المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

افتتحت بالحديث عن المرأة التي ظاهر منها زوجها ، وأتبع ذلك ببيان حكم الظهار ، ونعى الله في هذه السورة في أكثر من آية على المعاندين لدينه ، وحذرهم من التناجي بالإثم والعدوان ، وأرشد المؤمنين إلى أدب المناجاة بين بعضهم وبعض وبينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما نعى على المنافقين موالاتهم للكافرين ، ووصفهم بأنهم حزب الشيطان الخاسرون .

وختمت السورة بوصف جامع لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من إيثار رضا الله ورسوله على من عداهما ، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ، ووصفهم بأنهم حزب الله المفلحون .

1- قد سمع الله قول المرأة التي تراجعك في شأن زوجها الذي ظاهَر منها ، وتضرع إلى الله ، والله يسمع ما تتراجعان به من الكلام . إن الله محيط سمعه بكل ما يسمع ، محيط بصره بكل ما يبصر{[221]} .


[221]:روى أن أوس بن الصامت غضب من زوجته خولة بنت ثعلبة فقال لها: أنت علي كظهر أمي، وكان هذا يمينا في الجاهلية فأخبرت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لها: "ما أمرت في شأنك بشيء، وما أراك إلا قد حرمت عليه". وجادلت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وراجعته، وجعلت تشتكي إلى الله تعالى مما تخاف من فرقة الزوج وضياع الولد، فما لبثت أن نزلت هذه الآية والآيات الثلاث التي بعدها.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المجادلة مدنية وآيتها ثنتان وعشرون

نحن في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله تقريبا - مع أحداث السيرة في المجتمع المدني . مع الجماعة المسلمة الناشئة ؛ حيث تربى وتقوم ، وتعد للنهوض بدورها العالمي ، بل بدورها الكوني ، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدراته . وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة ، في نفوس هذه الجماعة ، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور ، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك . . وهو دور ضخم إذن يقتضي إعدادا كاملا .

ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ، ناسا من الناس . منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم ، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة ، وخلصت نفوسهم لها ، ووصلوا . . وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير ؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود ، فأصبحوا بهذا طرفا من قدر الله في الكون ؛ لا يجدون في أنفسهم عوجا عنه ، ولا يجدون في خطاهم تخلفا عن خطاه ، ولا يجدون في قلوبهم شيئا إلا الله . . كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .

ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد - وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب - حتى قبل الفتح - ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي ، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة . كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دخل في القلوب ، وتربص بالفرص ، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين . سواء معسكرات المشركين أو اليهود ! ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة ، وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا ، في صغار الأمور وفي كبارها . . كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام ، وقام بها رسول الإسلام [ صلى الله عليه وسلم ] بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، وتقوم على منهج الله ، تفهمه وتحققه ، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة ، لا في صحائف وكلمات .

ونحن نشهد في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله - طرفا من تلك الجهود الضخمة ، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات ؛ كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .

وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة ؛ وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده - سبحانه - معها في أخص خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها ؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره ؛ وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله ؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وتؤلف حزبه في الأرض ، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا .

ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية . فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة ، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) . . فنشهد السماءتتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة ، لتقرر حكم الله في قضيتها ، وقد سمع - سبحانه - للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها ، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها ! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته .

يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله - وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله - مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الآخرة ، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم وهم فاعلوه ! ( والله على كل شيء شهيد ) . .

ثم توكيد وتذكير بحضور الله - سبحانه - وشهوده لكل نجوى في خلوة ، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها . والله معهم أينما كانوا : ( ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم ) . . وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره ، كما تملؤه برقابته واطلاعه .

وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين ، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس . تهديد بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها . ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى ، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص .

ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة ؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومجالس العلم والذكر . كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والجد في هذا الأمر والتوقير .

أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود ؛ ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين . وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين ؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين ! مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون . كما كتب أنه ورسله هم الغالبون . وذلك تهوينا لشأنهم ، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام - وبعض المسلمين - يستعظمه ، فيحافظ على مودته معهم ، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها ، والاعتزاز برعاية الله وحده ، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه ، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم .

وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله . هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار . والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق !

( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . . )الخ الآية . . . كما وردت في أول هذا التقديم .

1

( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير ) . . وهو مطلع ذو إيقاع عجيب . . إنكما لم تكونا وحدكما . . لقد كان الله معكما . وكان يسمع لكما . لقد سمع قول المرأة . سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . وعلم القصة كلها . وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه . . إن الله سميع بصير . يسمع ويرى . هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه . .

وكلها إيقاعات ولمسات تهز القلوب . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مدنية .

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وَسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ، ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله ، عز وجل :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } إلى آخر الآية{[28348]}

وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًا فقال : وقال الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة ، فذكره{[28349]} وأخرجه النسائي ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، من غير وجه ، عن الأعمش ، به{[28350]} ، وفي رواية لابن أبي حاتم عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة ، أنها قالت : تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تقول : يا رسول الله ، أَكَلَ شبابي ، ونَثَرت{[28351]} له بطني ، حتى إذا كَبُرَت سِنِّي ، وانقطع ولدي ، ظَاهَر مِنِّي ، اللهم إني أشكو إليك . قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وقال{[28352]} وزوجها أوس بن الصامت . وقال ابن لَهِيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة : هو أوس بن الصامت - وكان أوس امرأ به لمم ، فكان إذا أخَذه لممه{[28353]} واشتد به يظاهر من امرأته ، وإذا ذهب لم يقل شيئًا ، فأتت رسول الله تستفتيه في ذلك ، وتشتكي إلى الله ، فأنزل الله :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } الآية .

وهكذا روى هشام بن عروة ، عن أبيه : أن رجلا كان به لممٌ ، فذكر مثله .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة ، حدثنا جرير - يعني بن حازم - قال : سمعت أبا يزيد يحدث قال : لقيت امرأة عُمَرَ - يقال لها : خولة بنت ثعلبة - وهو يسير مع الناس ، فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ، ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت . فقال له رجل : يا أمير المؤمنين ، حبست رجالات قريش على هذه العجوز ؟ ! قال : ويحك ! وتدري من هذه ؟ قال : لا . قال : هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات ، هذه خولة بنت ثعلبة ، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها إلى أن تحضر صلاة فأصليها ، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها{[28354]} هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب ، وقد روي من غير هذا الوجه . وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا المنذر بن شاذان {[28355]} حدثنا يعلى ، حدثنا زكريا عن عامر قال : المرأة التي جادلت في زوجها خولة بنت الصامت ، وأمها معاذة التي أنزل الله فيها :{ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [ النور : 33 ]

صوابه : خولة امرأة أوس بن الصامت .

قال الإمام أحمد : حدثنا سعد{[28356]} بن إبراهيم ويعقوب قالا حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني مَعْمَر بن عبد الله بن حنظلة ، عن ابن عبد الله بن سلام ، عن خويلة {[28357]} بنت ثعلبة قالت : فيَّ - والله - وفي أوس بن الصامت أنزل الله صَدْرَ سورة " المجادلة " ، قالت : كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه ، قالت : فدخل عليَّ يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال : أنت عليَّ كظهر أمي . قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني عن نفسي . قالت : قلت : كلا والذي نفس خويلة{[28358]} بيده ، لا تخلص إليَّ وقد قلت ما قلت ، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه . قالت : فواثبني وامتنعت منه ، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف ، فألقيته عني ، قالت : ثم خرجتُ إلى بعض جاراتي ، فاستعرت منها ثيابًا ، ثم خرجتُ حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلست بين يديه ، فذكرت له ما لقيت منه ، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه . قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا خويلة{[28359]} ابنُ عمك شيخ كبير ، فاتقي الله فيه " . قالت : فوالله ما برحت حتى نزل فيَّ القرآن ، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ، ثم سُرِّيَ عنه ، فقال لي : " يا خويلة {[28360]} قد أنزل الله فيك وفي صاحبك " . ثم قرأ عليَّ :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } إلى قوله :{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قالت : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مُريه فليعتق رقبة " . قالت : فقلت يا رسول الله ، ما عنده ما يعتق . قال : " فليصم شهرين متتابعين " . قالت : فقلت : والله إنه شيخ كبير ، ما به من صيام . قال : " فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تَمر " . قالت : فقلت : يا رسول الله ، ما ذاك عنده . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر " . قالت : فقلت : يا رسول الله ، وأنا سأعينه بعَرَقٍ آخر ، قال : " فقد أصبت وأحسَنْت ، فاذهبي فتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيرًا " . قالت : ففعلت .

ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه من طريقين ، عن محمد بن إسحاق بن يسار ، به{[28361]} وعنده : خولة بنت ثعلبة ، ويقال فيها : خولة بنت مالك بن ثعلبة . وقد تصغر فيقال : خُوَيلة . ولا منافاة بين هذه الأقوال ، فالأمر فيها قريب . والله أعلم .

هذا هو الصحيح في سبب نزول صدر هذه السورة ، فأما حديث سَلَمة بن صَخْر فليس فيه أنه كان سبب النزول ، ولكن أمر بما أنزل الله في هذه السورة ، من العتق أو الصيام ، أو الإطعام ، كما قال الإمام أحمد :حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سُلَيمان بن يَسَار ، عن سلمة بن صخر الأنصاري قال : كنتُ امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان تظهَّرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان ، فَرَقًا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار ، وأنا لا أقدر أن أنزع ، فبينا هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء ، فوثبت عليها ، فلما أصبحتُ غدوتُ على{[28362]} قومي فأخبرتهم خبري وقلت : انطلقوا معي إلى النبي{[28363]} صلى الله عليه وسلم - فأخبره بأمري . فقالوا : لا والله لا نفعل ؛ نتخوف أن ينزل فينا {[28364]} - أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك . قال : فخرجتُ حتى أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته خبري . فقال لي : " أنت بذاك " . فقلت : أنا بذاك . فقال " أنت بذاك " . فقلت : أنا بذاك . قال " أنت بذاك " . قلت : نعم ، ها أناذا فأمض فيّ حكم الله تعالى{[28365]} فإني صابر له . قال : " أعتق رقبة " . قال : فضربت صفحة رقبتي{[28366]} بيدي وقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها . قال : " فصم شهرين " . قلت : يا رسول الله ، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ؟ قال : " فتصدق " . فقلت : والذي بعثك بالحق ، لقد بتنا ليلتنا هذه وَحْشَى ما لنا عشاء . قال : " اذهب إلى صاحب صدقة بني زُريق فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقًا من تمر ستين مسكينًا ، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك " . قال : فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيقَ وسوءَ الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّعَة والبركة ، قد أمر لي بصدقتكم ، فادفعوها إليَّ . فدفعوها إليَّ .

وهكذا رواه أبو داود ، وابن ماجة ، واختصره الترمذي وحَسَّنه{[28367]} ، وظاهر السياق : أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خُويَلة بنت ثعلبة ، كما دلّ عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل .

قال خَصيف ، عن مجاهد ، عن بن عباس : أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت ، أخو عبادة بن الصامت ، وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك ، فلما ظاهر منها خَشِيت أن يكون ذلك طلاقًا ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوسًا ظاهر مني ، وإنا إن افترقنا هلكنا ، وقد نَثَرتُ بطني منه ، وقَدمتْ صُحْبَتَهُ . وهي تشكو ذلك وتبكي ، ولم يكن جاء في ذلك شيء . فأنزل الله :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } إلى قوله :{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أتقدر على رقبة تعتقها ؟ " . قال : لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها ؟ قال : فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أعتق عنه ، ثم راجع أهله رواه بن جرير{[28368]}

ولهذا ذهب ابنُ عباس والأكثرون إلى ما قلناه ، والله أعلم .


[28348]:- (1) المسند (6/46).
[28349]:- (2) صحيح البخاري برقم (7385).
[28350]:- (3) سنن النسائي الكبرى برقم (11570) وسنن ابن ماجة برقم (188) وتفسير الطبري (28/5).
[28351]:- (4) في أ: "وبرت".
[28352]:- (5) في م: "وقالت".
[28353]:- (6) في م: "أخذه لمم".
[28354]:- (1) ورواه الدرامي في الرد على الجهمية (ص 26) من طريق أبي يزيد، عن عمر بن الخطاب به. قال الذهبي في العلو (ص 113): "هذا إسناد صالح فيه انقطاع، أبو يزيد لم يلحق عمر".
[28355]:- (2) في أ: "حدثنا الوليد بن المنذر به شاذان".
[28356]:- (3) في أ: "سعيد".
[28357]:- (4) في أ: "خولة".
[28358]:- (5) في أ: "خولة".
[28359]:- (1) في أ: "يا خولة".
[28360]:- (2) في أ: "يا خولة".
[28361]:- (3) المسند (6/410) وسنن أبي داود برقم (2214، 2215).
[28362]:- (4) في م: "إلى"
[28363]:- (5) في م: "رسول الله".
[28364]:- (6) في أ: "فينا شيء".
[28365]:- (7) في م، أ: "عز وجل".
[28366]:- (8) في م: "عنقي".
[28367]:- (1) المسند (4/37) وسنن أبي داود برقم (2213) وسنن ابن ماجة برقم (2062) وسنن الترمذي برقم (3299).
[28368]:- (2) تفسير الطبري (28/6).