المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

تحدثت في افتتاحيتها عن الفتح المبين ، الذي يسره الله لرسوله ، وعن آثاره العظيمة في انتشار الإسلام ، وإعزاز المسلمين ، وعن تثبيت اله قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا ، وعن عذاب المنافقين والمشركين ، بتشككهم في نصر الله لرسوله ، وعن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم شاهدا ومبشرا ، ليتحقق الإيمان بالله . وانتقلت بعد ذلك إلى حديث بيعة أهل الصدق والوفاء لرسوله ، وبينت كذب اعتذار المتخلفين عن الخروج مع الرسول ، وأنهم تخلفوا لظنهم أن الله لا ينصره ، وعرضت لطلبهم الخروج معه للغنائم .

ثم بينت أنهم سيدعون إلى قتال قوم ذوي بأس وقوة ، وأنه لا إثم في التخلف عن القتال لعذر صحيح ، كما أوضحت عظم الخير الذي وعد الله به من رضي عنهم في بيعة الرضوان ، وتكلمت عن فرار الكافرين وهزيمتهم إذا ما قاتلوا المؤمنين ، وشرحت حكمة الله في كف الكافرين عن المؤمنين ، والمؤمنين عن الكافرين يوم فتح مكة ، وأنهت الحديث ببيان الله صدق رسوله رؤياه دخول المسجد الحرام ، وأن محمدا والذين آمنوا معه غلاظ على الكفار ، متراحمون فيما بينهم ، وبيان ما يعرف به المؤمنون ، وصفتهم في التوراة ، وصفتهم في الإنجيل ، ووعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة الواسعة والأجر العظيم .

1 - إنا فتحنا لك - يا محمد - فتحا عظيما مبينا بانتصار الحق على الباطل ، ليغفر لك الله ما تقدَّم مما يُعَدُّ لمثل مقامك ذنبا ، وما تأخر منه ، ويكمل نعمته عليك بانتشار دعوتك ، ويُثَبِّتَكَ على طريق الله المستقيم ، وينصرك الله على أعداء رسالتك نصراً قويا غاليا .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الفتح وهي مدنية

{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا }

هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية ، حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء معتمرا في قصة طويلة ، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، وعلى أن يعتمر من العام المقبل ، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل ، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده فعل .

وبسبب ذلك لما أمن الناس بعضهم بعضا ، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عز وجل ، وصار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار ، يتمكن من ذلك ، وأمكن الحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام ، فدخل الناس في تلك المدة في دين الله أفواجا ، فلذلك سماه الله فتحا ، ووصفه بأنه فتح مبين أي : ظاهر جلي ، وذلك لأن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله ، وانتصار المسلمين ، وهذا حصل بذلك{[789]}  الفتح ، ورتب الله على هذا الفتح عدة أمور ، فقال :


[789]:في ب: به.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفتح مدنية وآياتها تسع وعشرون

هذه السورة مدنية ، نزلت في السنة السادسة من الهجرة ، عقب صلح الحديبية ؛ وهي تتناول هذا الحادث الخطير وملابساته ؛ وتصور حال الجماعة المسلمة وما حولها في إبانه : فبين وقت نزولها ووقت نزول سورة " محمد " التي تسبقها في ترتيب المصحف ، نحو من ثلاث سنوات ، تمت فيها تغيرات هامة وخطيرة في أحوال الجماعة المسلمة في المدينة . تغيرات في موقفها وموقف المناوئين لها ، وتغيرات أهم في حالتها النفسية وصفتها الإيمانية ، واستوائها على المنهج الإيماني في إدراك ونضج عميق .

وقبل أن نتحدث عن السورة وجوها ودلالتها يحسن أن نمر بصورة للحادث الذي نزلت بصدده . لنعيش في الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه ، وهم يتلقون هذا التنزيل الكريم :

لقد أري رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في منامه أنه يدخل الكعبة هو والمسلمون محلقين رؤوسهم ومقصرين . وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة ، حتى في الأشهر الحرم التي يعظمها العرب كلهم في الجاهلية ، ويضعون السلاح فيها ؛ ويستعظمون القتال في أيامها ، والصد عن المسجد الحرام . حتى أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة ، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا ، ولا يصده عن البيت المحرم . ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن ؛ وصدوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة . حتى كان العام السادس الذي أريفيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هذه الرؤيا . وحدث بها أصحابه - رضوان الله عليهم - فاستبشروا بها وفرحوا .

ورواية ابن هشام لوقائع الحديبية هي أوفى مصدر نستند إليه في تصورها . وهي في جملتها تتفق مع رواية البخاري ورواية الإمام أحمد ومع تلخيص ابن حزم في جوامع السيرة وغيرهم .

قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالمدينة شهر رمضان وشوالا " بعد غزوة بني المصطلق وما جاء في أعقابها من حديث الإفك " وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا . واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ؛ وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت . فأبطأ عليه كثير من الأعراب . وخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بمن معه من المهاجرين والأنصار ، ومن لحق به من العرب ؛ وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له .

قال : وكان جابر بن عبد الله - فيما بلغني - يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة .

قال الزهري : وخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي . فقال : يا رسول الله ! هذه قريش قد سمعت بمسيركَ ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ؛ وقد نزلوا بذي طوى ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا . وهذا خالد بن الوليد في خيلهم ، قد قدموها إلى كراع الغميم . قال : فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب . ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ? فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة . فما تظن قريش ? فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السالفة " . ثم قال : " من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ? " . .

قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر ، أن رجلا من أسلم قال : أنا يا رسول الله . قال : فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب . فلما خرجوا منه - وقد شق ذلك على المسلمين - وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ، قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] للناس : " قولوا نستغفر الله ونتوب إليه " . فقالوا ذلك . فقال : " والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل ، فلم يقولوها "

قال ابن شهاب الزهري : فأمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الناس فقال : " اسلكوا ذات اليمين " بين ظهري الحمض في طريق على ثنية المرار ، مهبط الحديبية من أسفل مكة ؛ قال : فسلك الجيش ذلكالطريق . فلما رأت خيل قريش قترة الجيش ، قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش . وخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته . فقال الناس : خلأت الناقة . فقال : " ما خلأت . وما هو لها بخلق . ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " - [ وفي رواية البخاري ] : " والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها " . ثم قال للناس : " انزلوا " قيل له : يا رسول الله ، ما بالوادي ماء ينزل عليه . فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه . فنزل في قليب من تلك القلب ، فغرزه في جوفه ، فجاش بالرواء . .

فلما اطمأن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي ، في رجال من خزاعة ، فكلموه ، وسألوه ما الذي جاء به ? فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا ، وإنما جاء زائرا للبيت ، ومعظما لحرمته . ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان ؛ فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد . إن محمدا لم يأت لقتال ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت . فاتهموهم وجبهوهم ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا . فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدث بذلك عنا العرب .

وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مسلمها ومشركها ، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة . ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي . فلما رآه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ] مقبلا قال : " هذا رجل غادر " . فلما انتهى إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وكلمه ، قال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نحوا مما قال لبديل وأصحابه ؛ فرجع إلى قريش ، فأخبرهم بما قال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان . وكان يومئذ سيد الأحابيش ، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة . فلما رآه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " إن هذا من قوم يتألهون - يعني يتعبدون - فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه " . فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إعظاما لما رأى . فقال لهم ذلك . فقالوا له : إجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك !

قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك . وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم . أيصد عن بيت الله من جاء معظما له ? والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد . قال : فقالوا له : مه . كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به .

قال الزهري : ثم بعثوا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عروة بن مسعود الثقفي فقال : يا معشر قريش ، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم ، من التعنيف وسوء اللفظ . وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد - وكان نسبه لأمه في بني عبد شمس - وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني منقومي ، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي . قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتهم . فخرج حتى جاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فجلس بين يديه . ثم قال : يا محمد . أجمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ? إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا . وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا . قال : وأبو بكر خلف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قاعد . فزجره وقال : أنحن نكشف عنه ? قال : من هذا يا محمد ? قال : " هذا ابن أبي قحافة " . قال . أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها . ولكن هذه بها . قال : ثم جعل يتناول لحية رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يكلمه . قال : والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في الحديد . قال : فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويقول : أكفف يدك عن وجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قبل أن لا تصل إليك ! قال : فيقول عروة : ويحك ! ما أفظك وأغلظك ! قال : فتبسم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال له عروة : من هذا يا محمد ? قال : " هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة " . قال : أي غُدَر . وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ?

قال ابن هشام : أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف ، فتهايج الحيان من ثقيف : بنو مالك رهط المقتولين . والأحلاف رهط المغيرة . فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية . وأصلح ذلك الأمر .

قال ابن إسحاق : قال الزهري : فكلمه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بنحو مما كلم أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا . فقام من عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد رأى ما يصنع به أصحابه : لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه . فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إني جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ؛ وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا . فروا رأيكم .

قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على بعير له يقال له : الثعلب . ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له . فعقروا به جمل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله حتى جاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .

قال ابن إسحاق : وحدثني بعض من لا أتهم ، عن عكرمة مولى ابن عباس [ عن ابن عباس ] أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم ، أو خمسين رجلا ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا . فأخذوا أخذا ، فأتي بهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فعفا عنهم ، وخلى سبيلهم . وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالحجارة والنبل .

ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له . فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني . وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها . ولكني أدلك على رجل أعز بها مني . عثمان بن عفان . فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عثمان ابن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته .

قال ابن إسحاق : فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ، حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها ؛ فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما أرسله به ؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف . فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل .

قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال - حين بلغه ان عثمان قد قتل - : " لا نبرح حتى نناجز القوم " . فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة . فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على الموت . وكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لم يبايعنا على الموت ، ولكن بايعنا على أن لا نفر . فبايع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة . فكان جابر بن عبد الله يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها ، يستتر بها من الناس . ثم أتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل .

قال ابن هشام : وحدثني من أثق به ، عمن حدثه بإسناد له ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عمر ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بايع لعثمان ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى .

قال ابن إسحاق : قال الزهري : ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقالوا له : إيت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فو الله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا . فأتاه سهيل بن عمرو ، فلما رآه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مقبلا قال : - " قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل " . فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تكلم فأطال الكلام . وتراجعا . ثم جرى بينهما الصلح .

فلما التأم الأمر ، ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول الله ? قال : بلى ! قال : أولسنا بالمسلمين ? قال : بلى ! قال : أوليسوا بالمشركين ? قال : بلى ! قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ? قال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه ، فإني أشهد أنه رسول الله . قال عمر : وأنا أشهد انه رسول الله . ثم أتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : يا رسول الله ، ألست برسول الله ? قال : بلى ! قال : أولسنا بالمسلمين ? قال : بلى ! قال : أو ليسوا بالمشركين ? قال : بلى ! قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ? قال : " أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيعني " . قال : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ ، مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حين رجوت أن يكون خيرا .

قال : ثم دعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - فقال : " اكتب باسم الله الرحمن الرحيم " قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب باسمك اللهم . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] " اكتب باسمك اللهم " فكتبها . ثم قال : " اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو " . قال : فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك . قال : فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله . سهيل بن عمرو . اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه - فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقدة قريش وعهدهم - وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك ، فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا ، معك سلاح الراكب : السيوف في القرب ، لا تدخلها بغيرها . "

فبينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، إذ جاء أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد كان أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه ، ثم قال : يا محمد ، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا . قال : " صدقت " فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ? فزاد الناس إلى ما بهم . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله ، وإنا لا نغدر بهم " . قال : فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ، ويقول : اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب . قال : ويدني قائم السيف منه . قال : يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه . قال : فضن الرجل بأبيه ، ونفذت القضية .

فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين : أبو بكر الصديق ، عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص [ وهو يومئذ مشرك ] وعلي بن أبي طالب ، وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة .

قال الزهري : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لأصحابه : " قوموا فانحروا ثم احلقوا " قال : فو الله ما قام منهم رجل ، حتى قال [ صلى الله عليه وسلم ] ذلك ثلاث مرات . فلما لم يقم منهم أحد دخل - صلى الله عليه وآله وسلم - على أم سلمة - رضي الله عنها - فذكر لها ما لقي من الناس . قالت [ أم سلمة ] - رضي الله عنها - : يا نبي الله ، أتحب ذلك ? أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك . فخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بيده ، ودعا حالقه فحلقه . فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما .

قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس . قال : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يرحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ? قال : " يرحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ? قال : " يرحم الله المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ? قال : " والمقصرين " . فقالوا يا رسول الله ، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ? قال : " لم يشكوا " . .

قال الزهري في حديثه . . ثم انصرف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من وجهه ذلك قافلا . حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح .

وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن مجمع بن حارثة الأنصاري - رضي الله عنه - وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن . قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ? قالوا أوحي إلى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - فخرجنا مع الناس نوجف . فإذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) . . قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : أي رسول الله أو فتح هو ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح " . .

وروى الإمام أحمد بإسناده - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : كنا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في سفر . قال : فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي . قال : فقلت ثكلتك أمك يابن الخطاب . ألححت . كررت على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثلاث مرات ، فلم يرد عليك ! قال : فركبت راحلتي ، فحركت بعيري ، فتقدمت ، مخافة أن يكون نزل في شيء . قال : فإذا أنا بمناد يا عمر . قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء . قال : فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " . . [ ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه الله ] . .

هذا هو الجو الذي نزلت فيه السورة . الجو الذي اطمأنت فيه نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى إلهام ربه ، فتجرد من كل إرادة إلا ما يوحيه هذا الإلهام العلوي الصادق ؛ ومضى يستلهم هذا الإيحاء في كل خطوة وفي كل حركة ، لا يستفزه عنه مستفز ، سواء من المشركين أو من أصحابه الذين لم تطمئن نفوسهم في أول الأمر لقبول استفزاز المشركين وحميتهم الجاهلية . ثم أنزل الله السكينة في قلوبهم ، ففاءوا إلى الرضى واليقين والقبول الخالص العميق ؛ كإخوانهم الذين كانوا على هذه الحال منذ أول الأمر ، شأن الصديق أبي بكر الذي لم تفقد روحه لحظة واحدة صلتها الداخلية المباشرة بروح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]

ومن ثم بقيت على اطمئنانها دائما ، ولم تفارقها الطمأنينة أبدا .

ومن ثم جاء افتتاح السورة بشرى لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فرح لها قلبه الكبير فرحا عميقا : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما . وينصرك الله نصرا عزيزا ) .

كما جاء في الافتتاح ، الامتنان على المؤمنين بالسكينة ، والاعتراف لهم بالإيمان السابق وتبشيرهم بالمغفرة والثواب ، وعون السماء بجنود الله : ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا - مع إيمانهم - ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ، ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، ويكفر عنهم سيئاتهم ، وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ) . . ذلك مع ما أعده لأعدائهم من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات من غضب وعذاب : ( ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، الظانين بالله ظن السوء ، عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم ، وأعد لهم جهنم ، وساءت مصيرا ) . .

ثم التنويه ببيعة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واعتبارها بيعة لله ؛ وربط قلوب المؤمنين مباشرة بربهم عن هذا الطريق ، بهذا الرباط المتصل مباشرة بالله الحي الباقي الذي لا يموت : ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا . إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) .

وبمناسبة البيعة والنكث يلتفت - قبل إكمال الحديث عن المؤمنين ومواقفهم في الحديبية - إلى الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج ، فيفضح معاذيرهم ، ويكشف ما جال في خواطرهم من سوء الظن بالله ، ومن توقع السوء للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه . ويوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى ما ينبغي أن يكون موقفه منهم في المستقبل . وذلك في أسلوب يوحي بقوة المسلمين وضعف المخلفين ، كما يوحي بأن هنالك غنائم وفتوحا قريبة يسيل لها لعاب المخلفين المتباطئين :

سيقول لك المخلفون من الأعراب : شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا ، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، قل : فمن يملك لكم من الله شيئا ، إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا ? بل كان الله بما تعملون خبيرا . بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا ، وزين ذلك في قلوبكم ، وظننتم ظن السوء ، وكنتم قوما بورا . ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا . ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما . سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها : ذرونا نتبعكم ، يريدون أن يبدلوا كلام الله ، قل : لن تتبعونا . كذلكم قال الله من قبل . فسيقولون : بل تحسدوننا . بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا . قل للمخلفين من الأعراب : ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما .

وفي هذا الصدد يبين المعذورين إذا تخلفوا ، والمعفين من الجهاد لعجزهم عنه ، وهو العذر الوحيد : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج ، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ، ومن يتول يعذبه عذابا أليما . .

وبعد هذه اللفتة يعود سياق السورة للحديث عن المؤمنين ومواقفهم وخوالج نفوسهم ؛ حديثا كله رضى وشفافية ووضاءة وتكريم ؛ وكله بشريات لهذه النفوس الخالصة القوية ، البائعة المتجردة . حديثا يتجلى فيه الله جل جلاله على هذه المجموعة المختارة من البشر . يتجلى عليهم برضوانه وبشرياته وامتنانه وتثبيته . ويبلغهم بأشخاصهم وأعيانهم أنه عنهم راض ، وأنه كان حاضرهم وهم يبايعون في مكان بعينه : " تحت الشجرة " وأنه اطلع على ما في نفوسهم . وأنه رضيهم ورضي عنهم ، وأنه كتب لهم النصر في المستقبل والغنائم والفتوح ، وربط هذا كله بناموس الوجود وسنة الوجود . وهو أمر يقف له الوجود كله يشهد ويرقب ويتأثر ويسجل في أطوائه ذلك الحادث العظيم الفريد : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم ، وأثابهم فتحا قريبا . ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما . وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ، فعجل لكم هذه ، وكف أيدي الناس عنكم ، ولتكون آية للمؤمنين ، ويهديكم صراطا مستقيما ، وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا . ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا . سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) . .

ويمتن عليهم بأخذ عدوهم النفر الذين أرادوا بهم الأذى ؛ ويندد بأعدائهم الذين صدوهم عن المسجد الحرام ، وصدوا الهدي أن يبلغ محله ، ويتلطف معهم فيكشف لهم عن حكمته في كفهم هذا العام عنهم ؛ وفضله في ترضيتهم بما كان ، وإنزال سكينته في قلوبهم ، لأمر يراه ، وهو أعظم مما يرون . وهو فتح مكة ثم هيمنة هذا الدين على الدين كله بأمر الله وتدبيره : وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ، وكان الله بما تعملون بصيرا . هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله . ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ، ليدخل الله في رحمته من يشاء ، لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما . إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة التقوى ، وكانوا أحق بها وأهلها ، وكان الله بكل شيء عليما . لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون . فعلم ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا . .

وتختم السورة بالصفة الكريمة الوضيئة التي تميز هذه المجموعة المختارة من البشر ، وتفردها بسمتها الخاصة ، وتنوه بها في الكتب السابقة : التوراة والإنجيل . وبوعد الله الكريم بالمغفرة والأجر العظيم : ( محمد رسول الله ، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ، ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . .

وهكذا تصبح نصوص السورة مفهومة واضحة ، تعيش في جوها الذي نزلت فيه ، وتصوره أقوى تصوير ، بأسلوب القرآن الخاص الذي لا يفصل الحوادث بترتيبها وتسلسلها ؛ ولكنه يأخذ منها لمحات توجيهية وتربوية ؛ ويربط الحادثة المفردة بالقاعدة الشاملة . والموقف الخاص بالأصل الكوني العام . ويخاطب النفوس والقلوب بطريقته الفذة ومنهجه الفريد .

ومن سياق السورة وجوها ، وبالموازنة بينها وبين ايحاءات سورة محمد التي قبلها في ترتيب المصحف ؛ يتبين مدى ما طرأ على الجماعة المسلمة في موقفها كله من تغيرات عميقة ، في مدى السنوات الثلاث ، التي نرجحأنها تفرق بين السورتين في زمن النزول . ويتبين مدى فعل القرآن الكريم ، وأثر التربية النبوية الرشيدة لهذه الجماعة التي سعدت بالنشوء والنمو في ظلال القرآن ، وفي رعاية النبوة . فكانت ما كانت في تاريخ البشرية الطويل .

واضح في جو سورة الفتح وإيحاءاتها أننا أمام جماعة نضج إدراكها للعقيدة ، وتجانست مستوياتها الإيمانية ، واطمأنت نفوسها لتكاليف هذا الدين ؛ ولم تعد محتاجة إلى حوافز عنيفة الوقع كي تنهض بهذه التكاليف في النفس والمال ؛ بل عادت محتاجة إلى من يخفض حميتها ، وينهنه حدتها ، ويأخذ بزمامها لتستسلم للهدوء ، والمهادنة بعض الوقت ، وفق حكمة القيادة العليا للدعوة .

لم تعد الجماعة المسلمة تواجه بمثل قوله تعالى : ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ) . . ولا بمثل قوله تعالى : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم ) .

ولم تعد في حاجة إلى حوافز قوية للجهاد بالحديث عن الشهداء وما أعد الله لهم عنده من الكرامة ؛ ولا بيان حكمة الابتلاء بالقتال ومشقاته كما في سورة محمد إذ يقول الله تعالى : ( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ، ولكن ليبلو بعضكم ببعض ، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم ، ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) .

إنما صار الحديث عن السكينة التي أنزلها الله في قلوب المؤمنين ، أو أنزلها عليهم . والمقصود بها تهدئة فورتهم ، وتخفيض حميتهم ، واطمئنان قلوبهم لحكم الله وحكمة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] في المهادنة والملاينة ، وعن رضى الله عن المبايعين تحت الشجرة . وكانت هذه الصورة الوضيئة في نهاية السورة للرسول ومن معه .

أما الحديث عن الوفاء بالبيعة والنكث فيها في قوله تعالى : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) . . فالإيحاء فيه أكثر إلى تكريم المبايعين وتعظيم شأن البيعة . والإشارة إلى النكث جاءت بمناسبة الحديث عن الأعراب المتخلفين ، وكذلك الإشارة إلى المنافقين والمنافقات فهي إشارة عابرة ، تدل على ضعف موقف هذه الطائفة ، وعلى خلوص الجماعة المسلمة بالمدينة ونضوجها وتجانسها . وهي على كل حال إشارة عابرة لا تشغل من السورة شيئا مما شغله الحديث عن المنافقين في سورة محمد ، حيث كان للمنافقين شأنهم هم وحلفاؤهم اليهود . وهذا تطور آخر في موقف الجماعة المسلمة من ناحية موقفها الخارجي يساير ذلك التطور الذي تم في نفوسها من الداخل .

وواضح كذلك قوة المسلمين بالقياس إلى قوة المشركين في جو السورة كلها وفي آيات بنصها ؛ والإشارات إلى الفتوح المقبلة ، وإلى رغبة المخلفين في الغنائم السهلة واعتذارهم ، وإلى ظهور هذا الدين على الدين كله . . كلها تشي بما بلغت إليه قوة المسلمين في هذه الفترة بين نزول السورتين .

ففي حقيقة النفوس ، وفي حال الجماعة ، وفي الظروف المحيطة بها ، حدث تطور واضح ، يدركه من يتلمس خط السيرة في النصوص القرآنية . ولهذا التطور قيمته كما أن له دلالته على أثر المنهج القرآني والتربية المحمدية ، لهذه الجماعة السعيدة الفريدة في التاريخ . ثم إن لهذا التطور إيحائه للقائمين على الجماعات البشرية . فلا تضيق صدورهم بالنقص فيها والضعف ورواسب الماضي ومخلفاته ، وآثار البيئة والوسط ، وجواذب الأرض ، وثقلة اللحم والدم . . وكلها تبدو في أول العهد قوية عميقة عنيفة . ولكنها مع المثابرة والحكمة والصبر على العلاج ، تأخذ في التحسن والتطور . والتجارب والابتلاءات تعين على التحسن والتطور ، حين تتخذ فرصة للتربية والتوجيه . وشيئا فشيئا تخف ثقلة الطين ، وتشف كثافة اللحم والدم ، وتتوارى آثار البيئة ، وتصفو رواسب الماضي ، وتستشرف القلوب آفاقا أعلى فأعلى ، حتى ترى النور هناك على الأفق الوضيء البعيد . ولنا في رسول الله أسوة حسنة ، ولنا في المنهج القرآني صراط مستقيم .

( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويتم نعمته عليك ، ويهديك صراطا مستقيما ، وينصرك الله نصرا عزيزا ) . .

تفتتح السورة بهذا الفيض الإلهي على رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] : فتح مبين . ومغفرة شاملة . ونعمة تامة . وهداية ثابتة . ونصر عزيز . . إنها جزاء الطمأنينة التامة لإلهام الله وتوجيهه . والاستسلام الراضي لإيحائه وإشارته . والتجرد المطلق من كل إرادة ذاتية . والثقة العميقة بالرعاية الحانية . . يرى الرؤيا فيتحرك بوحيها . وتبرك الناقة ، ويتصايح الناس : خلأت القصواء . فيقول . " ما خلأت . وما هو لها بخلق . ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلى أعطيتهم إياها " . . ويسأله عمر بن الخطاب في حمية : فلم نعطي الدنية في ديننا ? فيجيبه : " أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني " . . ذلك وحين يشاع أن عثمان قتل يقول [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا نبرح حتى نناجز القوم " . . ويدعو الناس إلى البيعة ، فتكون بيعة الرضوان التي فاض منها الخير على الذين فازوا بها وسعدوا .

وكان هذا هو الفتح ؛ إلى جانب الفتح الآخر الذي تمثل في صلح الحديبية ، وما أعقبه من فتوح شتى في صور متعددة :

كان فتحا في الدعوة . يقول الزهري : فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه . إنما كان القتال حيث التقى الناس . فلما كانت الهدنة ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس بعضهم بعضا ، والتقوا ، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه . ولقد دخل في تينك السنتين " بين صلح الحديبية وفتح مكة " مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر .

قال ابن هشام : والدليل على قول الزهري أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله . ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف .

وكان ممن أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص .

وكان فتحا في الأرض . فقد أمن المسلمون شر قريش ، فاتجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تخليص الجزيرة من بقايا الخطر اليهودي - بعد التخلص من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة - وكان هذا الخطر يتمثل في حصون خيبر القوية التي تهدد طريق الشام . وقد فتحها الله على المسلمين ، وغنموا منها غنائم ضخمة ، جعلها الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فيمن حضر الحديبية دون سواهم .

وكان فتحا في الموقف بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة وسائر المشركين حولها . يقول الأستاذ محمد عزة دروزة بحق في كتابه : [ سيرة الرسول . صور مقتبسة من القرآن الكريم ] :

" ولا ريب في أن هذا الصلح الذي سماه القرآن بالفتح العظيم يستحق هذا الوصف كل الاستحقاق . بل إنه ليصح أن يعد من الأحداث الحاسمة العظمى في السيرة النبوية ، وفي تاريخ الإسلام وقوته وتوطده ، أو بالأحرى من أعظمها . فقد اعترفت قريش بالنبي والإسلام وقوتهما وكيانهما ، واعتبرت النبي والمسلمين أندادا لها ، بل دفعتهم عنها بالتي هي أحسن ، في حين أنها غزت المدينة في سنتين مرتين ، وكانت الغزوة الأخيرة قبل سنة من هذه الزيارة وبحشد عظيم مؤلف منها ومن أحزابها لتستأصل شأفتهم ، وبعثت هذه الغزوة في نفوس المسلمين أشد الاضطراب والهلع لضعفهم وقلتهم إزاء الغزاة . ولهذا شأن عظيم في نفوس العرب ، الذين كانوا يرون في قريش الإمام والقدوة ، والذين كانوا متأثرين بموقفهم الجحودي كل التأثر . وإذا لوحظ أن الأعراب كانوا يقدرون أن النبي والمسلمين لن يعودوا سالمين من هذه الرحلة ، وأن المنافقين كانوا يظنون أسوأ الظنون . بدت لنا ناحية من نواحي خطورة هذا الفتح وبعد مداه .

" ولقد أثبتت الأحداث صدق إلهام النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيما فعل ، وأيده فيه القرآن ، وأظهرت عظم الفوائد المادية والمعنوية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين منه . إذ قووا في عيون القبائل ، وبادر المتخلفون من الأعراب إلى الاعتذار ، وازداد صوت المنافقين في المدينة خفوتا وشأنهم ضآلة ، وإذ صار العرب يفدون على النبي[ صلى الله عليه وسلم ] من أنحاء قاصية ، وإذ تمكن من خضد شوكة اليهود في خيبر وغيرها من قراهم المتناثرة على طريق الشام ، وإذ صار يستطيع أن يبعث بسراياه إلى أنحاء قاصية كنجد واليمن والبلقاء ، وإذ استطاع بعد سنتين أن يغزو مكة ويفتحها ، وكان في ذلك النهاية الحاسمة ، إذ جاء نصر الله والفتح ، ودخل الناس في دين الله أفواجا " . .

ونحن نعود فنؤكد أنه كان هناك - إلى جانب هذا كله - فتح آخر . فتح في النفوس والقلوب ، تصوره بيعة الرضوان ، التي رضي عنها الله وعن أصحابها ذلك الرضى الذي وصفه القرآن . ورسم لهم على ضوئه تلك الصورة الوضيئة الكريمة في نهاية السورة : محمد رسول الله . والذين معه . . . الخ . فهذا فتح في تاريخ الدعوات له حسابه ، وله دلالته ، وله آثاره بعد ذلك في التاريخ .

ولقد فرح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بهذه السورة . فرح قلبه الكبير بهذا الفيض الرباني عليه وعلى المؤمنين معه . فرح بالفتح المبين . وفرح بالمغفرة الشاملة ، وفرح بالنعمة التامة ، وفرح بالهداية إلى صراط الله المستقيم . وفرح بالنصر العزيز الكريم . وفرح برضى الله عن المؤمنين ووصفهم ذلك الوصف الجميل . وقال - في رواية - : " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها " . . وفي رواية : " لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " . . وفاضت نفسه الطيبة بالشكر لربه على ما أولاه من نعمته . فاضت بالشكر في صورة صلاة طويلة مديدة ، تقول عنها عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا صلى قام حتى تنفر رجلاه ، فقالت له عائشة - رضي الله عنها - يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ? فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا ? " . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية

قال الإمام أحمد{[1]} حدثنا وَكِيع ، حدثنا شُعْبَة ، عن معاوية بن قرة قال : سمعت عبد الله بن مغفل يقول : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجَّع فيها - قال معاوية : لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت لكم قراءته ، أخرجاه من حديث شعبة به{[2]} .

نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله . فلما نحر هديه حيث أحصر ، ورجع ، أنزل الله ، عز وجل ، هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روى عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية .

وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية {[3]} .

وقال{[4]} البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحًا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر . فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاها فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ، ثم تمضمض ودعا ، ثم صبه فيها ، فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا {[5]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح ، حدثنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه {[6]} ، عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، قال : فسألته عن شيء - ثلاث مرات – فلم يرد علي ، قال : فقلت لنفسي : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك ؟ قال : فركبت راحلتي فتقدمت مخافة أن يكون نزل في شيء ، قال : فإذا أنا بمناد ينادي : يا عمر ، أين عمر ؟ قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نزلت{[7]} علي الليلة {[8]} سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } .

ورواه البخاري ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن مالك ، رحمه الله{[9]} ، وقال علي بن المديني : هذا إسناد مديني [ جيد ]{[10]} لم نجده إلا عندهم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض " ، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هنيئا مريئا يا نبي الله ، لقد بين الله ، عز وجل ، ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } حتى بلغ : { فَوْزًا عَظِيمًا } [ الفتح : 5 ] ، أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به{[11]} .

وقال{[12]} الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا مُجَمِّعُ بن يعقوب ، قال : سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن أبي يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري - وكان أحد{[13]} القراء الذين قرءوا القرآن - قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } ، قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله ، وفتح هو ؟ قال : " إي والذي نفس محمد بيده ، إنه لفتح " . فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما ، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهما .

رواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى ، عن مجمع بن يعقوب ، به{[14]} .

وقال{[15]} ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا أبو بحر ، حدثنا شعبة ، حدثنا جامع بن شداد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول{[16]} : لما أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا ، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم ، قال : فقلنا : " امضوا " {[17]} . فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : " افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك [ يفعل ] {[18]} من نام أو نسي " . قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبنها ، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة ، فأتيته بها فركبها {[19]} ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه [ الوحي ]{[20]} اشتد عليه ، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } .

وقد رواه أحمد وأبو داود ، والنسائي من غير وجه ، عن جامع بن شداد به {[21]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة ، قال : سمعت المغيرة بن شعبة{[22]} يقول : كان النبي {[23]} صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه ، فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " أفلا أكون عبدًا شكورًا " .

أخرجاه{[24]} وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به{[25]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر ، عن ابن قسيط ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه{[26]} .

فقالت له عائشة : يا رسول الله ، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا ؟ " .

أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب ، به{[27]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الله بن عون الخراز - وكان ثقة بمكة - حدثنا محمد بن بشر{[28]} حدثنا مسعر ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه - أو قال ساقاه - فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبدًا شكورًا ؟ " غريب من هذا الوجه {[29]} .

فقوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } أي : بينا ظاهرا ، والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض{[26760]} ، وتكلم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان .


[1]:زيادة من أ.
[2]:ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
[3]:في د: "وأديت".
[4]:في د: "إنهم قالوا".
[5]:في د: "تكفروهما".
[6]:تفسير الطبري (11/228).
[7]:في د: "ومال".
[8]:في د: "أن يعذب".
[9]:في د: "اللهم إني أعوذ بك".
[10]:في د: "لا يحتسبون".
[11]:في د: "وجلس".
[12]:في د: "فإذا هو بسمكة".
[13]:في د: "الغالبة".
[14]:في د: "وضربوهما".
[15]:في ف، أ: "زاكية".
[16]:في ف: "قد بلغت مني" وهو خطأ.
[17]:في إسناده عاصم وقد تكلم فيه وشيخه مجهول. ورواه البخاري في صحيحه برقم (4569) ومسلم في صحيحه برقم (763) من طريق كريب عن ابن عباس بنحوه.
[18]:صحيح البخاري برقم (4725).
[19]:في جـ، ر، أ، و: "بيضاء".
[20]:في ت، ف، أ: "فذكره بنحوه".
[21]:في ت، ف، أ: "عن".
[22]:في ت: "قال: فأصاب".
[23]:في أ: "وسباق".
[24]:صحيح البخاري برقم (4727).
[25]:في أ: "فقال وقال".
[26]:في ت: "هل على الأرض"، وفي ف: "هل في الناس".
[27]:في ت: "فبينما".
[28]:في ف، أ: "يريان".
[29]:في و: "طريق أخرى: قال عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا".
[26760]:- (1) في م: "بعضا".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

ِ( 48 ) سورة الفتح مدنية

وآياتها تسع وعشرون .

هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الحديبية وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس وابن مسعود{[1]} وغيرهما تقتضي صحته وهي بهذا في حكم المدني وقال الزهراوي عن مجاهد وعن ابن عباس إنها نزلت بالمدينة والأول أصح ويشبه أن منها بعضا نزل بالمدينة وأما صدر السورة ومعظمها فكما قلنا ويقضي بذلك قول النبي عليه السلام لعمر وهما في تلك السفرة ( لقد نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها ){[2]} قال القاضي أبو محمد ذكر مكي هنا ان المعنى بشرط أن تبقى الدنيا ولا تفنى وفي هذا نظر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في تلك الوجهة ليعتمر بمكة فصده المشركون القصة المشهورة سنة ست من الهجرة

قال قوم فيما حكى الزهراوي { فتحنا لك } يريد به فتح مكة ، وحكاه الثعلبي أيضاً ، ونسبه النقاش إلى الكلبي . وأخبره تعالى به على معنى : قضينا به . والفتاح : القاضي بلغة اليمن ، وقيل المراد : { إنا فتحنا لك } بأن هديناك إلى الإسلام ليغفر . وقال جمهور الناس : والصحيح الذي تعضده قصة الحديبية أن قوله : { إنا فتحنا لك } إنما معناه : إن ما يسر الله لك في تلك الخرجة فتح مبين تستقبله ، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين ، لأنهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي عليه السلام فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت ومذهبه : ما كان في قلوبهم ، ومنه حديث عمر الشهير وما قاله للنبي عليه السلام ولأبي بكر واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو ، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه سهمه وثاب الماء حتى كفى الجيش ، واتفقت بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم ، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب . وبلغ هديه محله ، قاله الشعبي واستقبل فتح خيبر ، وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً ، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية ولم يشركهم فيها أحد .

قال القاضي أبو محمد : وفيه نظر ، لأن أصحاب السفينة مع جعفر بن أبي طالب شاركوهم في القسم ، فينبغي أن يقال لم يشاركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية ، واتفقت في ذلك الوقت ملحمة عظيمة بين الروم وفارس ظهرت فيها الروم ، فكانت من جملة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسر بها هو والمؤمنون لظهور أهل الكتاب على المجوس وانخضاد الشوكة العظمى من الكفر .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.