والآن ، وقد تقرر أن الله وحده هو الخالق ، وأن الله وحده هو المالك . . . يجيء الاستنكار العنيف للاستنصار بغير الله ، والعبودية لغير الله ، والولاء لغير الله . ويتقرر أن هذا مناقض لحقيقة الإسلام لله ، وأنه هو الشرك الذي لا يجتمع مع الإسلام . وتذكر من صفات الله سبحانه : أنه فاطر السماوات والأرض ، وأنه الرازق المطعم ، وأنه الضار النافع ، وأنه القادر القاهر . كما يذكر العذاب المخوف المرهوب . . فتجلل الموقف كله ظلال الجلال والرهبة ، في إيقاع مدو عميق :
( قل : أغير الله أتخذ وليا ، فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم ؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين . قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) . .
إن هذه القضية . . قضية اتخاذ الله وحده وليا . بكل معاني كلمة " الولي " . أي اتخاذه وحده ربا ومولى معبودا يدين له العبد بالعبودية ممثلة في الخضوع لحاكميته وحده ؛ ويدين له بالعبادة له شعائرها وحده . واتخاذه وحده ناصرا يستنصر به ويعتمد عليه ، ويتوجه إليه في الملمات . . إن هذه القضية هي قضية العقيدة في صميمها . فإما إخلاص الولاء لله - بهذه المعاني كلها - فهو الإسلام . وإما إشراك غيره معه في أي منها ، فهو الشرك الذي لا يجتمع في قلب واحد هو والإسلام !
وفي هذه الآيات تقرر هذه الحقيقة بأقوى عبارة وأعمق إيقاع :
( قل : أغير الله أتخذ وليا ، فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم ؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين ) . .
إنه منطق الفطرة القوي العميق . . لمن يكون الولاء ولمن يتمحض ؟ لمن إن لم يكن لفاطر السماوات والأرض الذي خلقهما وأنشأهما ؟ لمن إن لم يكن لرازق من في السماوات والأرض الذي يطعم ولا يطلب طعاما ؟
( قل : أغير الله أتخذ وليًا ) . . وهذه صفاته سبحانه . . أي منطق يسمح بأن يتخذ غير الله وليا ؟ إن كان يتولاه لينصره ويعينه ، فالله هو فاطر السماوات والأرض ، فله السلطان في السماوات والأرض . وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه ، فالله هو الرازق المطعم لمن في السماوات ومن في الأرض . ففيم الولاء لغير صاحب السلطان الرزاق ؟
ثم . . ( قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ) . . والإسلام وعدم الشرك معناهما المتعين ألا أتخذ غير الله وليا . فاتخاذ غير الله وليا - بأي معنى - هو الشرك . ولن يكون الشرك إسلاما . .
قضية واحدة محددة ، لا تقبل لينا ولا تميعا . . إما أفراد الله سبحانه بالتوجه والتلقي والطاعة والخضوع والعبادة والاستعانة ؛ والإقرار له وحده بالحاكمية في كل أمر من هذه الأمور ورفض إشراك غيره معه فيها ؛ وولاء القلب والعمل ، في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك . . إما هذا كله فهو الإسلام . . وإما إشراك أحد من عباده معه في شيء من هذا كله فهو الشرك . الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام .
لقد أمر رسول الله [ ص ] أن يعلن هذا الاستنكار في وجه المشركين الذين كانوا يدعونه إلى الملاينة والمداهنة ؛ ليجعل لآلهتهم مكانا في دينه ، مقابل أن يدخلوا معه في هذا الدين . وليترك لهم بعض خصائص الألوهية يزاولونها إبقاء على مكانتهم وكبريائهم ومصالحهم ، . . وأولها تقاليد التحريم والتحليل . . في مقابل أن يكفوا عن معارضته ، وأن يجعلوه رئيسا فيهم ؛ ويجمعوا له من مالهم ، ويزوجوه أجمل بناتهم !
لقد كانوا يرفعون يدا للإيذاء والحرب والتنكيل ، ويمدون يدا بالإغراء والمصالحة واللين . .
وفي وجه هذه المحاولة المزدوجة أمر رسول الله [ ص ] أن يقذف بهذا الاستنكار العنيف ، وبهذا الحسم الصريح ، وبهذا التقرير الذي لا يدع مجالا للتمييع .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك ، الداعين إلى عبادة الاَلهة والأوثان : أشياء غير الله تعالى أتخذ وليا وأستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث ؟ كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسياط ، عن السديّ : قُلْ أغَيْرُ اللّهِ أتّخِذُ وَلِيّا قال : أما الوليّ : فالذي يتولونه ويقرون بالربوبية .
فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول أشيئا غير الله فاطر السموات والأرض أتخذ وليا ؟ ففاطر السموات من نعت الله وصفته ولذلك خفض . ويعني بقوله : فاطِرِ السّمَواتِ والأرْضِ مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما . كالذي :
حدثنا به ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها ، يقول : أنا ابتدأتها .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : خالق السموات والأرض .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : خالق السموات والأرض .
يقال من ذلك : فطرها الله يَفْطُرُها ويَفْطِرُها فَطْرا وفُطُورا ، ومنه قوله : هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ يعني : شقوقا وصدوعا ، يقال : سيف فُطَار : إذا كثر فيه التشقق ، وهو عيب فيه ومنه قول عنترة :
وسَيْفِي كالعقيقةِ فهو كِمْعِي ***سِلاحي لا أفلّ ولا فُطارَا
ومن يقال : فَطَر نابُ الجمل : إذا تشقق اللحم فخرج ومنه قوله : تَكادُ السّمَوَاتِ يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ : أي يتشقّقن ويتصدعن .
وأما قوله : وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ فإنه يعني : وهو يَرْوُق خلقه ولا يُرْزَق . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قال : يَرْزُق ، ولا يُرْزَق .
وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقول ذلك : وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي أنه يطعم خلقه ، ولا يأكل هو . ولا معنى لذلك لقلة القراءة به .
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إنّي أُمِرْتُ أنْ أكُونَ أوّلَ مَنْ أسْلَمَ وَلا تَكُونَنّ مِنَ المُشْرِكينَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للذين يدعونك إلى اتخاذ الاَلهة أولياء من دون الله ويحثّونك على عبادتها : أغير الله فاطر السموات والأرض ، وهو يرزقني وغيري ، ولا يرزقه أحد ، أتخذ وليا هو له عبد مملوك وخلق مخلوق ؟ وقل لهم أيضا : إني أمرني ربي أن أكون أوّل من أسلم ، يقول : أوّل من خضع له بالعبودية وتذلل لأمره ونهيه وانقاد له من أهل دهري وزماني . وَلا تَكُونَنّ مِنَ المْشُرِكِينَ يقول : وقل : وقيل لي لا تكوننّ من المشركين بالله الذين يجعلون الاَلهة والأنداد شركاء وجعل قوله : أُمِرْتُ بدلاً من «قيل لي » ، لأن قوله : أُمِرْتُ معناه : قيل لي ، فكأنه قيل : قل إني قيل لي : كن أوّل من أسلم ، ولا تكوننّ من المشركين فاجتزىء بذكر الأمر من ذكر القول ، إذ كان الأمر معلوما أنه قول .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.