111- وقد أوحينا إليك ما أوحينا من قصص الأنبياء ، تثبيتا لفؤادك ، وهداية لقومك ، وأودعناه من العبر والعظات ما يستنير به أصحاب العقول والفطن ويدركون أن القرآن حق وصدق ، فما كان حديثاً مختلقاً ولا أساطير مفتراة ، وإنما هو حق ووحي ، ويؤكد صدق ما سبق من كتب السماء ومن جاء بها من الرسل ، ويبين كل ما يحتاج إلى تفصيله من أمور الدين ، ويهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، ويفتح أبواب رحمة اللَّه لمن اهتدى بهديه وكان من المؤمنين الصادقين .
وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد . في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن . وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس . . ثم كانت العاقبة خيرا للذين اتقوا - كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب - وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين . فيها عبرة لمن يعقل ، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل ، على غير صلة بين محمد وهذه الكتب . فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثا مفترى . فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضا ولا تحقق هداية ، ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة :
( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ما كان حديثا يفترى ، ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل كل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) . .
وهكذا يتوافق المطلع والختام في السورة ، كما توافق المطلع والختام في القصة . وتجيء التعقيبات في أول القصة وآخرها ، وبين ثناياها ، متناسقة مع موضوع القصة ، وطريقة أدائها ، وعباراتها كذلك . فتحقق الهدف الديني كاملا ، وتحقق السمات الفنية كاملة ، مع صدق الرواية ، ومطابقة الواقع في الموضوع .
وقد بدأت القصة وانتهت في سورة واحدة ، لأن طبيعتها تستلزم هذا اللون من الأداء . فهي رؤيا تتحقق رويدا رويدا ، ويوما بعد يوم ، ومرحلة بعد مرحلة . فلا تتم العبرة بها - كما لا يتم التنسيق الفني فيها - إلا بأن يتابع السياق خطوات القصة ومراحلها حتى نهايتها . وإفراد حلقة واحدة منها في موضع لا يحقق شيئا من هذا كله كما يحققه إفراد بعض الحلقات في قصص الرسل الآخرين . كحلقة قصة سليمان مع بلقيس . أو حلقة قصة مولد مريم . أو حلقة قصة مولد عيسى . أو حلقة قصة نوح والطوفان . . . الخ فهذه الحلقات تفي بالغرض منها كاملا في مواضعها . أما قصة يوسف فتقتضي أن تتلى كلها متوالية حلقاتها ومشاهدها ، من بدئها إلى نهايتها وصدق الله العظيم :
( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن . وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لقد كان في قصصهم}، يعني في خبرهم، يعني نصر الرسل، وهلاك قومهم... {عبرة لأولي الألباب} يعني لأهل اللب والعقل، {ما كان} هذا القرآن {حديثا يفترى}، يعني يتقول لقول كفار مكة: إن محمدا تقوله من تلقاء نفسه، {ولكن تصديق} الكتاب {الذين بين يديه}، يقول: يصدق القرآن الذي أنزل على محمد الكتب التي قبله كلها أنها من الله، {وتفصيل}، يقول: فيه بيان {كل شيء و} هو {وهدى} من الضلالة، {ورحمة} من العذاب، {لقوم يؤمنون}، يعني يصدقون بالقرآن أنه من الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لقد كان في قصص يوسف وإخوته عِبرة لأهل الحِجا والعقول، يعتبرون بها وموعظة يتعظون بها، وذلك أن الله جلّ ثناؤه بعد أن ألقي يوسف في الجبّ ليهلك، ثم بِيع بيْع العبيد بالخسيس من الثمن، وبعد الإسار والحبس الطويل ملّكه مصر ومكّن له في الأرض وأعلاه على من بغاه سوءا من إخوته، وجمع بينه وبين والديه وإخوته بقدرته بعد المدّة الطويلة، وجاء بهم إليه من الشّقّة النائية البعيدة. فقال جلّ ثناؤه للمشركين من قريش من قوم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لقد كان لكم أيّها القوم في قَصَصهم عبرة لو اعتبرتم به، أن الذي فعل ذلك بيوسف وإخوته لا يتعذّر عليه أن يفعل مثله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيخرجه من بين أظهركم ثم يظهره عليكم ويمكن له في البلاد ويؤيده بالجند والرجال من الأتباع والأصحاب، وإن مرّت به شدائد وأتت دونه الأيام والليالي والدهور والأزمان...
وقوله:"ما كانَ حَديثا يُفْتَرَى" يقول تعالى ذكره: ما كان هذا القول حديثا يُختلَق ويُتَكَذّب ويتخرّص...
"ولكِنْ تَصْدِيقَ الّذِي بينَ يَدَيْه "يقول: ولكنه تصديق الذي بين يديه من كتب الله التي أنزلها قبله على أنبيائه، كالتوراة والإنجيل والزبور، ويصدّق ذلك كله ويشهد عليه أن جميعه حقّ من عند الله...
وقوله: "وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْءٍ" يقول تعالى ذكره: وهو أيضا تفصيل كلّ ما بالعباد إليه حاجة من بيان أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.
وقوله: "وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" يقول تعالى ذكره: وهو بيان أمره، ورشاد من جَهِلَ سبيل الحقّ فعمِي عنه إذا تبعه فاهتدى به من ضلالته ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه، ينقذه من سخط الله وأليم عذابه، ويورثه في الآخرة جنانه والخلود في النعيم المقيم.
"لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" يقول: لقوم يصدّقون بالقرآن وبما فيه من وعد الله ووعيده وأمره ونهيه، فيعملون بما فيه من أمره وينتهون عما فيه من نهيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله: (في قصصهم) قصة يوسف وإخوته (عبرة لأولي الألباب) ويحتمل قصص الرسل والأمم السالفة جميعا.
(عبرة لأولي الألباب) والاعتبار إنما يكون لأولي الألباب الذين ينتفعون بلبهم وعقلهم...
(ما كان حديثا يفترى) أي ما حديث محمد صلى الله عليه وسلم وما أخبر من القصص وأخبار الرسل والأمم السالفة بالذي افترى، بل إنما أخبر ما كان في الكتب السالفة على غير تعلم منه ولا دراسة. ويحتمل ما كان هذا القرآن بالذين يقدر أن يفترى...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عِبْرةٌ منها للملوك في بَسْطِ العدل كما بسط يوسفُ عليه السلام، وتأمينهم أحوال الرعية كما فعل يوسف حين أَحسن إليهم، وأعتقهم حين مَلَكَهم. وعبرة في قصصهم لأرباب التقوى؛ فإن يوسفَ لمَّا ترك هواه رقَّاه الله إلى ما رقَّاه. وعبرةٌ لأهل الهوى فيما في اتباع الهوى من شدة البلاء، كامرأة العزيز لمَّا تبعت هواها لقيت الضرَّ والفقر. وعبرة للمماليك في حضرة السادة، كيوسف لما حفظ حرمة زليخا مَلَكَ مُلْكَ العزيز، وصارت زليخا امرأته حلالاً. وعبرةٌ في العفو عند المقدرة، كيوسف عليه السلام حين تجاوز عن إخوته. وعبرةٌ في ثمرة الصبر، فيعقوب لما صبر على مقاساة حزنه ظفر يوماً بلقاء يوسف عليه السلام...
اعلم أن الاعتبار عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، والمراد منه التأمل والتفكر، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور:
الأول: أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب، وإعلائه بعد حبسه في السجن، وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم، وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة، لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته.
الثاني: أن الإخبار عنه جار مجرى الإخبار عن الغيب، فيكون معجزة دالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أنه ذكر في أول السورة {نحن نقص عليك أحسن القصص} ثم ذكر في آخرها: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} تنبيها على أن حسن هذه القصة إنما كان بسبب أنه يحصل منها العبرة ومعرفة الحكمة والقدرة، والمراد من قصصهم قصة يوسف عليه السلام وإخوته وأبيه، ومن الناس من قال: المراد قصص الرسل لأنه تقدم في القرآن ذكر قصص سائر الرسل إلا أن الأولى أن يكون المراد قصة يوسف عليه السلام...
الأول: المراد وتفصيل كل شيء من واقعة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته، والثاني: أنه عائد إلى القرآن، كقوله: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} فإن جعل هذا الوصف وصفا لكل القرآن أليق من جعله وصفا لقصة يوسف وحدها، ويكون المراد: ما يتضمن من الحلال والحرام وسائر ما يتصل بالدين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر سبحانه هذه القصص كما كانت، وحث على الاعتبار بها بقوله: {أفلم يسيروا} وأشار إلى أنه بذلك أجرى سنته وإن طال المدى، أتبعه الجزم بأن في أحاديثهم أعظم عبرة، فقال حثاً على تأملها والاستبصار بها: {لقد كان} أي كوناً هو في غاية المكنة {في قصصهم} أي الخبر العظيم الذي تلي عليك تتبعاً لأخبار الرسل الذين طال بهم البلاء حتى استيأسوا من نوح إلى يوسف ومن بعده -على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام {عبرة} أي عظة عظيمة وذكرى شريفة {لأولي الألباب} أي لأهل العقول الخالصة من شوائب الكدر يعبرون بها إلى ما يسعدهم بعلم أن من قدر على ما قص من أمر يوسف عليه السلام وغيره قادر على أن يعز محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف وغيره- إلى غير ذلك مما ترشد إليه قصصهم من الحكم وتعود إليه من نفائس العبر؛ والقصص: الخبر بما يتلو بعضه بعضاً، من قص الأثر، والألباب: العقول، لأن العقل أنفس ما في الإنسان وأشرف. ولما كان من أجل العبرة في ذلك القطع بحقية القرآن لما بينه من حقائق أحوالهم وخفايا أمورهم ودقائق أخبارهم على هذه الأساليب الباهرة والتفاصيل الظاهرة والمناهيج المعجزة القاهرة، نبه على ذلك بتقدير سؤال فقال: {ما كان} أي هذا القرآن العربي المشتمل على قصصهم وغيره {حديثاً يفترى} كما قال المعاندون -على ما أشير إليه بقوله: {أم يقولون افتراه}، والافتراء: القطع بالمعنى على خلاف ما هو به في الإخبار عنه، من: فريت الأديم {ولكن} كان {تصديق الذي} كان من الكتب وغيرها {بين يديه} أي قبله الذي هو كاف في الشهادة بصدقه وحقيته في نفسه {و} زاد على ذلك بكونه {تفصيل كل شيء} أي يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا والآخرة؛ والتفصيل: تفريق الجملة بإعطاء كل قسم حقه {وهدى ورحمة} وبياناً وإكراماً. ولما كان الذي لا ينتفع بالشيء لا يتعلق بشيء منه، قال: {لقوم يؤمنون} أي يقع الإيمان منهم وإن كان بمعنى: يمكن إيمانهم، فهو عام، وما جمع هذه الخلال فهو أبين البيان...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
... {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}...
فمن ذلك، أن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها وأبينها، لما فيها من أنواع التنقلات، من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن محنة إلى منحة ومنَّة، ومن ذل إلى عز، ومن رقٍّ إلى ملك، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، ومن حزن إلى سرور، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، ومن إنكار إلى إقرار، فتبارك من قصها فأحسنها، ووضحها وبيَّنها.
ومنها: أن فيها أصلا لتعبير الرؤيا، وأن علم التعبير من العلوم المهمة التي يعطيها الله من يشاء من عباده، وإن أغلب ما تبنى عليه المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة، فإن رؤيا يوسف التي رأى أن الشمس والقمر، وأحد عشر كوكبا له ساجدين، وجه المناسبة فيها: أن هذه الأنوار هي زينة السماء وجمالها، وبها منافعها، فكذلك الأنبياء والعلماء، زينة للأرض وجمال، وبهم يهتدى في الظلمات كما يهتدى بهذه الأنوار، ولأن الأصل أبوه وأمه، وإخوته هم الفرع، فمن المناسب أن يكون الأصل أعظم نورا وجرما، لما هو فرع عنه. فلذلك كانت الشمس أمه، والقمر أباه، والكواكب إخوته.
ومن المناسبة أن الشمس لفظ مؤنث، فلذلك كانت أمه، والقمر والكوا كب مذكرات، فكانت لأبيه وإخوته،.
ومن المناسبة أن الساجد معظم محترم للمسجود له، والمسجود [له] معظم محترم، فلذلك دل ذلك على أن يوسف يكون معظما محترما عند أبويه وإخوته. ومن لازم ذلك أن يكون مجتبى مفضلا في العلم والفضائل الموجبة لذلك، ولذلك قال له أبوه: {وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث}
ومن المناسبة في رؤيا الفتيين، أنه أوَّلَ رؤيا الذي رأى أنه يعصر خمرا، أن الذي يعصر في العادة، يكون خادما لغيره، والعصر يقصد لغيره، فلذلك أوَّله بما يؤول إليه، أنه يسقي ربه، وذلك متضمن لخروجه من السجن. وأوَّل الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، بأن جلدة رأسه ولحمه، وما في ذلك من المخ، أنه هو الذي يحمله، وأنه سيبرز للطيور، بمحل تتمكن من الأكل من رأسه، فرأى من حاله أنه سيقتل ويصلب بعد موته فيبرز للطيور فتأكل من رأسه، وذلك لا يكون إلا بالصلب بعد القتل. وأوَّل رؤيا الملك للبقرات والسنبلات، بالسنين المخصبة، والسنين المجدبة، ووجه المناسبة أن الملك، به ترتبط أحوال الرعية ومصالحها، وبصلاحه تصلح، وبفساده تفسد، وكذلك السنون بها صلاح أحوال الرعية، واستقامة أمر المعاش أو عدمه. وأما البقر فإنها تحرث الأرض عليها، ويستقى عليها الماء، وإذا أخصبت السنة سمنت، وإذا أجدبت صارت عجافا، وكذلك السنابل في الخصب، تكثر وتخضر، وفي الجدب تقل وتيبس وهي أفضل غلال الأرض.
ومنها: ما فيها من الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قصَّ على قومه هذه القصة الطويلة، وهو لم يقرأ كتب الأولين ولا دارس أحدا. يراه قومه بين أظهرهم صباحا ومساء، وهو أمِّيٌّ لا يخط ولا يقرأ، وهي موافقة، لما في الكتب السابقة، وما كان لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون.
ومنها: أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر، وكتمان ما تخشى مضرته، لقول يعقوب ليوسف {يا بني لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}
ومنها: أنه يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره لقوله: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}
ومنها: أن نعمة الله على العبد، نعمة على من يتعلق به من أهل بيته وأقاربه وأصحابه، وأنه ربما شملتهم، وحصل لهم ما حصل له بسببه، كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} ولما تمت النعمة على يوسف، حصل لآل يعقوب من العز والتمكين في الأرض والسرور والغبطة ما حصل بسبب يوسف.
ومنها: أن العدل مطلوب في كل الأمور، لا في معاملة السلطان رعيته ولا فيما دونه، حتى في معاملة الوالد لأولاده، في المحبة والإيثار وغيره، وأن في الإخلال بذلك يختل عليه الأمر، وتفسد الأحوال، ولهذا، لما قدم يعقوب يوسف في المحبة وآثره على إخوته، جرى منهم ما جرى على أنفسهم، وعلى أبيهم وأخيهم.
ومنها: الحذر من شؤم الذنوب، وأن الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة، ولا يتم لفاعله إلا بعدة جرائم، فإخوة يوسف لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه، احتالوا لذلك بأنواع من الحيل، وكذبوا عدة مرات، وزوروا على أبيهم في القميص والدم الذي فيه، وفي إتيانهم عشاء يبكون، ولا تستبعد أنه قد كثر البحث فيها في تلك المدة، بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف، وكلما صار البحث، حصل من الإخبار بالكذب، والافتراء، ما حصل، وهذا شؤم الذنب، وآثاره التابعة والسابقة واللاحقة. ومنها: أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فإن أولاد يعقوب عليه السلام جرى منهم ما جرى في أول الأمر، مما هو أكبر أسباب النقص واللوم، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، والسماح التام من يوسف ومن أبيهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإذا سمح العبد عن حقه، فالله خير الراحمين. ولهذا -في أصح الأقوال- أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وذريتهم، ومما يدل على ذلك أن في رؤيا يوسف، أنه رآهم كواكب نيرة، والكواكب فيها النور والهداية الذي من صفات الأنبياء، فإن لم يكونوا أنبياء فإنهم علماء هداة.
ومنها: ما منَّ الله به على يوسف عليه الصلاة والسلام من العلم والحلم، ومكارم الأخلاق، والدعوة إلى الله وإلى دينه، وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوا بادرهم به، وتمم ذلك بأن لا يثرب عليهم ولا يعيرهم به. ثم برُّه العظيم بأبويه، وإحسانه لإخوته، بل لعموم الخلق.
ومنها: أن بعض الشر أهون من بعض، وارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب أعظمهما، فإن إخوة يوسف، لما اتفقوا على قتل يوسف أو إلقائه أرضا، وقال قائل منهم: {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} كان قوله أحسن منهم وأخف، وبسببه خف عن إخوته الإثم الكبير.
ومنها: أن الشيء إذا تداولته الأيدي وصار من جملة الأموال، ولم يعلم أنه كان على غير وجه الشرع، أنه لا إثم على من باشره ببيع أو شراء، أو خدمة أو انتفاع، أو استعمال، فإن يوسف عليه السلام باعه إخوته بيعا حراما لا يجوز، ثم ذهبت به السيارة إلى مصر فباعوه بها، وبقي عند سيده غلاما رقيقا، وسماه الله شراء، وكان عندهم بمنزلة الغلام الرقيق المكرم.
ومنها: الحذر من الخلوة بالنساء التي يخشى منهن الفتنة، والحذر أيضا من المحبة التي يخشى ضررها، فإن امرأة العزيز جرى منها ما جرى، بسبب توحّدها بيوسف، وحبها الشديد له، الذي ما تركها حتى راودته تلك المراودة، ثم كذبت عليه، فسجن بسببها مدة طويلة.
ومنها: أن الهمَّ الذي همَّ به يوسف بالمرأة ثم تركه لله، مما يقربه إلى الله زلفى، لأن الهمّ داع من دواعي النفس الأمارة بالسوء، وهو طبيعة لأغلب الخلق، فلما قابل بينه وبين محبة الله وخشيته، غلبت محبة الله وخشيته داعي النفس والهوى. فكان ممن {خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، أحدهم:"رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله" وإنما الهم الذي يلام عليه العبد، الهم الذي يساكنه، ويصير عزما، ربما اقترن به الفعل.
ومنها: أن من دخل الإيمان قلبه، وكان مخلصا لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه، وصدق إخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله. {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} على قراءة من قرأها بكسر اللام، ومن قرأها بالفتح، فإنه من إخلاص الله إياه، وهو متضمن لإخلاصه هو بنفسه، فلما أخلص عمله لله أخلصه الله، وخلصه من السوء والفحشاء. ومنها: أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلا فيه فتنة وأسباب معصية، أن يفر منه ويهرب غاية ما يمكنه، ليتمكن من التخلص من المعصية، لأن يوسف عليه السلام -لما راودته التي هو في بيتها- فر هاربا، يطلب الباب ليتخلص من شرها،
ومنها: أن القرائن يعمل بها عند الاشتباه، فلو تخاصم رجل وامرأته في شيء من أواني الدار، فما يصلح للرجل فإنه للرجل، وما يصلح للمرأة فهو لها، إذا لم يكن بينة، وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما من غير بينة، والعمل بالقافة في الأشباه والأثر، من هذا الباب، فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة، وحكم بها في قد القميص، واستدل بقدِّه من دبره على صدق يوسف وكذبها. ومما يدل على هذه القاعدة، أنه استدل بوجود الصُّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة، من غير بينة شهادة ولا إقرار، فعلى هذا إذا وجد المسروق في يد السارق، خصوصا إذا كان معروفا بالسرقة، فإنه يحكم عليه بالسرقة، وهذا أبلغ من الشهادة، وكذلك وجود الرجل يتقيأ الخمر، أو وجود المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، حاملا فإنه يقام بذلك الحد، ما لم يقم مانع منه، ولهذا سمى الله هذا الحاكم شاهدا فقال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا}
ومنها: ما عليه يوسف من الجمال الظاهر والباطن،. فإن جماله الظاهر، أوجب للمرأة التي هو في بيتها ما أوجب، وللنساء اللاتي جمعتهن حين لمنها على ذلك أن قطعن أيديهن وقلن {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} وأما جماله الباطن، فهو العفة العظيمة عن المعصية، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوعها، وشهادة امرأة العزيز والنسوة بعد ذلك ببراءته، ولهذا قالت امرأة العزيز: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} وقالت بعد ذلك: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} وقالت النسوة: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}
ومنها: أن يوسف عليه السلام اختار السجن على المعصية، فهكذا ينبغي للعبد إذا ابتلي بين أمرين -إما فعل معصية، وإما عقوبة دنيوية- أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة، ولهذا من علامات الإيمان، أن يكره العبد أن يعود في الكفر، بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى الله، ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية، ويتبرأ من حوله وقوته، لقول يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
ومنها: أن العلم والعقل يدعوان صاحبهما إلى الخير، وينهيانه عن الشر، وأن الجهل يدعو صاحبه إلى موافقة هوى النفس، وإن كان معصية ضارا لصاحبه.
ومنها: أنه كما على العبد عبودية لله في الرخاء، فعليه عبودية له في الشدة، ف "يوسف "عليه السلام لم يزل يدعو إلى الله، فلما دخل السجن، استمر على ذلك، ودعا الفتيين إلى التوحيد، ونهاهما عن الشرك، ومن فطنته عليه السلام أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته، حيث ظنا فيه الظن الحسن وقالا له: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وأتياه لأن يعبر لهما رؤياهما، فرآهما متشوفين لتعبيرها عنده -رأى ذلك فرصة فانتهزها، فدعاهما إلى الله تعالى قبل أن يعبر رؤياهما ليكون أنجح لمقصوده، وأقرب لحصول مطلوبه، وبين لهما أولا، أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه فيها من الكمال والعلم، إيمانه وتوحيده، وتركه ملة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وهذا دعاء لهما بالحال، ثم دعاهما بالمقال، وبين فساد الشرك وبرهن عليه، وحقيقة التوحيد وبرهن عليه.
ومنها: أنه يبدأ بالأهم فالأهم، وأنه إذا سئل المفتي، وكان السائل حاجته في غير سؤاله أشد أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله، فإن هذا علامة على نصح المعلم وفطنته، وحسن إرشاده وتعليمه، فإن يوسف- لما سأله الفتيان عن الرؤيا -قدم لهما قبل تعبيرها دعوتهما إلى الله وحده لا شريك له. ومنها: أن من وقع في مكروه وشدة، لا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه، أو الإخبار بحاله، وأن هذا لا يكون شكوى للمخلوق، فإن هذا من الأمور العادية التي جرى العرف باستعانة الناس بعضهم ببعض، ولهذا قال يوسف للذي ظن أنه ناج من الفتيين: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}
ومنها: أنه ينبغي ويتأكد على المعلم استعمال الإخلاص التام في تعليمه وأن لا يجعل تعليمه وسيلة لمعاوضة أحد في مال أو جاه أو نفع، وأن لا يمتنع من التعليم، أو لا ينصح فيه، إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم، فإن يوسف عليه السلام قد قال، ووصى أحد الفتيين أن يذكره عند ربه، فلم يذكره ونسي، فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف أرسلوا ذلك الفتى، وجاءه سائلا مستفتيا عن تلك الرؤيا، فلم يعنفه يوسف، ولا وبخه، لتركه ذكره بل أجابه عن سؤاله جوابا تاما من كل وجه.
ومنها: أنه ينبغي للمسئول أن يدل السائل على أمر ينفعه مما يتعلق بسؤاله، ويرشده إلى الطريق التي ينتفع بها في دينه ودنياه، فإن هذا من كمال نصحه وفطنته، وحسن إرشاده، فإن يوسف عليه السلام لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك، بل دلهم- مع ذلك -على ما يصنعون في تلك السنين المخصبات من كثرة الزرع، وكثرة جبايته.
ومنها: أنه لا يلام الإنسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه، وطلب البراءة لها، بل يحمد على ذلك، كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة اللاتي قطعن أيديهن.
ومنها: فضيلة العلم، علم الأحكام والشرع، وعلم تعبير الرؤيا، وعلم التدبير والتربية؛ وأنه أفضل من الصورة الظاهرة، ولو بلغت في الحسن جمال يوسف، فإن يوسف- بسبب جماله -حصلت له تلك المحنة والسجن، وبسبب علمه حصل له العز والرفعة والتمكين في الأرض، فإن كل خير في الدنيا والآخرة من آثار العلم وموجباته.
ومنها: أن علم التعبير من العلوم الشرعية، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه، وأن تعبير المرائي داخل في الفتوى، لقوله للفتيين: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} وقال الملك: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} وقال الفتى ليوسف: {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} الآيات،. فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم.
ومنها: أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه من صفات الكمال من علم أو عمل، إذا كان في ذلك مصلحة، ولم يقصد به العبد الرياء، وسلم من الكذب، لقول يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وكذلك لا تذم الولاية، إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق الله وحقوق عباده، وأنه لا بأس بطلبها، إذا كان أعظم كفاءة من غيره، وإنما الذي يذم، إذا لم يكن فيه كفاية، أو كان موجودا غيره مثله، أو أعلى منه، أو لم يرد بها إقامة أمر الله، فبهذه الأمور، ينهى عن طلبها، والتعرض لها.
ومنها: أن الله واسع الجود والكرم، يجود على عبده بخير الدنيا والآخرة، وأن خير الآخرة له سببان: الإيمان والتقوى، وأنه خير من ثواب الدنيا وملكها، وأن العبد ينبغي له أن يدعو نفسه، ويشوقها لثواب الله، ولا يدعها تحزن إذا رأت أهل الدنيا ولذاتها، وهي غير قادرة عليها، بل يسليها بثواب الله الأخروي، وفضله العظيم لقوله تعالى: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}
ومنها: أن جباية الأرزاق- إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر يلحقهم -لا بأس بها، لأن يوسف أمرهم بجباية الأرزاق والأطعمة في السنين المخصبات، للاستعداد للسنين المجدبة، وأن هذا غير مناقض للتوكل على الله، بل يتوكل العبد على الله، ويعمل بالأسباب التي تنفعه في دينه ودنياه.
ومنها: حسن تدبير يوسف لما تولى خزائن الأرض، حتى كثرت عندهم الغلات جدا حتى صار أهل الأقطار يقصدون مصر لطلب الميرة منها، لعلمهم بوفورها فيها، وحتى إنه كان لا يكيل لأحد إلا مقدار الحاجة الخاصة أو أقل، لا يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله.
ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن المرسلين، وإكرام الضيف لقول يوسف لإخوته {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}
ومنها: أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ولا محرم، فإن يعقوب قال لأولاده بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة، ثم قال لهم بعد ما أتوه، وزعموا أن الذئب أكله {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} وقال لهم في الأخ الآخر: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} ثم لما احتبسه يوسف عنده، وجاء إخوته لأبيهم قال لهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} فهم في الأخيرة- وإن لم يكونوا مفرطين -فقد جرى منهم ما أوجب لأبيهم أن قال ما قال، من غير إثم عليه ولا حرج.
ومنها: أن استعمال الأسباب الدافعة للعين أو غيرها من المكاره، أو الرافعة لها بعد نزولها، غير ممنوع، بل جائز، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء وقدر، فإن الأسباب أيضا من القضاء والقدر، لأمر يعقوب حيث قال لبنيه: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}
ومنها: جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد، وإنما الممنوع، التحيل على إسقاط واجب، أو فعل محرم.
ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره، بأمر لا يحب أن يطلع عليه، أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية المانعة له من الكذب، كما فعل يوسف حيث ألقى الصُّواع في رحل أخيه، ثم استخرجها منه، موهما أنه سارق، وليس فيه إلا القرينة الموهمة لإخوته، وقال بعد ذلك: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} ولم يقل "من سرق متاعنا" وكذلك لم يقل "إنا وجدنا متاعنا عنده" بل أتى بكلام عام يصلح له ولغيره، وليس في ذلك محذور، وإنما فيه إيهام أنه سارق ليحصل المقصود الحاضر، وأنه يبقى عند أخيه وقد زال عن الأخ هذا الإيهام بعد ما تبينت الحال. ومنها: أنه لا يجوز للإنسان أن يشهد إلا بما علمه، وتحققه إما بمشاهدة أو خبر من يثق به، وتطمئن إليه النفس لقولهم: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا}
ومنها: هذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها نبيه وصفيه يعقوب عليه السلام، حيث قضى بالتفريق بينه وبين ابنه يوسف، الذي لا يقدر على فراقه ساعة واحدة، ويحزنه ذلك أشد الحزن، فحصل التفريق بينه وبينه مدة طويلة، لا تقصر عن خمس عشرة سنة، ويعقوب لم يفارق الحزن قلبه في هذه المدة {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} ثم ازداد به الأمر شدة، حين صار الفراق بينه وبين ابنه الثاني شقيق يوسف، هذا وهو صابر لأمر الله، محتسب الأجر من الله، قد وعد من نفسه الصبر الجميل، ولا شك أنه وفى بما وعد به، ولا ينافي ذلك، قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} فإن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، وإنما الذي ينافيه، الشكوى إلى المخلوقين.
ومنها: أن الفرج مع الكرب؛ وأن مع العسر يسرا، فإنه لما طال الحزن على يعقوب واشتد به إلى أنهى ما يكون، ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب ومسهم الضر، أذن الله حينئذ بالفرج، فحصل التلاقي في أشد الأوقات إليه حاجة واضطرارا، فتم بذلك الأجر وحصل السرور، وعلم من ذلك أن الله يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء، والعسر واليسر ليمتحن صبرهم وشكرهم، ويزداد- بذلك -إيمانهم ويقينهم وعرفانهم.
ومنها: جواز إخبار الإنسان بما يجد، وما هو فيه من مرض أو فقر ونحوهما، على غير وجه التسخط، لأن إخوة يوسف قالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} ولم ينكر عليهم يوسف.
ومنها: فضيلة التقوى والصبر، وأن كل خير في الدنيا والآخرة فمن آثار التقوى والصبر، وأن عاقبة أهلهما، أحسن العواقب، لقوله: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
ومنها: أنه ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمة بعد شدة وفقر وسوء حال، أن يعترف بنعمة الله عليه، وأن لا يزال ذاكرا حاله الأولى، ليحدث لذلك شكرا كلما ذكرها، لقول يوسف عليه السلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}
ومنها: لطف الله العظيم بيوسف، حيث نقله في تلك الأحوال، وأوصل إليه الشدائد والمحن، ليوصله بها إلى أعلى الغايات ورفيع الدرجات.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يتملق إلى الله دائما في تثبيت إيمانه، ويعمل الأسباب الموجبة لذلك، ويسأل الله حسن الخاتمة، وتمام النعمة لقول يوسف عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، فهذا ما يسر الله من الفوائد والعبر في هذه القصة المباركة، ولا بد أن يظهر للمتدبر المتفكر غير ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد. في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن. وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس.. ثم كانت العاقبة خيرا للذين اتقوا -كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب- وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين. فيها عبرة لمن يعقل، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل، على غير صلة بين محمد وهذه الكتب. فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثا مفترى. فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضا ولا تحقق هداية، ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا من رد العجز على الصدر فهي مرتبطة بجملة {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} [سورة يوسف: 102] وهي تتنزّل منها منزلة البيان لما تضمنه معنى الإشارة في قوله: {ذلك من أنباء الغيب} من التعجيب، وما تضمنه معنى {وما كنتَ لديهم} من الاستدلال على أنه وحي من الله مع دلالة الأمية... فلها مواقع ثلاثة عجيبة من النظم المعجز. وتأكيد الجملة ب (قد) واللام للتحقيق. وأولو الألباب: أصحاب العقول. وتقدم في قوله: {واتقون يا أولي الألباب} في أواسط سورة البقرة (197). والعِبرة: اسم مصدر للاعتبار، وهو التوصل بمعرفة المشاهد المعلوم إلى معرفة الغائب وتطلق العِبرة على ما يحصل به الاعتبار المذكور من إطلاق المصدر على المفعول كما هنا... وجملة {ما كان حديثا يفترى} إلى آخرها تعليل لجملة {لقد كان في قصصهم عبرة} أي لأن ذلك القصص خبر صدق مطابق للواقع وما هو بقصة مخترعة. ووجه التعليل أن الاعتبار بالقصة لا يحصل إلا إذا كانت خبراً عن أمر وقع، لأن ترتب الآثار على الواقعات رتّب طبيعي فمِن شأنها أن تترتب أمثالُها على أمثالها كلما حصلت في الواقع، ولأن حصولها ممكن إذ الخارج لا يقع فيه المحال ولا النادر... وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في أول السورة {نحن نقص عليك أحسن القصص} [يوسف: 3] فكما سماه الله أحسن القصص في أول السورة نفى عنه الافتراء في هذه الآية تعريضاً بالنضر بن الحارث وأضرابه. والافتراء تقدم في قوله: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة العقود (103). و {الذي بين يديه}: الكتب الإلهية السابقة. وضمير بين {يديه} عائد إلى القرآن الذي من جملته هذه القصص. والتفصيل: التبيين. والمراد ب {كل شيء} الأشياء الكثيرة مما يرجع إلى الاعتبار بالقصص... والهُدى الذي في القصص: العبر الباعثة على الإيمان والتقوى بمشاهدة ما جاء من الأدلة في أثناء القصص على أن المتصرف هو الله تعالى، وعلى أن التقوى هي أساس الخير في الدنيا والآخرة، وكذلك الرحمة فإن في قصص أهل الفضل دلالة على رحمة الله لهم وعنايته بهم، وذلك رحمة للمؤمنين لأنهم باعتبارهم بها يأتون ويذرون، فتصلح أحوالهم ويكونون في اطمئنان بال، وذلك رحمة من الله بهم في حياتهم وسببٌ لرحمته إياهم في الآخرة كما قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وآخر آية من هذه السورة ذات محتوىً شامل وجامع لكلّ الأبحاث التي ذكرناها في هذه السورة، وهي: (لقد كان في قصصهم عبرةً لأولي الألباب). فهي مرآة يستطيعون من خلالها أن يروا عوامل النصر والهزيمة، الهناء والحرمان، السعادة والشقاء، العزّ والذلّة، والخلاصة كلّ ما له قيمة في حياة الإنسان وما ليس له قيمة. وهي مرآة لكلّ تجارب المجتمعات السابقة والرجال العظام. ومرآة نشاهد فيها ذلك العمر القصير للإنسان كيف يطول بمقدار عمر كلّ البشر. ولكن أُولي الألباب وذوي البصائر فقط باستطاعتهم أن يشاهدوا العبر في صفحة المرآة العجيبة هذه: (ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه). فهذه الآيات التي أنزلناها عليك والتي أزاحت الستار عن التأريخ الصحيح للأمم السابقة ليست من العلم البشري الذي يمكن معرفته عن العلماء، بل إنّ الكتب السّماوية السابقة تشهد على ذلك وتصدّقه وتؤيّده وبالإضافة إلى ذلك ففي هذه الآيات كلّ ما يحتاجه الإنسان في تأمين سعادته وتكامله: (وتفصيل كلّ شيء). ولهذا السبب فهي (وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون) فالظاهر من الآية أعلاه أنّها تُريد أن تشير إلى هذه النقطة المهمّة وهي: إنّ للقصص المصنوعة ذات الإثارة كثيرة في أوساط الاُمم وهي من الأساطير الخيالية، ولكن لا يتوهّم أحد بأنّ سيرة يوسف أو سير بقيّة الأنبياء التي ذكرها القرآن الكريم من ذلك القبيل. المهمّ أنّ هذه القصص المثيرة وذات العِبَر هي عين الواقع ولا تحتوي على أدنى انحراف عن الواقع الموضوعي، ولهذا السبب يكون تأثيرها كبيراً جدّاً...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
خاتمة في مباحث مهمة (ملاحظة: في تفسير الآية الأخيرة من السورة خصص الشيخ عبد الرحمن السعدي مباحث لبيان فوائد السورة وعبرها وقد نقلتها هناك، وصنع بعض ذلك الشيخ محمد أبو زهرة عند تفسير قوله تعالى في بداية السورة: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين)، ونقلت ذلك أيضا في موضعه، بالإضافة إلى عبر مبثوثة خلال التفسير عند كثير من المفسرين نقلتها في محلها).
الأول -فيما قيل في وجوه العبر في هذا القصص. قال في (اللباب): الاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد. والمراد منه التأمل والتفكر. ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه، وإخراجه من السجن، وتمليكه مصر بعد العبودية. وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة، واليأس من الاجتماع، قادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم، وإعلاء كلمته، وإظهار دينه. وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: إن قصة يوسف الصديق، جمة الفائدة، وجليلة العائدة، تحدو بكل امرئ أبيّ إلى الاقتداء بها. فإن من أطلق سوام الفكر في حياة يوسف عليه السلام، رآها رغيدة، وألفاها هنيئة، وما ذلك إلا لطيب سيرته، وحميد سريرته، وتمسكه بعرى التقوى والفضيلة، ولاسيما فضيلة العفة والطهارة، التي ترفع قدر صاحبها، وتنزله المنزلة السامية فعلى المرء أن يقتفي أثر هذه الفضيلة الجليلة، كيوسف، فيتسم ذروة المجد في هذه الدنيا وينال السعادة الدائمة في الآخرة. انتهى. قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة من جملة ما قص على النبي، صلوات الله عليه، من أنباء الرسل، وأخبار من تقدمه، مما في التثبت المشار إليه في قوله تعالى: {وكلا نقص عليك...} الآٍية. وإنما أفردت على حدتها، ولم تنسق على قصص الرسل، مع أنهم في سورة واحدة، لمفارقة مضمونها تلك القصص. ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم السلام، وكيفية تلقي قومهم لهم، وإهلاك مكذبيهم؟ أما هذه القصة، فحاصلها: فرج بعد شدة، وتعريف بحسن عاقبة الصبر، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره، وشتات بنيه. وامتحن يوسف عليه السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن. ثم امتحن جميعهم بشمول الضر، وقلة ذات اليد {مسنا وأهلنا الضر...} الآٍية. ثم تداركهم الله بإلفهم، وجمع شملهم، ورد بصر أبيهم، وائتلاف قلوبهم، ورفع ما نزغ به الشيطان. وخلاص يوسف عليه السلام، وبكيد من كاده، واكتنافه بالعصمة، وبراءته عند الملك والنسوة. وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر، وجلالة اليقين، وحسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم، على توالي الامتحان، وطول المدة. ثم انجرّ في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة امرأة العزيز، ورجوعها إلى الحق، وشهادتها ليوسف عليه السلام، بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين، ثم استخلاص العزيز إياه. إلى ما انجرّ في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر. فقد انفردت هذه القصة بنفسها، ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، وما جرى في أممهم، فلهذا فصلت عنهم، وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضي وسلم ليتنبه المؤمنون إلى ما في طيّ ذلك. وقد صرح لهم ما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض...} إلى قوله: {أمنا} وكانت قصة يوسف عليه السلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر، وهجرهم، وتشققهم مع قومهم، وقلة ذات أيديهم، إلى أن جمع الله شملهم: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}، وأورثهم الأرض، وأيدهم ونصرهم. وذلك بجليل إيمانهم، وعظيم صبرهم، فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص والله أعلم. ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام، في صبرهما، ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا، ما أعد لهما من عظيم الثواب، أنسب بحال نبينا عليه السلام في مكابدة قريش، ومفارقة وطنه، ثم تعقيب ذلك بظفره بعدّوه، وإعزاز دينه، وإظهار كلمته، ورجوعه إلى بلده، على حالة قرت بها عيون المؤمنين، وما فتح الله عليه وعلى أصحابه. فتأمل ذلك! ويوضحه ختم السورة بقوله: {حتى إذا استيأس الرسل...} الآية. فحاصل هذا كله الأمر بالصبر، وحسن عاقبة أولياء الله فيه كذا في (تفسير البرهان) للبقاعيّ ملخصا. وجاء في كتاب (النظام والإسلام) في بحث التربية والآداب في قصص القرآن ما مثاله: طال الأمر على أمتنا، فأهملت ما في غضون كتابها من أساس التربية والحكمة، وكيف تنتقي الرجال الأكفاء في مهام الأعمال. يا ليت شعري! ما الذي أصابها حتى غضت النظر عن القصص التي قصها، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين. القصص في كل أمة، عليها مدار ارتقائها، سواء كانت وضعية أم حقيقية، على ألسنة الحيوان أو الإنسان أو الجماد. على هذا تبحث الأمم، قديمها وحديثها. وناهيك بكتاب (كليلة ودمنة)، وما والاه من القصص الناسجة على منواله في الإسلام، ككتاب (فاكهة الخلفاء)، و (مقامات الحريري). جاء القرآن بقصص الأنبياء، وهي لا جرم- أعلى منالا، وأشرف مزية. كيف لا وقد جمعت أحسن الأسلوب، واختيار المقامات المناسبة لما سيقت إليه، والقدوة الحسنة للكمّل المخلصين من الأنبياء ومن والاهم، وتحققها في أنفسها، لوقوع مواردها، وإن حب التشبه طبيعة مرتكزة في الإنسان، لاسيما لمن يقتدى بهم. فهذه خمس مزايا اختصت بها هذه القصص، ونقصت في سواها. أليس من العيب الفاضح أن نقرأ قصص القرآن، فلا نكاد نفهم إلا حكايات ذهبت مع الزمان، ومرت كأمس الدابر؟! وما لنا ولها إذن؟! تالله إن هذا لهو البوار! ولم يكن هذا إلا للجهل بالمقصود من قصصها، وأنها عبرة لمن اعتبر، وتذكرة لمن تفكر، وتبصرة لمن ازدجر. أما الرجوع إلى التاريخ، ومقارنته بما قصه المؤرخون في كتبهم، وما سطره الأقدمون على مباينتهم، وما يقوله القاصون في خرافتهم، فتلك سبيل حائد عن الجادة، يضل فيه الماهرون. يرشدك لذلك ما تسمعه من نبأ فتية الكهف، وكيف يقول: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب. ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل} فانظر كيف أسند العلم لله، ولم يعول على قول المؤرخين المختلفين ثم لم يبين الحقيقة، لئلا يكون ذريعة للطعن في التنزيل. فإن قال: خمسة قالوا: ستة، وإن قال: أربعة، قالوا: سبعة. فكتب المؤرخين كثيرة الاختلاف في القصص، وما المقصود منها إلا ليكون عبرة. وبالإجمال: فليس القصد من هذه القصص إلا منافعها، والعبر المبصرة للسامعين {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}. ولسنا ممن يتبجح بالقول بلا بيان، فلا نعتمد إلا على البرهان. تأمل هذا القصص، تجده لا يذكر إلا ما يناسب الإرشاد والنصح، ويعرض عن كثير من الوقائع. إذ لا لزوم لها، ولا معوّل عليها. فلا ترى قصة إلا وفيها توحيد وعلم ومكارم أخلاق، وحجج عقلية، وتبصرة وتذكرة، ومحاورات جميلة تلذ العقلاء. ولاقتصر من تلك القصص على ما حكاه عن يوسف الصديق عليه السلام، وكيف جاوز فيها كل ما لا علاقة له بالأخلاق، من مدنية المصريين وأحوالهم إلى الخلاصة والثمرة. ألا ترى كيف صدرت بحديث سجود الشمس والقمر والكواكب له في الرؤيا، دلالة على أن للطفل استعدادا يظهر على ملامحه، وأقواله وأفعاله ورؤياه؟ وهذا أعظم شيء اعتنى به قدماء الحكماء، من اليونان والفرس، كما ذكره المؤرخون وعلماء الأخلاق: كانوا يختبرون أبناءهم، ويتأملون ملامحهم، ليعرفوا ما استعدوا له من الصناعات والرئاسات والعلوم. ثم تأمل في قصة الإخوة، وحديث القميص والجب والذئب والدم، لتعلم ما نشاهده كل يوم من معاداة الأقران لمن ظهرت مبادئ الجمال النفسي، والخلق المرضي، والجلال الظاهر على ملامحه. فيعيبونه بما يشينه في نفسه أو عرضه أو خلقه، دلالة على أن هذه سنة في الكون لا تغادر نبيا، ولا حكيما، ولا عالما مهما حسنت أخلاقه، وجمل ظاهره وباطنه..!
كلّ العداوات قد ترجى إزالتها *** إلا عداوة من عاداك من حسد
جرت تلك السنة في الأناسي: فإذا صبر الصالح فاز بالولاية عليهم، وأحبوه بعد العداوة ولو بعد حين، وعادوا من آذاه! ثم انظر في حديث قصة امرأة العزيز، وكيف عفّ مع الشباب، وكيف ساس نفسه وصدق ظن مولاه في الأمانة، وأرضى إلهه، واتسم بالفضيلة، فتوازى جماله الباطني والظاهري..! ولنكتف بهذا القدر الآن، ولنشرع في الكلام على الآداب والأخلاق وتربية الأمراء والعفو والصفح، التي تضمنتها تلك القصة! فأما علم الأخلاق، وتربية رؤساء الأمم منها، فتأمل في كلام الحكماء أولهم وآخرهم تجد إجماعهم على أن سياسة أخلاق النفس أولا فالمنزل فالمدينة، كل واحدة مقدمة للاحقتها ثمرة لسابقتها، إذ لا يعقل أن يسوس منزله من لم يسس نفسه. أو يسوس أمته من لم يدبر إدارة منزله! بايع الصحابة عليهم رضوان الله الخليفة الأول، فأخذ قماشا وذراعا وذهب إلى السوق في الغذاة، فاستاء الصحابة ولاموه فقال:"إذا أضعت أهلي، فأنا للمسلمين أضيع! ففرضوا له دريهمات من بيت المال، فقال: إذن انظر في شؤونكم!" لذلك، نجد الغربيين إذا ولوا رجلا إدارة بلادهم أكثروا السؤال عن قرينته وإدارة منزله، علما منهم أن منزله أقرب إليه من الأمة. فانظر هذه الحقائق من سيرة النبي يوسف الصديق كيف ذكرت في الكتب السماوية، ورتبت في القرآن ترتيبا محكما، ذكرت فيها السياسات الثلاثة مرتبة هكذا: النفس فالمنزل فالمدينة، ترتيبا طبيعيا، تنبيها لبني الإسلام على معرفة هذا العلم وانتقائهم الأكفاء للأعمال العامة. فأشير فيها لتربية الأخلاق الفاضلة بالعفة في عنفوان الشباب مع الصديق. وليت شعري! كيف حفظ أخلاق آبائه وقومه والأنبياء في وسط مدنية المصريين وزخرفهم وجمالهم، وعبد الله وحده، ونسي ما يراه من أبي الهول وأبيس والأرباب المتفرقة..؟! يذكر هذا تبصرة لمن أحاطت بهم أمواج الحدثان من كل جانب، أن يحافظوا على أصول دينهم وقواعده، ثم ليفعلوا ما يشاءون في أمور دنياهم..! ظهر صدق يوسف في أخلاقه الشخصية، فلم يكن ذلك كافيا لإدارة أموره العامة، فأودع السجن وأحيط بالأحداث والجهلة من كل جانب، فأخذ يسوسهم كما يسوس الرجل أهل منزله، وبث عقيدته بينهم، ظاهرا بمظهر الكمال والإحسان والعطف عليهم: {قال لا يأتيكما طعام ترزقانه...} الآية. وأخذ يقص عليهم سيرة أسلافه، وحبه لمذهبهم، وبغضه لأصنام المصريين، ونحوهم، فقال: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله...} الآية. ثم أخذ يذكرهم أن تفرق وجهة الأمة ضلال في السياسة، وأن توحيد وجهتها كياسة فيها، فقال: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} فتفريق الوجهة شتات الجامعة. لم تسد أمة في الوجود إلا برجال يوحدون وجهتها أيا كانت فيؤمّون مقصدا واحدا! والتفصيل لا يخفى على أولي الألباب..! وفي (آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي اثنتا عشرة جامعة بكل منهم قوم اتحدت بها: كاللغة، والوطن، والدين، والأخلاق، والجنس، والحكيم المرشد، والأب الأكبر. ونحو ذلك مما امتازت به أمة أو جماعة. ولما تم له، عليه السلام، الأمران سياسة النفس والعشيرة أخرج من السجن معظما مبجلا وترقى من تعليم الصعلوك في السجن إلى تعليم الملوك على العروش، وأخذ يريهم كيف يقتصدون الأموال، وعبر لهم السنبلات الخضر واليابسات والبقرات السمان والعجاف، وأرشدهم إلى حزن البر وسنابله لئلا يفسد، وغير ذلك من الأمور العامة. وهذه هي المرتبة الثالثة سياسة الأمة بأجمعها بعد قطع تينك العقبتين. والبراعة والكياسة في علوم العمران، وتدبير أمر الأمة، إما بوحي وهذا خاص به وبأمثاله من الأنبياء عليهم السلام، وإما بتعليم وتدريب وهو اللائق بسائر الناس. ترشد هذه السيرة الشريفة إلى أن الأخلاق الفاضلة ما تثبت عليها النفس مع الحقير والعظيم والصغير والكبير، وأن الإنسان لا يستحقر تعليم الأصاغر، فإنه لا بد يوما ما أن يصل إلى الأكابر، كما في حديث هرقل مع أبي سفيان، وتعليم الصديق من في السجن. فبلغ صاحب السجن فرعون المصريين. ابتلي هذا النبي بالسراء والضراء فلم تتغير أخلاقه، وكان نموذج الكمال في سعة بيت الملك والجلال، وموضع الثقة في ضيق قبر السجن وعشرة الأسافل التي تتغير بها الأخلاق، وتنسى بها أصول الأعراق، وتنزل الكامل من عروش الفضيلة إلى أسفل مقاعد الرذيلة، ومن أوج الكمال إلى حضيض النقص! وهذه قصة يوسف الذي تربى في مصر ونشأ فيها ولم تبهجه زخارف تلك المدينة إلى الرذيلة جاءت عبرة للناس كافة وإلى المصريين خاصة! بهذه الأخلاق اعتلى يوسف عرش العظمة والجلال فساس مصر بعد أن كان مسوسا، وملك بعد أن كان مملوكا! ليس الجزاء على الأخلاق والكمال خاصا بالآخرة، بل في الدارين: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين * ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون}. هذه هي الأخلاق الفاضلة، ذكرت في التنزيل نموذجا. في غضون هذه السيرة، للأمم الإسلامية ليأخذوا ثمرتها ولا يضيعوا الزمن في أصلها وموردها في التاريخ كما يجمد المفسر على الإعراب أو الصرف أو البلاغة. وهذا غيض من فيض من حكم هذه القصة، وبها نفهم ما ذكر في أولها: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} دع قول الجاهلين، وفهم المتنسكين، وتجاوز خلط المؤرخين، واختلافهم، واصغ إلي ما في هذه القصة من هيئة تربية الحكام والأمراء، كما أشرنا سابقا، ولنزدك بيانا! قال علماء الأخلاق والحكماء: لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، فضلاء مرشدين هادين لهم شروط معلومة وأخلاق معهودة، فإن كان القائم بالأعمال نبيا فله أربعون خصلة ذكروها. كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته. وإن كان رئيسا فاضلا لمدينة فاضلة، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها. وسيدنا يوسف عليه السلام حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين. ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هدى لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال، إذ قد حاز الملك والنبوة! ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة، ولنذكر منها ثلاث عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن، وتنبيها للمتعلمين العاشقين للفضائل على نفائس الكتاب العظيم، وحبا في نظرهم في القرآن، وليعلموا أن تلك القصص وقد أودعت ما لم يكن ليخطر على بال من سمعه للتغني به ومجرد اللهو واللعب.! أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة:
- العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين}.
- الحلم عند الغضب: ليضبط نفسه {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم}.
- وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها {ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون}، والصدر للين والعجز للشدة.
- ثقته بنفسه {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}.
- قوة الذاكرة ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون، ليضبط السياسات ويعرف للناس أعمالهم {وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون}.
- جودة المصورة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح {إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}.
استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون}، {ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما، وكذلك نجزي المحسنين}، {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث}.
- شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه. فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: {يا صاحبي السجن...} الآية، وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما:
فالأول بقوله: {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله}،
والثاني بقوله: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله...} الآية، وشهدا له بقولهما: {إنا نراك من المحسنين}.
- العفو مع القدرة: {قال لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين}.
- إكرام العشيرة {وائتوني بأهلكم أجمعين}.
- قوة البيان والفصاحة بتعبيره رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي / والرعية والسوقة، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على العلم والحكمة {فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين}.
- حسن التدبير {فما حصدتم فذروه في سنبله...} الآية. ثم تأمل في اقتدار يوسف عليه السلام على سياسة الملك، وكيف اجتذب إليه القلوب بالإحسان {وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم...} الآية، ودبر الحيلة العجيبة بمسألة الصواع والاتهام بالسرقة ليضم أخاه إليه {فبدأ بأوعيتهم...
} الآية، وعامل المحكومين بشرعهم ودينهم وملتهم وعادتهم، كما عليه جميع الأمم الشرقية الحية من الرفق بالأمة المحكومة لهم، فيسوسونهم بدينهم وعادتهم وشرعهم وأخلاقهم وأموالهم اتباعا لمن رسمته الشريعة الغراء مما يناسب حكم سيدنا يوسف عليه السلام وذلك أنه أمر أتباعه أن يسألوهم {قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين} الآية، فكانت شريعة بني يعقوب أن يستعبدوا السارق سنة عند صاحب المتاع، فعاملهم بما هم عليه، ولذلك يقول تعالى: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله، نرفع درجات من نشاء، وفوق كل ذي علم عليم}، امتداح على حسن خطته في السياسة ومراعاته عادة أولئك القوم وهذه -وإن كانت مسألة بسيطة الظاهر- فهي أم السياسة ورأس علوم العمران، وأول ما يوصى به السواس والعقلاء! تالله! ما أجمل القرآن وما أبهج العلم! وليت شعري كيف يقول الله بعدها {نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم} ولولا ما فيها من مبدأ شريف وحكم عالية مع وضوحها وبساطتها لذوي النظر السطحيّ والبله الغفل، ما أعطاها هذا الجلال والإعظام ومدح العلم! فحيا الله العلم وأدام دولته.! ومن العجيب الغريب تدبير هذه الحيلة بإخفاء الصواع، ثم نظر أمتعتهم جميعا {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه}. وهذه: وايم والله هي بعينها ما يصنعه ملوك الأرض قاطبة اليوم من السياسات والتلطف في الأمور الخفية، وإلباسها ألبسة مختلفة لسياسة بلادهم، وطلبا لحصول المقاصد النافعة، ودخولا للبيوت من أبوابها؛ ولكن بينهم وبين هذا النبي بون بعيد...! فانظر كيف تعطي هذه القصة هذه الأمور العجيبة! لعمري! إن من طالع ما أمليناه بإمعان عن هذه القصة يتخيل عند تلاوتها أنه مشاهد أعمال الأمم الحاضرة والغابرة! وكأنما طالع آراء أهل المدينة الفاضلة، وعرف الحكماء وسواس الأمم، وشاهد جمال العلم والأدب والحكمة والموعظة الحسنة، حتى يعلم علم اليقين كيف قال الله في أول السورة {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}، ويقول في آخرها: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} ويقول: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} ثم ذكر أن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس من ورح الله فقال: {حتى إذا استيأس الرسل...} الآية. ثم أفاد أن المقصود هو العبر والنظر لتأثير القصص وثمراتها، لا مجرد تفسيرها، إذ مجرد التفسير أمر بسيط يقنع به البسطاء. وإنما المقصد هو الاتعاظ والاعتبار فقال: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثا يفترى...} الآية. وهذه ترشدك إن كنت من ذوي الهمة العالية أن تصبر نفسك مع الذين يتعلمون أمدا طويلا، ولا تعجل بالرئاسة حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنال حظا وافرا من الأخلاق والعلوم. فلا بأس بالوظائف ونفع الأمة مع دوام المثابرة على العلم والاستزادة منه! فلقد صبر هذا النبي عليه السلام أياما وأياما، ولبس للحوادث أثوابا وأثوابا، حتى إذا غلب اليأس جاء الفرج والرفعة! فتأمل! كيف كانت هذه السورة يقرأها القارئون، ويسمعها الجاهلون وهم عن آياتها معرضون! فإذا سمعوا صوتا حسنا ظنوا أن هذا هو جمال القرآن، فقالوا للقارئ: سبحان من أعطاك! وفرحوا بما عندهم من العلم بظواهر ورونق القراءة أو مجرد التفسير ومعرفة القصة، ولم ينظروا إلى الحكم المودعة فيها! فقبح الجهل.! يترك الرجل أعمى وإن لبس الحلل وارتدى ثياب الفخار الكاذب والسراب الخداع... كم للإنسان من آيات وعبر في السماوات والأرض فيعرض عنها! خلقت لنا الأبصار والأسماع والعقول لننظر ماذا في السماوات والأرض مما ذرأ المبدع في الكون، وتلا القرآن وهو كلام مبدع الكون وتلطف في تصوير المعاني، وألبسها أجمل لباس، فأعرض العقلاء فضلا عن العامة! فما للعامة لا يتعلمون؟ وما لذوي البصائر لا ينصحون ولا يبينون؟ وما للناس لا يكادون يفقهون؟. وذكرنا نموذجا عن هذه السورة استنشاطا لهمم العقلاء، وحثا لمن لهم ذكاء وفطن وعقول راجحة على الرجوع إلى كتابهم ونظرهم فيه، وإزالة لشبه من ارتاب في هذه القصص فأعرض! وجليّ أن قصص القرآن جميعها مملوءة بالحكم كهذه القصة، وفي كل واحدة منها ما ليس في الأخرى كأنها ثمرات مختلف لونها! أين من يفقه هذا ممن يقف مع ألفاظها وهم عن آياتها معرضون؟ ولا عجب فإن نفوس الأسافل تأخذ الحكمة فترجعها من أفق سمائها إلى أرض ضعتها، كما يصير الماء في شجرة الحنظل مرا. فيقصدها هذا للنغمات، وذلك لقصة بسيطة، وآخر تسلية وتضييعا للزمن، وآخر يقف عند الألفاظ وإعرابها وصرفها وبلاغتها، ولكن هذا أرقى مما قبله فقد سار في الطريق وهي الألفاظ، ولكن هيهات أن يصل للمقصود والثمرات إلا إذا أعد تلك القواعد مقدمة للمقصود وبحث فيه! وآخرون يسمعون الآيات فيعرضونها على التاريخ، والمؤرخون مختلفون كما قدمنا. وما مثل هؤلاء في سيرهم إلا كمثل رجل أوتي آلة بخارية ليسقي بها الحرث من النهر، فجلس بجانبها وترك استعمالها وأخذ يتفكر: من أين هذا الحديد؟ ولم يجلب الماء؟ وإلى أي مسافة يرتفع، وما العلة فيه، ومن أين يأتي الفحم الحجري، وفي أي الطرق يسير إلى أن يصل إلينا؟. فيمر عليه شهر وشهران فيذبل زرعه وتبور أرضه.! ذلك مثل من يقرأ القرآن ويجعل جل عنايته تطبيقه على كلام المؤرخين أو قواعد النحويين أو الصرفيين وعلماء البلاغة، فحسب! اللهم إلا قدرا يسيرا للفهم! وهذا لعمر الله انتكاس على الرأس، واتخاذ الوسيلة مقصدا، كمثل من أراد الحج فجعل همته إعداد الذخائر سنين فاختطفته المنون وفارق الحياة ولم يحج! ذلك مثلهم.!! انتهى. المبحث الثاني احتج من جوز المعصية على الأنبياء وهم الكرامية والباقلاني- بما جرى من إخوة يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهم، وبما وقع من يوسف نفسه من أخذه أخاه وإيحاشه أباه. قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في (الملل والنحل): ما احتجوا به لا حجة فيه: لأن إخوة يوسف، عليه السلام، لم يكونوا أنبياء؛ ولا جاء قط في أنهم أنبياء نص لا من قرآن، ولا من سنة صحيحة، ولا من إجماع، ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم! فأما يوسف عليه السلام فرسول الله بنص القرآن، قال عز وجل: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به.. إلى قوله من بعده رسولا} وأما إخوته فأفعالهم تشهد بأنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم، فكيف أن يكونوا أنبياء! ولكن الرسولين أباهم وأخاهم قد استغفروا لهم وأسقطا التثريب عنهم! وبرهان ما ذكرنا من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء قول الله تعالى حاكيا عن الرسول أخيهم أنه قال لهم: {أنتم شر مكانا} ولا يجوز البتة أن يقوله لنبي من الأنبياء، نعم ولا لقوم صالحين!؛ إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس، لأن الصالحين ليسوا شرا مكانا! وقد عق ابن نوح أباه بأكثر مما عق به إخوة يوسف أباهم، إلا أن إخوة يوسف لم يكفروا. ولا يحل للمسلم أن يدخل في الأنبياء من لم يأت نص ولا إجماع أو نقل كافة بصحة نبوته! ولا فرق بين التصديق بنبوة من ليس نبيا، وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم!
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا يتوافق المطلع والختام في السورة، كما توافق المطلع والختام في القصة. وتجيء التعقيبات في أول القصة وآخرها، وبين ثناياها، متناسقة مع موضوع القصة، وطريقة أدائها، وعباراتها كذلك. فتحقق الهدف الديني كاملا، وتحقق السمات الفنية كاملة، مع صدق الرواية، ومطابقة الواقع في الموضوع. وقد بدأت القصة وانتهت في سورة واحدة، لأن طبيعتها تستلزم هذا اللون من الأداء. فهي رؤيا تتحقق رويدا رويدا، ويوما بعد يوم، ومرحلة بعد مرحلة. فلا تتم العبرة بها -كما لا يتم التنسيق الفني فيها- إلا بأن يتابع السياق خطوات القصة ومراحلها حتى نهايتها. وإفراد حلقة واحدة منها في موضع لا يحقق شيئا من هذا كله كما يحققه إفراد بعض الحلقات في قصص الرسل الآخرين. كحلقة قصة سليمان مع بلقيس. أو حلقة قصة مولد مريم. أو حلقة قصة مولد عيسى. أو حلقة قصة نوح والطوفان... الخ فهذه الحلقات تفي بالغرض منها كاملا في مواضعها. أما قصة يوسف فتقتضي أن تتلى كلها متوالية حلقاتها ومشاهدها، من بدئها إلى نهايتها وصدق الله العظيم: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن. وإن كنت من قبله لمن الغافلين).