المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

2- يا أيها المؤمنون لا تستبيحوا حرمة شعائر الله ، كمناسك الحج وقت الإحرام قبل التحلل منه وسائر أحكام الشريعة ، ولا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بإثارة الحرب فيها ، ولا تعترضوا لما يُهْدَى من الأنعام إلى بيت الله الحرام باغتصابه أو منع بلوغه محله ، ولا تنزعوا القلائد ، وهي العلامات التي توضع في الأعناق ، إشعاراً بقصد البيت الحرام ، وأنها ستكون ذبيحة في الحج ، ولا تعترضوا لِقُصَّادِ بيت الله الحرام يبتغون فضل الله ورضاه ، وإذا تحللتم من الإحرام ، وخرجتم من أرض الحرم ، فلكم أن تصطادوا ، ولا يحملنكم بغضكم الشديد لقوم صدوكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم . وليتعاون{[48]} بعضكم مع بعض - أيها المؤمنون - على فعل الخير وجميع الطاعات ، ولا تتعاونوا على المعاصي ومجاوزة حدود الله ، واخشوا عقاب الله وبطشه ، إن الله شديد العقاب لمن خالفه .


[48]:إن القرآن الكريم في هذه الآية سبق بالدعوة إلى التعاون جميع التشريعات الوضعية التي تهدف إلى التعاون في الخير بعشرات المئات من السنين.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

{ 2 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ }

يقول تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ْ } أي : محرماته التي أمركم بتعظيمها ، وعدم فعلها ، والنهي يشمل النهي عن فعلها ، والنهي عن اعتقاد حلها ؛ فهو يشمل النهي ، عن فعل القبيح ، وعن اعتقاده .

ويدخل في ذلك النهي عن محرمات الإحرام ، ومحرمات الحرم . ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله : { وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ْ } أي : لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره من أنواع الظلم كما قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ْ }

والجمهور من العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ْ } وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا ، والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا .

وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم .

وقال آخرون : إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم غير منسوخ لهذه الآية وغيرها ، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه ، وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك ، وقالوا : المطلق يحمل على المقيد .

وفصل بعضهم فقال : لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها ، فإنه يجوز .

وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك ، لأن أول قتالهم في " حنين " في " شوال " . وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع .

فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال ، فإنه يجوز للمسلمين القتال ، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء .

وقوله : { وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } أي : ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله في حج أو عمرة ، أو غيرهما ، من نعم وغيرها ، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله ، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها ، ولا تقصروا به ، أو تحملوه ما لا يطيق ، خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله ، بل عظموه وعظموا من جاء به . { وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } هذا نوع خاص من أنواع الهدي ، وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى ، فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله ، وحملا للناس على الاقتداء ، وتعليما لهم للسنة ، وليعرف أنه هدي فيحترم ، ولهذا كان تقليد الهدي من السنن والشعائر المسنونة .

{ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ْ } أي : قاصدين له { يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ْ } أي : من قصد هذا البيت الحرام ، وقصده فضل الله بالتجارة والمكاسب المباحة ، أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به ، والصلاة ، وغيرها من أنواع العبادات ، فلا تتعرضوا له بسوء ، ولا تهينوه ، بل أكرموه ، وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم .

ودخل في هذا الأمرُ الأمر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل القاصدين له مطمئنين مستريحين ، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه ، ولا على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك .

وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ْ } فالمشرك لا يُمَكَّن من الدخول إلى الحرم .

والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه -يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي ، فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله ، كما قال تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ْ }

ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ْ } أي : إذا حللتم من الإحرام بالحج والعمرة ، وخرجتم من الحرم حل لكم الاصطياد ، وزال ذلك التحريم . والأمر بعد التحريم يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل .

{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ْ } أي : لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم ، حيث صدوكم عن المسجد ، على الاعتداء عليهم ، طلبا للاشتفاء منهم ، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله ، ويسلك طريق العدل ، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه ، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه ، أو يخون من خانه .

{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ْ } أي : ليعن بعضكم بعضا على البر . وهو : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال الظاهرة والباطنة ، من حقوق الله وحقوق الآدميين .

والتقوى في هذا الموضع : اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله ، من الأعمال الظاهرة والباطنة . وكلُّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها ، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها ، بكل قول يبعث عليها وينشط لها ، وبكل فعل كذلك .

{ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ْ } وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها ، ويحرج . { وَالْعُدْوَانِ ْ } وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه .

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ } على من عصاه وتجرأ على محارمه ، فاحذروا المحارم لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

ثم قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } قال ابن عباس : يعني بذلك مناسك الحج .

وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبُدن من شعائر الله .

وقيل : شعائر الله محارمه [ التي حرمها ]{[8877]} أي : لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[8878]} { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه{[8879]} من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا [ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ] }{[8880]} الآية . [ التوبة : 36 ] .

وفي صحيح البخاري : عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حُرُم ، ثلاث متواليات : ذو القَعْدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان " .

وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت ، كما هو مذهب طائفة من السلف .

وقال علي بن أبي طلحة{[8881]} عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } يعني :{[8882]} لا تستحلوا قتالا فيه . وكذا قال مُقَاتل بن حَيَّان ، وعبد الكريم بن مالك الجزَريُّ ، واختاره ابن جرير أيضًا ، وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ ، وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، {[8883]} واحتجوا بقوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] قالوا : والمراد أشهر التسيير الأربعة ، [ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ] {[8884]} قالوا : فلم يستثن شهرا حراما من غيره .

وقد حكى الإمام أبو جعفر{[8885]} [ رحمه الله ]{[8886]} الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم ، وغيرها من شهور السنة ، قال : وكذلك{[8887]} أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه{[8888]} بلحاء{[8889]} جميع أشجار الحرم ، لم يكن ذلك له أمانا من القتل ، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان{[8890]} ولهذه المسألة بحث آخر ، له موضع أبسط من هذا .

[ و ]{[8891]} قوله : { وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ } يعني : لا تتركوا الإهداء إلى البيت ؛ فإن فيه تعظيمًا لشعائر الله ، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام ، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء ، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها ، فإن من دعا إلى هدْيٍ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ؛ ولهذا لما حَج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحُلَيْفة ، وهو وادي العَقيق ، فلما أصبح طاف على نسائه ، وكن تسعا ، ثم اغتسل وتَطيَّب وصلَّى ركعتين ، ثم أشعر هَدْيَه وقلَّدَه ، وأهَلَّ بالحج والعمرة وكان هديه إبلا كثيرة تنيفُ على الستين ، من أحسن الأشكال والألوان ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [ الحج : 32 ] .

قال بعض السلف : إعظامها : استحسانها واستسمانها .

وقال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن . رواه أهل السنن{[8892]}

وقال مُقاتل بن حَيَّان : { وَلا الْقَلائِدَ } فلا تستحلوا{[8893]} وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم{[8894]} قلَّدوا أنفسهم بالشَّعْر والوَبَر ، وتقلد مشركو الحرم من لَحاء شجر الحرم ، فيأمنون به .

رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا محمد بن عَمَّار ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : نسخ من هذه السورة آيتان : آية القلائد ، وقوله : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ المائدة : 42 ] .

وحدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا زكريا بن عَدِيّ ، حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ ، عن ابن عَوْن قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا .

وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم ، فيأمنون ، فنهى الله عن قطع شجره . وكذا قال مُطرِّف بن عبد الله .

وقوله : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا } أي : ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام ، الذي من دخله كان آمنا ، وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه ، فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه .

قال مجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، ومُطَرِّف بن عبد الله ، وعبد الله{[8895]} بن عُبَيد بن عُمير ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، ومُقاتل بن حَيَّان في قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ } يعني بذلك : التجارة .

وهذا كما تقدم في قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ]

وقوله : { وَرِضْوَانَا } قال ابن عباس : يترضَّون الله بحجهم .

وقد ذكر عِكْرِمة ، والسُّدِّي ، وابن جُرَيْجٍ : أن هذه الآية نزلت في الحُطم{[8896]} بن هند البكري ، كان قد أغار على سَرْح المدينة ، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت ، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا{[8897]} في طريقه إلى البيت ، فأنزل الله عز وجل { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا } .

وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله ، إذا لم يكن له أمان ، وإن أمَّ البيت الحرام أو بيت المقدس ؛ فإن هذا الحكم منسوخ في حقهم ، والله أعلم . فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به ، فهذا يمنع كما قال [ تعالى ]{[8898]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع - لما أمَّر الصديق على الحجيج - علِيّا ، وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة ، وألا يحج بعد العام مُشْرِك ، ولا يطوفن بالبيت عُرْيان{[8899]} .

وقال [ على ]{[8900]} بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } يعني من توجه قِبَل البيت الحرام ، فكان المؤمنون والمشركون يحجون البيت الحرام ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعدها : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] وقال تعالى : { مَا كَانَ{[8901]} لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } [ التوبة : 17 ] وقال [ تعالى ] :{[8902]} { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ التوبة : 18 ] فنفى المشركين من المسجد الحرام .

وقال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تَقلَّد من الشجر ، فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة من شَعرٍ فلم يعرض له أحد . وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا ألا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت ، فنسخها قوله : { فَاقْتُلُوا{[8903]} الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . .

وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : { وَلا الْقَلائِدَ } يعني : إن تقلدوا قلادة من الحرم فأمنوه ، قال : ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك ، قال الشاعر{[8904]} :

ألَمْ تَقْتُلا الحرْجَين إذ أعورا لكم *** يمرَّان الأيدي اللَّحاء المُضَفَّرا{[8905]}

وقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } أي : إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه ، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد . وهذا أمر بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت على السَّبْر : أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي ، فإن كان واجبًا رده واجبًا ، وإن كان مستحبًا فمستحب ، أو مباحًا فمباح . ومن قال : إنه على الوجوب ، ينتقض عليه بآيات كثيرة ، ومن قال : إنه للإباحة ، يرد عليه آيات أخر ، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه ، كما اختاره بعض علماء الأصول ، والله أعلم .

وقوله : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا } ومن القراء من قرأ : " أن صدوكم " بفتح الألف من " أن " ومعناها ظاهر ، أي : لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تعتدوا [ في ]{[8906]} حكم الله فيكم{[8907]} فتقتصوا منهم ظلمًا وعدوانًا ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحد . وهذه الآية كما سيأتي من قوله تعالى : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] أي : لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل ، فإن العدل واجب على كل أحد ، في كل أحد في كل حال .

وقال بعض السلف : ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، والعدل به قامت السموات والأرض .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سَهْل بن عثمان{[8908]} حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد{[8909]} هؤلاء كما صدنا أصحابهم . فأنزل الله هذه الآية{[8910]} .

والشنآن هو : البغض . قاله ابن عباس وغيره ، وهو مصدر من شنَأته أشنؤه شنآنا ، بالتحريك ، مثل قولهم : جَمَزَان ، ودَرَجَان ورَفَلان ، من جمز ، ودرج ، ورفل . قال ابن جرير : من العرب من يسقط التحريك في شنآن ، فيقول : شنان . قال : ولم أعلم أحدًا قرأ بها ، ومنه قول الشاعر{[8911]} :

ومَا العيشُ إلا ما تُحبُّ وتَشْتَهي{[8912]} *** وَإنْ لامَ فيه ذو الشنَّان وفَنَّدَا

وقوله : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ } يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات ، وهو البر ، وترك المنكرات وهو التقوى ، وينهاهم عن التناصر على الباطل .

والتعاون على المآثم والمحارم .

قال ابن جرير : الإثم : ترك ما أمر الله بفعله ، والعدوان : مجاوزة ما حد الله في دينكم ، ومجاوزة ما فرض عليكم في أنفسكم وفي غيركم{[8913]} .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن جده أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انْصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا " . قيل : يا رسول الله ، هذا نَصَرْتُه مظلوما ، فكيف أنصره إذا كان ظالما ؟ قال : " تحجزه تمنعه{[8914]} فإن ذلك نصره " .

انفرد به البخاري من حديث هُشَيْم به نحوه{[8915]} وأخرجاه{[8916]} من طريق ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . قيل : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره ظالما ؟ قال : " تمنعه من الظلم ، فذاك نصرك إياه " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا سفيان بن سعيد ، عن يحيى بن وَثَّاب ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم{[8917]} قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " {[8918]} .

وقد رواه أحمد أيضا في مسند عبد الله بن عمر : حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، [ قال الأعمش : هو ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ]{[8919]} أنه قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من الذي لا يخالطهم{[8920]} ولا يصبر على أذاهم " .

وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة ، وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف ، كلاهما عن الأعمش ، به{[8921]} .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي ، حدثنا بكر بن عبد الرحمن ، حدثنا عيسى بن المختار ، عن ابن أبي ليلى ، عن فُضَيْل بن عمرو ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدَّالُّ على الخير كفاعله " . ثم قال : لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد{[8922]} .

قلت : وله شاهد{[8923]} في الصحيح : " من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " {[8924]} .

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق الحمصي ، حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن عبد الله بن سالم ، عن الزبيدي ، قال عباس بن يونس : إن أبا الحسن نِمْرَان بن مخُمر حدثه{[8925]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإسلام " {[8926]} .


[8877]:زيادة من د.
[8878]:زيادة من د.
[8879]:في د: "ما نهى الله عنه فيه".
[8880]:زيادة من د، أ.
[8881]:في د: " وقال ابن أبي طلحة".
[8882]:في د: : أي".
[8883]:في د: "الشهر الحرام".
[8884]:زيادة من ر.
[8885]:في د: "وحكى ابن جرير".
[8886]:زيادة من أ.
[8887]:في أ: "ولذلك".
[8888]:في د: ذراعيه أو عنقه".
[8889]:في د، ر: "لحاء".
[8890]:تفسير الطبري (9/479).
[8891]:زيادة من د.
[8892]:سنن أبي داود برقم (2804) وسنن الترمذي برقم (1498) وسنن النسائي (7/216) وسنن ابن ماجة برقم (3142).
[8893]:في د، ر، أ: "فلا تستحلوه".
[8894]:في ر: "أشهر الحرم".
[8895]:في أ: "وعبيد الله".
[8896]:في د: "الحطيم".
[8897]:في أ: "يعترضوا عليه".
[8898]:زيادة من ر، أ.
[8899]:رواه البخاري في صحيحه برقم (3177) من حديث أبي بكر، رضي الله عنه.
[8900]:زيادة من ر، أ.
[8901]:في ر: " وما كان" وهو خطأ.
[8902]:زيادة من ر.
[8903]:في د، ر: "اقتلوا"، وهو خطأ.
[8904]:وهو حذيفة بن أنس الهذلي، والبيت في تفسير الطبري (9/470).
[8905]:في ر: "للحاء المضفرا".
[8906]:زيادة من د.
[8907]:في د، أ: "فيهم".
[8908]:في أ: "سهل بن عفان".
[8909]:في ر، أ: "قصد"
[8910]:وذكره الواحدي في أسباب النزول ولم يسنده
[8911]:هو الأحوص بن محمد الأنصاري، والبيت في تفسير الطبري (9/487).
[8912]:في د: "إلا ما يحب ويشتهي
[8913]:تفسير الطبري (9/490)
[8914]:في أ: "تمنعه من الظلم".
[8915]:المسند (3/99) وصحيح البخاري برقم (2443).
[8916]:لم أهتد إليه من هذا الطريق في الصحيحين، ولعله خطأ، فقد راجعت تحفة الأشراف للمزي فلم أجده، وقد أخرجه البخاري في صحيحه برقم (2444) من طريق حميد، عن أنس به.
[8917]:في د: "النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا".
[8918]:المسند (5/365).
[8919]:زيادة من ر، أ.
[8920]:في أ: "لا يخالط الناس".
[8921]:المسند (2/32) وسنن الترمذي برقم (2507) وسنن ابن ماجة برقم (4032).
[8922]:مسند البزار برقم (154) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (1/166): "فيه عيسي بن المختار، تفرد عنه بكر بن عبد الرحمن".
[8923]:في أ: "شواهد".
[8924]:رواه مسلم في صحيحه برقم (2674) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
[8925]:في ر، أ: "حدثه أن أوس بن شرحبيل أحد بني المجمع حدثه".
[8926]:المعجم الكبير (1/197) وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم ضعيف.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } يعني مناسك الحج ، جمع شعيرة وهي اسم ما أشعر أي جعل شعارا سمى به أعمال الحج ومواقفه لأنها علامات الحج وأعلام النسك . وقيل دين الله لقوله سبحانه وتعالى : { ومن يعظم شعائر الله } أي دينه . وقيل فرائضه التي حدها لعباده . { ولا الشهر الحرام } بالقتال فيه أو بالنسيء . { ولا الهدي } ما أهدي إلى الكعبة ، جمع هدية كجدي في جميع جدية السرح . { ولا القلائد } أي ذوات القلائد من الهدي ، وعطفها على الهدي للاختصاص فإنها أشرف الهدي ، أو القلائد أنفسها والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرض للهدي ، ونظيره قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } والقلائد جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم به أنه هدي فلا يتعرض له . { ولا آمين البيت الحرام } قاصدين لزيارته . { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } أن يثيبهم ويرضى عنهم ، والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين وليست صفة له ، لأنه عامل والمختار أن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل ، وفائدته استنكار تعرض من هذا شأنه والتنبيه على المانع له . وقيل معناه يبتغون من الله رزقا بالتجارة ورضوانا بزعمهم إذ روي أن الآية نزلت عام القضية في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يتعرضوا لهم بسبب أنه كان فيهم الحطيم بن شريح بن ضبيعة ، وكان قد استاق سرح المدينة وعلى هذا فالآية منسوخة . وقرئ تبتغون على خطاب المؤمنين { وإذا حللتم فاصطادوا } إذن في الاصطياد بعد زوال الإحرام ولا يلزم من إرادة الإباحة ههنا من الأمر دلالة الأمر الآتي بعد الحظر على الإباحة مطلقا . وقرئ بكسر الفاء على إلقاء حركة الوصل عليها وهو ضعيف جدا وقرئ " أحللتم " يقال حل المحرم وأحل { ولا يجرمنكم } لا يحملنكم أو لا يكسبنكم . { شنآن قوم } شدة بغضهم وعداوتهم وهو مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل . وقرأ ابن عامر وإسماعيل عن نافع وابن عياش عن عاصم بسكون النون وهو أيضا مصدر كليان أو نعت بمعنى بغيض قوم وفعلان في النعت أكثر كعطشان وسكران . { أن صدوكم عن المسجد الحرام } لأن صدوكم عنه عام الحديبية . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أنه شرط معترض أغنى عن جوابه لا يجرمنكم . { أن تعتدوا } بالانتقام ، وهو ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب . ومن قرأ { يجرمنكم } بضم الياء جعله منقولا من المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين . { وتعاونوا على البر والتقوى } على العفو والإغضاء ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى . { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } للتشفي والانتقام . { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } فانتقامه أشد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } خطاب للمؤمنين حقاً أن لا يتعدوا حدود الله في أمر من الأمور ، والشعائر جمع شعيرة أي قد أشعر الله أنها حُّدة وطاعته فهي بمعنى معالم الله{[12]} ، واختلفت عبارة المفسرين في المقصود من الشعائر الذي بسببه نزل هذا العموم في الشعائر فقال السدي { شعائر الله } حرم الله ، وقال ابن عباس { شعائر الله } مناسك الحج . وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون وينحرون ويعظمون مشاعر الحج فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقال الله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } وقال ابن عباس أيضاً { شعائر الله } ما حد تحريمه في الإحرام . وقال عطاء بن أبي رباح ، { شعائر الله } جميع ما أمر به أو نهى عنه ، وهذا هو القول الراجح الذي تقدم .

وقال ابن الكلبي كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر وكانت قريش لا تقف بعرفات فنهوا بهذه الآية ، وقوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي كما قال النبي عليه السلام ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وإنما أضيف إلى مضر لأنها كانت تختص بتحريمه . وتزيل فيه السلاح ، وتنزع الأسنة من الرماح ، وتسميه : ُمنصل الأسنة وتسميه : الأصم من حيث كان لا يسمع فيه صوت سلاح ، وكانت العرب مجمعة على ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وكانت تطول عليها الحرمة وتمتنع من الغارات ثلاثة أشهر فلذلك اتخذت النسيء وهو أن يحل لها ذلك المتكلم نعيم بن ثعلبة وغيره المحرم يحرم بدله صفراً فنهى الله عن ذلك بهذه الآية وبقوله : { إنما النسيء زيادة في الكفر }{[13]} وجعل المحرم أول شهور السنة من حيث كان الحج والموسم غاية العام وثمرته فبذلك يكمل ثم يستأنف عام آخر ولذلك والله أعلم دوّن به عمر بن الخطاب الدواوين فمعنى قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } أي لا تحلوه بقتال ولا غارة ولا تبديل فإن تبديله استحلال لحرمته . .

قال القاضي أبو محمد : والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتد أمره لأنه إنما كان مختصاً بقريش ثم فشا في مضر ، ومما يدل على هذا قول عوف بن الأحوص :

وشهر بني أمية والهدايا . . . إذا حبست مضرجها الدماء{[14]}

قال أبو عبيدة أراد رجباً لأنه شهر كانت مشايخ قريش تعظمه فنسبه إلى بني أمية ، ذكر هذا الأخفش في المفضليات وقد قال الطبري المراد في هذه الآية رجب مضر . .

قال القاضي أبو محمد : فوجه هذا التخصيص هو كما قد ذكرت أن الله تعالى شدد أمر هذا الشهر إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، وقال عكرمة : المراد في هذه الآية ذو القعدة من حيث كان أولها ، وقولنا فيها «أول » تقريب وتجوز أن الشهور دائرة فالأول إنما يترتب بحسب نازلة أو قرينة ما مختصة بقوم .

وقوله تعالى : { ولا الهدي ولا القلائد } أما الهدي فلا خلاف أنه ما أهدي من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ويغار عليه{[15]} ، واختلف الناس في { القلائد } فحكى الطبري عن ابن عباس أن { القلائد } هي { الهدي } المقلد وأن { الهدي } إنما يسمى هدياً ما لم يقلد فكأنه قال ولا «الهدي » الذي يقلد والمقلد منه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي قال الطبري تحامل على ألفاظ ابن عباس وليس يلزم من كلام ابن عباس أن { الهدي } إنما يقال لما لم يقلد وإنما يقتضي أن الله نهى عن استحلال { الهدي } جملة ثم ذكر المقلد منه تأكيداً ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد ، وقال جمهور الناس : { الهدي } عام في أنواع ما أهدي قربه و { القلائد } ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم ، قال قتادة : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من الَّسُمر قلادة فلم يعرض له أحد بسوء إذ كانت تلك علامة إحرامه وحجه وقال عطاء وغيره : بل كان الناس إذا خرجوا من الحرم في حوائج لهم تقلدوا من شجر الحرم ومن لحائه فيدل لك على أنهم من أهل الحرم أو من حجاجه فيأمنون بذلك فنهى الله تعالى عن استحلال من تحرم بشيء من هذه المعاني .

وقال مجاهد وعطاء : بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم كما كان أهل الجاهلية يفعلون ، وقاله الربيع بن أنس عن مطرف بن الشخير وغيره ، وقوله تعالى : { ولا آمين البيت الحرام } معناه ولا تحلوهم فتغيروا عليهم ونهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين { البيت الحرام } على جهة التعبد والقربة وكل ما في هذه الآية من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أَم البيت ونحوه فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[16]} .

وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة{[17]} وذلك أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه : «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فجاء الحطم فخلف خيلة خارجة من المدينة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عرض رسول الله عليه السلام ودعاه إلى الله قال : أنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره . فخرج فقال النبي عليه السلام لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر »{[18]} ، فمر بسرح من سرح{[19]} المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول :

قد لفها الليل بسواق حطم . . . ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياماً وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلج الساقين خفاق القدم{[20]}

ثم أقبل الحطم من عام قابل حاجاً وساق هدياً فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه . وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه السلام ، فنزلت هذه الآية ، قال ابن جريج : هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم ، ونزلت الآية بسبب الحطم فذكر نحوه ، وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون ، فقال المسلمون يا رسول الله ، إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن { ولا آميّن البيت الحرام }{[21]} .

قال القاضي أبو محمد : فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو معكم ، وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه «ولا آمي البيت » بالإضافة إلى البيت وقوله تعالى : { يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً } قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم ، وقال قوم إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله وفضله بالرحمة والجزاء ، فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت ، وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا والكسب وكثرة الأولاد ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني وقرأ الأعمش «ورُضواناً » بضم الراء .

قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس ويتداخل الناس ويردون{[22]} الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم ، وتقوم عندهم الحجة كالذي كان ، وهذه الآية نزلت عام الفتح ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة .

جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في َحرم البشر حسنًة في فصاحة القول{[4419]} ، وقوله تعالى : { فاصطادوا } صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس ، واختلف العلماء في صيغة ( أفعل ) إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات ، فقال الفقهاء : هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك ، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة ، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل ، وقال قوم : هي على الندب حتى يدل الدليل ، وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف . ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله { أقيموا الصلاة } ، وقد تجيء للندب كقوله : { وافعلوا الخير } [ الحج : 77 ] وقد تجيء للإباحة كقوله { فاصطادوا } { وابتغوا من فضل الله } { فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] ، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندباً ، وقد تجيء للوعيد كقوله { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وقد تجيء للتعجيز كقوله { كونوا حجارة }{[4420]} .

وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران «فاصطادوا » بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعَى كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت : اصطادوا فكسر الفاء مراعاةً وتذكراً لكسرة ألف الوصل{[4421]} ، وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم } معناه ولا يكسبنكم ، وجرم الرجل معناه : كسب ، ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب ، وفي الحديث : وتكسب المعدوم ، قال أبو علي : وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب ، وقال الكسائي :جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم { يجرمنكم } معناه يحق لكم كما أن { لا جرم أن لهم النار }{[4422]} معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس { يجرمنكم } معناه يحملنكم .

قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر : [ أبو خراش الهذلي ] :

جريمةُ ناهض في رأس نيق . . . ترى لعظام ما جمعت صليبا{[4423]}

معناه كاسب قوت ناهض ، ويقال فلان جريمة قومه إذا كان الكاسب لهم ، وقرأ ابن مسعود وغيره «يُجرمنكم » بضم الياء والمعنى أيضاً لا يكسبنكم وأما قول الشاعر :

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة . . . جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا{[4424]}

فمعناه كسبت فزارة بعدها الغضب وقد فسر بغير هذا مما هو قريب منه وقوله تعالى : { شنآن قوم } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «شَنْآن » متحركة النون ، وقرأ ابن عامر «شنآن » ساكنة النون ، واختلف عن عاصم ونافع ، يقال شنئت الرجل شَنْأً بفتح الشين وشنآناً بفتح النون وشنآناً بسكون النون والفتح أكثر كل ذلك إذا أبغضته ، قال سيبويه : كل ما كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن وإنما عدي شنئت من حيث كان أبغضت{[4425]} كما عدي الرفث ب «إلى » من حيث كان بمعنى الإفضاء .

قال القاضي أبو محمد : فأما من قرأ «شَنآن » بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدواناً عليهم وظلماً لهم والمصادر على هذا الوزن كثيرة كالنزوان والغليان والطوفان والجريان وغيره ، ويحتمل «الشنآن » بفتح النون أن يكون وصفاً فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم : حمار قطوان إذا لم يكن سهل السير وقولهم عدو وصمان أي ثقيل كعدو الشيخ ونحوه إلى غير هذا مما ليس في الكثرة كالمصادر ، ومنه ما أنشده أبو زيد :

وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي . . . وفقأت عين الأشوس الأبيان{[4426]}

بفتح الباء وأما من قرأ «شنْآن » بسكون النون فيحتمل أن يكون مصدراً وقد جاء المصدر على هذا الوزن في قولهم لويته دينه لياناً ، وقول الأحوص :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وإن لام فيه ذو الشنان وفندا{[4427]}

إنما هو تخفيف من «شنآن » الذي هو مصدر بسكون النون لأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن هذا هو التخفيف القياسي قال أبو علي : من زعم أن فعلان إذا أسكنت عينه لم يك مصدراً فقد أخطأ ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفاً فقد حكي : رجل شنآن وامرأة شنآنة وقياس هذا أنه من فعل غير متعد وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد وفعل واقف ، فيكون المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً . وإذا قدرت اللفظة مصدراً فهو مصدر مضاف إلى المفعول ، ومما جاء وصفاً على فعلان ما حكاه سيبويه من قولهم خمصان ومن ذلك قولهم ندمان .

قال القاضي أبو محمد : ومنه رحمان وهذه الآية نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة{[4428]} للكفار فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان لا يحملنكم ذلك البغض أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم إذ لله فيهم إرادة خير ، وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان . وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية لأنه لما ُصد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا نصد هؤلاء كما ُصددنا فنزلت الآية ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «إن صدوكم » بكسر الهمزة وقرأ الباقون «أن صدوكم » بفتح الهمزة إشارة إلى الصد الذي وقع وهذه قراءة الجمهور وهي أمكن في المعنى وكسر الهمزة معناه أن وقع مثل ذلك في المستقبل .

وقرأ ابن مسعود «أن يصدوكم » وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير .

ثم أمر الله تعالى الجميع بالتعاون { على البر والتقوى } قال قوم : هما لفظان بمعنى وكرر باختلاف اللفظ تأكيداً ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تسامح ما والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس ، ثم أمر بالتقوى وتوعد توعداً مجملاً بشدة العقاب ، وروي أن هذه الآية نزلت نهياً عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، قاله مجاهد . وقد قتل بذلك حليف لأبي سفيان من هذيل . .


[12]:- رواه أصحاب الكتب الستة، وفيه زيادة: (وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، والحاكم أيضا حديث الترمذي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) فجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
[13]:- أي في غير مقابلة النعمة.
[14]:- أي لأن الدليل الذي استدل به لا يشهد له، كما قال المؤلف بعد: «وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه». إلخ.
[15]:- هو إبراهيم بن أبي عبلة، بن يقظان، بن المرتحل، أبو إسماعيل المقدسي، تابعي، له حروف في القراءات، واختيار خالف فيه العامة، أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى هجيمة، قال: قرأت القرآن عليه سبع مرات، ويقال: إنه قرأ على الزهري، وروى عنه وعن أبي أمامة، وروى عنه مالك بن أنس، وابن المبارك. توفي سنة 153هـ.
[16]:- جاء في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الجزء الثالث صفحة166 ما نصه: وقال الوزيري: وأعلم أنـني سأصير مـيتا *** إذا سار النواعج لا أسير وقال السائلون: من المُسَجَّى؟ *** فقال المخبرون لهم: وزير والمسجى الملتف في أكفانه، والنواعج الإبل السراع، جمع ناعجة، والبيتان في (الجامع لأحكام القرآن)1/118 بلفظ (القائلون)، بدلا من (المخبرون).
[17]:- قال في القاموس: كان غاوي بن عبد العزى سادنا لصنم لبني سليم، فبينما هو عنده إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنماه، فبالا عليه، فقال البيت، ثم قال: يا معشر سليم، لا والله لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وبان من هذا أن قائل البيت بن عبد العزى، وأن كلمة (الثعلبان) هي تثنية (ثعلب) وفي حياة الحيوان للدميري إثبات أنه ليس بتثنية، وإنما هو ذكر الثعالب فتكون بضم الثاء واللام.
[18]:- الخبت: المطمئن من الأرض فيه رمل،والخبت والعرعر هنا مكانان معينان.
[19]:- بعده: و كنت امرءا لا أمدح الدهر سوقة فلست على خير أتاك بحاسد امتن عليه بمدحه، وجعله خيرا سيق إليه لا يحسده عليه، وهذا مما أخذ عليه والخَبَبُ ضرب من السير.
[20]:- هو الفرزدق – من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان، وهو في البيت يذم قوما، ويشبههم ببدوية حمقاء، وضعت سمنها في زق غير صالح ففسد. وسلأت: معناها طبخت، يقال: سلأت السمن واستلأته، وذلك إذا طبخ وعولج. وحقنت معناه: صبت: من حقن اللبن في السقاء يحقنه حقنا: صبه فيه ليخرج زبده "والسلاء بالكسر ممدود": هو السمن.
[21]:- لما بلغ خبر هزيمة حنين إلى مكة سر بذلك قوم، وأظهروا الشماتة، وقال قائل منهم: ترجع العرب إلى دين آبائها. وقال آخر وهو أخ صفوان لأمه: «ألا قد بطل السحر اليوم»، فقال له صفوان وهو يومئذ مشرك: «اسكت، فض الله فاك، والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوزان». انظر السيرة الحلبية.
[22]:- بنو عمه "بنو أمية"، وغيرهم هم "بنو أسد"، فبنو أمية أقرب إلى ابن عباس نسبا من بني أسد، وإنما قال هذا لما كان بينه وبين ابن الزبير من سوء التفاهم.
[4419]:- أراد ابن عطية بهذه العبارة أن يؤكد فصاحة التعبير القرآني دون حاجة إلى القول بأن قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} جملة اعتراضية بين قوله: {ولا آمين البيت الحرام} وقوله: {ولا يجرمنكم} بل هي مؤسسة حكما إذ أفادت حلّ الاصطياد في حال الإحرام. وقد شرح ذلك أبو حيان في "البحر" فقال: "تضمن آخر قوله: {أحلت لكم} تحريم الصيد حالة الإحرام، وآخرقوله: {لا تحلوا شعائر الله}- النهي عن إحلال آمي البيت، فجاءت هذه الجملة {وإذا حللتم فاصطادوا} راجعا حكمها إلى الجملة الأولى، وجاء ما بعدها من قوله: {ولا يجرمنكم} راجعا إلى الجملة الثانية، وهذا من بليغ الفصاحة". اهـ.
[4420]:- استشهد المؤلف رحمه الله هنا بجمل من آيات قرآنية كريمة، وهي على ترتيب ذكرها: {وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون} من الآية (72) من سورة (الأنعام)- {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} من الآية (77) من سورة (الحج)، {وإذا حللتم فاصطادوا} من الآية (2) من سورة (المائدة) وهي الآية موضع التفسير هنا- {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} من الآية (10) من سورة الجمعة- وقد ورد في الأصول {فابتغوا} بالفاء وهو خطأ من النساخ فآثرنا إثبات الصواب، {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} من الآية (40) من سورة (فصلت). {قل كونوا حجارة أو حديدا} الآية (50) من سورة الإسراء.
[4421]:- قال الزمخشري عن هذه القراءة: "هو بدل" من كسر الهمزة عند الابتداء" وقال أبو حيان: "وليس عندي كسرا محضا، بل هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل، كما أمالوا الفاء في (فإذا) لوجود كسرة (إذا)
[4422]:- من الآية (62) من سورة (النحل).
[4423]:- البيت لأبي خراش الهذلي يصف عقابا تطعم فرخها الناهض ما بقي من لحم طير أكلته وبقي العظم يسيل منه الدسم والدهن. فالناهض هو الفرخ- وهي جريمته أي: كاسبة قوته كما يقال: فلان جريمة قومه، أي: كاسبهم. والنيق: أرفع موضع في الجبل، ويقال: هو الأنوق في النيق ممتنع لا يبلغ إليه، وجمعه أنياق ونيوق ونياق. والصليب: الودك، وهو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.
[4424]:-هذا البيت لأبي أسماء بن الضريبة، وجرمت أي: "حق لها الغضب" كما قاله في "اللسان" نقلا عن الأخفش، وقال آخرون: بل المعنى: كسبت فزارة بعدها الغضب، وهو الذي اختاره ابن عطية، وللفراء رأي في البيت يقول فيه: إن (فزارة) منصوبة وليست مرفوعة كما توهموا، وفاعل الفعل (جرم) إنما هو الضمير العائد على الطعنة، والمعنى: جرمتهم الطعنة الغضب، أي: كسبتهم.
[4425]:- في بعض النسخ: "من حيث كان أبغضت".
[4426]:- هذا البيت لأبي المجشر الجاهلي كما قال في اللسان، والشّوس: النظر بإحدى شقي العين، وقيل: هو الذي يصغّر عينه ويضم أجفانه لينظر، وقال ابن سيدة: أن ينظر بإحدى عينيه ويُميل وجهه في شق العين التي ينظر بها، يكون ذلك خلقة، ويكون من الكبر والغضب، والأبيان: من الإباء، يقال: أبى يأبى فهو آب وأبي وأبيان بالتحريك.
[4427]:- هذا عجز البيت، وهو بتمامه كما رواه في اللسان: وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفنّدا
[4428]:- الحَسَك والحسكة والحسيكة: الحقد-على التشبيه- قال الأزهري: وحسك الصدر: العداوة، وفي الحديث الشريف: (تياسروا في الصداق، إن الرجل ليعطي المرأة حتى يبقى ذلك في نفسه عليها حسكة) أي: عداوة وحقدا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد ولا ءَامِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا } .

اعتراض بين الجمل التي قبله وبين جملة { وإذا حللتم فاصطادوا } . ولذلك أعيد الخطاب بالنداء بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } . وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا مع أنّهم لا يظنّ بهم إحلال المحرّمات ، يدلّ على أنّ المقصود النهي عن الاعتداء على الشعائر الإلهية التي يأتيها المشركون كما يأتيها المسلمون .

ومعنى { لا تحلّوا شعائر الله } لا تحلّوا المحرّم منها بين الناس ، بقرينة قوله : { لا تحلّوا } ، فالتقدير : لا تحلّوا مُحرّم شعائرِ الله ، كما قال تعالى : في إحلال الشهر الحرام بعمل النسيء { فيحلّوا ما حرّم الله } [ التوبة : 37 ] ؛ وإلاّ فمِن شعائر الله ما هو حلال كالحَلق ، ومنها ما هو واجب . والمحرّمات معلومة .

والشعائر : جمع شعيرة . وقد تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى : { إنّ الصفا والمروة من شعائر الله } [ البقرة : 158 ] . وقد كانت الشعائر كلّها معروفة لديهم ، فلذلك عدل عن عدّها هنا . وهي أمكنة ، وأزمنة ، وذوات ؛ فالصفا ، والمروة ، والمشعر الحرام ، من الأمكنة . وقد مضت في سورة البقرة . والشهر الحرام من الشعائر الزمانية ، والهدي والقلائد من الشعائر الذوات . فعطف الشهر الحرام والهدي وما بعدهما من شعائر الله عطف الجزئيّ على كلّيّة للاهتمام به ، والمراد به جنس الشهر الحرام ، لأنَّه في سياق النفي ، أي الأشهر الحرم الأربعة التي في قوله تعالى : { منها أربعة حُرُم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم } [ التوبة : 36 ] . فالتعريف تعريف الجنس ، وهو كالنكرة يستوي فيه المفرد والجمع . وقال ابن عطيّة : الأظهر أنّه أريد رجب خاصّة ليشتدّ أمر تحريمه إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، فإنَّما خُصّ بالنهي عن إحلاله إذ لم يكن جميع العرب يحرّمونه ، فلذلك كان يعرف برَجب مضر ؛ فلم تكن ربيعة ولا إياد ولا أنمار يحرّمونه . وكان يقال له : شهر بني أميّة أيضاً ، لأنّ قريشاً حرّموه قبل جميع العرب فتبعتهم مضر كلّها لقول عوف بن الأحوص :

وشهرِ بني أميّة والهَدايا *** إذا حبست مُضرّجُها الدقاء

وعلى هذا يكون التعريف للعهد فلا يعمّ . والأظهر أنّ التعريف للجنس ، كما قدّمناه .

والهدي : هو ما يهدى إلى مناسك الحجّ لينحر في المنحر من مِنى ، أو بالمروة ، من الأنعام .

والقلائد : جمع قِلادة وهي ظفائر من صوف أو وَبَر ، يربط فيها نعلان أو قطعة من لِحَاءِ الشجر ، أي قِشره ، وتوضع في أعناق الهدايا مشبَّهة بقلائد النساء ، والمقصود منها أن يُعرف الهدي فلا يُتَعرّض له بغارة أو نحوها . وقد كان بعض العرب إذا تأخّر في مكة حتّى خرجت الأشهر الحُرُم ، وأراد أن يرجع إلى وطنه ، وضع في عنقه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يُتَعرّضُ له بسوء .

ووجه عطف القلائد على الهدي المبالغة في احترامه بحيث يحرم الاعتداء على قلادته بله ذاته ، وهذا كقول أبي بكر : والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه .

على أنّ القلائد ممّا ينتفع به ، إذ كان أهل مكة يتّخذون من القلائد نعالاً لفقرائهم ، كما كانوا ينتفعون بجلال البدن ، وهي شُقق من ثياب توضع على كفل البدنة ؛ فيتّخذون منها قُمصاً لهم وأزُراً ، فلذلك كان النهي عن إحلالها كالنهي عن إحلال الهدي لأنّ في ذلك تعطيل مصالح سكان الحرم الذين استجاب الله فيهم دعوة إبراهيم إذ قال : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } [ إبراهيم : 37 ] قال تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } [ المائدة : 97 ] .

وقوله : { ولا آمّين البيت الحرام } عطف على { شعائر الله } : أي ولا تحلّوا قاصدي البيت الحرام وهم الحجّاج ، فالمراد قاصدوه لحجّه ، لأنّ البيت لا يقصد إلاّ للحجّ ، ولذلك لم يقل : ولا آمِّين مكة ، لأنّ من قصد مكة قد يقصدها لتجر ونحوه ، لأنّ من جملة حُرمَة البيت حرمة قاصده . ولا شك أنّ المراد آمِّين البيت من المشركين ؛ لأنّ آمِّين البيت من المؤمنين محرّم أذاهم في حالة قصد البيت وغيرها من الأحوال . وقد روي ما يؤيّد هذا في أسباب النزول : وهو أن خيلاً من بكر بن وائل وردوا المدينة وقائدهم شريح بن ضُبَيْعَة الملقّب بالحُطَم ( بوزن زُفر ) ، والمكنّى أيضاً بابننِ هند . نسبة إلى أمّه هند بنت حسّان بن عَمْرو بننِ مَرْثَد ، وكان الحُطَم هذا من بكر بن وائل ، من نزلاء اليمامة ، فترك خيلَه خارج المدينة ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إلام تدعو » فقال رسول الله : " إلى شهاد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة " فقال : حَسَن ما تدعو إليه وسأنظُرُ ولعلّي أن أسْلِم وأرى في أمرك غِلظة ولي مِن وَرائي مَنْ لا أقطَع أمراً دونهم وخرج فمرّ بسَرْح المدينة فاستاق إبلاً كثيرة ولحقه المسلمون لمَّا أُعلموا به فلم يلحقوه ، وقال في ذلك رجزاً ، وقيل : الرجزُ لأحد أصحابه ، وهو رَشِيد بن رَمِيض العَنَزي وهو :

هذا أوَانُ الشَّدّ فاشْتَدّي زِيَمْ *** قد لَفَّها الليلُ بسَوّاق حُطَـم

ليسَ براعِي إبِلٍ ولا غَنَـم *** ولا بَجَزّار على ظَهْر وَضَم

بَاتوا نِيَاماً وابنُ هِنْد لم ينمْ *** باتَ يُقَاسِيها غُلام كالزّلَــم

خَدَلَّجُ الساقَيْنِ خَفَّاقُ القَدَم

ثم أقبل الحُطم في العام القابل وهو عام القَضية فسمعوا تلبيَة حُجَّاج اليمامة فقالوا : هذا الحُطَم وأصحابه ومعهم هَدْي هو ممَّا نهبه من إبل المسلمين ، فاستأذنوا رسول الله في نَهبهم ، فنزلت الآية في النهي عن ذلك . فهي حكم عامّ نزل بعد تلك القضية ، وكان النهي عن التعرّض لبُدْن الحُطم مشمولاً لما اشتملت عليه هذه الآية .

والبيت الحرام هو الكعبة . وسيأتي بيان وصفه بهذا الوصف عند قوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس }

[ المائدة : 97 ] في هذه السورة . وجملة { يبتغون فضلاً من ربّهم } صفة ل { آمِّين } من قصدهم ابتغاء فضل الله ورضوانه وهم الذين جاءوا لأجل الحجّ إيماء إلى سبب حرمة آمِّي البيت الحرام .

وقد نهى الله عن التعرّض للحجيج بسوء لأنّ الحجّ ابتغاء فضل الله ورضوانه ، وقد كان أهل الجاهلية يقصدون منه ذلك ، قال النابغة :

حيّاك ربّي فإنَّا لا يَحِلّ لنــا *** لَهْوُ النساءِ وإنّ الدّين قد عَزَما

مشمّرين على خُوص مزمَّمة *** نرجو الإله ونرجو البِرّ والطُعَما

ويتنزّهون عن فحش الكلام ، قال العجّاج :

وَرَبِّ أسْراب حَجيج كُظَّم *** عن اللَّغَا ورَفَث التكلّم

ويظهرون الزهد والخشوع ، قال النابغة :

بمُصطحبات من لَصَافٍ وثَبْرة *** بَزُرْنَ إلالاً سَيْرُهُنّ التَّدَافُعُ

عَلَيْهِنّ شُعْث عامدون لربّهـم *** فهُنّ كأطراف الحَنِيّ خَوَاشِعُ

ووجه النَّهي عن التعرّض للحجيج بسوء وإن كانوا مشركين : أَنّ الحالة التي قصدوا فيها الحجّ وتلبّسوا عندها بالإحرام ، حالة خَيْر وقرب من الإيمان بالله وتذكّر نعمه ، فيجب أن يعانوا على الاستكثار منها لأنّ الخير يتسرّب إلى النفس رويداً ، كما أن الشرّ يتسرّب إليها كذلك ، ولذلك سيجيء عقب هذه الآية قوله : { وتَعاونوا على البِرّ والتقوى } .

والفضلُ : خير الدنيا ، وهو صلاح العمل . والرضوان : رضي الله تعالى عنهم ، وهو ثواب الآخرة ، وقيل : أراد بالفضل الربح في التجارة ، وهذا بعيد أن يكون هو سبب النهي إلاّ إذا أريد تمكينهم من إبلاغ السلع إلى مكَّة .

{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } .

تصريح بمفهوم قوله : { غير محلّي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] لقصد تأكيد الإباحة . فالأمر فيه للإباحة ، وليس هذا من الأمر الوارد بعد النهي ، لأنّ تلك المسألة مفروضة في النهي عن شيء نهياً مستمرّاً ، ثم الأمر به كذلك ، وما هنا : إنَّما هو نهي موقّت وأمر في بقيّة الأوقات ، فلا يجري هنا ما ذكر في أصول الفقه من الخلاف في مدلول صيغة الأمر الوارد بعد حظر : أهو الإباحة أو الندب أو الوجوب . فالصيد مباح بالإباحة الأصليّة ، وقد حُرّم في حالة الإحرام ، فإذا انتهت تلك الحالة رجع إلى إباحته .

و { اصطادوا } صيغة افتعال ، استعملت في الكلام لغير معنى المطاوعة التي هي مدلول صيغة الافتعال في الأصل ، فاصطاد في كلامهم مبالغة في صاد . ونظيره : اضطرّه إلى كذا . وقد نُزّل { اصطادوا } منزلة فعل لازم فلم يذكر له مفعول .

{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } .

عطف على قوله : { لا تحِلّوا شعائر الله } لِزيادة تقرير مضمونه ، أي لا تحلّوا شعائر الله ولو مع عدوّكم إذا لم يبدأوكم بحرب .

ومعنى { يجرمنّكم } يكسبنّكم ، يقال : جرَمه يجرمه ، مثل ضَرب . وأصله كسب ، من جرم النخلة إذا جذّ عراجينها ، فلمّا كان الجرم لأجل الكسب شاع إطلاق جرَم بمعنى كسب ، قالوا : جَرم فلان لنفسه كذا ، أي كسب .

وعدّي إلى مفعول ثان وهو { أن تعتدوا } ، والتقدير : يكسبكم الشنآن الاعتداء . وأمّا تعديته بعلى في قوله : { ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا }

[ المائدة : 8 ] فلتضمينه معنى يحملنّكم .

والشنآن بفتح الشين المعجمة وفتح النون في الأكثر ، وقد تسكّن النون إمَّا أصالة وإمَّا تخفيفاً هو البغض . وقيل : شدّة البغض ، وهو المناسب ، لعطفه على البغضاء في قول الأحوص :

أنمِي على البغضاء والشنآن

وهو من المصادر الدالّة على الاضطراب والتقلّب ، لأنّ الشنآن فيه اضطراب النفس ، فهو مثل الغَليان والنزَوان .

وقرأ الجمهور : { شَنَئان } بفتح النون . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر بسكون النون . وقد قيل : إنّ ساكن النون وصف مثل غضبان ، أي عدوّ ، فالمعنى : لا يجرمنّكم عدوّ قوم ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف . وإضافة شنآن إذا كان مصدراً من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي بُغضكم قوماً ، بقرينة قوله : { أنْ صدّوكم } ، لأنّ المبغض في الغالب هو المعتدى عليه .

وقرأ الجمهور : { أن صدّوكم } بفتح همزة ( أنْ ) . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بكسر الهمزة على أنَّها ( إن ) الشرطية ، فجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبل الشرط .

والمسجدُ الحرام اسم جعل علَماً بالغلبة على المكان المحيط بالكعبة المحصور ذي الأبواب ، وهو اسم إسلاميّ لم يكن يُدعى بذلك في الجاهليّة ، لأنّ المسجد مكان السجود ولم يَكن لأهل الجاهليّة سجود عند الكعبة ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } في سورة البقرة ( 144 ) ، وسيأتي عند قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبْده ليلاً من المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] .

{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ } .

تعليل للنهي الذي في قوله : { ولا يَجْرَمنَّكم شَنئان قوم } . وكان مقتضى الظاهر أن تكون الجملة مفصولة ، ولكنَّها عُطفت : ترجيحاً لما تضمَّنته من التشريع على ما اقتضته من التعليل ، يعني : أنّ واجبكم أن تتعاونوا بينكم على فعل البرّ والتقوى ، وإذا كان هذا واجبهم فيما بينهم ، كان الشأن أن يُعينوا على البرّ والتقوى ، لأنّ التعاون عليها يكسب محبّة تحصيلها ، فيصير تحصيلها رغبة لهم ، فلا جرم أن يعينوا عليها كلّ ساع إليها ، ولو كان عدوّاً ، والحجّ بِرّ فأعينوا عليه وعلى التقوى ، فهم وإن كانوا كفّاراً يُعاونُون على ما هو برّ : لأنّ البرّ يَهدي للتقوى ، فلعلّ تكرّر فعله يقرّبهم من الإسلام . ولمَّا كان الاعتداء على العدوّ إنَّما يكون بتعاونهم عليه نبّهوا على أنّ التعاون لا ينبغي أن يكون صدّاً عن المسجد الحرام ، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً ؛ فالضمير والمفاعلة في { تعاونوا } للمسلمين ، أي ليعن بعضكم بعضاً على البرّ والتقوى . وفائدة التعاون تيسير العمل ، وتوفير المصالح ، وإظهار الاتّحاد والتناصر ، حتّى يصبح ذلك خلقاً للأمّة . وهذا قبل نزول قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] .

وقوله : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } تأكيد لمضمون { وتعاونوا على البرّ والتقوى } لأنّ الأمر بالشيء ، وإن كان يتضمّن النهي عن ضدّه ، فالاهتمام بحكم الضدّ يقتضي النهي عنه بخصوصه . والمقصود أنّه يجب أن يصدّ بعضكم بعضاً عن ظلم قوم لكُم نحوَهم شنآن .

وقوله : { واتّقوا الله } الآية تذييل . وقوله : { شديد العقاب } تعريض بالتهديد .