{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا *وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }
هاتان الآيتان أصل في رخصة القصر ، وصلاة الخوف ، يقول تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : في السفر ، وظاهر الآية [ أنه ] يقتضي الترخص{[225]} في أي سفر كان ولو كان سفر معصية ، كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، وخالف في ذلك الجمهور ، وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم ، فلم يجوزوا الترخص{[226]} في سفر المعصية ، تخصيصا للآية بالمعنى والمناسبة ، فإن الرخصة سهولة من الله لعباده إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا ، والعاصي بسفره لا يناسب حاله التخفيف .
وقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } أي : لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك ، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل ، لأن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس ، بل ولا ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى آخر الآية .
وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة ، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة ، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه .
ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران :
أحدهما : ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره .
والثاني : أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد ، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته .
وقوله : { أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان :
إحداهما : أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود ، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ ، فإتيانه بقوله : { مِنَ الصَّلَاةِ } ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط ، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
الثانية : أن { من } تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها ، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين .
فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة ، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد ، وهو قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما ، السفر مع الخوف .
ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله : { أَنْ تَقْصُرُوا } قصر العدد فقط ؟ أو قصر العدد والصفة ؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول .
وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا ؟ أي : والله يقول : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " أو كما قال .
فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها ، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد .
وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر ، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة ، وهي اجتماع السفر والخوف ، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده ، الذي هو مظنة المشقة .
وأما على الوجه الثاني ، وهو أن المراد بالقصر : قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه ، فإذا وجد السفر والخوف ، جاز قصر العدد ، وقصر الصفة ، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط ، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة . ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ }
ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية ، وفي النظام الإسلامي ، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني . . وقد عدته الشيعة ركنا من أركان الإسلام - ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا . لولا ما ورد في حديث : " بني الإسلام على خمس . . . " ولكن قوة التكليف بالجهاد ؛ وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية ؛ وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض - الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية - كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته .
ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية ؛ وأنها قد تحجم أمام الصعاب ، أو تخاف أمام المخاطر ، وتكسل أمام العقبات ، في خير الأزمنة وخير المجتمعات . وأن منهج العلاج في هذه الحالة ، ليس هو اليأس من هذه النفوس . ولكن استجاشتها ، وتشجيعها ، وتحذيرها ، وطمأنتها في آن واحد . وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم .
وأخيرا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة ؛ ويقود المجتمع المسلم ؛ ويخوض المعركة - في كل ميادينها - وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية ؛ وطبائعها الفطرية ، ورواسبها كذلك من الجاهلية . وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن ، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله .
بعد ذلك يستطرد الى رخصة ، يبيحها الله للمهاجرين ، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة . في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى . فيفتنوهم عن دينهم . وهي رخصة القصر من الصلاة - وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقا سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف - فهذا قصر خاص .
( وإذا ضربتم في الأرض ، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة - إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا - إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينًا ) . .
إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه ، تعينه على ما هو فيه ، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه ، وما هو مرصود له في الطريق . . والصلاة أقرب الصلات إلى الله . وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات . فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) . .
ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب ، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار . فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله . وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجى ء إلى حمى الله . . غير أن الصلاة الكاملة - وما فيها من قيام وركوع وسجود - قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب . أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه . أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه . . ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر في الصلاة عند مخافة الفتنة .
والمعنى الذي نختاره في القصر هنا هو المعنى الذي اختاره الإمام الجصاص . وهو أنه ليس القصر في عدد الركعات بجعلها اثنتين في الصلاة الرباعية . فهذا مرخص به للمسافر إطلاقا ، بلا تخصيص حالة الخوف من الفتنة . بل هذا هو المختار في الصلاة للمسافر - كفعل رسول الله [ ص ] في كل سفر - بحيث لا يجوز إكمال الصلاة في السفر في أرجح الأقوال .
وإذن فهذه الرخصة الجديدة - في حالة خوف الفتنة - تعني معنى جديدا غير مجرد القصر المرخص به لكل مسافر . إنما هو قصر في صفة الصلاة ذاتها . كالقيام بلا حركة ولا ركوع ولا سجود ولا قعود للتشهد . حيث يصلي الضارب في الأرض قائما وسائرا وراكبا ، ويومى ء للركوع والسجود .
وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنه ، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة ، ويأخذ حذره من عدوه :
يقول تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي : سافرتم في البلاد ، كما قال تعالى : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ [ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ]{[8180]} } الآية [ المزمل : 20 ] .
وقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } أي : تخَفّفوا فيها ، إما من كميتها بأن تجعل{[8181]} الرباعية ثنائية ، كما فهمه الجمهور من هذه الآية ، واستدلّوا بها على قصر الصلاة في السفر ، على اختلافهم في ذلك : فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة ، من جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، أو طلب علم ، أو زيارة ، وغير ذلك ، كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ، ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه ، لظاهر قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا }
ومن قائل{[8182]} لا يشترط سفر القربة ، بل لا بد أن يكون مباحا ، لقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ [ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]{[8183]} } [ المائدة : 3 ] أباح له تناول الميتة مع اضطراره إلا بشرط ألا يكون عاصيا بسفره . وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة .
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رجل تاجر ، أختلف إلى البحرين " فأمره أن يصلي ركعتين " وهذا مرسل{[8184]} .
ومن قائل : يكفي مطلق السفر ، سواء كان مباحا أو محظورا ، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ، تَرَخَّص ، لوجود مطلق السفر . وهذا قول أبي حنيفة ، رحمه الله ، والثوري وداود ، لعموم الآية وخالفهم الجمهور . وأما قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد يكون هذا خُرِّج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو في سرية خاصة ، وسائر الأحيان حرب الإسلام وأهله ، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له ، كقوله{[8185]} { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [ النور : 33 ] ، وكقوله :{[8186]} { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } الآية [ النساء : 23 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابَيْه ، عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقد أمَّن الله الناس{[8187]} ؟ فقال لي عمر : عجبتُ مما عجبتَ منه ، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته " .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن ، من حديث ابن جريج ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ، به . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح من حديث عمر ، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ، ورجاله معروفون{[8188]} وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك بن مِغْول ، عن أبي حنظلة الحذَّاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان . فقلت : أين قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم{[8189]} .
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى ، حدثنا علي بن محمد بن سعيد ، حدثنا مِنْجَاب ، حدثنا شُرَيْك ، عن قيس بن وهب ، عن أبي الودَّاك : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر ؟ فقال : هي رخصة ، نزلت من السماء ، فإن شئتم فردوها .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا ابن عَوْن ، عن ابن سِيرِين ، عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ، ونحن آمنون ، لا نخاف بينهما ، ركعتين ركعتين .
وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد الحذَّاء{[8190]} عن عبد الله بن عون ، به{[8191]} قال أبو عمر بن عبد البر : وهكذا رواه أيوب ، وهشام ، ويزيد بن إبراهيم التُّسْتَرِي ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .
قلت : وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن هُشَيم ، عن منصور بن زَاذَان ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة ، لا يخاف إلا ربَّ العالمين ، فصلى ركعتين ، ثم قال الترمذي : صحيح{[8192]} .
وقال البخاري : حدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال : سمعت أنسا يقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة . قلت : أقمتم بمكة شيئا ؟ قال : أقمنا بها عَشْرًا .
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي ، به{[8193]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سُفْيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن وهب الخُزَاعي قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى - أكثر ما كان الناس وآمنه - ركعتين .
ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عنه ، به{[8194]} ولفظ البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أنبأنا أبو إسحاق ، سمعت حارثة بن وهب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين .
وقال البخاري : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، حدثنا عبيد الله ، أخبرنا نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وأبي بكر وعمر ، ومع عثمان صدرا من إمارته ، ثم أتمها .
وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان [ الأنصاري ]{[8195]} به{[8196]} .
وقال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الواحد ، عن الأعمش ، حدثنا إبراهيم ، سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، بمنى أربع ركعات ، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي مع{[8197]} أربع ركعات ركعتان متقبلتان .
ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري ، عن الأعمش ، به . وأخرجه مسلم من طرق ، عنه . منها عن قتيبة كما تقدم{[8198]} .
فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ؛ ولهذا قال من قال من العلماء : إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية . وهو قول مجاهد ، والضحاك ، والسدي كما سيأتي بيانه ، واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فَأقرَّت صلاة السفر ؛ وَزِيد في صلاة الحضر .
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنَّيسي ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القَعْنَبي ، والنَّسائي عن قتيبةَ ، أربعتهم عن مالك ، به{[8199]} .
قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين ، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية ؛ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } ؟
وأصرح من ذلك دلالة على هذا ، ما رواه الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان - وعبد الرحمن حدثنا سفيان - عن زُبَيْد اليامي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر ، رضي الله عنه ، قال : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى{[8200]} ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه ، من طرق عن زُبَيْد اليامي{[8201]} به{[8202]} .
وهذا إسناد على شرط مسلم . وقد حَكَم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى ، عن عمر . وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره ، وهو الصواب إن شاء الله . وإن كان يحيى بن مَعين ، وأبو حاتم ، والنسائي قد قالوا : إنه لم يسمع منه . وعلى هذا أيضا ، فقد وقع في بعض طرق أبي يَعْلى الموصِلي ، من طريق الثوري ، عن زُبَيد ، عن عبد الرحمن [ بن أبي ليلى ]{[8203]} عن الثقة ، عن عمر فذكره ، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن ، عن كعب بن عُجْرَة ، عن عمر ، به . ، فالله أعلم{[8204]} .
وقد روى مسلم في صحيحه ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث أبي عَوَانة الوضاح بن عبد الله اليَشْكُري - زاد مسلم والنسائي : وأيوب بن عائد - كلاهما عن بُكَير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ، [ هكذا رواه وكيع وروح بن عبادة عن أسامة بن زيد الليثي : حدثني الحسن بن مسلم بن يَسَاف عن طاوس عن ابن عباس قال : فرض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين ]{[8205]} فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها ، فكذلك يصلى في السفر{[8206]} .
ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد ، عن طاوس نفسه{[8207]} .
فهذا ثابت عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[8208]} ولا ينافي ما تقدم عن عائشة ؛ لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر ، فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع ، كما قاله ابن عباس ، والله أعلم . لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان ، وأنها تامة غير مقصورة ، كما هو مصرح به في حديث عمر ، رضي الله عنه ، وإذا كان كذلك ، فيكون المراد بقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ؛ ولهذا قال : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ]{[8209]} } .
ولهذا قال بعدها : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ]{[8210]} } الآية{[8211]} فبين المقصود من القصر هاهنا وذكر صفته وكيفيته ؛ ولهذا لما اعتضد{[8212]} البخاري " كتاب{[8213]} صلاة الخوف " صدره بقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } إلى قوله : { إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }
وهكذا قال جُوَيبر ، عن الضحاك في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } قال : ذاك عند القتال ، يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه .
وقال أسباط ، عن السدي في قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ } الآية : إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام ، التقصير لا يحل ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة ، فالتقصير ركعة .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسفان والمشركون{[8214]} بضجْنان ، فتوافقوا ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا ، فَهَمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم .
روى ذلك ابن أبي حاتم . ورواه ابن جرير ، عن مجاهد والسدي ، وعن جابر وابن عمر ، واختار ذلك أيضا ، فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب . وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا ابن أبي فُدَيْك ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد : أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ، ولا نجد قصر صلاة المسافر ؟ فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به .
فقد سمى صلاة الخوف مقصورة ، وحمل الآية عليها ، لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر على ذلك ، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن .
وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا : حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سِمَاك الحنفي : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان تمام غير قصر ، إنما القصر صلاة المخافة . فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة{[8215]} .
... فكان بينا في كتاب الله تعالى أن قصر الصلاة في الضرب في الأرض والخوف تخفيف من الله عز وجل عن خلقه، لا أن فرضا عليهم أن يقصروا،... أخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الرحمان بن عبد الله بن أبي عمار، عن عبد الله بن باباه، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله عز وجل: {أن تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلَوَاةِ إِنْ خِفْتُمُ أَنْ يَّفْتِنَكُمُ اَلذِينَ كَفَرُواْ}. فقد أمن الناس؟! فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»...
التقصير لمن خرج غازيا خائفا، في كتاب الله عز وجل... وقال الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوَاتِ وَالصَّلَواةِ اِلْوُسْطى} إلى {رُكْبَانًا} فدل إرخاصه في أن يصلوا رجالا وركبانا على أن الحال التي أذن لهم فيها بأن يصلوا رجالا وركبانا من الخوف، غير الحال الأولى التي أمرهم فيها أن يحرس بعضهم بعضا. فعلمنا أن الخوفين مختلفان، وأن الخوف الآخر الذي أذن لهم فيه أن يصلوا رجالا وركبانا، لا يكون إلا أشد من الخوف الأول...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ}: وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض، {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ}: فليس عليكم حرج ولا إثم، {أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ}: أن تقصروا من عددها، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعا، اثنتين، في قول بعضهم. وقيل: معناه: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقلّ عددها في حال ضربكم في الأرض، أشار إلى واحدة في قول آخرين.
وقال آخرون: معنى ذلك لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. يعني: إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وفتنتهم إياهم فيما حملهم عليهم وهم فيها ساجدون، حتى يقتلوهم أو يأسروهم، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له.
ثم أخبرهم جلّ ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال: {إنّ الكافِرينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا} يعني: الجاحدون وحدانية الله كانوا لكم عدوّا مبينا، يقول: عدوّا قد أبانوا لكم عداوتهم، بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة.
واختلف أهل التأويل في معنى القصر الذي وضع الله الجناح فيه عن فاعله، فقال بعضهم: في السفر من الصلاة التي كان واجبا تمامها في الحضر أربع ركعات، وأذن في قصرها في السفر إلى اثنتين... حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا يوسف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن عليّ، قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنّا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بحَوْل، غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم! فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين: {إنْ خفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا إنّ الكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا وإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}... إلى قوله: {إنّ اللّهَ أعَدّ للكافِرينَ عَذَابا مُهِينا} فنزلت صلاة الخوف.
وهذا تأويل للآية حسن لو لم يكن في الكلام «إذا»، وإذا تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها، ولو لم يكن في الكلام «إذا» كان معنى الكلام على هذا التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق: إن خفتم أيها المؤمنون أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم، وكنت فيهم يا محمد، فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك، الآية. وبعد، فإن ذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ بن كعب: «وإذا ضَرَبْتُم في الأرض فليس عليكم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا من الصّلاة أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا».
وهذه القراءة تنبئ على أن قوله: {إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا} مواصل قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} وأن معنى الكلام: وإذا ضربتم في الأرض فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، وأن قوله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ} قصة مبتدأة غير قصة هذه الآية. وذلك أن تأويل قراءة أبيّ هذه التي ذكرناها عنه: «وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا»، فحذفت «لا» لدلالة الكلام عليها، كما قال جلّ ثناؤه: {يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا} بمعنى: أن لا تضلوا. ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق.
وقال آخرون: بل هو القصر في السفر، غير أنه إنما أذن جلّ ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدوّ يخشى أن يفتنه في صلاته. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا ابن أبي فديك، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، أنه قال لعبد الله بن عمر: إنّا نجد في كتاب الله قصر الصلاة في الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به.
وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية: قصر صلاة الخوف في غير حال المسايفة، قالوا: وفيها نزل. عن مجاهد في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} قال: يوم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنَان، فتواقفوا، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين أو أربعا، شكّ أبو عاصم ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا. فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله عليه: {فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فصلى العصر، فصفّ أصحابه صفين، ثم كبر بهم جميعا، ثم سجد الأوّلون سجدة والاَخرون قيام، ثم سجد الاَخرون حين قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم كبر بهم وركعوا جميعا، فتقدم الصفّ الاَخر، واستأخر الأوّل، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أوّل مرّة وقصر العصر إلى ركعتين، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سُلَيْم.
وقال آخرون: بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف، إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر، لا في صلاة الإقامة. قالوا: وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان تمام غير قصر، كما أن صلاة الإقامة أربع ركعات في حال الإقامة، قالوا: فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم، فجعلت على النصف، وهي تمام في السفر، ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه، فجعلت على النصف ركعة. عن السديّ: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا}... إلى قوله: {عَدُوّا مُبِينا} إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام، والتقصير لا يحلّ إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة والتقصير ركعة، يقوم الإمام، ويقوم جنده جندين، طائفة خلفه، وطائفة يوازون العدوّ، فيصلي بمن معه ركعة ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتلك المشية القهقرى، ثم تأتى الطائفة الأخرى، فتصلى مع الإمام ركعة أخرى، ثم يجلس الإمام فيسلم، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة ثم يرجعون إلى صفهم، ويقوم الاَخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة، والناس يقولون: لا، بل هي ركعة واحدة، لا يصلى أحد منهم إلى ركعته شيئا، تجزئه ركعة الإمام، فيكون للإمام ركعتان، ولهم ركعة، فذلك قول الله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ}... إلى قوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}.
عن جابر بن عبد الله، قال: صلاة الخوف ركعة.
وقال آخرون: عَنى به القَصْر في السفَر، إلا أنه عنى به القصْر في شدّة الحرب وعند المسايفة، فأبيح عند التحام الحرب للمصلى أن يركع ركعة إيماء برأسه حيث توجه بوجهه. قالوا: فذلك معنى قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا}. عن ابن عباس: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ}... الآية، قصر الصلاة إن لقيت العدوّ وقد حانت الصلاة أن تكبر الله وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا.
وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: عَنَى بالقْصر فيها القصر من حدودها، وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها مستقبل القبلة فيها ومستدبرها وراكبا وماشيا، وذلك في حال الشبكة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف، وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى: {فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكبْانا} وأذن بالصلاة المكتوبة فيها راكبا إيماء بالركوع والسجود على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا} لدلالة قول الله تعالى: {فإذَا اطْمأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ} على أن ذلك كذلك¹ لأن إقامتها إتمام حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبة في حال الخوف.
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك أمر من الله بإتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم غير مقيم صلاته لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين، فذلك قول إن قاله قائل مخالف لما عليه الأمة مجمعة من أن المسافر لا يستحقّ أن يقال له: إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين أنه غير مقيم صلاته. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفا من عدوّه أن يفتنه، أن يقيم صلاته إذا اطمأنّ وزال الخوف، كان معلوما أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف، وإذ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة إقامة صلاته، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة ترك إقامتها. وقد دللنا على أن ترك إقامتها، إنما هو ترك حدودها على ما بينا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
القَصْرُ في الصلاة سُنَّةٌ في السفر، وكان في ابتداء الشرع عند الخوف، فأقرَّ ذلك مع زوال الخوف رفقاً بالعباد، فلما دخل الفرضَ القَصرُ لأجل السفر عوضوا بإباحة النَّفل في السفر على الراحلة أينما توجهت به دابته من غير استقبال، فكذلك الماشي؛ ليُعْلَم أنَّ الإذنَ في المناجاة مستديمٌ في كل وقت؛ فإن أردْتَ الدخول فمتى شئت، وإن أردت التباعد مترخصاً فلك ما شئت، وهذا غاية الكرم، وحفظ سُنَّة الوفاء، وتحقق معنى الولاء...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا} الآية نزلت في إباحة قصر الصلاة في السفر وظاهر القرآن يدل على أن القصر يستباح بالسفر والخوف لقوله {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} أي يقتلكم، والإجماع منعقد على أن القصر يجوز في السفر من غير خوف وثبتت السنة بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ذكر الخوف في الآية على حال غالب أسفارهم في ذلك الوقت...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: فما تصنع بقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ}؟ قلت: كأنهم ألفوا الإتمام، فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ}:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَصْرَ قَصْرُ عَدَدٍ، وَهُمُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا قَصْرُ الْحُدُودِ وَتَغْيِيرُ الْهَيْئَاتِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الْقَصْرَ فِي الْعَدَدِ قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَرْبَعٍ إلَى اثْنَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَقْصُرُ مِنِ اثْنَيْنِ إلَى وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا؛ فَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ هَيْئَتِهَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا حَالَةَ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الْقَصْرُ مِنْ عَدَدِهَا إلَى ثِنْتَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا فِي حَالَةِ الْأَمْنِ.
وَأَمَّا الْقَصْرُ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ إلَى وَاحِدَةٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً. وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ بَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إنْ خِفْتُمْ}: فَشَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَوْفَ فِي الْقَصْرِ...
وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَصْرَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرُخْصَةٌ لَا عَزِيمَةَ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ -بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ- عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا أَتَمَّ بِمِنى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ».
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أوجب السفر للجهاد والهجرة، و كان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء؛ ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله سبحانه وتعالى: {وإذا ضربتم} أي بالسفر {في الأرض} أيّ سفر كان لغير معصية. ولما كان القصر رخصة غير عزيمة، بينه بقوله: {فليس عليكم جناح} أي إثم وميل في {أن تقصروا} ولما كان القصر خاصاً ببعض الصلوات، أتى بالجار لذلك ولإفادة أنه في الكم لا في الكيف فقال: {من الصلاة} أي فاقصروا إن أردتم وأتموا إن أردتم، وبينت السنة أعيان الصلوات المقصورات، وكم يقصر منها من ركعة، وأن القصر من الكمية لا من الكيفية بالإيماء... ولما ذكر الخوف منهم، علله مشيراً بالإظهار موضع الإضمار، وباسم الفاعل إلى أن من تلبس بالكفر ساعة ما، أعرق فيه، أو إلى أن المجبول على العداوة المشار إليه بلفظ الكون إنما هو الراسخ في الكفر المحكوم بموته عليه فقال: {إن الكافرين} أي الراسخين منهم في الكفر {كانوا} أي جبلة وطبعاً. ولعله اشار إلى أنهم مغلوبون بقوله: {لكم} دون عليكم {عدواً} ولما كان العدو مما يستوي فيه الواحد والجمع قال: {مبيناً} أي ظاهر العداوة، يعدون عليكم لقصد الأذى مهما وجدوا لذلك سبيلاً، فربما وجدوا الفرصة في ذلك عند طول الصلاة فلذلك قصرتها، ولولا أنها لا رخصة فيها بوجه لوضعتها عنكم في مثل هذه الحالة، أو جعلت التخفيف في الوقت فأمرت بالتأخير، ولكنه لا زكاء للنفوس بدون فعلها على ما حددت من الوقت وغيره...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
السياق في أحكام الجهاد في سبيل الله وجاء فيه حكم الهجرة. والصلاة فرض لازم في كل حال لا يسقط في وقت القتال ولا في أثناء الهجرة ولا غير الهجرة من أيام السفر، ولكن قد تتعذر أو تتعسر في السفر وحال الحرب إقامتها فرادى وجماعة كما أمر الله تعالى أن تقام في صورتها ومعناها، فناسب في هذا المقام أن يبين الله تعالى ما يريد أن يرخص لعباده فيه من القصر من الصلاة في هاتين الحالتين فقال: {وإذا ضربتم في الأرض}... وقال ههنا ضربتم في الأرض ولم يقل: {ضربتم في سبيل الله} كما قال في الآية (93) من هذه السورة الواردة في حكم إلقاء السلام في الحرب لأن هذه أعم فهي رخصة لكل مسافر ولو لم يكن سفره في سبيل الله للدفاع عن الحق وإقامة الدين بأن كان للتجارة أو لمجرد السياحة مثلا، وإذا كان السفر في سبيل الله فالمسافر أحق بالرخصة وهي له أولا وبالذات بقرينة السياق وما جاء في الآية التي بعد هذه {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} أي فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجة دين الله وهو الحنيفية السمحة في القصر من الصلاة. والجناح فسر بالإثم وبالتضييق وبالميل عن الاستواء قيل هو من جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها قاله الراغب وهو الذي فسر جنوح السفينة بما ذكر، وفسره غيره بأنه عبارة عن بلوغها أرضا رقيقة تغرز فيها ويمتنع جريها، وهذا المعنى يناسب الجناح أيضا على أن الجنوح معناه الميل وهو من الجنح بالكسر بمعنى الجانب. ومن فسر الجناح بالتضييق أخذه من قولهم جنح البعير (بصيغة المجهول) إذا انكسرت جوانحه (أضلاعه) لثقل حمله، وتفسيره بالإثم مأخوذ من هذا أيضا وهو مجاز. والقصر (بالفتح) (كعنب) ضد الطول وقصرت الشيء جعلته قصيرا...
فقوله تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} شرط لنفي الجناح في قصر الصلاة، والفتنة الإيذاء بالقتل أو غيره كما صرح به بعضهم وأصله الاختبار بالمكروه والأذى كما تقدم من قبل...
{إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا} تعليل لتوقع الفتنة من الذين كفروا أي كان شأنهم أنهم أعداء مظهرون للعداوة بالقتال والعدوان...
والقصر المذكور في الآية الأولى هنا ليس هو قصر الصلاة الرباعية في السفر المبين بشروطه في كتب الفقه فذلك مأخوذ من السنة المتواترة، وأما ها هنا فهو في صلاة الخوف كما ورد عن بعض الصحابة وغيرهم من السلف، والشرط فيها على ظاهره، والقول بأنه لبيان الواقع فلا مفهوم له لغوٌ من القول لا يجوز أن يقال في أعلى الكلام وأبلغه، فهذا القصر المذكور في الآية الأولى هو المبين في الآية التي بعدها،... والآية التي نحن بصدد تفسيرها في القصر من عدد الركعات بأن تصلي طائفة مع الإمام ركعة واحدة فإذا أتمتها جاءت طائفة أخرى وهي التي كانت تحرس الأولى فصلت معه الركعة الثانية، وليس في الآية أن واحدة من الطائفتين تتم الصلاة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} أي: لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل، لأن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس، بل ولا ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} إلى آخر الآية. وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه...
ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران:
أحدهما: ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره.
والثاني: أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته...
وقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان: إحداهما: أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ، فإتيانه بقوله: {مِنَ الصَّلَاةِ} ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. الثانية: أن {من} تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين...
فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد، وهو قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما، السفر مع الخوف...
ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا} قصر العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول. وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا؟ أي: والله يقول: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" أو كما قال. فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد. وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو مظنة المشقة...
وأما على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالقصر: قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه، فإذا وجد السفر والخوف، جاز قصر العدد، وقصر الصفة، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة. ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يخلص لنا مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي النظام الإسلامي، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني... وأخيرا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة؛ ويقود المجتمع المسلم؛ ويخوض المعركة -في كل ميادينها- وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية؛ وطبائعها الفطرية، ورواسبها كذلك من الجاهلية. وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله. بعد ذلك يستطرد الى رخصة، يبيحها الله للمهاجرين، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة. في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى. فيفتنوهم عن دينهم. وهي رخصة القصر من الصلاة -وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقا سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف- فهذا قصر خاص...
إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه، تعينه على ما هو فيه، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه، وما هو مرصود له في الطريق.. والصلاة أقرب الصلات إلى الله. وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات. فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم: (واستعينوا بالصبر والصلاة).. ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار. فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله. وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجى ء إلى حمى الله.. غير أن الصلاة الكاملة -وما فيها من قيام وركوع وسجود- قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب. أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه. أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه.. ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر في الصلاة عند مخافة الفتنة...
وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنه، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة، ويأخذ حذره من عدوه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وينتقل كتاب الله من الحث على الهجرة وتبيين فوائدها وفضائلها إلى تبيين الكيفية التي يؤدي بها المسلمون صلواتهم عندما يكونون مشتبكين في حالة حرب مع أعدائهم، حيث إن الإسلام لا يعفيهم من الصلاة ولو في هذه الحالة، نظرا إلى أن الصلاة عماد الدين وعموده الفقري، لا غنى عنها في حضر أو سفر، ولا في صحة أو مرض، ولا في حال أمن أو خوف، وأرشدهم الحق سبحانه وتعالى إلى نوع التخفيف الذي خففه عنهم بالنسبة للحالة التي يخشون فيها فتنة العدو وهم في مواجهته، وذلك بالإذن لهم في قصر الصلاة، والاقتصار فيها على ركعة واحدة أو ركعتين اثنتين، على أن يقسموا أنفسهم بالتناوب إلى طائفتين: طائفة تقوم بالصلاة، وأخرى بالحراسة، فتصطف الطائفة الأولى وراء الإمام وتصلي معه ركعة واحدة، ثم تتم ركعتها الثانية وحدها وتسلم، في الوقت الذي تكون فيه الطائفة الثانية قائمة بحراستها من مفاجآت العدو لها أثناء الصلاة. وعند انتهاء الطائفة الأولى من صلاتها تبادر فتأخذ مراكز الطائفة الأخرى التي حرستها من قبل وتحل محلها في الحراسة، وتأتي الطائفة الثانية لتلتحق بدورها في الصلاة وراء الإمام، الذي يثبت قائما في انتظارها بركعته الثانية، فتأتم به فيها، ثم تضيف إلى الركعة التي أدركتها معه ركعة أخرى وحدها تتم بها ركعتين وتسلم، وفي الحين تعود إلى مراكزها في صف القتال. وهكذا يحافظ المؤمنون على صلواتهم التي هي صلتهم بالله في كل الظروف، يستمدون عن طريقها المدد الإلهي والعون الروحي لمواجهة مسؤولياتهم بقلب ثابت، وعزم صادق، ويقين في الله لا يداخله أدنى شك أو وهن،... ومما تجدر ملاحظته في هذا الصدد ما قرره الشارع في كيفية هذه الصلاة من الجمع بين مقتضيات العبادة ومقتضيات الدفاع على أكمل وجه من التوفيق والتنسيق، فأعطى لواجب العبادة حقه من جهة، وأعطى لضرورة الدفاع حقها من جهة أخرى، وهكذا لم يكتف الإسلام من جنوده بالعبادة وحدها مع التفريط في مقتضيات الدفاع والتعرض للخطر، كما لم يكتف منهم بالواجب العسكري وحده والتحرز من العدو، مع نسيان الله وإهمال الصلاة. وتلك هي خطة الإسلام المرسومة دائما في مختلف مجالات الحياة، بالنسبة للجوانب الروحية والجوانب المادية، لا يضحي بجانب منها في سبيل الجانب الآخر، وإنما يعمل على إعطاء كل جانب من الجانبين حظه من العناية والاهتمام، ويسعى للتوفيق بينهما حفظا للتوازن وحرصا على الانسجام...
وطبقا لما هو متعارف في تشريع الكتاب والسنة من تنبيه الشارع إلى حكمة التشريع في عدة مناسبات جاء التعقيب على الكيفية التي شرعها الله لصلاة المسلمين وهم في مواجهة العدو، بما يبين السر فيها وفي تقسيمهم إلى طائفتين: طائفة تصلي وطائفة تحرس المصلين، ألا وهو اتخاذ الاحتياط والتزام الحذر، إزاء مباغتات العدو وهجومه المنتظر، وذلك قوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً}...
ثم رخص الله سبحانه وتعالى لجنود الإسلام أن يضعوا أسلحتهم لعذر المرض والمطر، لكن مع ترك الاستسلام ووجوب الاحتياط وأخذ الحذر، وذلك قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102)}...
شرع سبحانه صلاة مخصوصة اسمها "صلاة الحرب وصلاة الخوف "حتى لا يقولن أحد إن الحرب تمنعنا من الصلاة ففي الحرب يكون من الأولى بالمسلم أن يلتحم بمنهج ربه. كذلك في السفر يشرع الحق قصر الصلوات...