36- واعبدوا الله - وحده - ولا تجعلوا معه شريكاً في الألوهية والعبادة ، وأحسنوا إلى الوالدين إحساناً لا تقصير فيه ، وإلى أقربائكم وإلى اليتامى ، والذين افتقروا بسبب عجزهم أو ذهاب الكوارث بأموالهم ، وبالجار القريب النسب والجار الأجنبي ، والرفيق لك في عمل أو طريق أو جلوس ، والمسافر المحتاج الذي لا قرار له في بلد معين ، وبما ملكتم من الأرقاء فتيانا وفتيات . إن الله لا يحب من كان متعالياً على الناس ، لا تأخذه بهم رحمة ، كثير التمدح بنفسه .
{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا }
يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له ، وهو الدخول تحت رق عبوديته ، والانقياد لأوامره ونواهيه ، محبة وذلا وإخلاصا له ، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة .
وينهى عن الشرك به شيئا لا شركا أصغر ولا أكبر ، لا ملكا ولا نبيا ولا وليا ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، بل الواجب المتعين إخلاص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه ، وله التدبير الكامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد . ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب . فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما . وللإحسان ضدان ، الإساءةُ وعدمُ الإحسان . وكلاهما منهي عنه .
{ وَبِذِي الْقُرْبَى } أيضا إحسانا ، ويشمل ذلك جميع الأقارب ، قربوا أو بعدوا ، بأن يحسن إليهم بالقول والفعل ، وأن لا يقطع برحمه بقوله أو فعله .
{ وَالْيَتَامَى } أي : الذين فقدوا آباءهم{[208]} وهم صغار ، فلهم حق على المسلمين ، سواء كانوا أقارب أو غيرهم بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم ، وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم .
{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر ، فلم يحصلوا على كفايتهم ، ولا كفاية من يمونون ، فأمر الله تعالى بالإحسان إليهم ، بسد خلتهم وبدفع فاقتهم ، والحض على ذلك ، والقيام بما يمكن منه .
{ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } أي : الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق القرابة ، فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف . { و } كذلك { الْجَارِ الْجُنُبِ } أي : الذي ليس له قرابة . وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًّا ، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل .
{ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } قيل : الرفيق في السفر ، وقيل : الزوجة ، وقيل الصاحب مطلقا ، ولعله أولى ، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة . فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه ، من مساعدته على أمور دينه ودنياه ، والنصح له ؛ والوفاء معه في اليسر والعسر ، والمنشط والمكره ، وأن يحب له ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد .
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو : الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج ، فله حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده [ وبإكرامه وتأنيسه ]{[209]} .
{ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } : أي : من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما يتحملون ، وتأديبهم لما فيه مصلحتهم . فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه ، المتواضع لعباد الله ، المنقاد لأمر الله وشرعه ، الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل ، ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه ، غير منقاد لأوامره ، ولا متواضع للخلق ، بل هو متكبر على عباد الله معجب بنفسه فخور بقوله ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا } أي : معجبا بنفسه متكبرًا على الخلق { فَخُورًا } يثني على نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر على عباد الله .
{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } صنما أو غيره ، أو شيئا من الإشراك جليا أو خفيا { وبالوالدين إحسانا } وأحسنوا بهما إحسانا . { وبذي القربى } وبصاحب القرابة . { واليتامى والمساكين والجار ذي القربى } أي الذي قرب جواره . وقيل الذي له الجوار قرب واتصال بسبب أو دين . وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيما لحقه . { والجار الجنب } البعيد ، أو الذي لا قرابة له . وعنه عليه الصلاة والسلام : " الجيران ثلاثة . فجار له ثلاثة حقوق : حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام . وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق واحد : حق الجوار وهو المشرك من أهل الكتاب " . { والصاحب بالجنب } الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر ، فإنه صحبك وحصل بجنبك . وقيل المرأة . { وابن السبيل } المسافر أو الضعيف . { وما ملكت أيمانكم } العبيد والإماء . { إن الله لا يحب من كان مختالا } متكبرا بأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم . { فخورا } يتفاخر عليهم .
«الواو » لعطف جملة الكلام على جملة غيرها ، والعبادة : التذلل بالطاعة ، ومنه : طريق معبد ، وبعير معبد ، إذا كانا معلمين ، و { إحساناً } نصب على المصدر ، والعامل فعل مضمر تقديره : وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، وما ذكر الطبري أنه نصب بالإغراء خطأ ، والقيام بحقوق الوالدين اللازمة لهما من التوقير والصون والإنفاق إذا احتاجا واجب ، وسائر ذلك من وجوه البر والألطاف ، وحسن القول ، والتصنع لهما مندوب إليه مؤكد فيه ، وهو البر الذي تفضل فيه الأم على الأب ، حسب قوله عليه السلام للذي قال له من أبر ؟ قال أمك . قال ثم من ؟ قال أمك . قال ثم من ؟ قال أمك : قال ثم من ؟ قال أباك ، ثم الأقرب فالأقرب ، وفي رواية : ثم أدناك أدناك{[4013]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «إحسان » بالرفع{[4014]} .
و«ذو القربى » : هو القريب النسب من قبل الأب والأم ، وهذا من الأمر بصلة الرحم وحفظها ، { واليتامى } : جمع يتيم ، وهو فاقد الأب قبل البلوغ ، وإن ورد في كلام العرب يتم من قبل الأم فهو مجاز واستعارة ، { والمساكين } : المقترون من المسلمين الذين تحل لهم الزكاة ، وجاهروا بالسؤال ، واختلف في معنى { الجار ذي القربى } وفي معنى { الجنب } ، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم : الجار ذو القربى هو الجارالقريب النسب ، و { الجار الجنب } هو الجار الأجنبي الذي لا قرابة بينك وبينه{[4015]} ، وقال نوف الشامي : الجار ذو القربى هو الجار المسلم ، و { الجار الجنب } هو الجار اليهودي أو النصراني ، فهي عنده قرابة الإسلام وأجنبية الكفر ، وقالت فرقة : الجار ذو القربى هو الجار القريب المسكن منك ، والجار الجنب هو البعيد المسكن منك ، وكأن هذا القول منتزع من الحديث ، قالت عائشة ، يا رسول الله إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي ؟ قال إلى أقربهما منك باباً{[4016]} ، واختلف الناس في حد الجيرة ، فقال الأوزاعي : أربعون داراً من كل ناحية جيرة ، وقالت فرقة : من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد ، وبقدر ذلك في الدور وقالت فرقة : من ساكن رجلاً في محلة أو مدينة فهو جاره ، والمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض ، أدناها الزوج كما قال الأعشى : [ الطويل ]
أَيَا جَارَتِي بِينِي . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4017]}
وبعد ذلك الجيرة الخلط ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
سَائِلْ مُجَاوِرَ جرْمٍ هَلْ جَنَيت لَها حَرْباً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجِيرَةِ الخُلُطِ{[4018]}
وحكى الطبري عن ميمون بن مهران : أن الجار ذا القربى أريد به جار القريب ، وهذا خطأ في اللسان ، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة ، وكأن وجه الكلام وجار ذي القربى{[4019]} ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «والجار ذا القربى » بنصب الجار ، وحكى مكي عن ابن وهب أنه قال عن بعض الصحابة في { الجار الجنب } : إنها زوجة وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ «والجار الجَنْبِ » بفتح الجيم وسكون النون ، و { الجنب } في هذه الآية معناه :
البعيد ، والجنابة البعد ، ومنه قول الشاعر وهو الأعشى : [ الطويل ]
أَتيْتُ حُرَيثاً زائراً عَنْ جنابة . *** فَكانَ حُرَيْثٌ عَنْ عَطَائيَ جَامِدا{[4020]}
ومنه قول الآخر ، وهو علقمة بن عبدة : [ الطويل ]
فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابة *** فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبَابِ غَرِيبُ{[4021]}
وهو من الاجتناب ، وهو أن يترك الشيء جانباً ، وسئل أعرابي عن { الجار الجنب } ، فقال : هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه ، قال أبو علي : جنب صفة كناقة أجد{[4022]} ، ومشية سجح{[4023]} ، وجنب التطهر مأخوذ من الجنب{[4024]} .
وقال ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد والضحاك : الصاحب بالجنب هو الرفيق في السفر ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود وابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي : الصاحب بالجنب الزوجة وقال ابن زيد : هو الرجل يعتريك ويلم بك لتنفعه ، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه ، وهما على راحلتين ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة{[4025]} فقطع قضيبين ، أحدهما معوج وخرج فأعطى صاحبه القويم وحبس هو المعوج ، فقال له الرجل : كنت يا رسول الله أحق بهذا ، فقال له : يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسؤول عن صحبته ولو ساعة من نهار ){[4026]} .
وقال المفسرون : ابن السبيل هو المسافر على ظهر طريقه ، وسمي ابنه للزومه له كما قيل ابن ماء للطائر الملازم للماء ، ومنه قول النبي عليه السلام : «لا يدخل الجنة ابن زنى » أي : ملازمه الذي يستحق بالمثابرة عليه أن ينسب إليه ، وذكر الطبري أن مجاهداً فسره بأنه المار عليك في سفره ، وأن قتادة وغيره فسره بأنه الضيف .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله قول واحد ، { وما ملكت أيمانكم }{[4027]} يريد العبيد الأرقاء ، ونسب الملك إلى اليمين إذ هي في المعتاد جارحة البطش والتغلب والتملك ، فأضيفت هذه المعاني وإن لم تكن بها إليها تجوزاً والعبيد موصى بهم في غير ما حديث يطول ذكرها ، ويغنى عن ذلك اشتهارها{[4028]} .
ومعنى { لا يحب } في هذه الآية لا تظهر عليه آثار نعمه في الآخرة ولا آثار حمده في الدنيا ، فهي المحبة التي هي صفة فعل أبعدها عمن صفته الخيلاء والفخر ، يقال خال الرجل يخول خلاً إذا تكبر وأعجب بنفسه ، وأنشد الطبري : [ المتقارب ]
فَإنْ كَنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا *** وإنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فاذهَبْ فَخَلْ{[4029]}
قال القاضي أبو محمد : ونفي المحبة عمن هذه صفته ضرب من التوعد ، وخص هاتين الصفتين هنا إذ مقتضاهما العجب والزهو ، وذلك هو الحامل على الإخلال بالأصناف الذين تقدم أمر الله بالإحسان إليهم ، ولكل صنف نوع من الإحسان يختص به ، ولا يعوق عن الإحسان إليهم إلا العجب أو البخل ، فلذلك نفى الله محبته عن المعجبين والباخلين على أحد التأويلين حسبما نذكره الآن بعد هذا ، وقال أبو رجاء الهروي : لا تجده سيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً ، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً ، والفخر عد المناقب تطاولاً بذلك{[4030]} .
عطف تشريع يختصّ بالمعاملة مع ذوي القربى والضعفاء ، وقُدّم له الأمرُ بعبادة الله تعالى وعدمِ الإشراك على وجه الإدماج ، للاهتمام بهذا الأمر وأنّه أحقّ ما يتوخّاه المسلم ، تجديداً لمعنى التوحيد في نفوس المسلمين كما قُدّم لذلك في طالع السورة بقوله : { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } [ النساء : 1 ] . والمناسبة هي ما أريد جمعه في هذه السورة من أحكام أواصر القرابة في النسب والدين والمخالطة .
والخطاب للمؤمنين ، قُدّم الأمر بالعبادة على النهي عن الإشراك ، لأنّهم قد تقرّر نفي الشرك بينهم وأريد منهم دوام العبادة لله ، والاستزادة منها ، ونُهُوا عن الشرك تحذيراً ممّا كانوا عليه في الجاهلية . ومجموع الجملتين في قوة صيغة حصْر ؛ إذ مفاده : اعبدوا الله ولا تعبدوا غيره فاشتمل على معنى إثبات ونفي ، كأنّه قيل : لا تعبدوا إلاّ الله . والعدول عن طريق القصر في مثل هذا طريقة عربية جاء عليها قول السموأل ، أو عبدِ الملك بن عبد الرحيم الحَارثي :
تَسيلُ على حَدّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنا *** وليستْ على غَيْرِ الظُّبَات تَسيل
وإنّما يصار إليها عندما يكون الغرض الأول هو طرف الإثبات ، ثم يقصد بعد ذلك نفي الحكم عمّا عدا المثبت له ، لأنّه إذا جيء بالقصر كان المقصد الأوّل هو نفي الحكم عمّا عدا المذكور وذلك غير مقتضَى المقام هنا ، ولأجل ذلك لمّا خوطب بنو إسرائيل بنظير هذه الآية خوطبوا بطريقة القصر في قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تبعدون إلاّ الله وبالوالدين إحساناً } [ البقرة : 83 ] الآية ، لأنّ المقصود الأوّل إيقاظهم إلى إبطال عبادة غير الله ، لأنّهم قالوا لموسى : « اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة » ولأنّهم عبدوا العجل في مدّة مناجاة موسى ربَّه ، فأخذ عليهم الميثاق بالنهي عن عبادة غير الله .
وكذلك البيت فإنّ الغرض الأهمّ هو التمدّح بأنّهم يُقتلون في الحرب ، فتزهق نفوسهم بالسيوف ، ثم بدا له فأعقبه بأنّ ذلك شنشنة فيهم لا تتخلّف ولا مبالغةَ فيها .
و { شيئاً } منصوب على المفعولية ل ( تُشركوا ) أي لا تجعلوا شريكاً شيئاً ممّا يعبد كقوله : { ولن نشرك بربنا أحداً } [ الجن : 2 ] ويجوز انتصابه على المصدرية للتأكيد ، أي شيئاً من الإشراك ولو ضعيفاً كقوله : { فلن يضروك شيئاً } [ المائدة : 42 ] .
وقوله : { وبالوالدين إحسانا } اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة ، كقوله : { أن اشكر لى ولوالديك } [ لقمان : 14 ] ، وقوله : { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه } [ لقمان : 13 ، 14 ] ، ولذا قدّم معمول ( إحساناً ) عليه تقديماً للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأنّ الإحسان مكتوب على كلّ شيء ، ووقع المصدر موقع الفعل . وإنّما عدّي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البرّ . وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا . وعندي أنّ الإحسان إنّما يعدّى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلّق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها ، وهو معنى البرّ ولذلك جاء « وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن » ؛ وإذا أريد به إيصال النفع المالي عُديّ بإلى ، تقول : أحْسَنَ إلى فلان ، إذا وصله بمال ونحوه .
{ وذُو القربى } صاحب القرابة ، والقربى فُعلى ، اسم للقُرب مصدرِ قَرُب كالرجعي ، والمراد بها قرابة النسب ، كما هو الغالب في هذا المركّب الإضافي : وهو قولهم : ذو القربى ، وإنّما أمر بالإحسان إليه استبقاء لأواصر الودّ بين الأقارب ، إذ كان العرب في الجاهلية قد حرّفوا حقوق القرابة فجعلوها سبب تنافس وتحاسد وتقاتل . وأقوالهم في ذلك كثيرة في شعرهم ؛ قال ارطأة بن سهية :
ونحو بنو عمّ على ذاكَ بيننا *** زَرَابِيّ فيها بِغْضَةٌ وتَنَافُس
وحسبك ما كان بين بَكر وتغلب في حرب البَسُوس ، وهما أقارب وأصهار ، وقد كان المسلمون يومَها عَرَبا قَريبي عهد بالجاهلية ؛ فلذلك حثّهم على الإحسان إلى القرابة . وكانوا يحسنون بالجار ، فإذا كان من قرابتهم لم يكترثوا بالإحسان إليه ، وأكّد ذلك بإعادة حرف الجرّ بعد العاطف . ومن أجل ذلك لم تؤكّد بالباء في حكاية وصية بني إسرائيل { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } إلى قوله : { وذي القربى } [ البقرة : 83 ] لأنّ الإسلام أكّد أوامر القرابة أكثر من غيره . وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب تنبيه على أنّ من سفالة الأخلاق أن يستخفّ أحد بالقريب لأنّه قريبه ، وآمِن من غوائله ، ويصرف برّه وودّه إلى الأباعد ليستكفي شرّهم ، أو ليُذكر في القبائل بالذكر الحسن ، فإنّ النفس التي يطوّعها الشرّ ، وتَدينها الشدّة ، لنفس لَئيمة ، وكما ورد « شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه » فكذلك نقول : « شرّ الناس من عَظَّم أحداً لشرّه » .
وقوله : { واليتامى والمساكين } هذان صنفان ضعيفان عديما النصير ، فلذلك أوصي بهما .
والجار هو النزيل بقرب منزلك ، ويطلق على النزيل بين القبيلة في جوارها ، فالمراد ب { الجار ذي القربى } الجار النسيب من القبيلة ، وب { الجار الجنب } الجار الغريب الذي نزل بين القوم وليس من القبيلة ، فهو جُنُب ، أي بعيد ، مشتقّ من الجَانب ، وهو وصف على وزن فُعُل ، كقولهم : ناقة أجُد ، وقيل : هو مصدر ، ولذلك لم يُطابق موصوفه ، قال بَلْعَاء بن قيس :
لا يجتوينا مُجَاور أبداً *** ذُو رحم أو مُجَاور جُنُب
ويشهد لهذا المعنى قول علقمة بن عبدة في شعره الذي استشفع به عند الملك الحارث ابن جبلة الغسّاني ، ليطلق له أخاه شَاسا ، حين وقع في أسر الحارث :
فلا تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عن جَنَابَةٍ *** فإنِّي امرؤٌ وَسْط القباب غريب
وفسّر بعضهم الجار ذا القربى بقريب الدار ، والجُنُبُ بعيدها ، وهذا بعيد ، لأنّ القربى لا تعرف في القرب المكاني ، والعرب معروفون بحفظ الجوار والإحسان إلى الجار ، وأقوالهم في ذلك كثيرة ، فأكّد ذلك في الإسلام لأنّه من محامد العرب التي جاء الإسلام لتكميلها من مكارم الأخلاق ، ومن ذلك الإحسان إلى الجار .
وأكّدت السنّة الوصاية بالجار في أحاديث كثيرة : ففي « البخاري » عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه " . وفيه عن أبي شريح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج وهو يقول : " والله لاَ يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن " . قيل : « ومن يا رسول الله » قال : " من لا يأمن جارُه بوائقه " وفيه عن عائشة ، قلت : « يا رسول الله إنّ لي جارين فإلى أيّهما أهدي » قال " إلى أقربهما منك بابا " وفي « صحيح مسلم » : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ " إذا طبخت مَرَقة فأكْثِر ماءها وتعاهده جيرانك " . واختلف في حدّ الجوار : فقال ابن شهاب ، والأوزاعي : أربعون داراً من كلّ ناحية ، وروي في ذلك حديث : وليس عن مالك في ذلك حدّ ، والظاهر أنّه موكول إلى ما تعارفه الناس .
وقوله : { والصاحب بالجنب } هو المصاحب الملازم للمكان ، فمنه الضيف ، ومنه الرفيق في السفر ، وكلّ من هو مُلمّ بك لطلب أن تنفعه ، وقيل : أراد الزوجة .
{ وابن السبيل } هو الغريب المجتاز بقوم غيرَ نَاو الإقامة ، لأنّ من أقام فهو الجار الجُنب . وكلمة ( ابن ) فيه مستعملة في معنى الانتساب والاختصاص ، كقولهم : أبو الليل ، وقولهم في المثل : أبوها وكيَّالُها . والسبيل : الطريق السابلة ، فابن السبيل هو الذي لازمَ الطريق سائراً ، أي مسافراً ، فإذا دخل القبيلة فهو ليس من أبنائها ، فعرَّفوه بأنه ابن الطريق ، رمى به الطريق إليهم ، فكأنّه وَلَدَه . والوصاية به لأنّه ضعيف الحيلة ، قليل النصير ، إذ لا يهتدي إلى أحوال قوم غير قومه ، وبلد غير بلده .
وكذلك { ما ملكت أيمانكم } لأنّ العبيد في ضعف الرقّ والحاجة وانقطاع سبل الخلاص من سادتهم ، فلذلك كانوا أحقّاء بالوصاية .
وجملة : { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } تذييل لجملة الأمر بالإحسان إلى من سمّاهم بذمّ موانع الإحسان إليهم الغالبة على البشر . والاختيال : التكبّر ، افتعال مشتقّ من الخُيَلاء ، يقال : خالَ الرجلُ خَوْلا وخَالا . والفخور : الشديد الفخر بما فعل ، وكلا الوصفين منشأ للغلظة والجفاء ، فهما ينافيان الإحسان المأمور به ، لأنّ المراد الإحسان في المعاملة وترك الترفّع على من يظنّ به سبب يمنعه من الانتقام .
ومعنى نفي محبّة الله تعالى نفي رضاه وتقريبه عمّن هذا وصفه ، وهذا تعريض بأخلاق أهل الشرك ، لما عرفوا به من الغلطة والجفاء ، فهو في معنى التحذير من بَقايا الأخلاق التي كانوا عليها .