180- وكما شرع الله القصاص لصلاح الأمة وحفظ المجتمع ، كذلك شرع الله شريعة فيها صلاح الأسرة وحفظ كيانها وهي شريعة الوصية ، فعلى من ظهرت أمامه إمارات الموت وعلم أنه ميت لا محالة ، وكان ذا مال يعتد به أن يجعل من ماله نصيباً لمن يدرك من والديه وأقاربه - الأقربين غير الوارثين - وليراع في ذلك ما يحسن ويقبل في عرف العقلاء فلا يعطى الغنى ويدع الفقير ، بل يؤثر ذوي الحاجة ولا يسوي إلا بين المتساوين في الفاقة ، وكان ذلك الفرض حقاً واجباً على من آثر التقوى واتبع أوامر الدين .
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
أي : فرض الله عليكم ، يا معشر المؤمنين { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : أسبابه ، كالمرض المشرف على الهلاك ، وحضور أسباب المهالك ، وكان قد { تَرَكَ خَيْرًا } [ أي : مالا ] وهو المال الكثير عرفا ، فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف ، على قدر حاله من غير سرف ، ولا اقتصار على الأبعد ، دون الأقرب ، بل يرتبهم على القرب والحاجة ، ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل .
وقوله : { حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } دل على وجوب ذلك ، لأن الحق هو : الثابت ، وقد جعله الله من موجبات التقوى .
واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث ، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين ، مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل ، والأحسن في هذا أن يقال : إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة ، ردها الله تعالى إلى العرف الجاري .
ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث ، بعد أن كان مجملا ، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف ، فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره ، وهذا القول تتفق عليه الأمة ، ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين ، لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا ، واختلف المورد .
فبهذا الجمع ، يحصل الاتفاق ، والجمع بين الآيات ، لأنه{[122]} مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ ، الذي لم يدل عليه دليل صحيح .
ثم يجيء تشريع الوصية عند الموت . . والمناسبة في جوها وجو آيات القصاص حاضرة :
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت - إن ترك خيرا - الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين . فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه . إن الله سميع عليم . فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم . .
وهذه كذلك كانت فريضة . الوصية للوالدين والأقربين . إن كان سيترك وراءه خيرا . وفسر الخير بأنه الثروة . واختلف في المقدار الذي تجب عنده الوصية . والأرجح أنها مسألة اعتبارية بحسب العرف . فقال بعضهم لا يترك خيرا من يترك أقل من ستين دينارا ، وقيل ثمانين وقيل أربعمائة . وقيل ألف . . والمقدار الذي يعتبر ثروة تستحق الوصية لا شك يختلف من زمان إلى زمان ، ومن بيئة إلى بيئة .
وقد نزلت آيات المواريث بعد نزول آيات الوصية هذه . وحددت فيها أنصبة معينة للورثة ، وجعل الوالدان وارثين في جميع الحالات . ومن ثم لم تعد لهما وصية لأنه لا وصية لوارث . لقوله [ ص ] : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " . أما الأقربون فقد بقي النص بالقياس إليهم على عمومه . فمن ورثته آيات الميراث فلا وصية له ؛ ومن لم يرث بقي نص الوصية هنا يشمله . . وهذا هو رأي بعض الصحابة والتابعين نأخذ به .
وحكمة الوصية لغير الورثة تتضح في الحالات التي توجب فيها صلة القرابة البر ببعض الأقارب ، على حين لا تورثهم آيات الميراث لأن غيرهم يحجبهم . وهي لون من الوان التكافل العائلي العام في خارج حدود الوراثة . ومن ثم ذكر المعروف وذكر التقوى :
( بالمعروف حقا على المتقين ) . .
فلا يظلم فيها الورثة ، ولا يهمل فيها غير الورثة ؛ ويتحرى التقوى في قصد واعتدال ، وفي بر وإفضال . . ومع هذا فقد حددت السنة نسبة الوصية ، فحصرتها في الثلث لا تتعداه والربع أفضل . كي لا يضار الوارث بغير الوارث . وقام الأمر على التشريع وعلى التقوى ، كما هي طبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يحققها الإسلام في تناسق وسلام .
{ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } أي حضرت أسبابه وظهرت أماراته . { إن ترك خيرا } أي مالا . وقيل مالا كثيرا ، لما روي عن علي رضي الله تعالى عنه : أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهم ، فمنعه وقال : قال الله تعالى { إن ترك خيرا } والخير هو المال الكثير . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : أن رجلا أراد أن يوصي فسألته كم مالك ، فقال : ثلاثة آلاف ، فقالت : كم عيالك قال : أربعة ، قالت : إنما قال الله تعالى { إن ترك خيرا } وأن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك . { الوصية للوالدين والأقربين } مرفوع بكتب ، وتذكير فعلها للفصل ، أو على تأويل أن يوصي ، أو الإيصاء ولذلك ذكر الراجع في قوله : { فمن بدله } . والعامل في إذا مدلول كتب لا الوصية لتقدمه عليها . وقيل مبتدأ خبره { للوالدين } ، والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء كقوله :
من يفعل الحسنات الله يشكرها *** والشر بالشر عند الله مثلان
ورد بأنه إن صح فمن ضرورات الشعر . وكان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بآية المواريث وبقوله عليه الصلاة والسلام " إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصية لوارث " . وفيه نظر : لأن آية المواريث لا تعارضه بل تؤكده حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقا ، والحديث من الآحاد ، وتلقي الأمة له بالقبول لا يحلقه بالمتواتر . ولعله احترز عنه من فسر الوصية بما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين بقوله { يوصيكم الله } أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله عليهم { بالمعروف } بالعدل ، فلا يفضل الغني ، ولا يتجاوز الثلث . { حقا على المتقين } مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.