ثم نعود مع السياق إلى شطر المشهد الأخير :
( يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ قالوا شهدنا على أنفسنا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . .
وهو سؤال للتقرير والتسجيل . فالله - سبحانه - يعلم ما كان من أمرهم في الحياة الدنيا . والجواب عليه إقرار منهم باستحقاقهم هذا الجزاء في الآخرة . .
والخطاب موجه إلى الجن كما هو موجه إلى الإنس . . فهل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس ؟ الله وحده يعلم شأن هذا الخلق المغيب عن البشر . ولكن النص يمكن تأويله بأن الجن كانوا يسمعون ما أنزل على الرسل ، وينطلقون إلى قومهم منذرين به . كالذي رواه القرآن الكريم من أمر الجن في سورة الأحقاف : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا : يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم من ذنوبكم ، ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ، وليس له من دونه أولياء . أولئك في ضلال مبين . . فجائز أن يكون السؤال والجواب للجن مع الإنس قائمين على هذه القاعدة . . والأمر كله مما اختص الله سبحانه بعلمه والبحث فيما وراء هذا القدر لا طائل وراءه !
وعلى أية حال فقد أدرك المسؤولون من الجن والإنس ، أن السؤال ليس على وجهه . إنما هو سؤال للتقرير والتسجيل ؛ كما أنه للتأنيب والتوبيخ ؛ فأخذوا في الاعتراف الكامل ؛ وسجلوا على أنفسهم استحقاقهم لما هم فيه :
( قالوا : شهدنا على أنفسنا ) :
وهنا يتدخل المعقب على المشهد ليقول :
( وغرتهم الحياة الدنيا ؛ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) ؛
وهو تعقيب لتقرير حقيقة حالهم في الدنيا . فقد غرتهم هذه الحياة ؛ وقادهم الغرور إلى الكفر . ثم ها هم أولاء يشهدون على أنفسهم به ؛ حيث لا تجدي المكابرة والإنكار . . فأي مصير أبأس من أن يجد الإنسان نفسه في هذا المأزق ، الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه فيه ، ولا بكلمة الإنكار ! ولا بكلمة الدفاع !
ونقف لحظة أمام الأسلوب القرآني العجيب في رسم المشاهد حاضرة ؛ ورد المستقبل المنظور واقعاً مشهوداً ؛ وجعل الحاضر القائم ماضياً بعيداً !
إن هذ القرآن يتلى على الناس في هذه الدنيا الحاضرة ؛ وفي هذه الأرض المعهودة . ولكنه يعرض مشهد الآخرة كأنه حاضر قريب ؛ ومشهد الدنيا كأنها ماض بعيد ! فننسى أن ذلك مشهد سيكون يوم القيامة ؛ ونستشعر أنه أمامنا اللحظة ماثل ! وأنه يتحدث عن الدنيا التي كانت كما يتحدث عن التاريخ البعيد !
( وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم - كانوا - كافرين ) . .
وهذا أيضا مما يُقرع الله به سبحانه وتعالى كافري الجن والإنس يوم القيامة ، حيث يسألهم - وهو أعلم - : هل بلغتهم الرسل رسالاته ؟ وهذا استفهامُ تقرير : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } أي : من جملتكم . والرسل من الإنس فقط ، وليس من الجن رسل ، كما [ قد ]{[11222]} نص على ذلك مجاهد ، وابن جُرَيْج ، وغير واحد من الأئمة ، من السلف والخلف .
وقال ابن عباس : الرسل من بني آدم ، ومن الجن نُذُر .
وحكى ابن جرير ، عن الضحاك بن مُزاحم : أنه زعم أن في الجن رسلا واحتج بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر ؛ لأنها محتملة وليست بصريحة ، وهي - والله أعلم - كقوله [ تعالى ]{[11223]} { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ . بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ } إلى أن قال : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 19 - 22 ] ، ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرج{[11224]} من الملح{[11225]} لا من الحلو . وهذا واضح ، ولله الحمد . وقد نص هذا الجواب بعينه ابن جرير{[11226]} .
والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [ وَأَوْحَيْنَا ] }{[11227]} إلى أن قال : { رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ [ بَعْدَ الرُّسُلِ{[11228]} ] } [ النساء : 163 - 165 ] ، وقال تعالى عن إبراهيم : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] ، فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته ، ولم يقل أحد من الناس : إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل [ عليه السلام ]{[11229]} ثم انقطعت عنهم ببعثته . وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } [ الفرقان : 20 ] ، وقال [ تعالى ]{[11230]} : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] ، ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب ؛ ولهذا قال تعالى إخبارًا عنهم : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [ الأحقاف : 29 - 32 ] .
وقد جاء في الحديث - الذي رواه الترمذي وغيره - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم سورة الرحمن{[11231]} وفيها قوله تعالى : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الآيتان : 31 ، 32 ] .
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } أي : أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك ، وأنذرونا لقاءك ، وأن هذا اليوم كائن لا محالة .
قال تعالى : { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : وقد فرطوا في حياتهم الدنيا ، وهلكوا بتكذيبهم الرسل ، ومخالفتهم للمعجزات ، لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها ، { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } أي : يوم القيامة { أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } أي : في الدنيا ، بما جاءتهم به الرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم [ أجمعين ]{[11232]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.