{ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا }
وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخلا كريما كثير الخير وهو الجنة المشتملة على ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة ، كالصلوات الخمس ، والجمعة ، وصوم رمضان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر " .
وأحسن ما حُدت به الكبائر ، أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا ، أو وعيد في الآخرة ، أو نفي إيمان ، أو ترتيب لعنة ، أو غضب عليه .
وفي مقابل اجتناب " الكبائر " - ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل - يعدهم الله برحمته ، وغفرانه ، وتجاوزه عما عدا الكبائر ؛ مراعاة لضعفهم الذي يعلمه - سبحانه - وتيسيرًا عليهم ، وتطمينًا لقلوبهم ؛ وعونًا لهم على التحاجز عن النار ؛ باجتناب الفواحش الكبار :
( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ، نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلا كريما ) .
ألا ما أسمح هذا الدين ! وما أيسر منهجه ! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة ، والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ، والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة ؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم .
إن هذا الهتاف ، وهذه التكاليف ، لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره ؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه ؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها ؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .
ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .
إنه حسب هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله ؛ وأن تخلص حقًا في هذا الاتجاه ، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور ؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن التقصير ؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم . .
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر - وهي واضحة ضخمة بارزة ؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية ! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة ؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه . . وقد قال فيها : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . . وعدهم من " المتقين " .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر ؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .
أما ما هي الكبائر . . فقد وردت أحاديث تعدد أنواعًا منها - ولا تستقصيها - وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص ؛ مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة ؛ فتذكر من الكبائر - في كل حديث - ما يناسب الملابسة الحاضرة ، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم " الكبائر " من الذنوب . وإن كانت تختلف عددًا ونوعًا بين بيئة وبيئة ، وبين جيل وجيل !
ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية . تبين - مع ذلك كله - كيف قوم الإسلام حسه المرهف ، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم ؛ وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس :
قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ؛ عن الحسن أن ناسًا سألوا عبدالله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله - عز وجل - أمر أن يعمل بها ، لا يعمل بها ؛ فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه . فلقي عمر - رضي الله عنه - فقال : متى قدمت ؟ فقال : منذ كذا وكذا . قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه . فقال : أمير المؤمنين إن ناسًا لقوني بمصر ، فقالوا : إنا نرى أشياء في كتاب الله ، أمر أن يعمل بها ، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك . قال : فاجمعهم لي . قال فجمعتهم له . قال أبو عون : أظنه قال : في بهو . . فأخذ أدناهم رجلاً ؛ فقال أنشدك الله ، وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ! قال : نعم . قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ فقال : اللهم لا - ولو قال : نعم ، لخصمه ! قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أثرك . . ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال : ثكلت عمر أمه ! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات . قال وتلا : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) . . . الآية . ثم قال : هل علم أهل المدينة ؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم ! " .
فهكذا كان عمر - المتحرج الشديد الحساسية - يسوس القلوب والمجتمع ؛ وقد قوم القرآن حسه ؛ وأعطاه الميزان الدقيق . . " وقد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ! " ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون ! إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات ، وبذل الجهد في هذا الوفاء . . إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال .
اختلف أهل التأويل في معنى الكبائر التي وعد الله جلّ ثناؤه عباده باجتنابها تكفير سائر سيئاتهم عنهم ، فقال بعضهم : الكبائر التي قال الله تبارك وتعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } هي ما تقدم الله إلى عباده بالنهي عنه من أوّل سورة النساء إلى رأس الثلاثين منها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : الكبائر من أوّل سورة النساء إلى ثلاثين منها .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حجاج ، قال : ثنا حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود ، مثله .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا وكيع ، قال : ثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : ثنى علقمة ، عن عبد الله ، قال : الكبائر من أوّل سورة النساء ، إلى قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } .
حدثنا الرفاعي ، قال : ثنا أبو معاوية وأبو خالد ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : الكبائر من أوّل سورة النساء ، إلى قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : سئل عبد الله عن الكبائر ، قال : ما بين فاتحة سورة النساء إلى رأس الثلاثين .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود ، قال : الكبائر : ما بين فاتحة سورة النساء إلى ثلاثين آية منها : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، أنه قال : الكبائر من أوّل سورة النساء إلى الثلاثين منها : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يرون أن الكبائر فيما بين أول هذه السورة ، سورة النساء ، إلى هذا الموضع : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } .
حدثني المثنى ، قال : ثنا آدم العسقلاني ، قال : ثنا شعبة ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زرّ بن حبيش ، عن ابن مسعود ، قال : الكبائر من أوّل سورة النساء إلى ثلاثين آية منها . ثم تلا : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } .
حدثني المثنى ، قال : ثنا ابن وكيع ، قال : ثنا مسعر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زرّ بن حبيش ، قال : قال عبد الله : الكبائر : ما بين أوّل سورة النساء إلى رأس الثلاثين .
وقال آخرون : الكبائر سبع . ذكر من قال ذلك :
حدثني تميم بن المنتصر ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة ، عن أبيه ، قال : إني لفي هذا المسجد مسجد الكوفة ، وعليّ رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر ، فقال : يا أيها الناس إن الكبائر سبع ! فأصاخ الناس ، فأعادها ثلاث مرات ، ثم قال : ألا تسألوني عنها ؟ قالوا ؛ يا أمير المؤمنين ما هي ؟ قال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة . فقلت لأبي : يا أبت التعرب بعد الهجرة ، كيف لحق ههنا ؟ فقال : يا نبيّ ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل ، حتى إذا وقع سهمه في الفيء ووجب عليه الجهاد ، خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابياً كما كان .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن ابن إسحاق ، عن عبيد بن عمير ، قال : الكبائر سبع ليس منهنّ كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله ، الإشراك بالله منهنّ :
{ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ }
و { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً }
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ }
{ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ }
{ النَّارِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ }
{ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى }
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن ابن إسحاق ، عن عبيد بن عمير الليثي ، قال : الكبائر سبع : الإشراك بالله :
{ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ }
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ }
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ }
. . الآية ، وأكل أموال اليتامى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً }
{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ }
. . الآية ، والفرار من الزحف :
{ وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ }
. . الآية . والمرتد أعرابياً بعد هجرته :
{ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى }
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد ، قال : سألت عبيدة عن الكبائر ، فقال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حَرَّمَ الله بغير حقها ، وفرار يوم الزحف ، وأكل مال اليتيم بغير حقه ، وأكل الربا ، والبهتان . قال : ويقولون أعرابية بعد هجرة . قال ابن عون : فقلت لمحمد فالسحر ؟ قال : إن البهتان يجمع شرّاً كثيراً .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا منصور وهشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة أنه قال : الكبائر : الإشراك ، وقتل النفس الحرام ، وأكل الربا ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، والمرتدّ أعرابياً بعد هجرته .
حدثني يعقوب ، قال ثنا هشيم ، ققال : ثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : أخبرني الليث ، قال : ثنى خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المجمر ، قال : أخبرني صهيب مولى العتواري أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد الخدري يقولان : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ، فقال : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ؟ " ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثم أكبّ ، فأكبّ كل رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف . ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر ، فكان أحبّ إلينا من حمر النعم ، فقال : " ما مِنْ عَبْدٍ يُصَلّى الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ ، ويُخْرِجُ الزَّكاةَ ، وَيجْتَنِبُ الكَبائِرَ السَّبْعَ ، إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الجَنَّةِ ، ثُمَّ قِيلَ : ادْخُلْ بِسَلام "
حدثني المثنى قال ثنا حذيفة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال الكبائر سبع : قتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، ورمى المحصنة ، وشهادة الزور وعقوق الوالدين والفرار يوم الزحف .
وقال آخرون هي تسع . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ثنا ابن عُلَية قال أخبرنا زياد بن مخراق ، عن طيسلة بن مَيَّاس قال كنت مع الحِدْثان ، وأصبت ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر ، فلقيت ابن عمر ، فقلت : إني أصيب ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر ، قال : وما هي ؟ قلت : كذا وكذا ، قال ليس من الكبائر ، قال أشىء لم يسمعه طيسلة ؟ قال هي تسع وسأعدّهنّ عليك : الإشراك بالله ، وقتل النسَمة بغير حِلها ، والفِرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر ، وبكاء الوالدين من العقوق . قال ابن زياد : وقال طيسلة : لما رأى ابن عمر فرقى ، قال : أتخاف النار أن تدخلها ؟ قلت : نعم ، قال : وتحبّ أن تدخل الجنة ؟ قلت : نعم ، قال أحىّ والداك ؟ قلت : عندي أمي ، قال : فوالله لئن أنت أَلَنت لها الكلام ، وأطعمتها الطعام ، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجِبات .
حدثنا سليمان بن ثابت الخراز الواسطيّ ، قال : أخبرنا سلم بن سلام ، قال : أخبرنا أيوب بن عتبة ، عن طيسلة بن علي النهديّ قال : أتيت ابن عمر ، وهو في ظلّ أراك يوم عرفة ، وهو يصبّ الماء على رأسه ووجهه ، قال : قلت أخبرني عن الكبائر ؟ قال : هي تسع ، قلت : ما هن ؟ قال : الإشراك بالله ، وقذف المحصنة ، قال قلت قبل القتل ؟ قال : نعم ، ورغما ، وقت النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، والإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً .
حدثنا سليمان بن ثابت الخراز ، قال : أخبرنا سَلْم بن سلام ، قال : أخبرنا أيوب بن عتُبة ، عن يحيى ابن عبيد ، بن عمير ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله ، إلا أنه قال : بدأ بالقتل قبل القذف .
وقال آخرون : هي أربع . ذكر من قال ذلك .
حدثناابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن مطرّف ، عن وَبْرة ، عن ابن مسعود ، قال : الكبائر الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة ، الله والإياس من رَوح الله ، والأمْن من مكر الله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال أخبرنا مطرف ، عن وَبَره بن عبد الرحمن ، عن أبي الطفيل ، قال : قال عبد الله بن مسعود : أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، والإياس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمْن من مكر الله .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن وَبَرة بن عبد الرحمن ، قال : قال عبد الله : إن الكبائر : الشرك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن مِن مكر الله ، والإياس من روح الله .
حدثني أبو كريب وأبو السائب ، قالا : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت مطرفاً عن وَبَرة ، عن أبي الطفيل قال : قال عبد الله : الكبائر أربع : الاشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمْن من مكر الله .
حدثني محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : أخبرنا شيبان ، عن الأعمش ، عن وَبَرة ، عن أبي الطفيل ، قال سمعت ابن مسعود يقول : أكبر الكبائر : الإشراك بالله .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبد الله ، قال : أخبرنا اسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن وَبَرة ، عن أبي الطفيل ، عن عبد الله ، بنحوه .
حدثني ابن المثنى ، قال ثنى وهب بن جرير ، قال : ثنا شعبة ، عن عبد الملك بن أبي الطفيل ، عن عبد الله ، قال : الكبائر أربع : الإشراك بالله ، والأمْن من مكر الله ، والإياس من رَوح الله ، والقنوط من رحمة الله . وبه قال : ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزَّة عن أبي الطفيل ، عن عبد الله ، بمثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزَّة ، عن أبي الطفيل ، عن عبد الله بن مسعود ، بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود ، قال : الكبائر أربع : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله ، والأمن لمكر الله ، والإياس من رَوح الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال ثنا أبي ، عن المسعوديّ ، عن فرات القزاز ، عن أبي الطفيل ، عن عبد الله ، قال : الكبائر : القنوط من رحمة الله ، والإياس من روح الله ، والأمن لمكر الله ، والشرك بالله . وقال آخرون كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ذكر من قال ذلك .
حدثنا أبو كريب قال ثنا هشيم ، عن منصور ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس ، قال : ذُكرت عنده الكبائر ، فقال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد ، قال أُنبئت أن ابن عباس كان يقول : كل ما نهى الله عنه كبيرة ، وقد ذكرت الطَّرْفة ، قال : هي النَّظْرة .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال ثنا معتمر ، عن أبيه ، عن طاوس ، قال : قال رجل لعبد الله بن عباس : أخبرني بالكبائر السبع ، قال : فقال ابن عباس : هي أكثر من سبع وتسع ، فما أدري كم قالها من مرّة
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن سليمان التميميّ ، عن طاوس ، قال : ذكروا عند ابن عباس الكبائر ، فقالوا : هي سبع ، قال : هي أكثر من سبع وتسع ، قال سليمان : فلا أدري كم قالها من مرة
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر وابن أبي عديّ عن عوف ، قال : قام أبو العالية الرياحيّ على حلقة أنا فيها ، فقال : إن ناساً يقولون : الكبائر سبع ، وقد خفت أن تكون الكبائر سبعين ، أو يزدن على ذلك .
حدثنا عليّ ، قال : ثنا الوليد ، قال : سمعت أبا عمر ويخبر عن الزهريّ ، عن ابن عباس ، أنه سئل عن الكبائر ، أسبع هي ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير ، أن رجلاً قال لابن عباس : كم الكبائر ، أسبع هي ؟ قال : إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع اسغفار ولا صغيرة مع إصرار .
حدثنا ابن حميد قال ثنا جرير ، عن ليث ، عن طاوس ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهنّ الله ماهن ؟ قال : هن إلى السبعين أدنى منها إلى سبع .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال قيل لابن عباس : الكبائر سبع ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال أخبرنا أبو نعيم ، قال : ثنا عبد الله بن سعدان ، عن أبي الوليد ، قال : سألت ابن عباس ، عن الكبائر ، قال : كل شيء عُصِي الله فيه فهو كبيرة . وقال آخرون هي ثلاث ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن مسعود قال : الكبائر ثلاث : اليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمْن من مكر الله .
وقال آخرون : كل موجِبة وكل ما أوعد الله أهله عليه النارَ فكبيرة . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قوله : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : الكبائر : كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة ، أو عذاب .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا هشام بن حسام ، عن محمد بن واسع ، قال : قال سعيد بن جبير : كل موجبة في القرآن كبيرة .
حدثنا ابن وكيع ، قال ثنا أبي ، عن محمد بن مهرم الشعاب ، عن محمد بن واسع الازدي ، عن سعيد بن جبير ، قال : كل ذنب نسبه الله إلى النار ، فهو من الكبائر .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن سالم أنه سمع الحسن ، يقول : كل موجبة في القرآن كبيرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْه } قال : الموجبات .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : ثنا يزيد قال ثنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : الكبائر : كل موجبة أوجب الله لأهلها النار ، وكل عمل يقام به الحدّ فهو من الكبائر .
قال أبو جعفر : والذي نقول به في ذلك : ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذلك ما حدثنا به أحمد بن الوليد القرشي ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنى عبيد الله بن أبي بكر ، قال سمعت أنس بن مالك قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر ، أو سئل عن الكبائر ، فقال : " الشرك بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، فقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قال : قول الزور ، أو قال : شهادة الزور ، " قال شعبة : وأكبر ظني أنه قال : شهادة الزور .
حدثنا يحيى بن حبيب بن عربيّ ، قال : حدثنا خالد بن الحارث ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر ، قال : " الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس وقول الزور "
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن كثير ، قال : ثنا شعبة ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس ، قال : ذَكروا الكبائر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، ألا أُنْبِئَكُم بأكْبَرِ الكَبائِرِ قَوْلُ الزُّورِ "
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال ثنا شعبة ، عن فراس ، عن الشعبيّ ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أكْبَرُ الكَبائِرِ : الإشْرَاكُ باللَّهِ وعَقُوُقُ الوَالِدَيْنِ أو قَتْلُ النَّفْسِ شعبة الشاكّ واليَمِينُ الغَمُوسُ "
حدثناأبو هشام الرفاعيّ ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، قال ثنا شيبان ، عن فراس ، عن الشعبيّ ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما الكبائر ؟ قال : " الشِّرْكُ باللَّهِ ، قال : ثم مَهْ ؟ قال : وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ ، قال : ثم مه ، قال : واليَمِينُ الغَمُوسُ قلت للشعبيّ : ما اليمين الغموس ؟ قال : الذي يقتطع مال امرىء مسلم بيمينه ، وهو فيها كاذب "
حدثني المثنى ، قال : ثنا ابن أبي السريّ محمد بن المتوكل العسقلانيّ ، قال : ثنا محمد بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن أبي رُهم ، عن أبي أيوب الأنصاريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أقامَ الصَّلاةَ ، وآتى الزَّكاة وَصَامَ رَمَضَان ، وَاجْتَنَبَ الكَبائِرَ فَلَهُ الجَنَّةُ . قيل : وما الكبائر ؟ قال : الإشْرَاكُ باللَّهِ ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ والفرَارُ يَوْمَ الزَّحْف "
حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : ثنا سعد ابن عبد الحميد ، عن جعفر ، عن ابن أبي جعفر ، عن ابن أبي الزناد ، عن موسى بن عُقبة ، عن عبد الله بن سلمان الأغرّ ، عن أبيه أبي عبد الله سلمان الأغرّ ، قال : قال أبو أيوب خالد بن أيوب الأنصاريّ : عَقَبِيّ بدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما مِنْ عَبْدٍ يَعْبُدُ اللَّهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً ، وَيُقِيمُ الصَّلاةَ ، ويُؤْتِى الزَّكاةَ ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ ، وَيجْتَنِبُ الكَبائِرَ إلاَّ دَخَلَ الجَنَّةّ . فسألوه : ما الكبائر ؟ قال : الإشرَاكُ باللَّهِ ، والفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ "
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أحمد بن عبد الرحمن ، قال : ثنا عباد بن عباد ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة : أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر ، وهو متكىء ، فقالوا : الشرك بالله ، وأكل مال اليتيم ، وفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور ، والغُلول ، والسحر ، وأكل الربا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فَأيْنَ تَجْعَلُونَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً . . . إلى آخر الآية " ؟ .
حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابيّ ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي معاوية ، عن أبي عمرو الشيبانيّ ، عن عبد الله ، قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما الكبائر ؟ قال : " أنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أجْل أنْ يَأْكُلَ مَعَكَ ، وأنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جاركَ ، وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلهاً آخَرَ ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بالحَقّ وَلا يَزْنُونَ }
حدثني هذا الحديثَ عبد الله بن محمد الزهريّ ، فقال : ثنا سفيان ، قال : ثنا أبو معاوية النخعيّ ، وكان على السجن ، سمعه من أبي عمرو ، عن عبد الله بن مسعود : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ( أيُّ العَمَل شَرّ ؟ قالَ : أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ، وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ تَأْكُلَ مَعَكَ ، وأنْ تَزْنِيِ بِجارَتِكَ ، وقرأ عليّ ،
{ والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلهاً آخَرَ }
قال أبو جعفر : وأولى ما قيل في تأويل الكبائر بالصحة : ما صحّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما قاله غيره ، وإن كان كل قائل فيها قولاً من الذين ذكرنا أقوالهم ، قد اجتهد وبالغ في نفسه ، ولقوله في الصحة مذهب ، فالكبائر إذن : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس المحرّم قتلها ، وقول الزور ، وقد يدخل في قول الزور ، شهادة الزور ، وقذف المحصَنة ، واليمين الغموس ، والسحر ؛ ويدخل في قتل النفس المحرم قتلها : قتل الرجل ولده من أجل أن يطعم معه ، والفرار من الزحف ، والزنا بحليلة الجار .
وإذا كان ذلك كذلك ، صحّ كلّ خبر روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الكبائر ، وكان بعضه مصدّقاً بعضاً ، وذلك أن الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هِيَ سَبْعٌ " يكون معنى قوله حينئذ ( هِيَ سَبْعٌ ) على التفصيل ، ويكون معنى قوله في الخبر الذي رُوى عنه أنه قال : ( هِيَ الإشْراكُ باللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ ، وَقَوْلُ الزُّورِ ) على الإجمال ، إذ كان قوله : وَقَوْلُ الزورِ يحتمل معاني شتى ، وأن يجمع جميعَ ذلك : قول الزور .
وأما خبر ابن مسعود الذي حدثَنِي به الفريابيّ على ما ذكرت ، فإنه عندي غلط من عبيد الله ابن محمد ، لأن الاخبار المتظاهرة من الأوجه الصحيحة عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحو الرواية التي رواها الزهريّ عن ابن عيينة ، ولم يقل أحد منهم في حديثه عن ابن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر ، فنقلُهم ما نقلوا من ذلك عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أولى بالصحة من نقل الفريابي . فمن اجتنب الكبائر التي وعد الله مجتنبها تكفير ما عداها من سيئاته ، وإدخاله مدخلاً كريماً ، وأدّى فرائضه التي فرضها الله عليه ، وجد الله لما وعده من وعد منجزاً ، وعلى الوفاء به دائباً .
وأما قوله { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ } ، فإنه يعني به : نكفر عنكم أيها المؤمنون باجتنابكم كبائر ما ينهاكم عنه ربكم ، صغائر سيئاتكم ، يعني : صغائر ذنوبكم .
كما حدثني محمد بن الحسن ، قال ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ } الصغائر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن ابن عون ، عن الحسن ، أن ناساً لقوا عبد الله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها ، لا يعمل بها وأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه ، فلقيه عمر رضي الله عنه ، فقال : متى قدمت ؟ قال : منذ كذا وكذا ، قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف ردّ عليه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن ناساً لقوني بمصر ، فقالوا : إنا نرى أشياء من كتاب الله تبارك وتعالى أمر أن يُعمل بها ، لا يُعمل بها ، فأحَبُّوا أن يلقَوك في ذلك . فقال : اجمعهم لي ، قال فجمعتهم له ؛ قال ابن عون : أظنه قال : في نهر ، فأخذ أدناهم رجلاً فقال : أنشدك بالله وبحقّ الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ؟ قال : نعم ، قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ قال : اللهمّ لا قال : ولو قال : نعم ، لخصمه ، قال فهل أحصيته في بصرك ، هل أحصيته في لفظك ، هل أحصيته في أثرك ؟ قال ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ، فقال ثكلت عمرَ أمُّه ، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ، قال : وتلا : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْه نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُم وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاَ كَرِيماً } هل علم أهل المدينة ؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا : لا ، قال : لو علموا لوعظت بكم .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ، قال : لم نرم مثل الذي بلغنا عن ربنا ، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال ، ثم سكت هنيهة ، ثم قال : والله لقد كلفنا ربُّنا أهون من ذلك ، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر ، فما لنا ولها ؟ { ثم تلا { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْه . . . } الآية .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْه . . . . } الآية ، إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر ، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم : " قال اجتنبوا الكبائر ، وسدّدوا ، وأبشروا "
حدثناالحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن ابن مسعود قال في خمس آيات من سورة النساء : لهن أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْه نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُم } ، وقوله
{ إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها }
{ إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ }
{ وَمَنْ يَعْمَلُ سُوءاً أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحيماً }
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا باللَّهِ وَرُسُلِهِ ولَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيِهمْ أُجُورَهُمْ ، وكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحيماً }
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو النضر ، عن صالح المرّيّ ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، قال : ثمان آيات نزلت في سورة النساء ، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغَرَبت . أولاهن :
{ يُرِيدُ اللَّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ويَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِيِنَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم }
{ وَاللَّهُ يُرِيدُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، ويُرِيدُ الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أنْ تَميلُوا مَيْلاً عَظِيماً }
{ يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُخَففَ عَنْكُم ، وَخُلِقَ الإنْسانُ ضَعيفاً }
ثم ذكر مثل قول ابن مسعود سواء ، وزاد فيه : ثم أقبل يفسرها في آخر الآية :
وأما قوله : { وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } فإن القراء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض الكوفيين { وَنُدْخِلْكُمْ مَدْخَلاً كَرِيماً } بفتح الميم ، وكذلك الذي في الحجّ
{ لَنُدْخِلَنَّهُمْ مَدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ }
فمعنى { وَنُدْخِلْكُمْ مَدْخَلاً } فيدخلون دخولاً كَريماً ، وقد يحتمل على مذهب من قرأ هذه القراءة أن يكون المعنى في المدخل : المكان والموضع ، لأن العرب ربما فتحت الميم من ذلك بهذا المعنى ، كما قال الراجز :
{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } * { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } * { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً }
*** بِمَصْبَحِ الحَمْدِ وَحَيْثُ يُمْسَى ***
وقد أنشدني بعضهم سماعاً من العرب :
الحَمْدُ لِلَّهِ مَمْسانا وَمَصْبَحُنا ***بالخَيْرِ صَبَّحَنا ربيّ وَمَسَّانا
*** الحَمْدُ لِلَّهِ مُمْسانا وَمُصْبَحُنا ***
لأنه من أصبح وأمسى ، وكذلك تفعل العرب فيما كان من الفعل بناؤه على أربعة ، تضمّ ميمه في مثل هذا فتقول : دحرجته مُدَحرجا ، فهو مُدَحرج ، ثم تحمل ما جاء على فعلَ يفْعِل على ذلك ، لأن يُفعل من يدخل ، وإن كان على أربعة ، وإن أصله أن يكون على يؤَفْعل : يُؤَدخل ، ويُؤَخرج ، فهو نظير يدحرج . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين والبصريين { مُدْخَلاً } بضم الميم ، يعني : وندخلكم ادخالاً كريماً . قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب : قراءة من قرأ ذلك { وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخلاً كَرِيماً } بضمّ الميم لما وصفنا من أن ما كان من الفعل بناؤه على أربعة في فعل فالمصدر منه مُفْعَل ، وإن أدخل ودحرج فَعَلَ منه على أربعة ، فالمُدخل مصدره أولى من مَفعل ، مع أن ذلك أفصح في كلام العرب في مصادر ما جاء على أفعل ، كما يقال : أقام بمكان فطاب له المُقام . إذا أريد به الإقامة ، وقام في موضعه فهو في مَقام واسع ، كما قال جل ثناؤه :
{ إنّ المُتَّقِينَ في مَقام آمِينٍ }
من قام يقوم ، ولو أريد به الإقامة ، لقرىء :
{ إنّ المتَّقِينَ في مَقام آمِين }
{ وَقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ، وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ }
بمعنى الادخال والإخراج ، ولم يبلغنا عن أحد أنه قرأ : مَدخَل صدق ، ولا مَخرَج صدق ، بفتح الميم . وأما المُدْخل الكريم : فهو الطيب الحسن ، المكرّم بنفي الآفات والعاهات عنه ، وبارتفاع الهموم والأحزان ودخول الكدر في عيش من دخله ، فلذلك سماه الله كريماً .
كما حدثني محمد بن الحسن ، قال : ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ { وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخلاً كَرِيما } قال الكريم : هو الحسن في الجنة .
{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } كبائر الذنوب التي نهاكم الله ورسوله عنها ، وقرئ كبير على إرادة الجنس . { نكفر عنكم سيئاتكم } نغفر لكم صغائركم ونمحها عنكم .
واختلف في الكبائر ، والأقرب أن الكبير كل ذنب رتب الشارع عليه حدا أو صرح بالوعيد فيه . وقيل ما علم حرمته بقاطع . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أنها سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والربا ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين " . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ) . وقيل أراد ههنا أنواع الشرك لقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها ، فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران ، فمن عن له أمران منها ودعت نفسه إليها بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرها كفر عنه ما ارتكبه لما استحق من الثواب على اجتناب الأكبر . ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال ، ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه عليه الصلاة والسلام في كثير من خطواته التي لم تعد على غيره خطيئة فضلا عن أن يؤاخذه عليها . { وندخلكم مدخلا كريما } الجنة وما وعد من الثواب ، أو إدخالا مع كرامة . وقرأ نافع هنا وفي الحج بفتح الميم وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى الكبائر التي وعد الله جلّ ثناؤه عباده باجتنابها تكفير سائر سيئاتهم عنهم؛ فقال بعضهم: الكبائر التي قال الله تبارك وتعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} هي ما تقدم الله إلى عباده بالنهي عنه من أوّل سورة النساء إلى رأس الثلاثين منها.
وقال آخرون: الكبائر سبع. عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: إني لفي هذا المسجد مسجد الكوفة، وعليّ رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر، فقال: يا أيها الناس إن الكبائر سبع! فأصاخ الناس، فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: ألا تسألوني عنها؟ قالوا؛ يا أمير المؤمنين ما هي؟ قال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرّم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرّب بعد الهجرة. فقلت لأبي: يا أبت التعرب بعد الهجرة، كيف لحق ههنا؟ فقال: يا بنيّ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل، حتى إذا وقع سهمه في الفيء ووجب عليه الجهاد، خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابياً كما كان.
وعلة من قال هذه المقالة ما حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: أخبرني الليث، قال: ثنى خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر، قال: أخبرني صهيب مولى العتواري أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد الخدري يقولان: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؟" ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثم أكبّ، فأكبّ كل رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف. ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر، فكان أحبّ إلينا من حمر النعم، فقال: "ما مِنْ عَبْدٍ يُصَلّى الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، ويُخْرِجُ الزَّكاةَ، وَيجْتَنِبُ الكَبائِرَ السَّبْعَ، إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الجَنَّةِ، ثُمَّ قِيلَ: ادْخُلْ بِسَلام "
عن عطاء قال الكبائر سبع: قتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، ورمى المحصنة، وشهادة الزور وعقوق الوالدين والفرار يوم الزحف.
وقال آخرون هي تسع: الإشراك بالله، وقتل النسَمة بغير حِلها، والفِرار من الزحف وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم ظلماً، وإلحاد في المسجد الحرام، والذي يستسحر، وبكاء الوالدين من العقوق.
وقال آخرون: هي أربع. عبد الله بن مسعود: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمْن من مكر الله.
وقال آخرون: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ذكر من قال ذلك.
عن ابن عباس، أنه سئل عن الكبائر، أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب.
وقال آخرون: كل موجِبة وكل ما أوعد الله أهله عليه النارَ فكبيرة. عن ابن عباس قال: الكبائر: كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب.
والذي نقول به في ذلك: ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك ما حدثنا به أحمد بن الوليد القرشي، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: ثنى عبيد الله بن أبي بكر، قال سمعت أنس بن مالك قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر، أو سئل عن الكبائر، فقال:"الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور، أو قال: شهادة الزور، "قال شعبة: وأكبر ظني أنه قال: شهادة الزور.
حدثنا يحيى بن حبيب بن عربيّ، قال: حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، قال:"الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس وقول الزور "
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن كثير، قال: ثنا شعبة، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس، قال: ذَكروا الكبائر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، ألا أُنْبِئَكُم بأكْبَرِ الكَبائِرِ قَوْلُ الزُّورِ "
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال ثنا شعبة، عن فراس، عن الشعبيّ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أكْبَرُ الكَبائِرِ: الإشْرَاكُ باللَّهِ وعَقُوُقُ الوَالِدَيْنِ أو قَتْلُ النَّفْسِ شعبة الشاكّ واليَمِينُ الغَمُوسُ "
حدثناأبو هشام الرفاعيّ، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال ثنا شيبان، عن فراس، عن الشعبيّ، عن عبد الله بن عمرو، قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما الكبائر؟ قال: "الشِّرْكُ باللَّهِ، قال: ثم مَهْ؟ قال: وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، قال: ثم مه، قال: واليَمِينُ الغَمُوسُ قلت للشعبيّ: ما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع مال امرىء مسلم بيمينه، وهو فيها كاذب "
حدثني المثنى، قال: ثنا ابن أبي السريّ محمد بن المتوكل العسقلانيّ، قال: ثنا محمد بن سعد، عن خالد بن معدان، عن أبي رُهم، عن أبي أيوب الأنصاريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أقامَ الصَّلاةَ، وآتى الزَّكاة وَصَامَ رَمَضَان، وَاجْتَنَبَ الكَبائِرَ فَلَهُ الجَنَّةُ. قيل: وما الكبائر؟ قال: الإشْرَاكُ باللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ والفرَارُ يَوْمَ الزَّحْف "
حدثني عباس بن أبي طالب، قال: ثنا سعد ابن عبد الحميد، عن جعفر، عن ابن أبي جعفر، عن ابن أبي الزناد، عن موسى بن عُقبة، عن عبد الله بن سلمان الأغرّ، عن أبيه أبي عبد الله سلمان الأغرّ، قال: قال أبو أيوب خالد بن أيوب الأنصاريّ: عَقَبِيّ بدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ عَبْدٍ يَعْبُدُ اللَّهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَيُقِيمُ الصَّلاةَ، ويُؤْتِى الزَّكاةَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيجْتَنِبُ الكَبائِرَ إلاَّ دَخَلَ الجَنَّةّ. فسألوه: ما الكبائر؟ قال: الإشرَاكُ باللَّهِ، والفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ "
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عباد بن عباد، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة: أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر، وهو متكىء، فقالوا: الشرك بالله، وأكل مال اليتيم، وفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين، وقول الزور، والغُلول، والسحر، وأكل الربا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فَأيْنَ تَجْعَلُونَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً... إلى آخر الآية "؟.
وأولى ما قيل في تأويل الكبائر بالصحة: ما صحّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما قاله غيره، وإن كان كل قائل فيها قولاً من الذين ذكرنا أقوالهم، قد اجتهد وبالغ في نفسه، ولقوله في الصحة مذهب، فالكبائر إذن: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس المحرّم قتلها، وقول الزور، وقد يدخل في قول الزور، شهادة الزور، وقذف المحصَنة، واليمين الغموس، والسحر؛ ويدخل في قتل النفس المحرم قتلها: قتل الرجل ولده من أجل أن يطعم معه، والفرار من الزحف، والزنا بحليلة الجار.
وإذا كان ذلك كذلك، صحّ كلّ خبر روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الكبائر، وكان بعضه مصدّقاً بعضاً، وذلك أن الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هِيَ سَبْعٌ" يكون معنى قوله حينئذ (هِيَ سَبْعٌ) على التفصيل، ويكون معنى قوله في الخبر الذي رُوى عنه أنه قال: (هِيَ الإشْراكُ باللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ) على الإجمال، إذ كان قوله: وَقَوْلُ الزورِ يحتمل معاني شتى، وأن يجمع جميعَ ذلك: قول الزور.
وأما خبر ابن مسعود الذي حدثَنِي به الفريابيّ على ما ذكرت، فإنه عندي غلط من عبيد الله ابن محمد، لأن الاخبار المتظاهرة من الأوجه الصحيحة عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحو الرواية التي رواها الزهريّ عن ابن عيينة، ولم يقل أحد منهم في حديثه عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر، فنقلُهم ما نقلوا من ذلك عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أولى بالصحة من نقل الفريابي. فمن اجتنب الكبائر التي وعد الله مجتنبها تكفير ما عداها من سيئاته، وإدخاله مدخلاً كريماً، وأدّى فرائضه التي فرضها الله عليه، وجد الله لما وعده من وعد منجزاً، وعلى الوفاء به دائباً.
{نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ}: نكفر عنكم أيها المؤمنون باجتنابكم كبائر ما ينهاكم عنه ربكم، صغائر سيئاتكم، يعني: صغائر ذنوبكم.
كما حدثني محمد بن الحسن، قال ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ} الصغائر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن ابن عون، عن الحسن، أن ناساً لقوا عبد الله بن عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها، لا يعمل بها وأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك. فقدم وقدموا معه، فلقيه عمر رضي الله عنه، فقال: متى قدمت؟ قال: منذ كذا وكذا، قال: أبإذن قدمت؟ قال: فلا أدري كيف ردّ عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن ناساً لقوني بمصر، فقالوا: إنا نرى أشياء من كتاب الله تبارك وتعالى أمر أن يُعمل بها، لا يُعمل بها، فأحَبُّوا أن يلقَوك في ذلك. فقال: اجمعهم لي، قال فجمعتهم له؛ قال ابن عون: أظنه قال: في نهر، فأخذ أدناهم رجلاً فقال: أنشدك بالله وبحقّ الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم، قال: فهل أحصيته في نفسك؟ قال: اللهمّ لا قال: ولو قال: نعم، لخصمه، قال فهل أحصيته في بصرك، هل أحصيته في لفظك، هل أحصيته في أثرك؟ قال ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، فقال ثكلت عمرَ أمُّه، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات، قال: وتلا: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْه نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُم وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاَ كَرِيماً} هل علم أهل المدينة؟ أو قال: هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا: لا، قال: لو علموا لوعظت بكم.
فمعنى {وَنُدْخِلْكُمْ مَدْخَلاً} فيدخلون دخولاً كَريماً، وقد يحتمل على مذهب من قرأ هذه القراءة أن يكون المعنى في المدخل: المكان والموضع، لأن العرب ربما فتحت الميم من ذلك بهذا المعنى... وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين والبصريين {مُدْخَلاً} بضم الميم، يعني: وندخلكم ادخالاً كريماً. قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب: قراءة من قرأ ذلك {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخلاً كَرِيماً} بضمّ الميم لما وصفنا من أن ما كان من الفعل بناؤه على أربعة في فعل فالمصدر منه مُفْعَل، وإن أدخل ودحرج فَعَلَ منه على أربعة، فالمُدخل مصدره أولى من مَفعل، مع أن ذلك أفصح في كلام العرب في مصادر ما جاء على أفعل، كما يقال: أقام بمكان فطاب له المُقام. إذا أريد به الإقامة، وقام في موضعه فهو في مَقام واسع، كما قال جل ثناؤه:
{إنّ المُتَّقِينَ في مَقام آمِينٍ}
{وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخلاً كَرِيما}، الكريم: هو الحسن في الجنة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن تجنبوا كبائر ما تنهون عنه} اختلف فيه؛ فقال بعضهم {كبائر} الشرك، لأن كبائر الشرك أنواع: منها: الجحود ببعض الرسل عليهم السلام ومنها: جحود العبادات واستحلال المحرمات وتحريم المحللات وغير ذلك وكل ذلك شرك بالله. فقيل: أراد بالكبائر الشرك. فإذا اجتنب كبائر الشرك صارت ما دونها موعود لها المغفرة بالمشيئة بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن ي شاء} (النساء 48) وعد بالمغفرة لما دون الشرك، وقرنه بمشيئته فهو في مشيئة الله تعالى: إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. وبالله التوفيق. وقيل: أراد بالكبائر كبائر الإسلام ثم يحتمل وجهين بعد هذا: يحتمل أن تكون الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر. ويحتمل أن تكون الصغائر مغفورة بالحسنات ألا ترى أنه قال في آخره: {نكفر عنكم سيئاتكم}؟ والتكفير إنما يكون بالحسنات؟ أو لا ترى أنه قال: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود 114) أخبر أن من السيئات ما يذهبها الحسنات...
ويحتمل أن يكون التفكير لها جميعا، وإن لم تجتنب ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} إلى قوله عز وجل: {ويكفر عنكم سيئاتكم} (البقرة 271) وقال عز وجل: {توبوا على الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم} (التحريم 8) ألا ترى أنه روي عن أنس رضي الله عنه (أنه) قال (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم "شفاعتي نائلة لأهل الكبائر من أمتي "؟ (أبو داوود 4739) وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه انه سمع امرأة تدعو: اللهم اجعلني من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم (فقال: (مه فقولي: اللهم اجعلني من الفائزين، فإن شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر) ثم قرأ: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} الآية)...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} وقرئ: «كبير ما تنهون عنه»، أي ما كبر من المعاصي التي ينهاكم الله عنها والرسول {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم} نمط ما تستحقونه من العقاب في كل وقت على صغائركم، ونجعلها كأن لم تكن، لزيادة الثواب المستحق على اجتنابكم الكبائر وصبركم عنها، على عقاب السيئات...
والكبيرة والصغيرة إنما وصفتا بالكبر والصغر بإضافتهما إما إلى طاعة أو معصية أو ثواب فاعلهما.
والتكفير: إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد، أو بتوبة. والإحباط: نقيضه، وهو إماطة الثواب المستحق بعقاب أزيد أو بندم على الطاعة...
اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا؟ فالأكثرون قالوا: إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر، لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر، فإذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة، عرف أنه متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراء له بالإقدام على تلك الصغائر، والإغراء بالقبيح لا يليق بالجملة، أما إذا لم يميز الله تعالى كل الكبائر عن كل الصغائر، ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة، ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه كبيرة فيكون ذلك زاجرا له عن الإقدام عليه. قالوا: ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، ووقت الموت في جميع الأوقات. والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة، وأن لا يبين أن الكبائر ليست إلا كذا وكذا، فإنه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة، فحينئذ تصير الصغيرة معلومة، ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة... {وندخلكم مدخلا كريما}... إن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة، بل لا بد معه من الطاعات، فالتقدير: إن أتيتم بجميع الواجبات، واجتنبتم عن جميع الكبائر، كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة، فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة. ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب، بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي، وهو فضل الله وكرمه ورحمته، كما قال: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}، والله أعلم...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر، وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر. وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء، وأن اللمسة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعده الصدق وقوله الحق، لا أنه يجب عليه ذلك. ونظير الكلام في هذا ما تقدم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى:"إنما التوبة على الله" [النساء: 17]، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر...
فقد تعاضد الكتاب وصحيح السنة بتكفير الصغائر قطعا كالنظر وشبهه. وبينت السنة أن المراد ب "تجتنبوا "ليس كل الاجتناب لجميع الكبائر. والله أعلم.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
- قال العلماء: المراد بالتكفير: الصغائر، وفي الكتاب العزيز: {إنْ تَجتنبُوا كبَائرَ ما تُنْهَوْنَ عنْهُ نُكفِّرْ عَنكُمْ سيئاتِكُمْ}. فجعل اجتناب الكبائر مكفرا. (نفسه: 2/530).
- قال أهل الحق: التقوى هي اجتناب الكبائر والصغائر لأن في الجميع عقوبة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين تعالى ما لفاعل ذلك تحذيراً، وكان قد تقدم جملة من الكبائر، أتبعه ما للمنتهي تبشيراً جواباً لمن كأنه قال: هذا للفاعل فما للمجتنب؟ فقال على وجه عام: {إن تجتنبوا} أي تجهدوا أنفسكم بالقصد الصالح في أن تتركوا تركاً عظيماً وتباعدوا {كبائر ما تنهون عنه} أي من أكل المال والقتل بالباطل والزنى وغير ذلك مما تقدم روى البزار -قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح- عن عبد الله -يعني ابن مسعود- أنه سئل عن الكبائر فقال: ما بين أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين قال الأصبهاني: وكل ذنب عظم الشرع الوعيد عليه بالعذاب وشدده، أو عظم ضرره في الخمس الضرورية: حفظ الدين والنفس والنسب والعقل والمال، فهو كبيرة، وما عداه صغيرة {نكفر عنكم سيئاتكم} أي التي هي دون الكبائر كلها، فإن ارتكبتم شيئاً من الكبائر وأتيتم بالمكفرات من الصلوات الخمس والجمعة وصوم رمضان والحج، أو فرطتم في شيء منها فمنَّ الله عليكم بأن أتاكم بالمرض؛ كفر ذلك المأتي به الصغائر، ولم يقاوم تلك الكبيرة فلم يكفر جميع السيئات، لعدم إتيانه على تلك الكبيرة {وندخلكم مدخلاً كريماً *} أي يجمع الشرف والعمل والجود وكل معنى حسن، ومن فاته جميع ذلك لم يكفر عنه سيئاته، ولم يدخله هذا المدخل، ويكفي في انتفائه حصول القصاص في وقت ما؛ وقال الإمام أحمد: المسلمون كلهم في الجنة -لهذه الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم
" ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "فالله تعالى يغفر ما دون الكبائر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر، فأي ذنب على المسلمين! ذكره عنه الأصبهاني، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخلا كريما كثير الخير وهو الجنة المشتملة على ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة، كالصلوات الخمس، والجمعة، وصوم رمضان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر". وأحسن ما حُدت به الكبائر، أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو ترتيب لعنة، أو غضب عليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي مقابل اجتناب "الكبائر "-ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل- يعدهم الله برحمته، وغفرانه، وتجاوزه عما عدا الكبائر؛ مراعاة لضعفهم الذي يعلمه -سبحانه- وتيسيرًا عليهم، وتطمينًا لقلوبهم؛ وعونًا لهم على التحاجز عن النار؛ باجتناب الفواحش الكبار:
(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه، نكفر عنكم سيئاتكم، وندخلكم مدخلا كريما).
ألا ما أسمح هذا الدين! وما أيسر منهجه! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة، والطاعة. وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود، والأوامر والنواهي، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم.
إن هذا الهتاف، وهذه التكاليف، لا تغفل -في الوقت ذاته- ضعف الإنسان وقصوره؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة.
ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة. وبين الأشواق والضرورات. وبين الدوافع والكوابح. وبين الأوامر والزواجر. وبين الترغيب والترهيب. وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة..
إنه حسب هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله؛ وأن تخلص حقًا في هذا الاتجاه، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه.. فأما بعد ذلك.. فهناك رحمة الله.. هناك رحمة الله ترحم الضعف، وتعطف على القصور؛ وتقبل التوبة، وتصفح عن التقصير؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين، في إيناس وفي تكريم..
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه. أما مقارفة هذه الكبائر -وهي واضحة ضخمة بارزة؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة.. وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه.. وقد قال فيها: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم- ومن يغفر الذنوب إلا الله -ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).. وعدهم من "المتقين".
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله، متى اجتنبت الكبائر؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين.
أما ما هي الكبائر.. فقد وردت أحاديث تعدد أنواعًا منها- ولا تستقصيها -وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص؛ مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة؛ فتذكر من الكبائر- في كل حديث -ما يناسب الملابسة الحاضرة، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم "الكبائر "من الذنوب. وإن كانت تختلف عددًا ونوعًا بين بيئة وبيئة، وبين جيل وجيل!
ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية. تبين- مع ذلك كله -كيف قوم الإسلام حسه المرهف، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم؛ وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس:
قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن ابن عون؛ عن الحسن أن ناسًا سألوا عبدالله بن عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله- عز وجل -أمر أن يعمل بها، لا يعمل بها؛ فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك. فقدم وقدموا معه. فلقي عمر- رضي الله عنه -فقال: متى قدمت؟ فقال: منذ كذا وكذا. قال: أبإذن قدمت؟ قال: فلا أدري كيف رد عليه. فقال: أمير المؤمنين إن ناسًا لقوني بمصر، فقالوا: إنا نرى أشياء في كتاب الله، أمر أن يعمل بها، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك. قال: فاجمعهم لي. قال فجمعتهم له. قال أبو عون: أظنه قال: في بهو.. فأخذ أدناهم رجلاً؛ فقال أنشدك الله، وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله! قال: نعم. قال: فهل أحصيته في نفسك؟ فقال: اللهم لا- ولو قال: نعم، لخصمه! قال: فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك.. ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال: ثكلت عمر أمه! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات. قال وتلا: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم)... الآية. ثم قال: هل علم أهل المدينة؟ أو قال: هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا: لا. قال: لو علموا لوعظت بكم!".
فهكذا كان عمر -المتحرج الشديد الحساسية- يسوس القلوب والمجتمع؛ وقد قوم القرآن حسه؛ وأعطاه الميزان الدقيق.." وقد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات! "ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون! إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات، وبذل الجهد في هذا الوفاء.. إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} بعد أن أنذر سبحانه وتعالى ذلك الإنذار الشديد فتح باب التوبة حتى لا ييئس العباد من رجمته، ولا يقنطوا من العودة إليه سبحانه فقال: {إن تجتنبوا}، والاجتناب معناه: البعد، حتى تكون المعاصي في جانب وهو في جانب، ولا يتلاقيا قط، ومعنى التكفير: ستر السيئات او إبعادها وإماطة أذاها عن النفس، فإن التوبة الصادقة النصوح كالماء الطهور تطهر النفس. وفي النص إشارة إلى أن المعاصي قسمان: كبائر وصغائر، وسمى الصغائر هنا سيئات لأنها تسوء صاحبها وتؤلمه وتسوء في ذاتها، ولا تتعدى في كثير من الحيان، وسماها في آية أخرى اللمم، فقال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم...32} [النجم] أي ما يلم به الإنسان من غير إصرار عليه، ولا استمرار فيه، ومن هذين الوصفين نستطيع أن نعرف صغائر الذنوب بأنها ما تسوء في ذاتها من غير تعد ويرتكبها الشخص من غير إصرار، فإن الإساءة تتعدى وتفحش، وإن كان ثمة إصرار فليست صغيرة.
وبتعريف الصغائر نستهدي إلى تعرف الكبائر، وقد روى في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال:"الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات"، ولا شك أن هذا الحديث لا يدل على الإحصاء للكبائر، فقد ذكر في أحاديث أخرى أن منها عقوق الوالدين، وشرب الخمر، وقد جاء في حديث آخر أن من أكبر الكبائر الزنا، وأفحشه ما كان بحليلة الجار. وقد قيل لابن عباس: الكبائر سبع، فقال رضي الله عنه: هي إلى سبعمائة أقرب. لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
وإننا إذا تتبعنا الكبائر التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم من غير إحصاء، نرى انها قد اتسمت بسمتين – إحداهما: أنها تهدم أمرا ضروريا من ضروريات المجتمع، فالزنا يهدم الأسرة، والقذف يهدمها ويشيع الفاحشة، وشرب الخمر يفسد العقل وهو ضروري للمجتمع، والسحر يفسد العلاقات الإنسانية، وعقوق الوالدين ينقض بناء الأسرة من قواعده، وهكذا. والسمة الثانية: أن الاعتياد عليها يميت الضمير، ويجعل النفس تمرن على الشر.
ولذلك نقول: عن الكبائر هي المفاسد التي تهدم بناء المجتمع الفاضل، والمعاصي التي يصر عليها الشخص ومن شأنها أن تفسده أو تفسد غيره، ولو كانت في ذاتها هينة؛ لأن استمراء النفس للمعصية الصغيرة يسهل الكبيرة.
{وندخلكم مدخلا كريما}: وعد الله الذين يباعدون الكبائر عن نفوسهم بأن يكفر عنهم سيئاتهم، وإنه ليس بعد زوال السيئات إلا الثواب، ولذلك قال تعالى: {وندخلكم مدخلا كريما}."المدخل" اسم مكان من "أدخل"، وعبر بالإدخال للإشارة إلى أن ذلك تفضل من الله ورحمة، إذ لم يملكوا الأسباب والمفاتيح إلا بتفضل منه ورحمة، ووصف المكان بالكرم للإشارة إلى أمرين: أحدهما: أنه مكان طيب، ينعم المقيم فيه، ويستطيب الإقامة. والثاني: أن من يحل فيه يكرمه الله تعالى، ويفيض عليه برضوانه، فهو مكان كريم في ذاته، ولا يدخله إلا كريم مكرم يفيض الله تعالى عليه بكرمه ومنته.