبرها وراكبا وماشيا، وذلك في حال الشبكة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف، وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى: {فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكبْانا} وأذن بالصلاة المكتوبة فيها راكبا إيماء بالركوع والسجود على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا} لدلالة قول الله تعالى: {فإذَا اطْمأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ} على أن ذلك كذلك¹ لأن إقامتها إتمام حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبة في حال الخوف.

فإن ظنّ ظانّ أن ذلك أمر من الله بإتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم غير مقيم صلاته لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين، فذلك قول إن قاله قائل مخالف لما عليه الأمة مجمعة من أن المسافر لا يستحقّ أن يقال له: إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين أنه غير مقيم صلاته. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفا من عدوّه أن يفتنه، أن يقيم صلاته إذا اطمأنّ وزال الخوف، كان معلوما أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف، وإذ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة إقامة صلاته، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة ترك إقامتها. وقد دللنا على أن ترك إقامتها، إنما هو ترك حدودها على ما بينا.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

القَصْرُ في الصلاة سُنَّةٌ في السفر، وكان في ابتداء الشرع عند الخوف، فأقرَّ ذلك مع زوال الخوف رفقاً بالعباد، فلما دخل الفرضَ القَصرُ لأجل السفر عوضوا بإباحة النَّفل في السفر على الراحلة أينما توجهت به دابته من غير استقبال، فكذلك الماشي؛ ليُعْلَم أنَّ الإذنَ في المناجاة مستديمٌ في كل وقت؛ فإن أردْتَ الدخول فمتى شئت، وإن أردت التباعد مترخصاً فلك ما شئت، وهذا غاية الكرم، وحفظ سُنَّة الوفاء، وتحقق معنى الولاء...

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا} الآية نزلت في إباحة قصر الصلاة في السفر وظاهر القرآن يدل على أن القصر يستباح بالسفر والخوف لقوله {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} أي يقتلكم، والإجماع منعقد على أن القصر يجوز في السفر من غير خوف وثبتت السنة بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ذكر الخوف في الآية على حال غالب أسفارهم في ذلك الوقت...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: فما تصنع بقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ}؟ قلت: كأنهم ألفوا الإتمام، فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ:

...

.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ}:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَصْرَ قَصْرُ عَدَدٍ، وَهُمُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا قَصْرُ الْحُدُودِ وَتَغْيِيرُ الْهَيْئَاتِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الْقَصْرَ فِي الْعَدَدِ قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَرْبَعٍ إلَى اثْنَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَقْصُرُ مِنِ اثْنَيْنِ إلَى وَاحِدَةٍ.

وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا؛ فَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا حَالَةَ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ عَدَدِهَا إلَى ثِنْتَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا فِي حَالَةِ الْأَمْنِ.

وَأَمَّا الْقَصْرُ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ إلَى وَاحِدَةٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً. وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ بَيَانُهُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إنْ خِفْتُمْ}: فَشَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَوْفَ فِي الْقَصْرِ...

وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَصْرَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرُخْصَةٌ لَا عَزِيمَةَ وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ -بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ- عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا أَتَمَّ بِمِنى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ».

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما أوجب السفر للجهاد والهجرة، و كان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء؛ ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله سبحانه وتعالى: {وإذا ضربتم} أي بالسفر {في الأرض} أيّ سفر كان لغير معصية. ولما كان القصر رخصة غير عزيمة، بينه بقوله: {فليس عليكم جناح} أي إثم وميل في {أن تقصروا} ولما كان القصر خاصاً ببعض الصلوات، أتى بالجار لذلك ولإفادة أنه في الكم لا في الكيف فقال: {من الصلاة} أي فاقصروا إن أردتم وأتموا إن أردتم، وبينت السنة أعيان الصلوات المقصورات، وكم يقصر منها من ركعة، وأن القصر من الكمية لا من الكيفية بالإيماء... ولما ذكر الخوف منهم، علله مشيراً بالإظهار موضع الإضمار، وباسم الفاعل إلى أن من تلبس بالكفر ساعة ما، أعرق فيه، أو إلى أن المجبول على العداوة المشار إليه بلفظ الكون إنما هو الراسخ في الكفر المحكوم بموته عليه فقال: {إن الكافرين} أي الراسخين منهم في الكفر {كانوا} أي جبلة وطبعاً. ولعله اشار إلى أنهم مغلوبون بقوله: {لكم} دون عليكم {عدواً} ولما كان العدو مما يستوي فيه الواحد والجمع قال: {مبيناً} أي ظاهر العداوة، يعدون عليكم لقصد الأذى مهما وجدوا لذلك سبيلاً، فربما وجدوا الفرصة في ذلك عند طول الصلاة فلذلك قصرتها، ولولا أنها لا رخصة فيها بوجه لوضعتها عنكم في مثل هذه الحالة، أو جعلت التخفيف في الوقت فأمرت بالتأخير، ولكنه لا زكاء للنفوس بدون فعلها على ما حددت من الوقت وغيره...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

السياق في أحكام الجهاد في سبيل الله وجاء فيه حكم الهجرة. والصلاة فرض لازم في كل حال لا يسقط في وقت القتال ولا في أثناء الهجرة ولا غير الهجرة من أيام السفر، ولكن قد تتعذر أو تتعسر في السفر وحال الحرب إقامتها فرادى وجماعة كما أمر الله تعالى أن تقام في صورتها ومعناها، فناسب في هذا المقام أن يبين الله تعالى ما يريد أن يرخص لعباده فيه من القصر من الصلاة في هاتين الحالتين فقال: {وإذا ضربتم في الأرض}... وقال ههنا ضربتم في الأرض ولم يقل: {ضربتم في سبيل الله} كما قال في الآية (93) من هذه السورة الواردة في حكم إلقاء السلام في الحرب لأن هذه أعم فهي رخصة لكل مسافر ولو لم يكن سفره في سبيل الله للدفاع عن الحق وإقامة الدين بأن كان للتجارة أو لمجرد السياحة مثلا، وإذا كان السفر في سبيل الله فالمسافر أحق بالرخصة وهي له أولا وبالذات بقرينة السياق وما جاء في الآية التي بعد هذه {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} أي فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجة دين الله وهو الحنيفية السمحة في القصر من الصلاة. والجناح فسر بالإثم وبالتضييق وبالميل عن الاستواء قيل هو من جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها قاله الراغب وهو الذي فسر جنوح السفينة بما ذكر، وفسره غيره بأنه عبارة عن بلوغها أرضا رقيقة تغرز فيها ويمتنع جريها، وهذا المعنى يناسب الجناح أيضا على أن الجنوح معناه الميل وهو من الجنح بالكسر بمعنى الجانب. ومن فسر الجناح بالتضييق أخذه من قولهم جنح البعير (بصيغة المجهول) إذا انكسرت جوانحه (أضلاعه) لثقل حمله، وتفسيره بالإثم مأخوذ من هذا أيضا وهو مجاز. والقصر (بالفتح) (كعنب) ضد الطول وقصرت الشيء جعلته قصيرا...

فقوله تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} شرط لنفي الجناح في قصر الصلاة، والفتنة الإيذاء بالقتل أو غيره كما صرح به بعضهم وأصله الاختبار بالمكروه والأذى كما تقدم من قبل...

{إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا} تعليل لتوقع الفتنة من الذين كفروا أي كان شأنهم أنهم أعداء مظهرون للعداوة بالقتال والعدوان...

الأستاذ الإمام:

والقصر المذكور في الآية الأولى هنا ليس هو قصر الصلاة الرباعية في السفر المبين بشروطه في كتب الفقه فذلك مأخوذ من السنة المتواترة، وأما ها هنا فهو في صلاة الخوف كما ورد عن بعض الصحابة وغيرهم من السلف، والشرط فيها على ظاهره، والقول بأنه لبيان الواقع فلا مفهوم له لغوٌ من القول لا يجوز أن يقال في أعلى الكلام وأبلغه، فهذا القصر المذكور في الآية الأولى هو المبين في الآية التي بعدها،... والآية التي نحن بصدد تفسيرها في القصر من عدد الركعات بأن تصلي طائفة مع الإمام ركعة واحدة فإذا أتمتها جاءت طائفة أخرى وهي التي كانت تحرس الأولى فصلت معه الركعة الثانية، وليس في الآية أن واحدة من الطائفتين تتم الصلاة...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} أي: لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل، لأن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس، بل ولا ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} إلى آخر الآية. وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه...

ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران:

أحدهما: ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره.

والثاني: أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته...

وقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان: إحداهما: أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ، فإتيانه بقوله: {مِنَ الصَّلَاةِ} ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. الثانية: أن {من} تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين...

فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد، وهو قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما، السفر مع الخوف...

ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا} قصر العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول. وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا؟ أي: والله يقول: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" أو كما قال. فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد. وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو مظنة المشقة...

وأما على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالقصر: قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه، فإذا وجد السفر والخوف، جاز قصر العدد، وقصر الصفة، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة. ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يخلص لنا مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي النظام الإسلامي، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني... وأخيرا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة؛ ويقود المجتمع المسلم؛ ويخوض المعركة -في كل ميادينها- وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية؛ وطبائعها الفطرية، ورواسبها كذلك من الجاهلية. وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله. بعد ذلك يستطرد الى رخصة، يبيحها الله للمهاجرين، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة. في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى. فيفتنوهم عن دينهم. وهي رخصة القصر من الصلاة -وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقا سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف- فهذا قصر خاص...

إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه، تعينه على ما هو فيه، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه، وما هو مرصود له في الطريق.. والصلاة أقرب الصلات إلى الله. وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات. فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم: (واستعينوا بالصبر والصلاة).. ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار. فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله. وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجى ء إلى حمى الله.. غير أن الصلاة الكاملة -وما فيها من قيام وركوع وسجود- قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب. أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه. أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه.. ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر في الصلاة عند مخافة الفتنة...

وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنه، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة، ويأخذ حذره من عدوه...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وينتقل كتاب الله من الحث على الهجرة وتبيين فوائدها وفضائلها إلى تبيين الكيفية التي يؤدي بها المسلمون صلواتهم عندما يكونون مشتبكين في حالة حرب مع أعدائهم، حيث إن الإسلام لا يعفيهم من الصلاة ولو في هذه الحالة، نظرا إلى أن الصلاة عماد الدين وعموده الفقري، لا غنى عنها في حضر أو سفر، ولا في صحة أو مرض، ولا في حال أمن أو خوف، وأرشدهم الحق سبحانه وتعالى إلى نوع التخفيف الذي خففه عنهم بالنسبة للحالة التي يخشون فيها فتنة العدو وهم في مواجهته، وذلك بالإذن لهم في قصر الصلاة، والاقتصار فيها على ركعة واحدة أو ركعتين اثنتين، على أن يقسموا أنفسهم بالتناوب إلى طائفتين: طائفة تقوم بالصلاة، وأخرى بالحراسة، فتصطف الطائفة الأولى وراء الإمام وتصلي معه ركعة واحدة، ثم تتم ركعتها الثانية وحدها وتسلم، في الوقت الذي تكون فيه الطائفة الثانية قائمة بحراستها من مفاجآت العدو لها أثناء الصلاة. وعند انتهاء الطائفة الأولى من صلاتها تبادر فتأخذ مراكز الطائفة الأخرى التي حرستها من قبل وتحل محلها في الحراسة، وتأتي الطائفة الثانية لتلتحق بدورها في الصلاة وراء الإمام، الذي يثبت قائما في انتظارها بركعته الثانية، فتأتم به فيها، ثم تضيف إلى الركعة التي أدركتها معه ركعة أخرى وحدها تتم بها ركعتين وتسلم، وفي الحين تعود إلى مراكزها في صف القتال. وهكذا يحافظ المؤمنون على صلواتهم التي هي صلتهم بالله في كل الظروف، يستمدون عن طريقها المدد الإلهي والعون الروحي لمواجهة مسؤولياتهم بقلب ثابت، وعزم صادق، ويقين في الله لا يداخله أدنى شك أو وهن،... ومما تجدر ملاحظته في هذا الصدد ما قرره الشارع في كيفية هذه الصلاة من الجمع بين مقتضيات العبادة ومقتضيات الدفاع على أكمل وجه من التوفيق والتنسيق، فأعطى لواجب العبادة حقه من جهة، وأعطى لضرورة الدفاع حقها من جهة أخرى، وهكذا لم يكتف الإسلام من جنوده بالعبادة وحدها مع التفريط في مقتضيات الدفاع والتعرض للخطر، كما لم يكتف منهم بالواجب العسكري وحده والتحرز من العدو، مع نسيان الله وإهمال الصلاة. وتلك هي خطة الإسلام المرسومة دائما في مختلف مجالات الحياة، بالنسبة للجوانب الروحية والجوانب المادية، لا يضحي بجانب منها في سبيل الجانب الآخر، وإنما يعمل على إعطاء كل جانب من الجانبين حظه من العناية والاهتمام، ويسعى للتوفيق بينهما حفظا للتوازن وحرصا على الانسجام...

وطبقا لما هو متعارف في تشريع الكتاب والسنة من تنبيه الشارع إلى حكمة التشريع في عدة مناسبات جاء التعقيب على الكيفية التي شرعها الله لصلاة المسلمين وهم في مواجهة العدو، بما يبين السر فيها وفي تقسيمهم إلى طائفتين: طائفة تصلي وطائفة تحرس المصلين، ألا وهو اتخاذ الاحتياط والتزام الحذر، إزاء مباغتات العدو وهجومه المنتظر، وذلك قوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً}...

ثم رخص الله سبحانه وتعالى لجنود الإسلام أن يضعوا أسلحتهم لعذر المرض والمطر، لكن مع ترك الاستسلام ووجوب الاحتياط وأخذ الحذر، وذلك قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102)}...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

شرع سبحانه صلاة مخصوصة اسمها "صلاة الحرب وصلاة الخوف "حتى لا يقولن أحد إن الحرب تمنعنا من الصلاة ففي الحرب يكون من الأولى بالمسلم أن يلتحم بمنهج ربه. كذلك في السفر يشرع الحق قصر الصلوات...