100- وسار الركب داخل مصر حتى بلغ دار يوسف ، فدخلوها وصدَّر يوسف أبويه ، فأجلسهما على سرير ، وغمر يعقوب وأهله شعور بجليل ما هيأ اللَّه لهم على يدي يوسف ، إذ جمع به شمل الأسرة بعد الشتات ونقلها إلى مكان عظيم من العزة والتكريم ، فحيَّوه تحية مألوفة تعارف الناس عليها في القديم للرؤساء والحاكمين ، وأظهروا الخضوع لحكمه ، فأثار ذلك في نفس يوسف ذكرى حلمه وهو صغير ، فقال لأبيه : هذا تفسير ما قصصت عليك من قبل من رؤيا ، حين رأيت في المنام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين لي ، قد حققه ربي ، وقد أكرمني وأحسن إلىَّ ، فأظهر براءتي ، وخلصني من السجن ، وأتى بكم من البادية لنلتقي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي ، وأغراهم بي ، وما كان لهذا كله أن يتم بغير صنع اللَّه ، فهو رفيق التدبير والتسخير لتنفيذ ما يريد ، وهو المحيط علما بكل شيء ، البالغ حكمه في كل تصرف وقضاء .
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } أي : على سرير الملك ، ومجلس العزيز ، { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } أي : أبوه ، وأمه وإخوته ، سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والإكرام ، { وَقَالَ } لما رأى هذه الحال ، ورأى سجودهم له : { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } حين رأي أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين ، فهذا وقوعها الذي آلت إليه ووصلت { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } فلم يجعلها أضغاث أحلام .
{ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي } إحسانا جسيما { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } وهذا من لطفه وحسن خطابه عليه السلام ، حيث ذكر حاله في السجن ، ولم يذكر حاله في الجب ، لتمام عفوه عن إخوته ، وأنه لا يذكر ذلك الذنب ، وأن إتيانكم من البادية من إحسان الله إلي .
فلم يقل : جاء بكم من الجوع والنصب ، ولا قال : " أحسن بكم " بل قال { أَحْسَنَ بِي } جعل الإحسان عائدا إليه ، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده ، ويهب لهم من لدنه رحمة إنه هو الوهاب . { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } فلم يقل " نزغ الشيطان إخوتي " بل كأن الذنب والجهل ، صدر من الطرفين ، فالحمد لله الذي أخزى الشيطان ودحره ، وجمعنا بعد تلك الفرقة الشاقة .
{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } يوصل بره وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر ، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها ، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها ، وسرائر العباد وضمائرهم ، { الْحَكِيمُ } في وضعه الأشياء مواضعها ، وسوقه الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها .
ويذكر رؤياه ويرى تأويلها بين يديه في سجود إخوته له - وقد رفع أبويه على السرير الذي يجلس عليه - كما رأى الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين :
( ورفع أبويه على العرش ، وخروا له سجدا ، وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ) . .
( وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ) . .
ويذكر لطف الله في تدبيره لتحقيق مشيئته :
يحقق مشيئته بلطف ودقة خفية لا يحسها الناس ولا يشعرون بها :
ذات التعبير الذي قاله يعقوب وهو يقص عليه رؤياه في مطلع القصة :
وقوله : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ يعني : على السرير . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ قال : السرير .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : العرش : السرير .
قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ قال : السرير .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ قال : سريره .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : عَلى العَرْشِ قال : على السرير .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ يقول : رفع أبويه على السرير .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : قال سفيان : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ قال : على السرير .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ قال : مجلسه .
حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت زيد بن أسلم ، عن قول الله تعالى : وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ فقلت : أبلغك أنها خالته ، قال : قال ذلك بعض أهل العلم ، يقولون : إن أمه ماتت قبل ذلك وإن هذه خالته .
وقوله : وخَرّوا لَهُ سُجّدا يقول : وخرّ يعقوبُ وولده وأمه ليوسف سجدا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وخَرّوا لَهُ سُجّدا يقول : رفع أبويه على السرير ، وسجدا له ، وسجد له إخوته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : تَحَمّلَ يعني يعقوب بأهله حتى قدموا على يوسف فلما اجتمع إلى يعقوب بنوه دخلوا على يوسف فلما رأوه وقعوا له سجودا ، وكانت تلك تحية الملوك في ذلك الزمان أبوه وأمه وإخوته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا وكانت تحية من قبلكم ، كان بها يحييّ بعضهم بعضا ، فأعطى الله هذه الأمة السلام ، تحية أهل الجنة ، كرامة من الله تبارك وتعالى عَجّلَها لهم ونعمة منه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا قال : وكانت تحية الناس يومئذٍ أن يسجد بعضهم لبعض .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، قال : قال سفيان : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا قال : كانت تحية فيهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا أبواه وإخوته ، كانت تلك تحيتهم كما تصنع ناس اليوم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا قال : تحية بينهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَخَرّوا لَهُ سُجّدا قال : قال ذلك السجود تشرفه ، كما سجدت الملائكة لاَدم تشرفة ليس بسجود عبادة .
وإنما عنى من ذكر بقوله : إن السجود كان تحية بينهم ، أن ذلك كان منهم على الخُلُق لا على وجه العبادة من بعضهم لبعض . ومما يدلّ على أن ذلك لم يزل من أخلاق الناس قديما على غير وجه العبادة من بعضهم لبعض ، قول أعشى بني ثعلبة :
فَلَمّا أتانا بُعَيْدَ الكَرَى *** سَجَدْنا لَهُ وَرَفَعْنا العَمَارَا
وقوله : يا أبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبّي حَقّا يقول جلّ ثناؤه : قال يوسف لأبيه : يا أبت هذا السجود الذي سجدت أنت وأمي وإخوتي لي تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ يقول : ما آلت إليه رؤياي التي كنت رأيتها . وهي رؤياه التي كان رآها قبل صنيع إخوته ما صنعوا ، أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدون . قَدْ جَعَلَها رَبّي حَقّا يقول : قد حققها ربي لمجيء تأويلها على الصحة .
وقد اختلف أهل العلم في قدر المدّة التي كانت بين رؤيا يوسف وبين تأويلها فقال بعضهم : كانت مدة ذلك أربعين سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو عثمان ، عن سلمان الفارسيّ ، قال : كان بين رؤيا يوسف إلى أن رأى تأويلها أربعون سنة .
حدثني يعقوب بن برهان ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا ابن عُليَة ، قال : حدثنا سليمان التيميّ ، عن أبي عثمان النهديّ ، قال : قال عثمان : كانت بين رؤيا يوسف وبين أن رأى تأويله ، قال : فذكر أربعين سنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن التيميّ ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن شدّاد ، قال : رأى تأويل رؤياه بعد أربعين عاما .
قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، مثله .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ضرار ، عن عبد الله بن شداد أنه سمع قوما يتنازعون في رؤيا رآها بعضهم وهو يصلي ، فلما انصرف سألهم عنها ، فكتموه فقال : أما إنه جاء تأويل رؤيا يوسف بعد أربعين عاما .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن ضرار بن مرّة أبي سنان ، عن عبد الله بن شدّاد ، قال : كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل وجرير ، عن أبي سنان ، قال : سمعت عبد الله بن شدّاد قوما يتنازعون في رؤيا ، فذكر نحو حديث أبي السائب ، عن ابن فُضَيل .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : رأى تأويل رؤياه بعد أربعين عاما .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن شداد ، قال : وقعت رؤيا يوسف بعد أربعين سنة ، وإليها تنتهي أقصى الرؤيا .
قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا سليمان التيميّ ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين أن رأى تأويلها أربعون سنة .
قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سليمان التيميّ ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين عبارتها أربعون سنة .
قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا هشيم ، عن سليمان التيميّ ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين أن رأى تأويلها أربعون سنة .
قال : حدثنا عمرو بن محمد العنقزيّ ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن شدّاد ، قال : كان بين رؤيا يوسف وبين تعبيرها أربعون سنة .
وقال آخرون : كانت مدة ذلك ثمانين سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، قال : حدثنا هشام ، عن الحسن ، قال : كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ، ودموعه تجري على خدّيه ، وما على وجه الأرض يومئذٍ عبد أحبّ إلى الله من يعقوب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن أبي جعفر جسر بن فَرْقَد ، قال : كان بين أن فقد يعقوب يوسف إلى يومَ رُدّ عليه ثمانون سنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسن بن عليّ ، عن فضيل بن عياض ، قال : سمعت أنه كان بين فراق يوسف حجر يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا داود بن مهران ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : أُلقي يوسف في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة ، وكان بين ذلك وبين لقائه يعقوب ثمانون سنة ، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة ، ومات وهو ابن عشرين ومئة سنة .
قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، نحوه ، غير أنه قال : ثلاث وثمانون سنة .
قال : حدثنا داود بن مهران ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : ألقي يوسف في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة ، وكان في العبودية وفي السجن وفي الملك ثمانين سنة ، ثم جمع الله عزّ وجلّ شمله وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، قال : أُلقي يوسف في الجبّ وهو ابن سبع عشرة ، فغاب عن أبيه ثمانين سنة ، ثم عاش بعدما جمع الله له شمله ، ورأى تأويل رؤياه ثلاثا وعشرين سنة ، فمات وهو ابن عشرين ومئة سنة .
حدثنا مجاهد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا هشيم ، عن الحسن ، قال : غاب يوسف عن أبيه في الجبّ وفي السجن حتى التقيا ثمانين عاما ، فما جفت عينا يعقوب ، وما على الأرض أحد أكرم على الله من يعقوب .
وقال آخرون : كانت مدة ذلك ثمان عشرة سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ذُكر لي والله أعلم أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثمان عشرة سنة ، قال : وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها ، وأن يعقوب بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ، ثم قبضه الله إليه .
وقوله : وَقَدْ أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل يوسف : وقد أحسن الله بي في إخراجه إياي من السجن الذي كنت فيه محبوسا ، وفي مجيئه بكم من البدو . وذلك أن مسكن يعقوب وولده فيما ذُكر كان ببادية فِلَسْطين كذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان منزل يعقوب وولده فيما ذَكر لي بعض أهل العلم بالعَرَبات من أرض فلسطين ثغور الشام ، وبعض يقول بالأولاج من ناحية الشعب ، وكان صاحبَ بادية له إبل وشاء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا شيخ لنا أن يعقوب كان ببادية فلسطين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَقَدْ أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ وكان يعقوب وبنوه أرض كنعان أهل مواش وبرية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَجاء بِكُمْ مِنَ البَدوِ وقال : كانوا أهل بادية وماشية .
والبدو مصدر من قول القائل : بدا فلان : إذا صار بالبادية يبدو بدوا . وذُكر أن يعقوب دخل مصر هو ومن معه من أولاده وأهاليهم وأبنائهم يوم دخلوها وهم أقلّ من مئة ، وخرجوا منها يوم خرجوا منها وهم زيادة على ستّ مئة ألف . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن الحباب وعمرو بن محمد ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شدّاد ، قال : اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر وهم ستة وثمانون إنسانا ، صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم ، وخرجوا من مصر يوم أخرجهم فرعون وهم ستّ مئة ألف ونيف .
قال : حدثنا عمرو ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : خرج أهل يوسف من مصر وهم ستّ مئة ألف وسبعون ألفا ، فقال فرعون : إن هؤلاء لشرذمة قليلون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن إسرائيل والمسعودي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود ، قال : دخل بنو إسرائيل مصر وهم ثلاث وستون إنسانا ، وخرجوا منها وهم ستّ مئة ألف . قال إسرائيل في حديثه . ستّ مئة ألف وسبعون ألفا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق ، قال : دخل أهل يوسف مصر وهم ثلاث مئة وتسعون من بين رجل وامرأة .
وقوله : مِنْ بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشّيْطانُ بَيْنِي وبينَ إخْوَتي يعني : من بعد أن أفسد ما بيني وبينهم وجهل بعضنا على بعض ، يقال منه : نَزَغَ الشيطان بين فلان وفلان ، يَنْزَغُ نَزْغا ونُزُوغا .
وقوله : إنّ رَبّي لَطِيفٌ لَما يَشاءُ يقول : إن ربي ذو لطف وصنع لما يشاء ، ومن لطفه وصنعه أنه أخرجني من السجن وجاء بأهلي من البدو بعد الذي كان بيني وبينهم من بُعد الدار وبعد ما كنت فيه من العبودة والرقّ والإسار . كالذي :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ رَبّي لَطِيفٌ لِمَا يَشاءُ لطف بيوسف وصنع له حتى أخرجه من السجن ، وجاء بأهله من البدو ، ونزع من قلبه نزغ الشيطان وتحريشه على إخوته .
وقوله : إنّهُ هُوَ العَلِيمُ بمصالح خلقه ، وغير ذلك لا يخفى عليه مبادي الأمور وعواقبها . الحَكيمُ في تدبيره .
العرش : سرير للقعود فيكون مرتفعاً على سوق ، وفيه سعة تمكن الجالس من الاتّكاء . والسجود : وضع الجبهة على الأرض تعظيماً للذات أو لصورتها أو لذِكرها ، قال الأعشى :
فلما أتانا بُعيد الكَرى *** سَجدنا له ورفَعْنا العَمَار{[253]}
وفعله قاصر فيعدى إلى مفعوله باللام كما في الآية .
والخرور : الهوي والسقوط من علو إلى الأرض .
والذين خروا سُجداً هم أبواه وإخوته كما يدل له قوله : { هذا تأويل رؤياي } وهم أحد عشر وهم : رأوبين ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ويساكر ، وربولون ، وجاد ، وأشير ، ودان ، ونفتالي ، وبنيامين . و { الشمس } ، و { القمر } ، تعبيرهما أبواه يعقوب عليه السلام وراحيل .
وكان السجود تحية الملوك وأضرابهم ، ولم يكن يومئذٍ ممنوعاً في الشرائع وإنما منعه الإسلام لغير الله تحقيقاً لمعنى مساواة الناس في العبودية والمخلوقية . ولذلك فلا يعدّ قبوله السجودَ من أبيه عقوقاً لأنه لا غضاضة عليهما منه إذ هو عادتهم .
والأحسن أن تكون جملة { وخروا } حالية لأن التحية كانت قبل أن يرفع أبويه على العرش ، على أن الواو لا تفيد ترتيباً .
و { سجدا } حال مبيّنة لأن الخرور يقع بكيفيات كثيرة .
والإشارة في قوله : { هذا تأويل رؤياي } إشارة إلى سجود أبويه وإخوته له هو مصداق رؤياه الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً سُجداً له .
وتأويل الرؤيا تقدم عند قوله : { نبئنا بتأويله } [ سورة يوسف : 36 ] .
ومعنى قد جعلها ربي حقا } أنها كانت من الأخبار الرمزية التي يكاشِف بها العقل الحوادث المغيبة عن الحس ، أي ولم يجعلها باطلاً من أضعاث الأحلام الناشئة عن غلبة الأخلاط الغذائية أو الانحرافات الدماغية .
ومعنى { أحسن بي } أحسن إليّ . يقال : أحسن به وأحسن إليه ، من غير تضمين معنى فعل آخر . وقيل : هو بتضمين أحسن معنى لطف . وباء { بي } للملابسة أي جعل إحسانه ملابساً لي ، وخصّ من إحسان الله إليه دون مطلق الحضور للامتيار أو الزيادة إحسانين هما يوم أخرجه من السجن ومجيء عشيرته من البادية .
فإن { إذْ } ظرف زمان لفعل { أحسن } فهي بإضافتها إلى ذلك الفعل اقتضت وقوع إحسان غير معدود ، فإن ذلك الوقت كان زمنَ ثبوت براءته من الإثم الذي رمته به امرأة العزيز وتلك منة ، وزمنَ خلاصه من السجن فإن السجن عذاب النفس بالانفصال عن الأصدقاء والأحبّة ، وبخلطة من لا يشاكلونه ، وبشْغله عن خلوة نفسه بتلقي الآداب الإلهية ، وكان أيضاً زمن إقبال الملك عليه . وأما مجيء أهله فزوال ألم نفساني بوحشته في الانفراد عن قرابته وشوقه إلى لقائهم ، فأفصح بذكر خروجه من السجن ، ومجيء أهله من البدوِ إلى حيث هو مكين قويّ .
وأشار إلى مصائبه السابقة من الإبقاء في الجبّ ، ومشاهدة مكر إخوته به بقوله : { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } ، فكلمة { بعد } اقتضت أن ذلك شيء انقضى أثره . وقد ألم به إجمالاً اقتصاراً على شكر النعمة وإعراضاً عن التذكير بتلك الحوادث المكدرة للصلة بينه وبين إخوته فمرّ بها مرّ الكرام وباعدها عنهم بقدر الإمكان إذ ناطها بنزغ الشيطان .
والمجيء في قوله : { وجاء بكم من البدو } نعمة ، فأسنده إلى الله تعالى وهو مجيئهم بقصد الاستيطان حيث هو .
والبَدْو : ضد الحضر ، سمي بَدواً لأن سكانه بادُون ، أي ظَاهرون لكل واردٍ ، إذ لا تحجبهم جدران ولا تغلق عليهم أبواب . وذكر { من البدو } إظهار لتمام النعمة ، لأن انتقال أهل البادية إلى المدينة ارتقاء في الحضارة .
والنزغ : مجاز في إدخال الفساد في النفس . شُبه بنزغ الراكب الدابّة وهو نخسها . وتقدم عند قوله تعالى : { وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ } في سورة الأعراف ( 200 ) .
وجملة إن ربي لطيف لما يشاء } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لقصد الاهتمام بها وتعليم مضمونها .
واللطف : تدبير الملائم . وهو يتعدّى باللام على تقدير لطيف لأجل ما يشاء اللطف به ، ويتعدى بالباء قال تعالى : { الله لطيف بعباده } [ الشورى : 19 ] . وقد تقدم تحقيق معنى اللطف عند قوله تعالى : { وهو اللطيف الخبير } في سورة الأنعام ( 103 ) .
وجملة { إنه هو العليم الحكيم } مستأنفة أيضاً أو تعليل لجملة { إن ربي لطيف لما يشاء } . وحرف التوكيد للاهتمام ، وتوسيط ضمير الفصل للتقوية .
وتفسير { العليم } تقدم عند قوله تعالى : { إنك أنت العليم الحكيم } في سورة البقرة ( 32 ) . و{ الحكيم } تقدم عند قوله : { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } أواسط سورة البقرة ( 209 ) .