بدأت السورة بنهي المؤمنين عن موالاة المشركين أعداء الله وأعدائهم لإصرارهم على الكفر ، وإخراجهم رسول الله والمؤمنين من ديارهم بمكة ، وأشارت إلى أن عداوة هؤلاء كامنة للمؤمنين ، لا تلبث أن تستعلن حين يلاقونهم ويتمكنون منهم .
ثم انتقلت إلى بيان الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معه في تبرئتهم من المشركين وما يعبدون من دون الله ، معلنين عداوتهم لهم ، حتى يؤمنوا بالله وحده موضحة أن ذلك شأن الذين يرجون لقاء الله ويخشون عقابه .
ثم بينت من تجوز صلتهم من غير المسلمين ومن لا تجوز ، فأما الذين لا يقاتلوننا في الدين ولا يعينون علينا ، فإن لنا أن نبرهم ونقسط إليهم ، وأما الذين قاتلونا في الدين ، وظاهروا على إخراجنا من ديارنا ، فأولئك الذين نهى الله عن برهم والصلة بهم .
ثم بينت السورة حكم المؤمنات اللاتي هاجرون إلى دار الإسلام ، وتركن أزواجهن مشركين ، وحكم المشركات الآتي هاجر أزواجهن مسلمين وقد تركوهن بدار الشرك .
وأتبعت ذلك ببيان بيعة النساء ، وما بايعن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ختمت بما بدأت به من النهي عن موالاة الأعداء الذين غضب الله عليهم ، تقريرا للحكم بينته في مفتتحها ، وأكدته في ثناياها .
1- يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله : لا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أنصاراً تُفْضُون إليهم بالمحبة الخالصة ، مع أنهم جحدوا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله وكتابه ، يخرجون الرسول ويخرجونكم من دياركم ، لإيمانكم بالله ربكم ، إن كنتم خرجتم من دياركم للجهاد في سبيلي وطلب رضائي فلا تتولوا أعدائي ، تُلْقُون إليهم بالمودة سراً ، وأنا أعلم بما أسررتم وما أعلنتم ، ومن يتخذ عدو الله ولياً له فقد ضل الطريق المستقيم .
سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة
هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني . حلقة من تلك السلسلة الطويلة ، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة ، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية ، في صورة واقعية عملية ، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة ؛ تبلغ إليه البشرية أحيانا ، وتقصر عنه أحيانا ، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه ؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه ، تحققت يوما في هذه الأرض .
وقد اقتضى هذا - كما قلنا في أول هذا الجزء - إعدادا طويلا في خطوات ومراحل . وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة ، أو تتعلق بها ، مادة من مواد هذا الإعداد . مادة مقدرة في علم الله ، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه .
وفي مضطرب الأحداث ، وفي تيار الحياة المتدفق ، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض . فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد ، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة . وكانت التربية المستمرة متجهة دائما إلى إنشاء هذا التصور الإيمانيالخاص المميز ، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك ، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة . أما الناس الذين ينشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث ، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوما بعد يوم ، ومرة بعد مرة ، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة ، وتحت مؤثرات متنوعة ؛ لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى . وكان يعلم أن رواسب الماضي ، وجواذب الميول الطبيعية ، والضعف البشري ، وملامسات الواقع ، وتحكم الإلف والعادة ، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة . وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر ، والصهر المتوالي . . فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر الله ، وتتوالى الموعظة بها . والتحذير على ضوئها ، والتوجيه بهديها ، مرة بعد مرة .
وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير ، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة ، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس . والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه [ صلى الله عليه وسلم ] حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله . بتوفيق الله . على يدي رسول الله .
هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل ، تستهدف - مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها - إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم . عالم محوره الإيمان بالله وحده ، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده ، بعروة واحدة لا انفصام لها ؛ ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى . عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة . ليجعل في مكانها جميعا عقدة واحدة . هي عقدة الإيمان بالله . والوقوف تحت راية الله . في حزب الله .
إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني . رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه ، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله . وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله - في رحاب العقيدة - وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب . وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان ، عدا عقيدة الإيمان . وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله ، المتضمن كيانه نفحة من روح الله .
ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة - كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم - عقبات من التعصب للبيت ، والتعصب للعشيرة ، والتعصب للقوم ، والتعصب للجنس ، والتعصب للأرض . كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس وأهواء القلوب ، من الحرص والشح وحب الخير للذات ، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية . . وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور !
وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة . وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل .
وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم ، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى . وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة ؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم ، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات !
وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج ، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه . وهو - سبحانه - يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا - وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت - فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث ، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن !
وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة . وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر . ولكن مدى النصوص القرآنية دائما أبعد من الحوادث المباشرة .
وقد قيل في هذا الحادث : إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين . وكان من أهل بدر أيضا . وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان . فلما عزم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم ، وقال : " اللهم عم عليهم خبرنا " . . وأخبر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] جماعة من أصحابه بوجهته ، كان منهم حاطب . فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة - قيل من مزينة - جاءت المدينة تسترفد - إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يدا . فأطلع الله - تعالى - رسوله على ذلك استجابة لدعائه . وإمضاء لقدره في فتح مكة . فبعث في أثر المرأة ، فأخذ الكتاب منها .
وقد روى البخاري في المغازي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبدالرحمن ، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبدالرحمن السلمي ، عن علي - رضي الله عنه - قال : " بعثني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأبا مرثد والزبير بن العوام - وكلنا فارس - وقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين " . فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلنا : الكتاب ? فقالت ما معي كتاب . فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا . فقلنا : ما كذب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ، وهي محتجزة بكساء ، فأخرجته . فانطلقنا به إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال عمر : يا رسول الله . قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضربن عنقه . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما حملك على ما صنعت ? " قال حاطب : والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أردت أن تكون لي عند القوم يد . يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله . فقال : " صدق لا تقولوا إلا خيرا " . فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه . فقال : " أليس من أهل بدر ? - فقال - : لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو - قد غفرت لكم " فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم . . وزاد البخاري في كتاب المغازي : فأنزل الله السورة : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . . وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد .
ولوقوف قليلا أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن " ظلال القرآن " والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] القائد المربي العظيم . .
وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب ، وهو المسلم المهاجر ، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على سر الحملة . . وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة ، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها ؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها .
ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وهو لا يعجل حتى يسأل : " ما حملك على ما صنعت " في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه ، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق ، ومن ثم يكف الصحابة عنه : " صدق لا تقولوا إلا خيرا " . . ليعينه وينهضه من عثرته ، فلا يطارده بها ولا يدع أحدا يطارده . بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر : " إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين . فدعني فلأضرب عنقه " . . فعمر - رضي الله عنه - إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم . أما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ، ومن كل جوانبها ، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية . في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف . .
ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب ، وهو في لحظة ضعفه ، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح . . ذلك حين يقول : " أردت أن تكون لي عند القوم يد . . يدفع الله بها عن أهلي ومالي " . . فالله هو الذي يدفع ، وهذه اليد لا تدفع بنفسها ، إنما يدفع الله بها . ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول : " وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع . . الله . . به عن أهله وماله " فهو الله حاضر في تصوره ، وهو الذي يدفع لا العشيرة . إنما العشيرة أداة يدفع الله بها . .
ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل ، فكان هذا من أسباب قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : " صدق . لا تقولوا إلا خيرا " . .
وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث ؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بسر الحملة . وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة . ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين . كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها ! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع ، ولا تنفج بالقول : ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه ، ولو أودعناه نحن ما بحنا به ! فلم يرد من هذا شيء . مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم ، وتواضعهم في الظن بأنفسهم ، واعتبارهم بما حدث لأخيهم . . .
والحادث متواتر الرواية . أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري . ولا نستبعد صحة هذه الرواية ؛ ولكن مضمون النص القرآني - كما قلنا - أبعد مدى ، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات ، بمناسبة وقوع هذا الحادث ، على طريقة القرآن .
كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة ، والعصبيات الصغيرة ، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني .
وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة ، وقيما جديدة ، وموازين جديدة ، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ، ووظيفة المؤمنين في الأرض ، وغاية الوجود الإنساني .
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله ؛ ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته ، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد ، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه ، وأنه يريد بهم أمرا ، ويحقق بهم قدرا . ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته ، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا . في الدنيا والآخرة . وإذن فليكونوا خالصين له ، منقطعين لولايته ، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته . في عالم الشعور وعالم السلوك .
والسورة كلها في هذا الاتجاه . حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات ، ومبايعة من يدخلن في الإسلام ، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار . وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر . . فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام .
ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء الله ، ممن غضب عليهم الله ، سواء من المشركين أو من اليهود . ليتم التمييز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان . .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم ، أن تؤمنوا بالله ربكم . إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ؛ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل . إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ، وودوا لو تكفرون ) . .
تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي : يا أيها الذين آمنوا . . نداء من ربهم الذي آمنوا به ، يدعوهم باسم الإيمان الذي ينسبهم إليه . يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم ، ويحذرهم حبائل أعدائهم ، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم .
وفي مودة يجعل عدوهم عدوه ، وعدوه عدوهم :
( لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . .
فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه . يعاديهم من يعاديه . فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض ، وهم أوداؤه وأحباؤه . فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه .
ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم ، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم :
( وقد كفروا بما جاءكم من الحق . يخرجون الرسول وإياكم . أن تؤمنوا بالله ربكم ) . .
فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة ? كفروا بالحق . وأخرجوا الرسول والمؤمنين ، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم ? إنه يهيج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم . وهي التي حاربهم المشركون من أجلها ، لا من أجل أي سبب آخر . ويبرز القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب . فهي قضية العقيدة دون سواها . قضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه ، والإيمان الذي من أجله أخرجوهم .
وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت ، ذكرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهادا في سبيله :
( إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وإبتغاء مرضاتي . . )
فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهادا في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله ، وهو عدو الله وعدو رسول الله !
ثم يحذرهم تحذيرا خفيا مما تكن قلوبهم ، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة ، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها : ( تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ) .
ثم يهددهم تهديدا مخيفا ، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة :
( ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ) . .
وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول ? !
وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد . ثم تجيء البقية :
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ } .
قال أبو جعفر : يقول : تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي من المشركين وَعَدُوّكُمْ أوْلياءَ يعني أنصارا .
وقوله : { تُلْقُونَ إلَيْهمْ بالمَوَدّة }يقول جلّ ثناؤه : تلقون إليهم مودّتكم إياه . ودخول الباء في قوله : بالمَوَدّةِ وسقوطها سواء ، نظير قول القائل : أريد بأن تذهب ، وأريد أن تذهب سواء ، وكقوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ }والمعنى : ومن يرد فيه إلحادا بظلم ومن ذلك قول الشاعر :
فَلَمّا رَجَتْ بالشّرْبِ هَزّ لَهَا الْعَصَا *** شَحِيحٌ لَهُ عِنْدَ الإزَاءِ نَهِيمُ
{ وقد كَفَرُوا بِمَا جاءَكُمْ مِنَ الحَقّ }يقول : وقد كفر هؤلاء المشركون الذين نهيتكم أن تتخذوهم أولياء بما جاءكم من عند الله من الحقّ ، وذلك كفرهم بالله ورسوله وكتابه الذي أنزله على رسوله .
وقوله : { يَخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإيّاكُمْ أنْ تُوءْمِنُوا باللّهِ رَبّكُمْ }يقول جلّ ثناؤه : يخرجون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياكم ، بمعنى : ويخرجونكم أيضا من دياركم وأرضكم ، وذلك مشركي قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة .
وقوله : { أن تُوءْمِنُوا باللّهِ رَبّكُمْ }يقول جلّ ثناؤه : يخرجون الرسول وإياكم من دياركم ، لأن آمنتم بالله .
وقوله : { إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادا فِي سَبِيلي وَابْتِغاءَ مَرْضَاتِي } من المؤخر الذي معناه التقديم ، ووجه الكلام : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي ، وابتغاء مرضاتي يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم . ويعني بقوله تعالى ذكره : { إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادا فِي سَبِيلي } : إن كنتم خرجتم من دياركم ، فهاجرتم منها إلى مهاجرَكم للجهاد في طريقي الذي شرعته لكم ، وديني الذي أمرتكم به . والتماس مرضاتي .
وقوله : { تُسِرّونَ إلَيْهِمْ بالمَوَدّةَ }يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسرّون أيها المؤمنون بالمودّة إلى المشركين بالله ، { وأنا أعْلَمُ بِمَا أخْفَيْتُمْ }يقول : وأنا أعلم منكم بما أخفى بعضكم من بعض ، فأسره منه{ وَما أعْلَنْتُمْ }يقول : وأعلم أيضا منكم ما أعلنه بعضكم لبعض ، { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاء السّبيلِ }يقول جلّ ثناؤه : ومن يسرّ منكم إلى المشركين بالمودّة أيها المؤمنون فقد ضلّ : يقول : فقد جار عن قصد السبيل التي جعلها الله طريقا إلى الجنة ومحجة إليها .
وذُكر أن هذه الاَيات من أوّل هذه السورة نزلت في شأن حاطب بن أبي بَلتعة ، وكان كتب إلى قُرَيش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم ، وبذلك جاءت الاَثار والرواية عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباريّ ، والفضل بن الصباح قالا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار عن حسن بن محمد بن عليّ ، أخبرني عبيد الله بن أبي رافع ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزّبير بن العوّام والمقداد قال الفضل قال سفيان : نفر من المهاجرين فقال : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب ، فخذوه منها » فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة ، فوجدنا امرأة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ليس معي كتاب ، قلنا : لتخرجنّ الكتاب ، أو لنلقينّ الثياب ، فأخرجته من عِقَاصها ، وأخذنا الكتاب فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا حاطِبُ ما هَذَا ؟ » قال : يا رسول الله لا تعجل عليّ كنت امرأ ملصقا في قريش ، ولم يكن لي فيهم قرابة ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات ، يحمون أهليهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ فيها يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قَدْ صَدَقَكُمْ » فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : «إنّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرا ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلّ اللّهَ قَدِ اطّلَعَ على أهْلِ بَدْرِ فَقال : اعْمَلُوا ما شِئتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » زاد الفضل في حديثه ، قال سفيان : ونزلت فيه { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . إلى قوله حتّى تُوءْمِنُوا باللّهِ وَحْدَهُ } .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي سنان سعيد بن سنان ، عن عمرو بن مرّة الجملي ، عن أبي البختري الطائي ، عن الحارث ، عن عليّ رضي الله عنه قال : لما أردا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة ، أسرّ إلى ناس من أصحابه أنه يريد مكة . فيهم حاطب بن أبي بلتعة ، وأفشى في الناس أنه يريد خيبر ، فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يريدكم ، قال : فبعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد وليس منا رجل إلا وعنده فرس ، فقال : ائْتُوا رَوْضَةَ خاخ ، فإنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بِها امْرأةً وَمَعَها كِتاب ، فَخذُوهُ مِنْها فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : هاتي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فوضعنا متاعها وفتشنا ، فلم نجده في متاعها ، فقال أبو مرثد : لعله أن لا يكون معها ، فقلت : ما كذَب النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا كذبَ ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، وإلا عريناك قال عمرو بن مرّة : فأخرجته من حُجْزَتها ، وقال حبيب : أخرجته من قبلها فأتينا به النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا الكتاب : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، فقام عمر فقال : خان الله ورسوله ، ائذن لي أضرب عنقه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ألْيسَ قَدْ شَهِدَ بَدْرا ؟ » قال : بلى ، ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فَلَعَلّ اللّهَ قَدِ اطّلَعَ عَلى أهْل بَدْرٍ ، فَقالَ : اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ » ، ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم ، فأرسل إلى حاطب ، فقال : «ما حملك على ما صنعت ؟ » فقال : يا نبيّ الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ، وكان لي بها أهل ومال ، ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله ، فكتبت إليهم بذلك ، والله يا نبيّ الله إني لمؤمن بالله وبرسوله ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «صَدَقَ حاطِبُ بْنُ أبي بَلْتَعَةَ ، فَلا تَقُولُوا لِحاطِبَ إلاّ خَيْرا » ، فقال حبيب بن أبي ثابت : فأنزل الله عزّ وجلّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ . . . الآية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياء تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بالمَوَدّةِ . . . إلى آخر الآية ، نزلت في رجل كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة من قريش ، كتب إلى أهله وعشيرته بمكة ، يخبرهم وينذرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر إليهم ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحيفته ، فبعث إليها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأتاه بها .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزّبير ، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا ، قالوا : لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ، ثم أعطاه امرأة يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ، وزعم غيره أنها سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب وجعل لها جُعْلاً ، على أن تبلغه قريشا ، فجعلته في رأسها . ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت . وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث عليّ بن أبي طالب والزّبير بن العوّام رضي الله عنهما ، فقال : «أدرِكا امْرأةً قَدْ كَتَبَ مَعَها حاطِبٌ بكِتاب إلى قُرَيْش يُحَذّرُهُمْ ما قَدِ اجْتَمَعْنا لَهُ فِي أمْرِهِمْ » ، فخرجا حتى أدركا بالحليفة ، حليفة ابن أبي أحمد فاستنزلاها فالتمسا في رحلها ، فلم يجدا شيئا ، فقال لها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : إني أحلف بالله ما كُذِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كُذِبنا ، ولتخرِجِنّ إليّ هذا الكتاب ، أو لنكشفنك فلما رأت الجدّ منه ، قالت : أعرض عني ، فأعرض عنها ، فحلّت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب فدفعته إليه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا ، فقال : «يا حاطب ما حَمَلَكَ على هَذَا ؟ » فقال : يا رسول الله ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ولا بدّلت ، ولكني كنت امرأ في القوم ليس لي أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد ، فصانعتهم عليه ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله فلأضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَما يُدْرِيكَ يا عُمَرُ لَعَلّ الله قَدِ اطّلَعَ على أصحَاب بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقالَ : اعْمَلُوا ما شِئْتم فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » فأنزل الله عزّ وجلّ في حاطب : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . إلى قوله وَإلَيْكَ أنَبْنا . . . } إلى آخر القصة .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة قال : لما نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ في حاطب بن أبي بلتعة ، كتب إلى كفار قريش كتابا ينصح لهم فيه ، فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك ، فأرسل عليا والزّبير ، فقال : «اذْهَبا فإنّكُما سَتَجدَنِ امْرأةً بِمَكانِ كَذَا وكَذَا ، فأتَيَا بكِتاب مَعَها » ، فانطلقا حتى أدركاها ، فقالا : الكتاب الذي معك ، قالت : ليس معي كتاب ، فقالا : والله لا ندع معك شيئا إلا فتّشناه ، أو تخرجينه ، قالت : أولستم مسلمين ؟ قالا : بلى ، ولكن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن معك كتابا قد أيقنت أنفسنا أنه معك فلما رأت جدّهما أخرجت كتابا من بين قرونها ، فذهبا به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى كفار قريش ، فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «أنْت كَتَبْت هَذَا الكِتاب ؟ » قال : نعم ، قال : «ما حَمَلَكَ على ذَلكَ ؟ » قال : أما والله ما ارتبت في الله منذ أسلمت ، ولكني كنت امرأ غريبا فيكم أيّها الحيّ من قريش ، وكان لي بمكة مال وبنون ، فأردت أن أدفع بذلك عنهم ، فقال عمر رضي الله عنه : ائذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَهْلاً يا بْن الخَطّاب ، وما يُدْرِيكَ لَعَل الله قَدِ اطّلَع إلى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فأنّي غافِرٌ لَكُمْ » قال الزهري : فيه نزلت حتى غَفُورٌ رَحِيمٌ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . إلى قوله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } في مكاتبة حاطب بن أبي بلتعة ، ومن معه كفار قريش يحذرهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ . . . حتى بلغ سَوَاء السّبِيلِ } : ذُكر لنا أن حاطبا كتب إلى أهل مكة يخبرهم سير النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم زمن الحديبية ، فأطلع الله عزّ وجلّ نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك ، وذُكر لنا أنهم وجدوا الكتاب مع امرأة في قرن من رأسها ، فدعاه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقال : «ما حَمَلَكَ على الذِي صَنَعْتَ ؟ » قال : والله ما شَكَكْتُ في أمر الله ، ولا ارتددت فيه ، ولكن لي هناك أهلاً ومالاً ، فأردت مصانعة قريش على أهلي ومالي . وذُكر لنا أنه كان حليفا لقريش لم يكن من أنفسهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك القرآن ، فقال : { إنْ يَثْقَفُوكُمْ يكُونُوا لَكُمْ أعْداءً ويَبْسِطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ وألْسِنَتَهُمْ بالسّوءِ وَوَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ } .
بسم الله الرحمن الرحيم :{ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، فإنه لما علم أن رسول صلى الله عليه وسلم يغزو أهل مكة كتب إليهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم وأرسل كتابه مع سارة مولاة بني المطلب ، فنزل جبريل عليه السلام فأعلم رسول الله ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وعمارا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها ثمة فجحدت فهموا بالرجوع ، فسل علي رضي الله تعالى عنه السيف فأخرجته من عقاصها ، فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال ما حملك عليه فقال يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش وليس لي فيهم من يحمي أهلي ، فأردت أن آخذ عندهم يدا وقد علمت أن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره تلقون إليهم بالمودة تفضون إليهم المودة بالمكاتبة والباء مزيدة ، أو إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة ، والجملة حال من فاعل لا تتخذوا أو صفة لأولياء جرت على غير من هي له ولا حاجة فيها إلى إبراز الضمير لأنه مشروط في الإسم دون الفعل { وقد كفروا بما جاءكم من الحق }حال من فاعل أحد الفعلين ، { يخرجون الرسول وإياكم }أي من مكة وهو حال من كفروا أو استئناف لبيانه ، { أن تؤمنوا بالله ربكم }بأن تؤمنوا به وفيه تغليب المخاطب والالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان ، { إن كنتم خرجتم }عن أوطانكم { جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } علة للخروج وعمدة للتعليق وجواب الشرط محذوف دل عليه لا تتخذوا ، { تسرون إليهم بالمودة }بدل من{ تلقون } أو استئناف معناه أي طائل لكم في إسرار المودة أو الإخبار بسبب المودة ، { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم }أي منكم وقيل أعلم مضارع والباء مزيدة وما موصولة أو مصدرية ، { ومن يفعله منكم } أي من يفعل الاتخاذ { فقد ضل سواء السبيل } أخطأه .
( 60 ) سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة .
تفسير سورة الممتحنة{[1]}
العدو اسم يقع للجمع والمفرد والمراد به هاهنا كفار قريش ، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة{[11036]} ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية فوَّرى عن ذلك بخيبر ، فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر ، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده ، منهم حاطب بن أبي بلتعة فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث علياً والزبير وثالثاً هو المقداد ، وقيل أبو مرثد{[11037]} ، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاح{[11038]} ، فإن بها ظعينة{[11039]} معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة واسمها سارة مولاة لقوم من قريش ، وقيل بل كانت امرأة من مزينة ولم تكن سارة ، فقالوا لها : أخرجي الكتاب . قالت : ما معي كتاب ، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئاً ، فقال بعضهم : ما معها كتاب ، فقال علي : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكذبي والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . قالت : أعرضوا عني فحلته من قرون رأسها ، وقيل : أخرجته من حجزتها ، فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم{[11040]} فقال لحاطب : من كتب هذا ؟ فقال : أنا يا رسول الله ولكن لا تعجل علي فوالله ما فعلت ذلك ارتداداً عن ديني ولا رغبة عنه ولكني كنت أمرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي . فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب إنه من أهل بدر وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر . فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ولا تقولوا لحاطب إلا خير » ، فنزلت الآية لهذا السبب{[11041]} ، وروي أن حاطباً كتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل ، والسيل ، وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر عليكم فكيف وهو في جمع كثير ، و { تلقون } في موضع الصفة ل { أولياء } ، وألقيت يتعدى بحرف الجر ، وبغير حرف جر ، فدخول الباء وزوالها سواء ، وهذا نظير قوله عز وجل : { وألقيت عليك محبة مني }{[11042]} [ طه : 39 ] وقوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب }{[11043]} [ آل عمران : 151 ] وروى ابن المعلى عن عاصم أنه قرأ : «وقد كفروا لما » بلام . . .
وقوله تعالى : { يخرجون } في موضع الحال من الضمير في { كفروا } والمعنى : يخرجون الرسول ويخرجونكم ، وهي حال موصوفة ، فلذلك ساق الفعل مستقبلاً والإخراج قد مر ، وتضييق الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إخراج إذ كان مؤدياً إلى الخروج ، وقوله تعالى : { إن تؤمنوا } مفعول من أجله أي اخرجوا لأجل أن آمنتم بربكم ، وقوله تعالى : { إن كنتم } شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله ، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط ، والتقدير : «إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء » و { جهاداً } نصب على المصدر وكذلك { ابتغاء } ، ويجوز أن يكون ذلك مفعولاً من أجله ، و «المرضاة » مصدر كالرضى ، و { تسرون } بدل من { تلقون } ، ويجوز أن تكون في موضع خبر ابتداء ، كأنه قال أنتم { تسرون } ، ويصح أن تكون فعلاً مرسلاً ابتدئ به القول والإلقاء بالمودة معنى ما ، والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء ، فيترجح بهذا أن { تسرون } فعل ابتدئ به القول أي تفعلون ذلك وأنا أعلم ، وقوله تعالى : { أعلم } يحتمل أن يكون أفعل ، ويحتمل أن يكون فعلاً ، لأنك تقول عملت بكذا فتدخل الباء وقوله تعالى : { وأنا أعلم } الآية ، جملة في موضع الحال ، وقرأ أهل المدينة «وأنا » بإشباع الألف في الإدراج ، وقرأ غيرهم «وأنا » بطرح الألف في الإدراج ، والضمير في { يفعله } عائد على الاتخاذ المذكور ، ويجوز أن تكون { سواء } مفعولاً ب { ضل } وذلك على بعد ، وذلك على تعدي { ضل } ، ويجوز أن يكون ظرفاً على غير التعدي لأنه يجيء بالوجهين والأول أحسن في المعنى ، والسواء الوسط وذلك لأنه تتساوى نسبته إلى أطراف الشيء والسبيل هنا شرع الله وطريق دينه .