36- واعبدوا الله - وحده - ولا تجعلوا معه شريكاً في الألوهية والعبادة ، وأحسنوا إلى الوالدين إحساناً لا تقصير فيه ، وإلى أقربائكم وإلى اليتامى ، والذين افتقروا بسبب عجزهم أو ذهاب الكوارث بأموالهم ، وبالجار القريب النسب والجار الأجنبي ، والرفيق لك في عمل أو طريق أو جلوس ، والمسافر المحتاج الذي لا قرار له في بلد معين ، وبما ملكتم من الأرقاء فتيانا وفتيات . إن الله لا يحب من كان متعالياً على الناس ، لا تأخذه بهم رحمة ، كثير التمدح بنفسه .
هناك أكثر من مناسبة واحدة ، تربط بين مطلع هذا الدرس ؛ وبين محور السورة كلها ، وموضوعاتها الأساسية من ناحية ؛ وبينه وبين موضوعات الدرس السابق في هذا الجزء من ناحية أخرى .
فهذا الدرس بدء جولة في تنظيم حياة المجتمع المسلم ؛ وتخليصه من رواسب الجاهلية ، وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة ؛ والتحذير من أهل الكتاب - وهم اليهود بالمدينة - وما جبلوا عليه من شر ونكر ؛ وما ينفثونه في المجتمع المسلم ، وما يبذلونه من جهود لتعويق نموه وتكامله - وبخاصة من الناحية الأخلاقية ، وناحية التكافل والتعاون ، اللتين هما موضع القوة النامية في هذا المجتمع الجديد . .
ولأن الدرس الجديد جولة جديدة ، فقد بدأ بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها المجتمع المسلم - قاعدة التوحيد الخالص - التي تنبثق منها حياته ؛ وينبثق منها منهج هذه الحياة ، في كل جانب ، وفي كل اتجاه .
وقد سبق هذا الدرس أشواط منوعة في التنظيم العائلي ، والتنظيم الاجتماعي . وكان الحديث في الدرس السابق عن الأسرة وتنظيمها ووسائل صيانتها ، والروابط التي تشدها وتوثق بناءها . . فجاء هذا الدرس يتناول علاقات إنسانية - في المجتمع المسلم - أوسع مدى من علاقات الأسرة ؛ ومتصلة بها كذلك . متصلة بها بالحديث عن الوالدين . ومتصلة بها في توسعها بعد علاقة الوالدين ، لتشمل علاقات أخرى ؛ ينبع الشعور بها من المشاعر الودود الطيبة التي تنشأ في جو الأسرة المتحابة ؛ حتى تفيض على جوانب الإنسانية الأخرى ؛ ويتعلمها الإنسان - أول من يتعلمها - في جو الأسرة الحاني ومحضنها الرفيق . ومن هناك يتوسع في علاقاته بأسرة الإنسانية كلها ؛ بعدما بذرت بذورها في حسه أسرته الخاصة القريبة .
ولأن في الدرس الجديد توجيهات إلى رعاية الأسرة القريبة - العائلة - والأسرة الكبيرة - الإنسانية - وإقامة قيم وموازين في هذا الحقل ، للباذلين وللباخلين . . فقد ابتدأ الدرس بالقاعدة الأساسية التي تنبثق منها كل القيم والموازين - كما ينبثق منها منهج الحياة كله في المجتمع المسلم - وهي قاعدة التوحيد . . وربط كل حركة وكل نشاط ، وكل خالجة وكل انفعال بمعنى العبادة لله . التي هي غاية كل نشاط إنساني ، في ضمير المسلم وفي حياته . .
وبسبب من الحديث عن عبادة الله وحده - في محيطها الشامل - جاءت الفقرة الثانية في الدرس ؛ تبين بعض أحكام الصلاة والطهارة ؛ وتتخذ خطوة في طريق تحريم الخمر - ولم تكن قد حرمت بعد - باعتبار هذه الخطوة جزءا من برنامج التربية الإسلامية العامة الدائبة الخطى في المجتمع الوليد . وباعتبار علاقتها بالعبادة والصلاة والتوحيد . .
حلقات متماسكة بعضها مع بعض . ومع الدرس السابق . ومع محور السورة كذلك .
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ، وبالوالدين إحسانًا ، وبذي القربي واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربي والجار الجنب والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم . . إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله . وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ! وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله ، وكان الله بهم عليما . إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها ، ويؤت من لدنه أجرا عظيما . فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ؟ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثا . .
هذه الفقرة تبدأ بالأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن إشراك شيء به . . تبدأ بحرف عطف يربط بين هذا الأمر ، وهذا النهي ، والأوامر السابقة الخاصة بتنظيم الأسرة في أواخر الدرس الماضي . فيدل هذا الربطبين الموضوعين على الوحدة الكلية الشاملة المتكاملة في هذا الدين . فليس هو مجرد عقيدة تستكن في الضمير ؛ ولا مجرد شعائر تقام وعبادات ؛ ولا مجرد تنظيم دنيوي منقطع الصلة بالعقيدة وبالشعائر التعبدية . . إنما هو منهج يشمل هذا النشاط كله ، ويربط بين جوانبه ، ويشدها جميعا إلى الأصل الأصيل . وهو توحيد الله . والتلقي منه وحده - في هذا النشاط كله - دون سواه . توحيده إلها معبودا . وتوحيده مصدرا للتوجيه والتشريع لكل النشاط الإنساني أيضا . لا ينفك هذا التوحيد عن ذاك - في الإسلام - وفي دين الله الصحيح على الإطلاق .
ويلي الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، الأمر بالإحسان إلى تلك المجموعات من الأسرة الخاصة ، والأسرة الإنسانية ؛ وتقبيح البخل والخيلاء والفخر وأمر الناس بالبخل ، وكتمان فضل الله - من أي نوع سواء كان من المال أم من العلم والدين - والتحذير من اتباع الشيطان ؛ والتلويح بعذاب الآخرة ، وما فيه من خزي وافتضاح . . لربط هذا كله بالتوحيد ؛ وتحديد المصدر الذي يتلقى منه من يعبد الله ولا يشرك به شيئا . وهو مصدر كذلك واحد لا يتعدد ولا يشاركه أحد في التوجيه والتشريع ؛ كما لا يشاركه أحد في الألوهية وعبادة الناس له بلا شريك .
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . وبالوالدين إحسانا . وبذي القربى واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب . وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم . . . ) .
إن التشريعات والتوجيهات - في منهج الله - إنما تنبثق كلها من أصل واحد ، وترتكز على ركيزة واحدة . إنها تنبثق من العقيدة في الله ، وترتكز على التوحيد المطلق سمة هذه العقيدة . . ومن ثم يتصل بعضها ببعض ؛ ويتناسق بعضها مع بعض ؛ ويصعب فصل جزئية منها عن جزئية ؛ وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع إلى أصلها الكبير الذي تلتقي عنده ؛ ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة الإسلام ؛ كما أنه غير واف بتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة .
من العقيدة في الله تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية والحيوية والإنسانية . تلك التصورات التي تقوم عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والعالمية . والتي تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض ، في كل مجالي النشاط الإنساني في الأرض ؛ والتي تكيف ضمير الفرد وواقع المجتمع ؛ والتي تجعل المعاملات عبادات - بما فيها من اتباع لمنهج الله ومراقبة الله - والعبادات قاعدة للمعاملات - بما فيها من تطهير للضمير والسلوك - والتي تحيل الحياة في النهاية وحدة متماسكة ؛ تنبثق من المنهج الرباني ، وتتلقى منه وحده دون سواه ، وتجعل مردها في الدنيا والآخرة إلى الله .
هذه السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية ، وفي المنهج الإسلامي ، وفي دين الله الصحيح كله ، تبرز هنا في تصدير آية الإحسان إلى الوالدين والأقربين ، وغيرهم من طوائف الناس . بعبادة الله وتوحيده - كما أسلفنا - ثم في الجمع بين قرابة الوالدين ، وقرابة هذه الطوائف من الناس ، متصلة هذه وتلك بعبادة الله وتوحيده - كذلك - وذلك بعد أن جعل هذه العبادة وهذا التوحيد واسطة ما بين دستور الأسرة القريبة في نهاية الدرس الماضي ، ودستور العلاقات الإنسانية الواسعة في هذا الدرس - على النحو الذي بينا من قبل - ليصلها جميعا بتلك الآصرة التي تضم الأواصر جميعا ؛ وليوحد المصدر الذي يشرع ويوجه في شأن هذه الأواصر جميعا . .
اعبدوا الله . . ولا تشركوا به شيئًا . .
الأمر الأول بعبادة الله . . والنهي الثاني لتحريم عبادة أحد - معه - سواه . نهيا باتا ، شاملا ، لكل أنواع المعبودات التي عرفتها البشرية : ( ولا تشركوا به شيئًا ) شيئا كائنا ما كان ، من مادة أو حيوان أو إنسانأو ملك أو شيطان . . فكلها مما يدخل في مدلول كلمة شيء ، عند إطلاق التعبير على هذا المنوال . .
ثم ينطلق إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين - على التخصيص - ولذوي القربي - على التعميم - ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين - وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية ؛ فقد كان الله أرحم بالذراري من آبائهم وأمهاتهم في كل حال . والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين . بالجيل المدبر المولي . إذ الأولاد - في الغالب - يتجهون بكينونتهم كلها ، وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم ؛ لا الجيل الذي خلفهم ! وبينما هم مدفوعون في تيار الحياة إلى الأمام ، غافلون عن التلفت إلى الوراء ، تجيئهم هذه التوجيهات من الرحمن الرحيم ، الذي لا يترك والدا ولا مولودا ، والذي لا ينسى ذرية ولا والدين ؛ والذي يعلم عباده الرحمة بعضهم ببعض ، ولو كانوا ذرية أو والدين !
كذلك يلحظ في هذه الآية - وفي كثير غيرها - أن التوجيه إلى البر يبدأ بذوي القربي - قرابة خاصة أو عامة - ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها ، إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الأنسانية الكبيرة . وهذا المنهج يتفق - أولا - مع الفطرة ويسايرها . فعاطفة الرحمة ، ووجدان المشاركة ، يبدآن أولا في البيت . في الأسرة الصغيرة . وقلما ينبثقان في نفس لم تذق طعم هذه العاطفة ولم تجد مس هذا الوجدان في المحضن الأول . والنفس كذلك أميل إلى البدء بالأقربين - فطرة وطبعا - ولا بأس من ذلك ولا ضير ؛ ما دامت توجه دائما إلى التوسع في الدائرة من هذه النقطة ومن هذا المحور . . ثم يتفق المنهج - ثانيا - مع طريقة التنظيم الاجتماعي الإسلامية : من جعل الكافل يبدأ في محيط الأسرة ؛ ثم ينساح في محيط الجماعة . كي لا يركز عمليات التكافل في يد الأجهزة الحكومية الضخمة - إلا عندما تعجز الأجهزة الصغيرة المباشرة - فالوحدات المحلية الصغيرة أقدر على تحقيق هذا التكافل : في وقته المناسب وفي سهولة ويسر . وفي تراحم وود يجعل جو الحياة لائقا ببني الإنسان !
وهنا يبدأ بالإحسان إلى الوالدين . ويتوسع منهما إلى ذوي القربي . ومنهم إلى اليتامى والمساكين - ولو أنهم قد يكونون أبعد مكانا من الجار . ذلك أنهم أشد حاجة وأولى بالرعاية - ثم الجار ذو القرابة . فالجار الأجنبي - مقدمين على الصاحب المرافق - لأن الجار قربه دائم ، أما الصاحب فلقاؤه على فترات - ثم الصاحب المرافق - وقد ورد في تفسيره أنه الجليس في الحضر ، الرفيق في السفر - ثم ابن السبيل . العابر المنقطع عن أهله وماله . ثم الرقيق الذين جعلتهم الملابسات " ملك اليمين " ولكنهم يتصلون بآصرة الإنسانية الكبرى بين بني آدم أجمعين .
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له ؛ فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات ، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ، ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : " أتَدْرِي ما حَقُّ الله على العباد{[7458]} ؟ " قال : الله ورسوله أعلم . قال : " أن يَعْبدُوهُ ولا يُشْرِكُوا به شيئا " ، ثم قال : " أتَدْري ما حَقُّ العبادِ عَلَى اللهِ إذا فَعَلُوا ذلك ؟ ألا يُعَذِّبَهُم " {[7459]} ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين ، فإن الله ، سبحانه ، جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود ، وكثيرا ما يقرنُ الله ، سبحانه ، {[7460]} بين عبادته والإحسان إلى الوالدين ، كقوله : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [ لقمان : 14 ] وكقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] .
ثم عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان{[7461]} إلى القرابات من الرجال والنساء ، كما جاء في الحديث : " الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وعَلَى ذِي الرَّحِم صَدَقَةٌ وصِلَةٌ " {[7462]} .
ثم قال : { وَالْيَتَامَى } وذلك لأنهم قد فقدوا من يقوم بمصالحهم ، ومن ينفق عليهم ، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم .
ثم قال : { وَالْمَسَاكِينِ } وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم ، فأمر الله بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم . وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة .
وقوله : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ } قال علي بن أبي طَلْحَةَ ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } يعني الذي بينك وبينه قرابة ، { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } الذي ليس بينك وبينه قرابة . وكذا رُوِيَ عن عِكْرِمةَ ، ومُجَاهد ، وميمون بنِ مهْرانَ ، والضحاك ، وزيد بْنِ أَسْلَمَ ، ومقاتل بن حيَّان ، وقتادة .
وقال أبو إسحاق عن نَوْف البِكَالِي في قوله : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } يعني المسلم { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } يعني اليهودي والنصراني رواه ابنُ جَريرٍ ، وابنُ أبي حَاتم .
وقال جَابِرٌ الْجُعْفِيّ ، عن الشعبي ، عن علي وابنِ مسعود : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } يعني المرأة . وقال مُجَاهِد أيضا في قوله : { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } يعني الرفيق في السفر .
وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار ، فنذكر منها ما تيسر ، والله المستعان :
الحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمر بن محمد بن زيد : أنه سمع أباه محمدًا يحدث ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما زال جِبرِيل يوصيني بالْجَارِ حَتِّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِثُه " .
أخرجاه في الصحيح من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، به{[7463]} .
الحديث الثاني : قال الإمامُ أحمدُ : حدثنا سُفْيَانُ ، عن داودَ بنِ شَابُورٍ ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عَمْرٍو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالْجَارِ حتى ظننْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ " {[7464]} .
وروى أبو داود والترمذي نحوه ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن بَشِيرِ أبي{[7465]} إسْمَاعيلَ - زاد الترمذي : وداود بن شابور - كلاهما عن مجاهد ، به ثم قال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه{[7466]} وقد رُوي عن مجاهد عن{[7467]} عائشةَ وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الحديث الثالث عنه : قال أحمد أيضا : حدثنا عبد الله بن يَزِيد ، أخبرنا حَيْوةُ ، أخبرنا شَرْحَبِيلُ بنُ شُرَيكٍ أنه{[7468]} سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يحدث عن عبد الله بْنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خَيْرُ الأصْحَابِ عِندَ اللهِ خَيْرُهُم لِصَاحِبِهِ ، وخَيْرُ الجِيرانِ عند اللهِ خيرهم لِجَارِهِ " .
ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد ، عن عبد الله بن المبارك ، عن حيوة بن شريح - به ، وقال : [ حديث ] حسن غريب{[7469]} .
الحديث الرابع : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عن عُمَر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَشْبَعُ الرجل دون جَارِهِ " . تفرد به أحمد{[7470]} .
الحديث الخامس : قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن فضيل بن غَزْوان ، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري ، سمعت أبا ظَبْية الكَلاعِيّ ، سمعت المقدادَ بن الأسود يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : [ " ما تقولون في الزنا ؟ " قالوا : حرام حَرَّمَهُ اللهُ ورسُولُه ، فهو حرام إلى يوم القيامة . فقال : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ]{[7471]} لأنْ يَزني الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَة ، أَيْسَرُ عليه من أَن يزنيَ بامرَأَةِ جَارِهِ " . قال : ما تقولون في السَّرِقَة ؟ قالوا : حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ فهي حرام . قَالَ " لأن يَسْرِقَ الرجل مِن عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يسرِقَ مِنْ جَارِهِ " .
تفرد به أحمد{[7472]} وله شاهد في الصحيحين من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ : قلت : يا رسول الله ، أيُّ الذَّنْب أَعْظَمُ ؟ قَالَ : " أن تجعل لله نِدًّا وهُوَ خَلَقَكَ " . قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قال : " أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَن يُطْعَم معك " . قُلتُ : ثُمَّ أيُّ ؟ قَالَ : " أَنْ تُزَاني حَليلةَ جَارِكَ " {[7473]} .
الحديث السادس : قال الإمامُ أحمد : حدثنا يَزِيدُ ، أخبرنا هِشَامُ ، عَنْ حَفْصَةَ ، عَنْ أبِي الْعَالية ، عَنْ رَجُلٍ من الأنصار قال : خَرَجْتُ من أهلي أريدُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذَا به قَائِمٌ ورجل مَعَهُ مُقْبِل{[7474]} عَليه ، فَظَنَنْتُ أَنَّ لهما حَاجة - قَالَ الأنْصَارِيُّ : لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أَرْثِي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من طُولِ الْقِيَامِ ، فَلمَّا انْصَرفَ قُلْتُ : يا رسول الله ، لقد قام بك هذا الرَّجُلُ حتى جَعَلْتُ أَرْثِي لَك من طُولِ الْقِيَامِ . قال : " وَلَقَدْ رَأَيتَه ؟ " قُلتُ : نعم . قَالَ : " أَتَدْرِي مَن هُوَ ؟ " قُلْتُ : لا . قَال : " ذَاكَ جِبْرِيِلُ ، ما زال يُوصِينِي بِالجِارِ حتى ظَنَنْتُ أَنَّه سَيُورثُه . ثُمَّ قال : أَمَا إِنَّك لَو سَلَّمْتَ عليه ، رد عليك السلام " {[7475]} .
الحديث السابع : قال عبد بن حُمَيْدٍ في مسنده : حدثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْد ، حدثنا أَبُو بَكْرٍ - يعني الْمدَنيّ - عن جابر بن عبد الله قال : جاء رجل من الْعَوَالِي ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجِبْرِيلُ عليه السلام يُصَلِّيانِ حَيْثُ يُصَلَّى على الْجَنائِز ، فلما انصرف قال الرجل : يا رسولَ الله ، من هذا الرجل الذي رأيت معك ؟ قال : " وقد رأيْتَه ؟ " قال : نعم . قال : " لقد رأَيْتَ خَيْرًا كثيرًا ، هَذَا جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بالجار حتى رُئِيت أَنَّه سَيُورثُه " .
تفرد به من هذا الوجه{[7476]} وهو شاهد للذي قبله .
الحديث الثامن : قال أبو بكر البزار : حدثنا عبيد الله{[7477]} بن محمد أبو الرَّبِيعِ الْحَارِثِيّ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْن أَبِي فُدَيْك ، أخبرني عبد الرَّحمن بنُ الْفَضل{[7478]} عن عَطَاء الخَراساني ، عن الحسن ، عن جابر بنِ عَبْدِ الله قال : قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " الجِيرانُ ثَلاثَةٌ : جَارٌ لهُ حَقٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَدْنَى الجيرانِ حقًّا ، وجار له حقَّان ، وجَارٌ له ثلاثةُ حُقُوقٍ ، وَهُوَ أفضلُ الجيرانِ حقا ، فأما الذي له حق واحد فجار مُشْرِكٌ لا رَحمَ لَهُ ، لَهُ حق الجَوار . وأمَّا الَّذِي لَهُ حقانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ ، له حق الإسلام وحق الْجِوارِ ، وأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاثةُ حُقُوقٍ ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ لَهُ حق الجوار وحق الإسلام وحَقُّ الرحِمِ " .
قال البَزَّارُ : لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الْفُضَيْل{[7479]} إلا ابْنُ أَبِي فُدَيْك{[7480]} .
الحديث التاسع : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي عِمْرَانَ ، عنْ طَلْحَةَ بنِ عَبْد اللهِ ، عن عائشة ؛ أنها سألت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالت : " إنَّ لي جَارَيْنِ ، فإلى أيِّهِمَا أُهْدِي ؟ قَالَ : " إِلَى أقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا " .
ورواه البخاري من حديث شعبة ، به{[7481]} .
وقوله : { وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } قال الثوريُّ ، عن جابر الْجُعْفِي ، عن الشَّعبي ، عن علي وابنِ مسعودٍ قالا هي المرأة .
وقال ابن أبي حاتم : ورُويَ عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى ، وإبراهيم النَّخَعِيّ ، والحسن ، وسعيد بن جُبَير - في إحدى الروايات - نحوُ ذلك .
وقال ابن عباس ومجاهدٌ ، وعِكْرِمَةُ ، وقَتَادةُ : هو الرفيق في السفر . وقال سعيد بن جُبَيْرٍ : هو الرفيق الصالح . وقال زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ : هو جليسك في الحضر ، ورفيقك في السفر .
وأما { ابْنِ السَّبِيلِ } فعن ابن عباس وجماعة هو : الضيف .
وقال مجاهد ، وأبو جَعْفَرٍ الباقرُ ، والحسنُ ، والضحاكُ ، ومقاتلُ : هو الذي يمر عليك مجتازًا في السفر .
وهذا أظهر ، وإن كان مراد القائل بالضيف : المار في الطريق ، فهما سواء . وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة ، وبالله الثقة وعليه التكلان .
وقوله : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وصية بالأرقاء ؛ لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس ، ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يُوصِي أُمَّتَه في مرضِ الموت يقول : " الصلاةَ الصلاةَ وما ملكتْ أيمانُكُم " . فجعل يُرَدِّدُها حتى ما يَفِيضُ بها لسانه{[7482]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا بَقِيّة ، حدثنا بَحِيرُ بن سعد ، عن خالد بن مَعْدَان ، عن الْمِقْدَامِ بن مَعْدِ يكَرِب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أطعمت نَفْسَك فهو لك صدقةٌ ، وما أطعمتَ وَلَدَكَ فهو لك صدقة ، وما أطعمت زَوْجَتَكَ فهو لك صَدَقَةٌ ، ومَا أطعَمْتَ خَادِمَكَ فهو لَك صَدَقَهٌ " .
ورواه النسائي من حديث بَقِيَّة ، وإسناده صحيح{[7483]} ولله الحمد .
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لِقَهْرَمَانَ له : هل أعطيت الرقيق قُوتَهم ؟ قال : لا . قال : فانطلق فأعطهم ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم " رواه مسلم{[7484]} .
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " للمملوك طعامه وكِسْوتُه ، ولا يكلَّف من العمل إلا ما يُطيق " . رواه مسلم أيضا{[7485]} .
وعنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه ، فإن لم يجلسه معه ، فليناوله لقمةً أو لقمتين أو أكْلَةً أو أكْلَتين ، فإنه وَليَ حَرّه وعلاجه " .
أخرجاه ولفظه للبخاري ولمسلم{[7486]} فليقعده معه فليأكل ، فإن كان الطعام مَشْفُوها قليلا فَلْيضع في يده أكلة أو أكلتين " .
وعن أبي ذر ، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هم إخوانكم خَوَلكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم ، فأعينوهم " . أخرجاه{[7487]} .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا } أي : مختالا في نفسه ، معجبا متكبرا ، فخورا على الناس ، يرى أنه خير منهم ، فهو في نفسه كبير ، وهو عند الله حقير ، وعند الناس بغيض .
قال مجاهد في قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا } يعني : متكبرا { فَخُورًا } يعني : يَعُد ما أعطي ، وهو لا يشكر الله ، عز وجل . يعني : يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه ، وهو قليل الشكر لله على ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن كَثيرٍ ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي قال : لا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا - وتلا { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ] } ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا - وتلا { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } [ مريم : 32 ] .
وروى ابن أبي حاتم ، عن العوام بن حَوْشَبٍ ، مثله في المختال الفخور . وقال :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا الأسود بن شَيْبَان ، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال : قال مُطَرِّف : كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه ، فلقيته فقلت : يا أبا ذر ، بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم : " إن الله يحب ثلاثة ويُبْغض ثلاثة " ؟ قال : أجل ، فلا إخالنى{[7488]} أكذب على خليلي ، ثلاثا . قلت : من الثلاثة الذين يبغض الله ؟ قال : المختال الفخور ، أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ؟ ثم قرأ الآية : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا }{[7489]} [ النساء : 36 ] .
وحدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وُهَيْبُ عن خالد ، عن أبي تَمِيمَةَ عن رجل من بَلْهُجَيم قال : قلت يا رسول الله ، أوصني . قال : " إياك وإسبالَ الإزار ، فإن إسبال الإزار من المَخِيلة ، وإن الله لا يحب المَخِيلة " {[7490]} .
{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } صنما أو غيره ، أو شيئا من الإشراك جليا أو خفيا { وبالوالدين إحسانا } وأحسنوا بهما إحسانا . { وبذي القربى } وبصاحب القرابة . { واليتامى والمساكين والجار ذي القربى } أي الذي قرب جواره . وقيل الذي له الجوار قرب واتصال بسبب أو دين . وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيما لحقه . { والجار الجنب } البعيد ، أو الذي لا قرابة له . وعنه عليه الصلاة والسلام : " الجيران ثلاثة . فجار له ثلاثة حقوق : حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام . وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق واحد : حق الجوار وهو المشرك من أهل الكتاب " . { والصاحب بالجنب } الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر ، فإنه صحبك وحصل بجنبك . وقيل المرأة . { وابن السبيل } المسافر أو الضعيف . { وما ملكت أيمانكم } العبيد والإماء . { إن الله لا يحب من كان مختالا } متكبرا بأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم . { فخورا } يتفاخر عليهم .
عطف تشريع يختصّ بالمعاملة مع ذوي القربى والضعفاء ، وقُدّم له الأمرُ بعبادة الله تعالى وعدمِ الإشراك على وجه الإدماج ، للاهتمام بهذا الأمر وأنّه أحقّ ما يتوخّاه المسلم ، تجديداً لمعنى التوحيد في نفوس المسلمين كما قُدّم لذلك في طالع السورة بقوله : { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } [ النساء : 1 ] . والمناسبة هي ما أريد جمعه في هذه السورة من أحكام أواصر القرابة في النسب والدين والمخالطة .
والخطاب للمؤمنين ، قُدّم الأمر بالعبادة على النهي عن الإشراك ، لأنّهم قد تقرّر نفي الشرك بينهم وأريد منهم دوام العبادة لله ، والاستزادة منها ، ونُهُوا عن الشرك تحذيراً ممّا كانوا عليه في الجاهلية . ومجموع الجملتين في قوة صيغة حصْر ؛ إذ مفاده : اعبدوا الله ولا تعبدوا غيره فاشتمل على معنى إثبات ونفي ، كأنّه قيل : لا تعبدوا إلاّ الله . والعدول عن طريق القصر في مثل هذا طريقة عربية جاء عليها قول السموأل ، أو عبدِ الملك بن عبد الرحيم الحَارثي :
تَسيلُ على حَدّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنا *** وليستْ على غَيْرِ الظُّبَات تَسيل
وإنّما يصار إليها عندما يكون الغرض الأول هو طرف الإثبات ، ثم يقصد بعد ذلك نفي الحكم عمّا عدا المثبت له ، لأنّه إذا جيء بالقصر كان المقصد الأوّل هو نفي الحكم عمّا عدا المذكور وذلك غير مقتضَى المقام هنا ، ولأجل ذلك لمّا خوطب بنو إسرائيل بنظير هذه الآية خوطبوا بطريقة القصر في قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تبعدون إلاّ الله وبالوالدين إحساناً } [ البقرة : 83 ] الآية ، لأنّ المقصود الأوّل إيقاظهم إلى إبطال عبادة غير الله ، لأنّهم قالوا لموسى : « اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة » ولأنّهم عبدوا العجل في مدّة مناجاة موسى ربَّه ، فأخذ عليهم الميثاق بالنهي عن عبادة غير الله .
وكذلك البيت فإنّ الغرض الأهمّ هو التمدّح بأنّهم يُقتلون في الحرب ، فتزهق نفوسهم بالسيوف ، ثم بدا له فأعقبه بأنّ ذلك شنشنة فيهم لا تتخلّف ولا مبالغةَ فيها .
و { شيئاً } منصوب على المفعولية ل ( تُشركوا ) أي لا تجعلوا شريكاً شيئاً ممّا يعبد كقوله : { ولن نشرك بربنا أحداً } [ الجن : 2 ] ويجوز انتصابه على المصدرية للتأكيد ، أي شيئاً من الإشراك ولو ضعيفاً كقوله : { فلن يضروك شيئاً } [ المائدة : 42 ] .
وقوله : { وبالوالدين إحسانا } اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة ، كقوله : { أن اشكر لى ولوالديك } [ لقمان : 14 ] ، وقوله : { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه } [ لقمان : 13 ، 14 ] ، ولذا قدّم معمول ( إحساناً ) عليه تقديماً للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأنّ الإحسان مكتوب على كلّ شيء ، ووقع المصدر موقع الفعل . وإنّما عدّي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البرّ . وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا . وعندي أنّ الإحسان إنّما يعدّى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلّق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها ، وهو معنى البرّ ولذلك جاء « وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن » ؛ وإذا أريد به إيصال النفع المالي عُديّ بإلى ، تقول : أحْسَنَ إلى فلان ، إذا وصله بمال ونحوه .
{ وذُو القربى } صاحب القرابة ، والقربى فُعلى ، اسم للقُرب مصدرِ قَرُب كالرجعي ، والمراد بها قرابة النسب ، كما هو الغالب في هذا المركّب الإضافي : وهو قولهم : ذو القربى ، وإنّما أمر بالإحسان إليه استبقاء لأواصر الودّ بين الأقارب ، إذ كان العرب في الجاهلية قد حرّفوا حقوق القرابة فجعلوها سبب تنافس وتحاسد وتقاتل . وأقوالهم في ذلك كثيرة في شعرهم ؛ قال ارطأة بن سهية :
ونحو بنو عمّ على ذاكَ بيننا *** زَرَابِيّ فيها بِغْضَةٌ وتَنَافُس
وحسبك ما كان بين بَكر وتغلب في حرب البَسُوس ، وهما أقارب وأصهار ، وقد كان المسلمون يومَها عَرَبا قَريبي عهد بالجاهلية ؛ فلذلك حثّهم على الإحسان إلى القرابة . وكانوا يحسنون بالجار ، فإذا كان من قرابتهم لم يكترثوا بالإحسان إليه ، وأكّد ذلك بإعادة حرف الجرّ بعد العاطف . ومن أجل ذلك لم تؤكّد بالباء في حكاية وصية بني إسرائيل { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } إلى قوله : { وذي القربى } [ البقرة : 83 ] لأنّ الإسلام أكّد أوامر القرابة أكثر من غيره . وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب تنبيه على أنّ من سفالة الأخلاق أن يستخفّ أحد بالقريب لأنّه قريبه ، وآمِن من غوائله ، ويصرف برّه وودّه إلى الأباعد ليستكفي شرّهم ، أو ليُذكر في القبائل بالذكر الحسن ، فإنّ النفس التي يطوّعها الشرّ ، وتَدينها الشدّة ، لنفس لَئيمة ، وكما ورد « شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه » فكذلك نقول : « شرّ الناس من عَظَّم أحداً لشرّه » .
وقوله : { واليتامى والمساكين } هذان صنفان ضعيفان عديما النصير ، فلذلك أوصي بهما .
والجار هو النزيل بقرب منزلك ، ويطلق على النزيل بين القبيلة في جوارها ، فالمراد ب { الجار ذي القربى } الجار النسيب من القبيلة ، وب { الجار الجنب } الجار الغريب الذي نزل بين القوم وليس من القبيلة ، فهو جُنُب ، أي بعيد ، مشتقّ من الجَانب ، وهو وصف على وزن فُعُل ، كقولهم : ناقة أجُد ، وقيل : هو مصدر ، ولذلك لم يُطابق موصوفه ، قال بَلْعَاء بن قيس :
لا يجتوينا مُجَاور أبداً *** ذُو رحم أو مُجَاور جُنُب
ويشهد لهذا المعنى قول علقمة بن عبدة في شعره الذي استشفع به عند الملك الحارث ابن جبلة الغسّاني ، ليطلق له أخاه شَاسا ، حين وقع في أسر الحارث :
فلا تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عن جَنَابَةٍ *** فإنِّي امرؤٌ وَسْط القباب غريب
وفسّر بعضهم الجار ذا القربى بقريب الدار ، والجُنُبُ بعيدها ، وهذا بعيد ، لأنّ القربى لا تعرف في القرب المكاني ، والعرب معروفون بحفظ الجوار والإحسان إلى الجار ، وأقوالهم في ذلك كثيرة ، فأكّد ذلك في الإسلام لأنّه من محامد العرب التي جاء الإسلام لتكميلها من مكارم الأخلاق ، ومن ذلك الإحسان إلى الجار .
وأكّدت السنّة الوصاية بالجار في أحاديث كثيرة : ففي « البخاري » عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه " . وفيه عن أبي شريح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج وهو يقول : " والله لاَ يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن " . قيل : « ومن يا رسول الله » قال : " من لا يأمن جارُه بوائقه " وفيه عن عائشة ، قلت : « يا رسول الله إنّ لي جارين فإلى أيّهما أهدي » قال " إلى أقربهما منك بابا " وفي « صحيح مسلم » : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ " إذا طبخت مَرَقة فأكْثِر ماءها وتعاهده جيرانك " . واختلف في حدّ الجوار : فقال ابن شهاب ، والأوزاعي : أربعون داراً من كلّ ناحية ، وروي في ذلك حديث : وليس عن مالك في ذلك حدّ ، والظاهر أنّه موكول إلى ما تعارفه الناس .
وقوله : { والصاحب بالجنب } هو المصاحب الملازم للمكان ، فمنه الضيف ، ومنه الرفيق في السفر ، وكلّ من هو مُلمّ بك لطلب أن تنفعه ، وقيل : أراد الزوجة .
{ وابن السبيل } هو الغريب المجتاز بقوم غيرَ نَاو الإقامة ، لأنّ من أقام فهو الجار الجُنب . وكلمة ( ابن ) فيه مستعملة في معنى الانتساب والاختصاص ، كقولهم : أبو الليل ، وقولهم في المثل : أبوها وكيَّالُها . والسبيل : الطريق السابلة ، فابن السبيل هو الذي لازمَ الطريق سائراً ، أي مسافراً ، فإذا دخل القبيلة فهو ليس من أبنائها ، فعرَّفوه بأنه ابن الطريق ، رمى به الطريق إليهم ، فكأنّه وَلَدَه . والوصاية به لأنّه ضعيف الحيلة ، قليل النصير ، إذ لا يهتدي إلى أحوال قوم غير قومه ، وبلد غير بلده .
وكذلك { ما ملكت أيمانكم } لأنّ العبيد في ضعف الرقّ والحاجة وانقطاع سبل الخلاص من سادتهم ، فلذلك كانوا أحقّاء بالوصاية .
وجملة : { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } تذييل لجملة الأمر بالإحسان إلى من سمّاهم بذمّ موانع الإحسان إليهم الغالبة على البشر . والاختيال : التكبّر ، افتعال مشتقّ من الخُيَلاء ، يقال : خالَ الرجلُ خَوْلا وخَالا . والفخور : الشديد الفخر بما فعل ، وكلا الوصفين منشأ للغلظة والجفاء ، فهما ينافيان الإحسان المأمور به ، لأنّ المراد الإحسان في المعاملة وترك الترفّع على من يظنّ به سبب يمنعه من الانتقام .
ومعنى نفي محبّة الله تعالى نفي رضاه وتقريبه عمّن هذا وصفه ، وهذا تعريض بأخلاق أهل الشرك ، لما عرفوا به من الغلطة والجفاء ، فهو في معنى التحذير من بَقايا الأخلاق التي كانوا عليها .