بدأت هذه السورة بنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقي الله ويتوكل عليه ، وانتقلت إلى الحديث عن الأدعياء ، ونفت أنهم لمن تبناهم ، وذكرت ما أوجبه الله لرسوله من المحبة والطاعة ، وما أوجبه لأمهات المؤمنين من الاحترام والتوقير ، وعرضت لما أخذه على النبيين من العهد في تبليغ الرسالات ، وفصلت غزوة الأحزاب وما كان فيها من خوف واضطراب ، وما تم للمؤمنين من نصر تحقق به وعد الله ، وعنيت بذكر الآداب التي ينبغي لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلكنها ويأخذن أنفسهن بها ، وعادت إلى الحديث عن النبيين ، وهدمت ما كان معروفا في الجاهلية من حرمة التزوج بحليلة الدعى على من تبناه ، ونوهت بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأثنت عليه بما هو أهله ، وأوصت بالمتعة والسراح الجميل لمن طلقت قبل الدخول ، وخصت الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها أباحت له أن يدخل بمن وهبت نفسها له ، وصرحت بأنه لا يحل له النساء بعد التسع ، ثم بينت السورة الكريمة ما يجب على المؤمنين مراعاته في دخولهم بيوت النبي للطعام وفي انصرافهم عقبه ، وفي سؤالهم أزواجه من وراء حجاب ، وطالبت أمهات المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، وتحدثت عن الساعة وأهوال القيامة ، ونصحت بالتقوى والقول السديد ، وختمت بالحديث عن فرائض الله التي حملها الإنسان ولم تطق حملها السماوات والأرض والجبال .
ومن ثم يتبين أن أهم أهدافها : الحديث عن الأدعياء ، وهدم العادة التي سادت من تحريم حلائلهم ، على من تبنوهم ، وامتنان الله تعالى على المؤمنين بتحقيق ما وعدهم من النصر والغلبة على المشركين ، وتفصيل ما شرعه الله للمؤمنين في دخول بيوت النبي ، وتحريم أزواجه عليهم ، وتحديد الآداب الخاصة بأمهات المؤمنين .
1- يا أيها النبي : استمر على ما أنت عليه من تقوى الله ، ولا تقبل رأيا من الكافرين والمنافقين ، إن الله محيط علما بكل شيء ، حكيم في أقواله وأفعاله .
{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
أي : يا أيها الذي منَّ اللّه عليه بالنبوة ، واختصه بوحيه ، وفضله على سائر الخلق ، اشكر نعمة ربك عليك ، باستعمال تقواه ، التي أنت أولى بها من غيرك ، والتي يجب عليك منها ، أعظم من سواك ، فامتثل أوامره ونواهيه ، وبلغ رسالاته ، وأدِّ إلى عباده وحيه ، وابذل النصيحة للخلق .
ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد ، ولا يردك عنه راد ، فلا تطع كل كافر ، قد أظهر العداوة للّه ورسوله ، ولا منافق ، قد استبطن التكذيب والكفر ، وأظهر ضده .
فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة ، فلا تطعهم في بعض الأمور ، التي تنقض التقوى ، وتناقضها ، ولا تتبع أهواءهم ، فيضلوك عن الصواب .
سورة الأحزاب مدنية وآياتها ثلاث وسبعون
هذه السورة تتناول قطاعا حقيقيا من حياة الجماعة المسلمة ، في فترة تمتد من بعد غزوة بدر الكبرى ، إلى ما قبل صلح الحديبية ، وتصور هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة تصويرا واقعيا مباشرا . وهي مزدحمة بالأحداث التي تشير إليها خلال هذه الفترة ، والتنظيمات التي أنشأتها أو أقرتها في المجتمع الإسلامي الناشىء .
والتوجيهات والتعقيبات على هذه الأحداث والتنظيمات قليلة نسبيا ؛ ولا تشغل من جسم السورة إلا حيزا محدودا ، يربط الأحداث والتنظيمات بالأصل الكبير . أصل العقيدة في الله والاستسلام لقدره . ذلك كافتتاح السورة : ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ، إن الله كان عليما حكيما . واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا . ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه . . . ) . . وكالتعقيب على بعض التنظيمات الاجتماعية في أول السورة : ( كان ذلك في الكتاب مسطورا . وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ، ليسأل الصادقين عن صدقهم ، وأعد للكافرين عذابا أليما ) . . والتعقيب على موقف المرجفين " يوم الأحزاب " التي سميت السورة باسمها . ( قل : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ، وإذن لا تمتعون إلا قليلا . قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ? ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) . . ومثل قوله في صدد أحد التنظيمات الاجتماعية الجديدة ، المخالفة لمألوف النفوس في الجاهلية : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) . . وأخيرا ذلك الإيقاع الهائل العميق : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا ) . .
ولهذه الفترة التي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة ، فهي الفترة التي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة ؛ ولم يتم استقرارها بعد ولا سيطرتها الكاملة . كالذي تم بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وللنظام الإسلامي .
والسورة تتولى جانبا من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة ، وإبراز تلك الملامح وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة ؛ وبيان أصولها من العقيدة والتشريع ؛ كما تتولى تعديل الأوضاع والتقاليد أو إبطالها ؛ وإخضاعها في هذا كله للتصور الإسلامي الجديد .
وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم يرد الحديث عن غزوة الأحزاب ، وغزوة بني قريظة ، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما ، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة ، وما وقع من خلخلة وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف . كما تعرض بعدها دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وآدابهم وبيوتهم ونسائهم .
ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث ، هي علاقة هذه وتلك بمواقف الكافرين والمنافقين واليهود ؛ وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة . سواء عن طريق الهجوم الحربي والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة ؛ أو عن طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقية . . ثم ما نشأ من الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية والتصورات الشعورية ؛ وإقامتها على أساس ثابت يناسب تلك الآثار التي خلفتها الغزوات والغنائم في واقع الجماعة المسلمة .
ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة ، وتماسك سياقها ، وتساوق موضوعاتها المنوعة . وهذا وذلك إلى جانب وحدة الزمن التي تربط بين الأحداث والتنظيمات التي تتناولها السورة .
تبدأ السورة ذلك البدء بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى تقوى الله وعدم الطاعة للكافرينوالمنافقين ، واتباع ما يوحي إليه ربه ، والتوكل عليه وحده . وهو البدء الذي يربط سائر ما ورد في السورة من تنظيمات وأحداث بالأصل الكبير الذي تقوم عليه شرائع هذا الدين وتوجيهاته . ونظمه وأوضاعه ، وآدابه وأخلاقه . . أصل استشعار القلب لجلال الله ، والاستسلام المطلق لإرادته ؛ واتباع المنهج الذي اختاره ، والتوكل عليه وحده والاطمئنان إلى حمايته ونصرته .
وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية . مبتدئا بإيقاع حاسم يقرر حقيقة واقعة : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . . يرمز بها إلى أن الإنسان لا يملك أن يتجه إلى أكثر من أفق واحد ، ولا أن يتبع أكثر من منهج واحد ، وإلا نافق ، واضطربت خطاه . وما دام لا يملك إلا قلبا واحدا ، فلا بد أن يتجه إلى إله واحد وأن يتبع نهجا واحدا ؛ وأن يدع ما عداه من مألوفات وتقاليد وأوضاع وعادات .
ومن ثم يأخذ في إبطال عادة الظهار - وهو أن يحلف الرجل على امرأته أنها عليه كظهر أمه فتحرم عليه حرمة أمه : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . ويقرر أن هذا الكلام يقال بالأفواه ولا ينشئ حقيقة وراءه ، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أما بهذا الكلام . . ويثني بإبطال عادة التبني وآثاره : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم )فلا يعودون بعد اليوم يتوارثون ، ولا تترتب على هذا التبني آثاره الأخرى [ التي سنفصل الحديث عنها فيما بعد ] . ويستبقي بعد ذلك أو ينشىء الولاية العامة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على المؤمنين جميعا ؛ ويقدم هذه الولاية على ولايتهم لأنفسهم ؛ كما ينشيء صلة الأمومة الشعورية بين أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وجميع المؤمنين : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) . . ثم يبطل آثار المؤاخاة التي تمت في أول الهجرة ؛ ويرد الأمر إلى القرابة الطبيعية في الإرث والدية وما إليها : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . وبذلك يعيد تنظيم الجماعة الإسلامية على الأسس الطبيعية ويبطل ما عداها من التنظيمات الوقتية .
ويعقب على هذا التنظيم الجديد ، الذي يستمد من منهج الإسلام وحكم الله ؛ بالإشارة إلى أن ذلك مسطور في كتاب الله القديم ، وإلى الميثاق المأخوذ على النبيين ، وعلى أولي العزم منهم بصفة خاصة . على طريقة القرآن في التعقيب على النظم والتشريعات ، والمبادئ ، والتوجيهات ، لتقر في الضمائر والأخلاد .
وهذا هو إجمال الشوط الأول في السورة .
ويتناول الشوط الثاني بيان نعمة الله على المؤمنين ، إذ رد عنهم كيد الأحزاب والمهاجمين . ثم يأخذ في تصوير وقعتي الأحزاب وبني قريظة تصويرا حيا ، في مشاهد متعاقبة ، ترسم المشاعر الباطنة ، والحركات الظاهرة ، والحوار بين الجماعات والأفراد . وفي خلال رسم المعركة وتطوراتها تجيء التوجيهات في موضعها المناسب ؛ وتجيء التعقيبات على الأحداث مقررة للمنهج القرآني في إنشاء القيم الثابتة التي يقررها للحياة ، من خلال ما وقع فعلا ، وما جاش في الأخلاد والضمائر .
وطريقة القرآن الدائمة في مثل هذه الوقائع التي يتخذ منها وسيلة لبناء النفوس ، وتقرير القيم ، ووضعالموازين وإنشاء التصورات التي يريد لها أن تسود . . طريقة القرآن في مثل هذه الوقائع أن يرسم الحركة التي وقعت ، ويرسم معها المشاعر الظاهرة والباطنة ، ويسلط عليها الأضواء التي تكشف زواياها وخباياها . ثم يقول للمؤمنين حكمه على ما وقع ، ونقده لما فيه من خطأ وانحراف ، وثناءه على ما فيه من صواب واستقامة ، وتوجيهه لتدارك الخطأ والانحراف ، وتنمية الصواب والاستقامة . وربط هذا كله بقدر الله وإرادته وعمله ونهجه المستقيم ، وبفطرة النفس ، ونواميس الوجود .
وهكذا نجد وصف المعركة يبدأ بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا ) . . ويتوسطها قوله . ( قل : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذن لا تمتعون إلا قليلا . قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة . ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) . . وبقوله : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) . . ويختمها بقوله : ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ) . .
وهذا إلى جانب عرض تصورات المؤمنين الصادقين للموقف ، وتصورات المنافقين والذين في قلوبهم مرض عرضا يكشف عن القيم الصحيحة والزائفة من خلال تلك التصورات : ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) . . ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . . ثم تجيء العاقبة بالقول الفصل والخبر اليقين : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا ) . .
بعد ذلك يجيء قرار تخيير أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] اللواتي طالبنه بالتوسعة في النفقة عليهن بعدما وسع الله عليه وعلى المسلمين من فيء بني قريظة العظيم وما قبله من الغنائم . تخييرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها وإيثار الله ورسوله والدار الآخرة . وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ورضين هذا المقام الكريم عند الله ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وآثرنه على متاع الحياة . ومن ثم جاءهن البيان عن جزائهن المضاعف في الأجر إن اتقين وفي العذاب إن ارتكبن فاحشة مبينة . وعلل هذه المضاعفة بمقامهن الكريم وصلتهن برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ونزول القرآن في بيوتهن وتلاوته ، والحكمة التي يسمعنها من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] واستطرد في بيان جزاء المؤمنين كافة والمؤمنات .
فأما الشوط الرابع فتناول إشارة غير صريحة إلى موضوع تزويج زينب بنت جحش القرشية الهاشمية بنت عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من زيد بن حارثة مولاه . وما نزل في شأنه أولا من رد أمر المؤمنين والمؤمنات كافة إلى الله ، ليس لهم منه شيء ، وليس لهم في أنفسهم خيرة . إنما هي إرادة الله وقدره الذي يسير كل شيء ، ويستسلم له المؤمن الاستسلام الكامل الصريح : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) . .
ثم يعقب حادث الزواج حادث الطلاق ؛ وما وراءه من إبطال آثار التبني ، الذي سبق الكلام عليه في أولالسورة . إبطاله بسابقة عملية ؛ يختار لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه ، لشدة عمق هذه العادة في البيئة العربية ، وصعوبة الخروج عليها . فيقع الابتلاء على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليحملها فيما يحمل من أعباء الدعوة وتقرير أصولها في واقع المجتمع ، بعد تقريرها في أعماق الضمير : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا ) . .
وبهذه المناسبة يوضح حقيقة العلاقة بين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والمؤمنين كافة : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) . .
ويختم هذا الشوط بتوجيهات للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه من المؤمنين . . ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) . .
ويبدأ الشوط الخامس ببيان حكم المطلقات قبل الدخول . ثم يتناول تنظيم الحياة الزوجية للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيبين من يحل له من النساء المؤمنات ومن يحرمن عليه . ويستطرد إلى تنظيم علاقة المسلمين ببيوت النبي وزوجاته ، في حياته وبعد وفاته وتقرير احتجابهن إلا على آبائهن أو أبنائهن أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن أو نسائهن ، أو ما ملكت أيمانهن . وإلى بيان جزاء الذين يؤذون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في أزواجه وبيوته وشعوره ؛ ويلعنهم في الدنيا والآخرة . مما يشي بأن المنافقين وغيرهم كانوا يأتون من هذا شيئا كثيرا .
ويعقب على هذا بأمر أزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين كافة أن يدنين عليهن من جلابيبهن ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) . . وبتهديد المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة بإغراء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بهم وإخراجهم من المدينة كما خرج من قبل بنو قينقاع وبنو النضير ، أو القضاء عليهم كما وقع لبني قريظة أخيرا . وكل هذا يشير إلى شدة إيذاء هذه المجموعة للمجتمع الإسلامي في المدينة بوسائل شريرة خبيثة .
والشوط السادس والأخير في السورة يتضمن سؤال الناس عن الساعة ، والإجابة على هذا التساؤل بأن علم الساعة عند الله ، والتلويح بأنها قد تكون قريبا . ويتبع هذا مشهد من مشاهد القيامة : ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون : يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) . . ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم : ( ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) . .
ثم تختم السورة بإيقاع هائل عميق الدلالة والتأثير : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا . ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات . وكان الله غفورا رحيما ) . .
وهو إيقاع يكشف عن جسامة العبء الملقى على عاتق البشرية ، وعلى عاتق الجماعة المسلمة بصفة خاصة ؛ وهي التي تنهض وحدها بعبء هذه الأمانة الكبرى . أمانة العقيدة والاستقامة عليها . والدعوة والصبر على تكاليفها ، والشريعة والقيام على تنفيذها في أنفسهم وفي الأرض من حولهم . مما يتمشى مع موضوع السورة ، وجوها ؛ وطبيعة المنهج الإلهي الذي تتولى السورة تنظيم المجتمع الإسلامي على أساسه .
ومن ثم كان التوجيه الأول في السورة التي تتولى تنظيم الحياة الاجتماعية للمسلمين بتشريعات وأوضاع جديدة ، هو التوجيه إلى تقوى الله . وكان القول موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم القائم على تلك التشريعات والتنظيمات . . ( يا أيها النبي اتق الله ) . . فتقوى الله والشعور برقابته واستشعار جلاله هي القاعدة الأولى ، وهي الحارس القائم في أعماق الضمير على التشريع والتنفيذ . وهي التي يناط بها كل تكليف في الإسلام وكل توجيه .
وكان التوجيه الثاني هو النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين ، واتباع توجيههم أو اقتراحهم ، والاستماع إلى رأيهم أو تحريضهم : ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ) . . وتقديم هذا النهي على الأمر باتباع وحي الله يوحي بأن ضغط الكافرين والمنافقين في المدينة وما حولها كان في ذلك الوقت عنيفا ، فاقتضى هذا النهي عن اتباع آرائهم وتوجيهاتهم ، والخضوع لدفعهم وضغطهم . ثم يبقى ذلك النهي قائما في كل بيئة وكل زمان ، يحذر المؤمنين أن يتبعوا آراء الكافرين والمنافقين إطلاقا ، وفي أمر العقيدة وأمر التشريع وأمر التنظيم الاجتماعي بصفة خاصة . ليبقى منهجهم خالصا لله ، غير مشوب بتوجيه من سواه .
ولا ينخدع أحد بما يكون عند الكافرين والمنافقين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة - كما يسوغ بعض المسلمين لأنفسهم في فترات الضعف والانحراف - فإن الله هو العليم الحكيم ؛ وهو الذي اختار للمؤمنين منهجهم وفق علمه وحكمته : ( إن الله كان عليما حكيما ) . . وما عند البشر إلا قشور ، وإلا قليل !
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتّبِعْ مَا يُوحَىَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّبِيّ اتّق اللّهَ بطاعته ، وأداء فرائضه ، وواجب حقوقه عليك ، والانتهاء عن محارمه ، وانتهاك حدوده وَلا تُطِع الكافِرِينَ الذين يقولون لك : اطرد عنك أتباعك من ضعفاء المؤمنين بك حتى نجالسك وَالمُنافِقِينَ الذين يظهرون لك الإيمان بالله والنصيحة لك ، وهم لا يألونك وأصحابك ودينك خبالاً ، فلا تقبل منهم رأيا ، ولا تستشرهم مستنصحا بهم ، فإنهم لك أعداء إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما يقول : إن الله ذو علم بما تضمره نفوسهم ، وما الذي يقصدون في إظهارهم لك النصيحة ، مع الذي ينطوون لك عليه ، حكيم في تدبير أمرك وأمر أصحابك ودينك ، وغير ذلك من تدبير جميع خلقه .
هذه السورة مدنية بإجماع فيما علمت ، وكذلك قال المهداوي وغيره{[1]}
قوله : { اتق } معناه : دم على التقوى ، ومتى أمر أحد بشيء هو به متلبس فإنما معناه الدوام في المستقبل على مثل الحالة الماضية ، وحذره تعالى من طاعة الكافرين وهم الُمَجِّلحون بالكفر ، {[9443]} والمنافقون ، وهم المظهرون للإيمان وهم لا يبطنونه ، وسبب الآية أنهم كانوا يتسخبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطلبات والإرادات ربما كان في إرادتهم سعي على الشرع وهم يدخلونها مدخل النصائح ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلقه العظيم وحرصه على استئلافهم ربما لاَيَنُهم{[9444]} في بعض الأمور ، فنزلت الآية بسبب ذلك تحذيراً له منهم وتنبيهاً على عداوتهم والنوازل في طلباتهم كثيرة محفوظة ، وقوله { إن الله كان عليماً حكيماً } تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي لا عليك منهم ولا من إيمانهم فالله عليم بما ينبغي لك حكيم في هدي من شاء وإضلال من شاء .