180- وكما شرع الله القصاص لصلاح الأمة وحفظ المجتمع ، كذلك شرع الله شريعة فيها صلاح الأسرة وحفظ كيانها وهي شريعة الوصية ، فعلى من ظهرت أمامه إمارات الموت وعلم أنه ميت لا محالة ، وكان ذا مال يعتد به أن يجعل من ماله نصيباً لمن يدرك من والديه وأقاربه - الأقربين غير الوارثين - وليراع في ذلك ما يحسن ويقبل في عرف العقلاء فلا يعطى الغنى ويدع الفقير ، بل يؤثر ذوي الحاجة ولا يسوي إلا بين المتساوين في الفاقة ، وكان ذلك الفرض حقاً واجباً على من آثر التقوى واتبع أوامر الدين .
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
أي : فرض الله عليكم ، يا معشر المؤمنين { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : أسبابه ، كالمرض المشرف على الهلاك ، وحضور أسباب المهالك ، وكان قد { تَرَكَ خَيْرًا } [ أي : مالا ] وهو المال الكثير عرفا ، فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف ، على قدر حاله من غير سرف ، ولا اقتصار على الأبعد ، دون الأقرب ، بل يرتبهم على القرب والحاجة ، ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل .
وقوله : { حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } دل على وجوب ذلك ، لأن الحق هو : الثابت ، وقد جعله الله من موجبات التقوى .
واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث ، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين ، مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل ، والأحسن في هذا أن يقال : إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة ، ردها الله تعالى إلى العرف الجاري .
ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث ، بعد أن كان مجملا ، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف ، فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره ، وهذا القول تتفق عليه الأمة ، ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين ، لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا ، واختلف المورد .
فبهذا الجمع ، يحصل الاتفاق ، والجمع بين الآيات ، لأنه{[122]} مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ ، الذي لم يدل عليه دليل صحيح .
ثم يجيء تشريع الوصية عند الموت . . والمناسبة في جوها وجو آيات القصاص حاضرة :
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت - إن ترك خيرا - الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين . فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه . إن الله سميع عليم . فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم . .
وهذه كذلك كانت فريضة . الوصية للوالدين والأقربين . إن كان سيترك وراءه خيرا . وفسر الخير بأنه الثروة . واختلف في المقدار الذي تجب عنده الوصية . والأرجح أنها مسألة اعتبارية بحسب العرف . فقال بعضهم لا يترك خيرا من يترك أقل من ستين دينارا ، وقيل ثمانين وقيل أربعمائة . وقيل ألف . . والمقدار الذي يعتبر ثروة تستحق الوصية لا شك يختلف من زمان إلى زمان ، ومن بيئة إلى بيئة .
وقد نزلت آيات المواريث بعد نزول آيات الوصية هذه . وحددت فيها أنصبة معينة للورثة ، وجعل الوالدان وارثين في جميع الحالات . ومن ثم لم تعد لهما وصية لأنه لا وصية لوارث . لقوله [ ص ] : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " . أما الأقربون فقد بقي النص بالقياس إليهم على عمومه . فمن ورثته آيات الميراث فلا وصية له ؛ ومن لم يرث بقي نص الوصية هنا يشمله . . وهذا هو رأي بعض الصحابة والتابعين نأخذ به .
وحكمة الوصية لغير الورثة تتضح في الحالات التي توجب فيها صلة القرابة البر ببعض الأقارب ، على حين لا تورثهم آيات الميراث لأن غيرهم يحجبهم . وهي لون من الوان التكافل العائلي العام في خارج حدود الوراثة . ومن ثم ذكر المعروف وذكر التقوى :
( بالمعروف حقا على المتقين ) . .
فلا يظلم فيها الورثة ، ولا يهمل فيها غير الورثة ؛ ويتحرى التقوى في قصد واعتدال ، وفي بر وإفضال . . ومع هذا فقد حددت السنة نسبة الوصية ، فحصرتها في الثلث لا تتعداه والربع أفضل . كي لا يضار الوارث بغير الوارث . وقام الأمر على التشريع وعلى التقوى ، كما هي طبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يحققها الإسلام في تناسق وسلام .
استئناف ابتدائي لبيان حكم المال بعد موت صاحبه ، فإنه لم يسبق له تشريع ولم يفتتح ب { يا أيها الذين آمنوا } لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف ، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم ، ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيراً ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه ، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض ، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن وبها تختل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب كما قال طَرَفة :
وظُلْم ذوي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً *** على المَرْءِ من وَقْع الحُسَامِ المُهَنَّدِ
كان تغييرها إلى حال العَدل فيها من أهم مقاصد الإسلام كما بيَّنا تفصيله فيما تقدم في آية : { كتب عليكم القصاص في القتلى } [ البقرة : 178 ] . أما مناسبة ذكره عقب حكم القصاص فهو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصاً .
والقول في { كتب } تقدم في الآية السابقة وهو ظاهر في الوجوب قريب من النص فيه . وتجريدُه من علامة التأنيث مع كون مرفوعه مؤنثاً لفظاً لاجتماع مسوغين للتجريد وهما كون التأنيث غير حقيقي وللفصل بينه وبين الفعل بفاصل ، وقد زعم الشيخ الرضي أن اجتماع هذين المسوغين يرجح تجريد الفعل عن علامة التأنيث والدرك عليه .
ومعنى حضور الموت حضورُ أسبابه وعلاماتِه الدالة على أن الموت المتخيل للناس قد حضر عند المريض ونحوه ليصيره ميتاً قال تأبط شراً
* والمَوْت خَزْيَانُ يَنْظُرُ *
فإن حضور الشيء حلوله ونزوله وهو ضد الغيبة ، فليس إطلاق حضر هنا من قبيل إطلاق الفعل على مقاربة الفعل نحو قد قامت الصلاة ولا على معنى إرادة الفعل كما في { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ، { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ المائدة : 98 ] ، ولكنه إسناد مجازي إلى الموت لأنه حضور أسبابه ، وأما الحضور فمستعار للعرو والظهور ، ثم إن إطلاق الموت على أسبابه شائع قال رُويشد بن كثير الطائي :
وقُلْ لَهُمْ بادروا بالعَفْو والتَمِسُوا *** قَوْلاً يُبَرِّؤُكُم إنِّي أَنا المَوْت
والخير المالُ وقيل الكثير منه ، والجمهور على أن الوصية مشروعة في المال قليله وكثيره ، وروي عن عليّ وعائشة وابن عباس أن الوصية لا تجب إلاّ في المال الكثير .
كانت عادة العرب في الجاهلية أن الميت إذا كان له ولد أو أولاد ذكور استأثروا بماله كله ، وإن لم يكن له ولد ذكَر استأثَر بماله أقربُ الذكور له من أب أو عم أو ابن عم الأدنَيْنَ فالأَدْنَين ، وكان صاحب المال ربما أوصى ببعض ماله أو بجميعه لبعض أولاده أو قرابته أو أصدقائه ، فلما استقر المسلمون بدار الهجرة واختصوا بجماعتهم شرع الله لهم تشريك بعض القرابة في أموالهم ممن كانوا قد يهملون توريثه من البنات والأخوات والوالدين في حال وجود البنين ولذلك لم يُذكَر الأبناء في هذه الآية .
وعُبر بفعل ( ترك ) وهو ماض عن معنى المستقبل أي إن يترك ، للتنبيه على اقتراب المستقبل من المضي إذا أوشك أن يصير ماضياً ، والمعنى : إن أَوحشَك أن يَتْرُك خيراً أو شارف أن يترك خيراً ، كما قدّروه في قوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم } [ النساء : 9 ] في سورة النساء وقوله تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 ] في سورة يونس أي حتى يقاربوا رؤية العذاب .
والوصية فَعِيلةٌ من وصَّى فهو المُوصَّى بها فوقع الحذف والإيصال ليتأتى بناء فَعيلة بمعنى مفعولة ؛ لأن زنة فعيلة لا تبنى من القاصر . والوصية الأمر بفعل شيءٍ أو تركه مما فيه نفع للمأمور أو للآمر في مغيب الآمر في حياته أو فيما بعد موته ، وشاع إطلاقها على أمر بشيء يصلح بعد موت الموصي وفي حديث العرباض بن سارية قال : « وعَظَنا رسولُ الله موعظةً وَجِلَتْ منها القلوبُ وذَرَفَتْ منها العيون فقلْنا يا رسول الله كأنها موعظة مُوَدِّع فأَوْصِنا إلخ » .
والتعريف في الوصية تعريفُ الجنس أي كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين ، فقوله : { للوالدين } متعلق بالوصية معمول له ؛ لأن اسم المصدر يعمل عمل المصدر ولا يحتاج إلى تأويله بأَنْ والفعلِ ، والوصيةُ مرفوع نائب عن الفاعل لفعل { كتب } ، و { إذا } ظرف .
و { المعروف } الفعل الذي تألفه العقول ولا تنكره النفوس فهو الشيء المحبوب المرضي سمي معروفاً لأنه لكثرة تداوله والتأنُّس به صار معروفاً بين الناس ، وضِدّه يسمى المنكر وسيأتي عند قوله تعالى : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] في سورة آل عمران .
والمراد بالمعروف هنا العدل الذي لا مضارة فيه ولا يحدث منه تحاسد بين الأقارب بأن ينظر الموصي في ترجيح من هو الأولى بأن يوصي إليه لقوة قرابة أو شدة حاجة ، فإنه إن توخي ذلك استحسن فعله الناس ولم يلوموه ، ومن المعروف في الوصية ألا تكون للأضرار يوارث أو زوج أو قريب وسيجيء عند قوله تعالى : { فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً } [ البقرة : 182 ] .
والباء في { بالمعروف } للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية .
وقد شمل قوله { بالمعروف } تقدير ما يوصي به وتمييز من يوصي له ووكل ذلك إلى نظر الموصي فهو مؤتمن على ترجيح من هو أهل للترجيح في العطاء كما أشار إليه قوله تعالى : { على المتقين } .
وقوله { حقاً } مصدر مؤكد ل { كتب } لأنه بمعناه و { على المتقين } صفة أي حقاً كائناً على المتقين ، ولك أن تجعله معمول { حقاً } ولا مانع من أن يعمل المصدر المؤكد في شيء ولا يخرجه ذلك عن كونه مؤكداً بما زاده على معنى فعله ؛ لأن التأكيد حاصل بإعادة مدلول الفعل ، نعم إذا أوجب ذلك المعمول له تقييداً يجعله نوعاً أو عدداً فحينئذٍ يخرج عن التأكيد .
وخص هذا الحق بالمتقين ترغيباً في الرضى به ؛ لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس فليس في الآية دليل على أن هذا الوجوب على المتقين دون غيرهم من العصاة ، بل معناه أن هذا الحكم هو من التقوى وأن غيره معصية ، وقال ابن عطية : خص المتقون بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبارى الناس إليها .
وخص الوالدين والأقربين لأنهم مظنة النسيان من الموصي ، لأنهم كانوا يورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة .
وقدم الوالدين للدلالة على أنهما أرجح في التبدية بالوصية ، وكانوا قد يوصون بإيثار بعض أولادهم على بعض أو يوصون بكيفية توزيع أموالهم على أولادهم ، ومن أشهر الوصايا في ذلك وصية نزار بن معد بن عدنان إذ أوصى لابنه مضر بالحمراء ، ولابنه ربيعة بالفرس ، ولابنه أنمار بالحمار ، ولابنه إياد بالخادم ، وجعل القسمة في ذلك للأفعى الجُرهمي ، وقد قيل إن العرب كانوا يوصون للأباعد طلباً للفخر ويتركون الأقربين في الفقر وقد يكون ذلك لأجل العداوة والشنآن .
وهذه الآية صريحة في إيجاب الوصية ، لأن قوله : { كتب عليكم } صريح في ذلك وجمهور العلماء على أنها ثبت بها حكم وجوب الإيصاء للوالدين والأقربين ، وقد وُقت الوجوب بوقت حضور الموت ويلحق به وقت توقع الموت ، ولم يعين المقدار الموصى به وقد حرضت السنة على إعداد الوصية من وقت الصحة بقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما حق امرىء له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده " أي لأنه قد يفجأه الموت .
والآية تشعر بتفويض تعيين المقدار الموصى به إلى ما يراه الموصي ، وأمره بالعدل بقوله { بالمعروف } فتقرر حكم الإيصاء في صدر الإسلام لغير الأبناء من القرابة زيادة على ما يأخذه الأبناء ، ثم إن آية المواريت التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخاً مجملاً فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفاً على إيصَاء الميت له بل صار حقه ثابتاً معيناً رَضي الميت أم كره ، فيكون تقرر حكم الوصية في أول الأمر استئناساً لمشروعية فرائض الميراث ، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] فجعلها وصية نفسه سبحانه إبطالاً للمنة التي كانت للموصي .
وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء ، الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد ، ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال : عادني النبي وأبو بكر في بني سَلِمَة ماشِيْين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليَّ فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أَصنع في مالي يا رسول الله فنزلت : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] الآية اهـ . فدل على أن آخر عهد بمشْروعية الوصايا سؤال جابر بن عبد الله ، وفي البخاري عن ابن عباس كان المال وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب الخ .
وقيل نسخت مشروعية الوصية فصارت ممنوعة قاله إبراهيم بن خُثَيْم وهو شذوذ وخلاف لما اشتهر في السنة إلاّ أن يريد بأَنها صارت ممنوعة للوارث .
وقيل : الآية مُحكَمَة لم تُنسخ والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبْدين والأقارِب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري ، والأصح هو الأول .
ثم القائلون ببقاء حكم الوصية بعد النسخ منهم من قال : إنها بقيت مفروضة للأقربين الذين لا يرثون وهذا قول الحسن وطاووس والضحاك والطبري لأنهم قالوا : هي غير منسوخة ، وقال به ممن قال إنها منسوخة ابنُ عباس ومسروق ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد ، ومنهم من قال : بقيت مندوبة للأقربين وغيرهم وهذا قول الجمهور إلاّ أنه إذا كان أقاربه في حاجة ولم يوص لهم فبئس ما صنع ولا تبطل الوصية ، وقيل تختص بالقرابة فلو أوصى لغيرهم بطلت وترد على أقاربه قاله جابر بن زيد والشعبي وإسحاقُ بن راهويه والحسن البصري ، والذي عليه قول من تعتمد أقوالهم أن الوصية لغير الوارث إذا لم يخش بتركها ضياع حق أحد عند الموصِي مطلوبة ، وأنها مترددة بين الوجوب والسنة المؤكدة لحديث " لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عند رأسه " ، إذا كان هذا الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد مشروعية الفرائض فإن كان قبلَ ذلك كان بياناً لآية الوصية وتحريضاً عليها ، ولم يزل المسلمون يرون الوصية في المال حقاً شرعياً ، وفي « صحيح البخاري » عن طلحة بن مصَرِّف قال : سألت عبدَ الله بن أبي أَوْفَى هل كان النبي أوصى فقال : لا ، فقلت : كيف كُتبتْ على الناس الوصيةُ ولم يوص ؟ قال : أوصى بكتاب الله اهـ ، يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لا يورث فكذلك لا يوصي بماله ولكنه أوصى بما يعود على المسلمين بالتمسك بكتاب الإسلام ، وقد كان من عادة المسلمين أن يقولوا للمريض إذا خيف عليه الموت أن يقولوا له أَوْصِ .
وقد اتفق علماء الإسلام على أن الوصية لا تكون لوارث لما رواه أصحاب « السنن » عن عمر بن خارجة وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي أُمَامَة كلاهما يقول سمعت النبي قال : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه أَلاَ لا وصية لوارث " وذلك في حجة الوداع ، فخُص بذلك عمومُ الوالدين وعمومُ الأقربين وهذا التخصيص نسخ ، لأنه وقع بعد العمل بالعام وهو وإن كان خبر آحاد فقد اعتُبر من قبيل المتواتر ، لأنه سمعه الكافة وتلقاه علماء الأمة بالقبول .
والجمهور على أن الوصية بأكثر من الثلث باطلة للحديث المشهور عن سعد بن أبي وقاص أنه مرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في أن يوصي بجميع ماله فمنعه إلى أن قال له " الثلثُ والثلثُ كثير إِنَّك أَنْ تَدَعَ ورثَتك أَغنياءَ خيرٌ من أَنْ تَدَعَهم عالةً يَتكفَّفُون الناسَ " وقال أبو حنيفة : إن لم يكن للموصي ورثة ولو عصبة دون بيت المال جاز للموصي أن يوصي بجميع ماله ومضَى ذلك أخذاً بالإيماء إلى العلة في قوله " إِنك أن تدع ورثَتك أغنياء خير " الخ . وقال : إن بيت المال جامعٌ لا عاصب وَرُوي أيضاً عن علي وابن عباس ومسروق وإسحاق بن راهويه ، واختُلف في إمضائها للوارث إذا أجازها بقية الورثة ومذهب العلماء من أهل الأمصار أنها إذا أجازها الوارث مضت .
هذا وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى عين كيفية قسمة تركة الميت بآية المواريث ، وأن آية الوصية المذكورة هنا صارت بعد ذلك غيرَ مراد منها ظاهرها ، فالقائلون بأنها محكمة قالوا : بقيت الوصية لغير الوارث والوصيةُ للوارث بما زاد على نصيبه من الميراث فلا نسخ بين الآيتين .
والقائلون بالنسخ يقول منهم مَنْ يرون الوصية لم تزل مفروضة لغير الوارث : إِن آية المواريث نسَخَت الاختيار في الموصَى له والإطلاق في المقدار الموصَى به ، ومَن يرى منهم الوصية قد نسخ وجوبها وصارت مندوبة يقولون : إن آية المواريث نَسَخت هذه الآية كلها فأصبحت الوصية المشروعة بهذه الآية منسوخة بآية المواريث للإِجماع على أن آية المواريث نَسخت عموم الوَالدين والأقربين الوَارثين ، ونسخت الإطلاق الذي في لفظ ( الوصية ) والتخصيصُ بعد العمل بالعام ، والتقييدُ بعدَ العمل بالمطلق كلاهما نَسْخٌ ، وإن كان لفظ آية المواريث لا يدل على ما يناقض آية الوصية ، لاحتمالها أن يكون الميراث بعد إعطاء الوصايا أو عند عدم الوصية بل ظاهرها ذلك لقوله : { من بعد وصية } [ النساء : 11 ] ، وإن كان الحديثان الواردان في ذلك آحاداً لا يصلحان لنسخ القرآن عند من لا يرون نسخ القرآن بخبر الآحاد ، فقد ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة ، ولمَّا ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإِجماع ، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين والفقهاء في تقرير كيفية النسخ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذا حضر أحدكم الموت إن ترك}: بعد موته.
{الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف}: يعني تفضيل الوالدين على الأقربين في الوصية، وليوص للأقربين بالمعروف، والذين لا يرثون.
{حقا على المتقين}: فمن لم يوص لقرابته عند موته، فقد ختم عمله بالمعصية. ثم نزلت آية الميراث بعد هذه الآية، فنسخت للوالدين، وبقيت الوصية للأقربين الذين لا يرثون، ما بينه وبين ثلث ماله...
- يحيى: سمعت مالكا، يقول في هذه الآية: إنها منسوخة، قول الله تبارك وتعالى: {إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} [البقرة: 180] نسخها ما نزل من قسمة الفرائض في كتاب الله عز وجل. قال مالك: السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا تجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت، وأنه إن أجاز له بعضهم وأبى بعض جاز له حق من أجاز منهم، ومن أبى أخذ حقه من ذلك...
القرطبي: قال مالك: من أوصى لغير قرابة، وترك القرابة محتاجين فبئس ما صنع! وفعله مع ذلك جائز ماض لكل من أوصى له من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"كتب عليكم": فرض عليكم أيها المؤمنون الوصية إذا حضر أحدكم الموت "إنْ تَرَكَ خَيْرا"، والخير: المال، "للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبينَ "الذين لا يرثونه، "بالمَعْرُوفِ "وهو ما أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمد الموصي ظلم ورثته، "حَقّا على المُتّقين": فرض عليكم هذا وأوجبه، وجعله حقّا واجبا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
فإن قال قائل: أَوَ فرض على الرجل ذي المال أن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟ قيل: نعم.
فإن قال: فإن هو فرّط في ذلك فلم يوص لهم أيكون مضيعا فرضا يحرج بتضييعه؟ قيل: نعم.
فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟ قيل: قول الله تعالى ذكره: "كُتِبَ عَلَيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ والأقْرَبِين"؛ فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرضه، كما قال: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ"؛ ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر مضيع بتركه فرضا لله عليه، فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه وله ما يوصي لهم فيه، مضيعٌ فرض الله عز وجل.
فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: "الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبينَ" منسوخة بآية الميراث؟ قيل له: وخالفهم جماعة غيرهم فقالوا: هي محكمة غير منسوخة: وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم لم يكن لنا القضاء عليه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها، إذ كان غير مستحيل اجتماع حكم هذه الآية وحكم آية المواريث في حال واحدة على صحة بغير مدافعة حكم إحداهما حكم الأخرى، وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة لنفي أحدهما صاحبه.
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين... عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يوصِ لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية.
[وعن] مسروق: إن الله قد قسم بينكم فأحسن القسم، وإنه من يرغب برأيه عن رأي الله يضله، أوص لذي قرابتك ممن لا يرثك، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه. [و] عن الضحاك، قال: لا تجوز وصية لوارث ولا يوصي إلا لذي قرابة، فإن أوصى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية، إلا أن لا يكون قرابة فيوصي لفقراء المسلمين.
واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية، فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئا من حكمها، وإنما هي آية ظاهرها ظاهر عموم في كل والد ووالدة والقريب، والمراد بها في الحكم البعض منهم دون الجميع، وهو من لا يرث منهم الميت دون من يرث. وذلك قول من ذكرت قوله، وقول جماعة آخرين غيرهم معهم.
وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبا وعمل به برهة، ثم نسخ الله منها بآية المواريث الوصية لوالدي الموصي وأقربائه الذين يرثونه، وأقرّ فرض الوصية لمن كان منهم لا يرثه... ولا تجوز وصية لوارث.
وقال آخرون: بل نسخ الله ذلك كله، وفرض الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريب ولا بعيد.
وأما الخير الذي إذا تركه تارك وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقربيه الذين لا يرثون فهو المال.
ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية، فقال بعضهم: ذلك ألف درهم فما فوقه.
وقال بعضهم: ذلك ما بين الخمسمائة درهم إلى الألف.
وقال بعضهم: الوصية واجبة من قليل المال وكثيره... عن الزهري، قال: جعل الله الوصية حقا مما قل منه أو كثر.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: "كُتِبَ عَلَيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ" ما قال الزهري، لأن قليل المال وكثيره يقع عليه خير، ولم يحدّ الله ذلك بحدّ ولا خصّ منه شيئا، فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن، فكل من حضرته منيته وعنده مال قلّ ذلك أو كثر، فواجب عليه أن يوصى منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف، كما قال الله جل ذكره وأمره به.
واختلفوا في المقدار المراد بالمال الذي أوجب الله الوصية فيه حين كانت الوصية فرضاً... وكل هؤلاء القائلين فإنما تأوّلوا تقدير المال على وجه الاستحباب لا على وجه الإيجاب للمقادير المذكورة، وكان ذلك منهم على طريق الاجتهاد فيما تلحقه هذه الصفة من المال، ومعلوم في العادة أن مَنْ ترك درهماً لا يقال ترك خيراً، فلما كانت هذه التسميةُ موقوفةً على العادة وكان طريقُ التقدير فيها على الاجتهاد وغالب الرأي مع العلم بأن القدر اليسير لا تلحقه هذه التسمية وأن الكثير تلحقه، فكان طريق الفصل فيها الاجتهادَ وغالِبَ الرأي، مع ما كانوا عرفوا من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله:"الثُلْثَ والثَلُثُ كَثِيرٌ" و "أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أنْ تَدَعَهُمْ عالَةً يتكَفَّفُونَ الناس"...
قال أبو بكر: ولا دلالة فيما ذكره هذا القائل على نَفْي وجوبها، لأن إيجابها بالمعروف لا ينفي وُجُوبَها، لأن المعروف معناه العَدْلُ الذي لا شَطَطَ فيه ولا تقصير، كقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة: 233] ولا خلاف في وجوب هذا الرزق والكسوة، وقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19] بل المعروف هو الواجب، قال الله تعالى: {وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر} [لقمان: 17] وقال: {يأمرون بالمعروف} [التوبة: 71]. فذِكْرُ المعروف فيما أوجب الله تعالى من الوصية؛ لا ينفي وجوبها؛ بل هو يؤكد وجوبها، إذ كان جميع أوامِر الله معروفاً غير مُنْكَرٍ. ومعلوم أيضاً أن ضِدَّ المعروف هو المنكر، وأن ما ليس بمعروف هو منكر، والمنكر مذمومٌ مزجورٌ عنه، فإذاً المعروف واجب.
وأما قوله: {حقاً على المتقين} ففيه تأكيد لإيجابها، لأن على الناس أن يكونوا متّقين، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} [البقرة: 187] ولا خلاف بين المسلمين أن تَقْوَى الله فرضٌ، فلما جعل تنفيذ هذه الوصية من شرائط التقوى فقد أبان عن إيجابها. وأما تخصيصه المتّقين بالذكر فلا دلالة فيه على نَفْي وُجُوبها، وذلك لأن أقلَ ما فيه اقتضاء الآية وجوبها على المتقين، وليس فيه نفيها عن غير المتّقين، كما أنه ليس في قوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] نفْي أن يكون هُدًى لغيرهم. وإذا وجبت على المتقين بمقتضى الآية وجبت على غيرهم؛ وفائدة تخصيصه المتقين بالذكر أن فِعْلَ ذلك مِنْ تقوى الله، وعلى الناس أن يكونوا كلهم متّقين، فإذاً عليهم فعل ذلك...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَيْسَ يُرِيدُ حُضُورَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَلَا لَهُ فِي الدُّنْيَا حِصَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَنْظِمَ مِنْ كَلَامِهَا لَفْظَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ لَكَانَ تَكْلِيفٌ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ؛ وَلَكِنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إذَا قَرُبَ حُضُورُ الْمَوْتِ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ كِبَرُهُ فِي السِّنِّ أَوْ سَفَرٍ، فَإِنَّهُ غَرَرٌ. أَوْ تَوَقُّعُ أَمْرٍ طَارِئٍ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ تَحَقُّقُ النَّفْسِ لَهُ بِأَنَّهَا سَبِيلٌ هُوَ آتِيهَا لَا مَحَالَةَ، إذِ الْمَوْتُ رُبَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا...
[و] الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَرِضَ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَأْخِيرُ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمَرَضِ مَذْمُومٌ شَرْعًا، رَوَى مُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِل حَتَّى إذَا بَلَغَت الْحُلْقُومَ قُلْت: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا»...
{إنْ تَرَكَ خَيْرًا}: يَعْنِي مَالًا، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَقْدِيرِهِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ والأحْكامِيُّونَ أَقْوَالًا كُلُّهَا دَعَاوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَخْتَلِفْ وَلَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، بَلْ يُوصِي مِن الْقَلِيلِ قَلِيلًا، وَمِن الْكَثِيرِ كَثِيرًا، وَحَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ يُسَمَّى بِالْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَةِ الدُّنْيَا. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَو َيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، إلَّا آكِلَةُ الْخَضِرِ، أَكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ؛ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَت...
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: {حَقًّا}: يَعْنِي ثَابِتًا ثُبُوتَ نَظَرٍ وَتَخْصِيصٍ، لَا ثُبُوتَ فَرْضٍ وَوُجُوبٍ، وَهَكَذَا وَرَدَ عَنْ عُلَمَائِنَا حَيْثُ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّابِتُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمَعْنَى فِي الشَّرِيعَةِ نَدْبًا، وَقَدْ ثَبَتَ فَرْضًا، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عَلَى الْمُتَّقِينَ}: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَدْبًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَتَّقِي، أَيْ يَخَافُ تَقْصِيرًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَا يُتَوَقَّعُ تَلَفُهُ إنْ مَاتَ فَتَلْزَمُهُ فَرْضًا الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمِمَّا صَحَّ مِنْ النَّظَرِ، وَأَنَّهُ إنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ تَضْيِيعًا لَهُ.
أما قوله: {بالمعروف} فيحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصي به، ويحتمل أن يكون المراد منه تمييز من يوصي له من الأقربين ممن لا يوصي، لأن كلا الوجهين يدخل في المعروف، فكأنه تعالى أمره في الوصية أن يسلك الطريق الجميلة، فإذا فاضل بينهم، فبالمعروف وإذا سوى فكمثل، وإذا حرم البعض فكمثل لأنه لو حرم الفقير وأوصى للغني لم يكن ذلك معروفا، ولو سوى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفا، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الأخوة لم يكن ما يأتيه معروفا فالله تعالى كلفه الوصية على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش وذلك من باب ما يعلم بالعادة فليس لأحد أن يقول: لو كانت الوصية واجبة لم يشترط تعالى فيه هذا الشرط، الذي لا يمكن الوقوف عليه لما بينا...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت. وخصصها العرب بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية. والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا. وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل. وأرض واصية: متصلة النبات. وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية والوصاية (بالكسر والفتح). وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى، والاسم الوصاة. وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا. وفي الحديث: (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم). ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وفي تسميته هنا وجعله خيراً إشارة لطيفة إلى أنه مال طيب لا خبيث، فإن الخبيث يجب رده إلى أربابه، ويأثم بالوصية فيه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما حث سبحانه وتعالى على بذل المال ندباً وإيجاباً في حال الصحة والشح وتأميل الغنى وخشية الفقر تصديقاً للإيمان، وأتبعه بذل الروح التي هو عديلها بالقتل الذي هو أحد أسباب الموت. أتبع ذلك بذله في حال الإشراف على النقلة والأمن من فقر الدنيا والرجاء لغنى الآخرة، استدراكاً لما فات من بذله على حبه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وجه التناسب والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها هو أن القصاص في القتل ضرب من ضروب الموت يذكر بما يطلب ممن يحضره الموت وهو الوصية. والخطاب فيه موجه إلى الناس كلهم بأن يوصوا بشيء من الخير، ولاسيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته لتكون خاتمة أعمالهم خيرا، وهو على نسق ما تقدم في الخطاب بالقصاص من اعتبار الأمة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتم إلا بالتعاون والتكافل والائتمار والتناهي، فلو لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على الائتمار ـ
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[الوصية] لون من الوان التكافل العائلي العام في خارج حدود الوراثة. ومن ثم ذكر المعروف وذكر التقوى: (بالمعروف حقا على المتقين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي لبيان حكم المال بعد موت صاحبه، فإنه لم يسبق له تشريع ولم يفتتح ب {يا أيها الذين آمنوا} لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم،
ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيراً ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن وبها تختل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب، كان تغييرها إلى حال العَدل فيها من أهم مقاصد الإسلام...
أما مناسبة ذكره عقب حكم القصاص فهو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصاً... وقد شمل قوله {بالمعروف} تقدير ما يوصي به وتمييز من يوصي له ووكل ذلك إلى نظر الموصي فهو مؤتمن على ترجيح من هو أهل للترجيح في العطاء كما أشار إليه قوله تعالى: {على المتقين}...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ولا يستغربن السامع ذكر الوالدين هنا في سياق الوصية دون الإرث، فهناك من الوالدين من لا حق له في الإرث، وهناك من الأقارب من لا حق لهم فيه أيضا، مثال ذلك الأم الكتابية التي ليست على دين ابنها المسلم، والزوجة الكتابية التي ليست على دين زوجها المسلم، فهذه الأم لا ترث ابنها، وهذه الزوجة لا ترث زوجها، وإنما أباح الله في حق مثلهما الوصية دون الإرث، فيمكن لولد الأولى أو لزوج الثانية أن يوصي لها قبل وفاته بنصيب من ثروته، لكن يجب أن تكون هذه الوصية
{بالمعروف} كما قال الله تعالى، أي بحيث لا تؤدي إلى الإجحاف بحقوق الورثة الشرعيين، وتكون في حدود الثلث الجائز فما دونه. والوصية لهؤلاء ومن في حكمهم ليست في درجة الوجوب، وإنما هي أمر مرغب فيه ومطلوب، وذلك بالنسبة لمن يرغب في صلة رحمه، وستر ذويه من بعده، جزاء ما بذلوا في سبيله من اعتناء وبرور، وجهد مشكور، حتى لا يوصم بالتقصير في حقهم ونكران جميلهم، ولهذا المعنى يشير قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى المُتَّقِينَ}.
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعالج قضية اجتماعية أخرى. إن الحق بعد أن عالج قضية إزهاق الحياة ينتقل بنا إلى قضية أخرى من أقضية الحياة، إنها قضية الموت الطبيعي. كأن الحق بعد أن أوضح لنا علاج قضية الموت بالجريمة يريد أن يوضح لنا بعضاً من متعلقات الموت حتفا من غير سبب مزهق للروح.
إن الحق يعالج في الآية القادمة بعضاً من الأمور المتعلقة بالموت ليحقق التوازن الاقتصادي في المجتمع كما حقق بالآية السابقة التوازن العقابي والجنائي في المجتمع. يقول الحق: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين 180}...
ولأن الإله الحق يريد بالناس الخير لم يحدّد قدر الخير أو قيمته، وعندما يحضر الموت الإنسان الذي عنده فائض من الخير لابد أن يوصي من هذا الخير. ولنا أن نلحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن انتظار لحظة الموت ليقول الإنسان وصيته، أو ليبلغ أسرته بالديون التي عليه، لأن الإنسان لحظة الموت قد لا يفكر في مثل هذه الأمور. ولذلك فعلينا أن نفهم أن الحق ينبهنا إلى أن يكتب الإنسان ما له وما عليه في أثناء حياته. فيقول ويكتب وصيته التي تنفذ من بعد حياته. يقول المؤمن: إذا حضرني الموت فلوالدي كذا وللأقربين كذا.
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
6 ومن فوايد الآية: أهمية صلة الرحم، حيث أوجب الله الوصية للوالدين والأقربين بعد الموت؛ لأن صلة الرحم من أفضل الأعمال المقربة إلى الله؛ فهذه إحدى أمهات المؤمنين أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم: أنها أعتقت جارية لها؛ فقال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك»؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صلة الرحم أعظم أجراً من العتق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[كُتِبَ] بمعنى قضى من القضاء، وهو الحكم الذي قد يوحي بالإلزام، فلا بُدَّ من الالتزام به إلاَّ أن يدل دليل من كتاب أو سنة أو إجماع على خلاف ذلك، لأنَّ اللفظ لا يخلو من قابلية لذلك، فالحكم بشيء على شخص قد يقترن بالظروف التخفيفية التي تجعل المضمون اختيارياً، وقد لا يقترن بذلك فيبقى على حاله. ولما كان إجماع المسلمين قائماً على عدم وجوب الوصية للوالدين والأقربين، فلا بُدَّ من أن نلتزم بذلك فنحمل الكتابة على أصل التشريع والجعل... وعلى هذا يكون قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: سجل عليكم تأكيد الوصية...