فلم يبق إلا الشفاعة ، فنفاها بقوله : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فهذه أنواع التعلقات ، التي يتعلق بها المشركون بأندادهم ، وأوثانهم ، من البشر ، والشجر ، وغيرهم ، قطعها اللّه وبيَّن بطلانها ، تبيينا حاسما لمواد الشرك ، قاطعا لأصوله ، لأن المشرك إنما يدعو ويعبد غير اللّه ، لما يرجو منه من النفع ، فهذا الرجاء ، هو الذي أوجب له الشرك ، فإذا كان من يدعوه [ غير اللّه ] ، لا مالكا للنفع والضر ، ولا شريكا للمالك ، ولا عونا وظهيرا للمالك ، ولا يقدر أن يشفع بدون إذن المالك ، كان هذا الدعاء ، وهذه العبادة ، ضلالا في العقل ، باطلة في الشرع .
بل ينعكس على المشرك مطلوبه ومقصوده ، فإنه يريد منها النفع ، فبيَّن اللّه بطلانه وعدمه ، وبيَّن في آيات أخر ، ضرره على عابديه{[734]} وأنه يوم القيامة ، يكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، ومأواهم النار { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
والعجب ، أن المشرك استكبر عن الانقياد للرسل ، بزعمه{[735]} أنهم بشر ، ورضي أن يعبد ويدعو الشجر ، والحجر ، استكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان ، ورضي بعبادة من ضره أقرب من نفعه ، طاعة لأعدى عدو له وهو الشيطان .
وقوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } يحتمل أن الضمير في هذا الموضع ، يعود إلى المشركين ، لأنهم مذكورون في اللفظ ، والقاعدة في الضمائر ، أن تعود إلى أقرب مذكور ، ويكون المعنى : إذا كان يوم القيامة ، وفزع عن قلوب المشركين ، أي : زال الفزع ، وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم ، عن حالهم في الدنيا ، وتكذيبهم للحق الذي جاءت به الرسل ، أنهم يقرون ، أن ما هم عليه من الكفر والشرك ، باطل ، وأن ما قال اللّه ، وأخبرت به عنه رسله ، هو الحق فبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل وعلموا أن الحق للّه ، واعترفوا بذنوبهم .
{ وَهُوَ الْعَلِيُّ } بذاته ، فوق جميع مخلوقاته وقهره لهم ، وعلو قدره ، بما له من الصفات العظيمة ، جليلة المقدار { الْكَبِيرُ } في ذاته وصفاته .
ومن علوه ، أن حكمه تعالى ، يعلو ، وتذعن له النفوس ، حتى نفوس المتكبرين والمشركين .
وهذا المعنى أظهر ، وهو الذي يدل عليه السياق ، ويحتمل أن الضمير يعود إلى الملائكة ، وذلك أن اللّه تعالى إذا تكلم بالوحي ، سمعته الملائكة ، فصعقوا ، وخروا للّه سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه اللّه من وحيه بما أراد ، وإذا زال الصعق عن قلوب الملائكة ، وزال الفزع ، فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك الكلام الذي صعقوا منه : ماذا قال ربكم ؟ فيقول بعضهم لبعض : قال الحق ، إما إجمالا ، لعلمهم أنه لا يقول إلا حقا ، وإما أن يقولوا : قال كذا وكذا ، للكلام الذي سمعوه منه ، وذلك من الحق .
فيكون المعنى على هذا : أن المشركين الذين عبدوا مع اللّه تلك الآلهة ، التي وصفنا لكم عجزها ونقصها ، وعدم نفعها بوجه من الوجوه ، كيف صدفوا وصرفوا عن إخلاص العبادة للرب العظيم ، العلي الكبير ، الذي - من عظمته وجلاله - أن الملائكة الكرام ، والمقربين من الخلق ، يبلغ بهم الخضوع والصعق ، عند سماع كلامه هذا المبلغ ، ويقرون كلهم للّه ، أنه لا يقول إلا الحق .
فما بال هؤلاء المشركين ، استكبروا عن عبادة من هذا شأنه ، وعظمة ملكه وسلطانه . فتعالى العلي الكبير ، عن شرك المشركين ، وإفكهم ، وكذبهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّىَ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ قَالُواْ الْحَقّ وَهُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : ولا تنفع شفاعة شافع كائنا من كان الشافع لمن شَفَع له ، إلا أن يشفع لمن أذن الله في الشفاعة . يقول تعالى : فإذا كانت الشفاعات لا تنفع عند الله أحدا إلا لمن أذِن الله في الشفاعة له ، والله لا يأذن لأحد من أوليائه في الشفاعة لأحد من الكفرة به ، وأنتم أهل كفر به أيها المشركون ، فكيف تعبدون من تعبدونه من دون الله زعما منكم أنكم تعبدونه ، ليقرّبكم إلى الله زُلْفَى ، وليشفع لكم عند ربكم «فمن » إذ كان هذا معنى الكلام التي في قوله إلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ : المشفوع له .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : أَذِنَ لَهُ فقرأ ذلك عامة القرّاء بضم الألف مِن «أَذِنَ لَهُ » على وجه ما لم يسمّ فاعله . وقرأه بعض الكوفيين : أَذِنَ لَهُ على اختلاف أيضا عنه فيه ، بمعنى أذن الله له .
وقوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يقول : حتى إذا جُلِيَ عن قلوبهم ، وكشف عنها الفزع وذهب .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يعني : جُلِيَ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال : كشف عنها الغطاء يوم القيامة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : إذا جلي عن قلوبهم .
واختلف أهل التأويل في الموصوفين بهذه الصفة مَنْ هُم ؟ وما السبب الذي من أجله فُزّع عن قلوبهم ؟ فقال بعضهم : الذي فُزّع عن قلوبهم الملائكة ، قالوا : وإنما يفزّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم الله بالوحي . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن داود ، عن الشّعبيّ ، قال : قال ابن مسعود في هذه الاَية : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال : إذا حدث أمر عند ذي العرش سَمع مَن دونه من الملائكة صوتا كجرّ السلسلة على الصفا ، فيُغْشى عليهم ، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم تنادَوا : ماذَا قالَ رَبّكُمْ قال : فيقول من شاء ، قال : الحقّ ، وهو العليّ الكبير .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت داود ، عن عامر ، عن مسروق قال : إذا حدث عند ذي العرش أمر سمعت الملائكة صوتا ، كجرّ السلسلة على الصفا ، قال : فيُغْشَى عليهم ، فإذا فُزّع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قال : فيقول من شاء الله : الحَقّ ، وهو العليّ الكبير .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود ، أنه قال : إذا حدث أمر عند ذي العرش ، ثم ذكر نحو معناه إلاّ أنه قال : فيُغْشَى عليهم من الفزع ، حتى إذا ذهب ذلك عنهم تنادوا : ماذا قال ربكم ؟
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال : إن الوحي إذا أُلقي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان ، قال : فيتنادون في السموات . ماذا قال ربكم ؟ قال : فيتنادون : الحَقّ ، وهو العليّ الكبير .
وبه عن منصور ، عن أبي الضّحَى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : يُنَزّلُ الأمرُ من عند ربّ العزّة إلى السماء الدنيا ، فيفُزَع أهل السماء الدنيا ، حتى يستبين لهم الأمر الذي نُزّل فيه ، فيقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ فيقولون : قال الحقّ ، وهو العليّ الكبير ، فذلك قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ . . . الاَية .
حدثنا أحمد بن عَبْدة الضّبيّ ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرِمة ، قال : حدثنا أبو هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ اللّهَ إذَا قَضَى أمْرا فِي السّماءِ ضَرَبَتِ المَلائِكَةُ بأجْنِحَتِها جَمِيعا ، ولقوله صوت كصوت السلسلة على الصفا الصّفْوان ، فذلك قوله » : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحقّ وَهُو العَلِيّ الكَبِيرُ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا أيوب ، عن هشام بن عروة ، قال : قال الحارث بن هشام لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي ؟ قال : «يَأْتِينِي فِي صَلَصَلَةٍ كَصَلْصَلَةِ الجَرَسِ فَيَفْصِمُ عَنّي حِينَ يَفْصِمُ وَقَدْ وَعَيْتُهُ ، ويَأْتِي أحْيانا فِي مِثْلِ صُورَةِ الرّجُلِ ، فَيُكَلّمُنِي بِهِ كَلاما ، وَهُوَ أهْوَنُ عَليّ » .
حدثني زكريا بن أَبان المصريّ ، قال : حدثنا نعيم ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن ابن أبي زكريا ، عن جابر بن حَيْوَة ، عن النوّاس بن سمعان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا أرَادَ اللّهُ أنْ يُوحِيَ بالأَمْرِ تَكَلّمَ بالوَحْيِ ، أخَذَتِ السّمَوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ أوْ قالَ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ خَوْفَ أمْرِ اللّهِ ، فإذا سَمِعَ بذلكَ أهْلُ السّمَوَاتِ صَعِقُوا وَخَرّوا لِلّهِ سُجّدا ، فَيَكُونُ أوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رأسَهُ جَبْرائِيلُ ، فَيُكَلّمُهُ اللّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أرَادَ ، ثُمّ يَمُرّ جَبْرائِيلُ على المَلائِكَةِ كُلّما مَرّ بِسَماءٍ سأَلَهُ مَلائِكَتُها . ماذَا قال رَبّنا يا جَبْرائِيلُ ؟ فَيَقُولُ جَبْرَائِيلُ . قالَ الحَقّ وَهُوَ العِليّ الكَبِيرُ ، قالَ : فَيَقُولُونَ كُلّهُمْ مِثْلَ ما قالَ جَبْرائِيلُ ، فَيَنْتَهي جَبْرائِيلُ بالوَحْيِ حَيثُ أمَرَهُ اللّهُ » .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ . . . الاَية . قال : كان ابن عباس يقول : إن الله لما أراد أن يوحي إلى محمد ، دعا جبريل ، فلما تكلم ربنا بالوحي ، كان صوته كصوت الحديد على الصفا فلما سمع أهل السموات صوت الحديد خرّوا سُجّدا فلما أَتيَ عليهم جبرائيل بالرسالة رفعوا رُؤوسهم ، فقالوا : ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ وهذا قول الملائكة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ . . . إلى وَهُوَ العَلِيّ الكَبِير قال : لما أوحَي الله تعالى ذكره إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسولَ من الملائكة ، فبعث بالوحْي ، سمعت الملائكة صوت الجَبار يتكلم بالوحي فلما كُشِف عن قلوبهم سألوا عما قال الله ، فقالوا : الحقّ ، وعلموا أن الله لا يقول إلا حَقا ، وأنه مُنجز ما وعد . قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا فلما سمعوه خرّوا سجّدا فلما رفعوا رؤوسهم قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ ثم أمر الله نبيه أن يسأل الناس قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَوَاتِ . . . إلى قوله : فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قُرّة ، عن عبد الله بن القاسم ، في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ . . . الاَية ، قال : الوحي ينزل من السماء ، فإذا قضاه قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال : إن الوحي إذا قَضَى في زوايا السماء ، قال : مثل وقع الفُولاذ على الصخرة ، قال : فيُشْفِقون ، لا يدرون ما حدث ، فيفزعون ، فإذا مرّت بهم الرسل قالُوا ماذا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَليّ الكَبِيرُ .
وقال آخرون ممن قال : الموصوفون بذلك الملائكة : إنما يُفَزّع عن قلوبهم فَزعُهُم من قضاء الله الذي يقضيه حذرا أن يكون ذلك قيام الساعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ . . . الاَية ، قال : يوحي الله إلى جبرائيل ، فَتَفرّق الملائكة ، أو تفزع مخافة أن يكون شيء من أمر الساعة ، فإذا جُلِيَ عن قلوبهم ، وعلموا أنه ليس ذلك من أمر الساعة قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ .
وقال آخرون : بل ذلك من فعل ملائكة السموات إذا مرّت بها المعقّبات فزَعا أن يكون حدث أمر الساعة . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ . . . الاَية ، زعم ابن مسعود أن الملائكة المُعَقبات الذين يختلفون إلى الأرض يكتبون أعمالهم ، إذا أرسلهم الربّ فانحدروا سمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة ، فخرّوا سُجّدا ، وهكذا كلما مرُوا عليهم يفعلون ذلك من خوف ربهم .
وقال آخرون : بل الموصوفون بذلك المشركون ، قالوا : وإنما يُفزّع الشيطان عن قلوبهم قال : وإنما يقولون : ماذا قال ربكم عند نزول المنية بهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال : فَزّع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم ، وما كان يضلهم قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ قال : وهذا في بني آدم ، وهذا عند الموت أقرّوا به حين لم ينفعهم الإقرار .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي ذكره الشّعْبيّ ، عن ابن مسعود لصحة الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأييده . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : لا تنفع الشفاعة عنده ، إلا لمن أذن له أن يشفَع عنده ، فإذا أذن الله لمن أذن له أن يشفع فزع لسماعه إذنه ، حتى إذا فُزّع عن قلوبهم ، فجُلّيَ عنها ، وكشَف الفزع عنهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالت الملائكة : الحقّ ، وهو العليّ على كل شيء الكبير الذي لا شيء دونه . والعرب تستعمل فُزّع في معنيين ، فتقول للشجاع الذي به تنزل الأمور التي يفزَع منها : وهو مُفَزّع وتقول للجبان الذي يَفْزَع من كلّ شيء : إنه لمُفَزّع ، وكذلك تقول للرجل الذي يقضي له الناس في الأمور بالغلبة على من نازله فيها : هو مُغَلّب وإذا أريد به هذا المعنى كان غالبا وتقول للرجل أيضا الذي هو مغلوب أبدا : مُغَلّب .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار أجمعون : فُزّعَ بالزاي والعين على التأويل الذي ذكرناه عن ابن مسعود ومن قال بقوله في ذلك . ورُوي عن الحسن أنه قرأ ذلك : «حتى إذَا فُزِعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ » بالراء والغين على التأويل الذي ذكرناه عن ابن زيد . وقد يحتمل توجيه معنى قراءة الحسن ذلك كذلك ، إلى «حتى إذَا فُزِغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ » فصارت فارغة من الفزع الذي كان حلّ بها . ذُكر عن مجاهد أنه قرأ ذلك : «فُزِعَ » بمعنى : كَشَف الله الفزع عنها .
والصواب من القراءة في ذلك القراءة بالزاي والعين لإجماع الحجة من القراء وأهل التأويل عليها ، ولصحة الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأييدها ، والدلالة على صحتها .
وجاء نظم قوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } نظماً بديعاً من وفرة المعنى ، فإن النفع يجيء بمعنى حصول المقصود من العمل ونجاحه كقول النابغة :
ومنه قوله تعالى : { لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل } [ الأنعام : 158 ] ، ويجيء بمعنى المساعد الملائم وهو ضد الضار وهو أكثر إطلاقه . ومنه : دواء نافع ، ونفعني فلان . فالنفع بالمعنى الأول في الآية يفيد القبول من الشافع لشفاعته ، وبالمعنى الثاني يفيد انتفاع المشفوع له بالشفاعة ، أي حصول النفع له بانقشاع ضر المؤاخذة بذنب كقوله تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [ المدثر : 48 ] . فلما عبر في هذه الآية بلفظ الشفاعة الصالح لأن يعتبر مضافاً إلى الفاعل أو إلى المفعول احتمل النفع أن يكون نفع الفاعل ، أي قبول شفاعته ، ونفعَ المفعول ، أي قبول شفاعة من شفع فيه .
وتعدية فعل الشفاعة باللام دون ( في ) ودون تعديته بنفسه زاد صلوحيته للمعنيين لأن الشفاعة تقتضي شافعاً ومشفوعاً فيه فكان بذلك أوفرَ معنىً .
فالاستثناء في قوله : { إلا لمن أذن له } استثناء من جنس الشفاعة المنفي بقرينة وجود اللام وليس استثناء من متعلَّق { تنفع } لأن الفعل لا يعدّى إلى مفعوله باللام إلا إذا تأخر الفعل عنه فضعف عن العمل بسبب التأخير فلذلك احتملت اللام أن تكون داخلة على الشافع ، وأن ( مَن ) المجرورة باللام صادقة على الشافع ، أي لا تقبل شفاعةٌ إلا شفاعة كائنة لمن أذن الله له ، أي أذن له بأن يشفع فاللام للملك كقولك : الكرم لزيد ، أي هو كريم فيكون في معنى قوله : { ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع } [ السجدة : 4 ] . وأن تكون اللام داخلة على المشفوع فيه ، و ( مَن ) صادقة على مشفوع فيه ، أي إلا شفاعةً لمشفوع أذن الله الشافعين أن يشفعوا له أي لأجله فاللام للعلة كقولك : قمت لزيد ، فهو كقوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] .
وإنما جيء بنظم هذه الآية على غير ما نُظمت عليه غيرها لأن المقصود هنا إبطال رجائهم أن تشفع لهم آلهتهم عند الله فينتفعوا بشفاعتها ، لأن أول الآية توبيخ وتعجيز لهم في دعوتهم الآلهة المزعومة فاقتضت إبطال الدعوة والمدعُوّ .
وقد جمعت الآية نفي جميع أصناف التصرف عن آلهة المشركين كما جمعت نفي أصناف الآلهة المعبودة عند العرب ، لأن من العرب صابئة يعبدون الكواكب وهي في زعمهم مستقرة في السماوات تدبر أمور أهل الأرض فأبطل هذا الزعمَ قولُه : { لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } ؛ فأما في السماوات فباعترافهم أن الكواكب لا تتصرف في السماوات وإنما تصرفها في الأرض ، وأما في الأرض فبقوله : { ولا في الأرض } . ومن العرب عبدة أصنام يزعمون أن الأصنام شركاء لله في الإِلهية فنفي ذلك بقوله : { وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } ، ومنهم من يزعمون أن الأصنام جعلها الله شفعاء لأهل الأرض فنفي ذلك بقوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده } الآية .
وقرأ الجمهور { أذن } بفتح الهمزة وفيه ضمير يعود إلى اسم الجلالة مثل ضمائر الغيبة التي قبله . وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بضم الهمزة على البناء للنائب . والمجرور من قوله : { له } في موضع نائب الفاعل .
وقوله : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } { حتى } ابتدائية وهي تفيد ارتباط ما بعدها بما قبلها لا محالة فالضمائر التي في الجملة الواقعة بعد { حتى } عائدة على ما يصلح لها في الجُمل التي قبلها . وقد أفادت { حتى } الغاية بأصل وضعها وهي هنا غاية لما أفهمه قوله : { إلا لمن أذن له } من أن هنالك إذناً يصدر من جانب القدس يأذن الله به ناساً من الأخيار بأن يشفعوا كما جاء تفصيل بعض هذه الشفاعة في الأحاديث الصحيحة وأن الذين يرجون أن يشفع فيهم ينتظرون ممن هو أهل لأن يشفع وهم في فزع من الإِشفاق أن لا يؤذن بالشفاعة فيهم ، فإذا أذن الله لمن شاء أن يشفع زال الفزع عن قلوبهم واستبشروا إذ أنه فزع عن قلوب الذين قبلت الشفاعة فيهم ، أي وأيس المحرومون من قبول الشفاعة فيهم . وهذا من الحذف المسمى بالاكتفاء اكتفاء بذكر الشيء عن ذكر نظيره أو ضده ، وحسنه هنا أنه اقتصار على ما يسرّ المؤمنين الذين لم يتخذوا من دون الله أولياء .
وقد طويت جمل مِن وراء { حتى } ، والتقدير : إلا لمن أذن له ويومئذٍ يبقى الناس مرتقبين الإِذن لمن يشفع ، فَزعين من أن لا يؤذن لأحد زمناً ينتهي بوقت زوال الفزع عن قلوبهم حينَ يؤذن للشافعين بأن يشفعوا ، وهو إيجاز حذف .
و { إذا } ظرف للمستقبل وهو مضاف إلى جملة { فزع عن قلوبهم } ومتعلق ب { قالوا } .
و { فزع } قرأه الجمهور بضم الفاء وكسر الزاي مشددة ، وهو مضاعف فزع . والتضعيف فيه للإِزالة مثل : قشّر العود ، ومَرَّض المريض إذا باشر علاجَه ، وبُني للمجهول لتعظيم ذلك التفزيع بأنه صادر من جانب عظيم ، ففيه جانب الآذن فيه ، وجانب المبلغ له وهو الملك .
والتفزيع يحصل لهم بانكشاف إجمالي يلهمونه فيعلمون بأن الله أذن بالشفاعة ثم يتطلبون التفصيل بقولهم : { ماذا قال ربكم } ليعلموا من أُذِن له ممن لم يؤذن له ، وهذا كما يكَرِّر النظَرَ ويُعَاوِد المطالعَةَ مَن ينتظر القبول ، أو هم يتساءلون عن ذلك من شدة الخَشية فإنهم إذا فُزِّع عن قلوبهم تساءلوا لمزيد التحقق بما استبشروا به فيجابون أنه قال الحق .
فضمير { قالوا ماذا قال ربكم } عائد على بعض مدلول قوله : { لمن أذن له } . وهم الذين أذن للشفعاء بقبول شفاعتهم منهم وهم يوجهون هذا الاستفهام إلى الملائكة الحافّين ، وضمير { قالوا الحق } عائد إلى المسؤولين وهم الملائكة .
ويظهر أن كلمة { الحق } وقعت حكاية لمقول الله بوصف يجمع متنوع أقوال الله تعالى حينئذٍ من قبول شفاعة في بعض المشفوع فيهم ومن حرمان لغيرهم كما يقال : ماذا قال القاضي للخصم ؟ فيقال : قال الفصلَ . فهذا حكاية لمقول الله بالمعنى .
وانتصاب { الحق } على أنه مفعول { قالوا } يتضمن معنى الكلام ، أي قال الكلام الحق ، كقوله :
وقصيدةٍ تأتي الملوك غريبة *** قد قلتُها ليقال من ذا قالها
هذا هو المعنى الذي يقتضيه نظم الآية ويلتئم مع معانيها . وقد ذهبت في تفسيرها أقوال كثير من المفسرين طرائق قدداً ، وتفرقوا بَدَداً بَدَداً .
و ( ذا ) من قوله : { ماذا } إشارة عوملت معاملة الموصول لأن أصل : { ماذا قال } : ما هذا الذي قال ، فلما كثر استعمالها بدون ذِكر اسم الموصول قِيل إن ( ذا ) بعد الاستفهام تصير اسم موصول ، وقد يذكر الموصول بعدها كقوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده } [ البقرة : 255 ] .
وقرأ ابن عامر ويعقوب { فزع } بفتح الفاء وفتح الزاي مشددة بصيغة البناء للفاعل ، أي فَزّع الله عن قلوبهم .
وقد ورد في أحاديث الشفاعة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن الله يقول لآدم : « أخرج بعث النار من ذريتك » ، وفي حديث أنس في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المحشر كلهم " ليدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار " . وفيه أن الأنبياء أبوا أن يشفعوا وأن أهل المحشر أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأنه استأذن ربه في ذلك فقال له : « سل تُعْطَ واشفع تُشَفّع » ، وفي حديث أبي سعيد « أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لعمه أبي طالب فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلي منه أم دماغه » .
وجملة { وهو العلي الكبير } تتمة جواب المجيبين ، عطفوا تعظيم الله بذكر صفتين من صفات جلاله ، وهما صفة { العلي } وصفة { الكبير } .
والعلو : علوّ الشأن الشامل لمنتهى الكمال في العلم .
والكبر : العظمة المعنوية ، وهي منتهى القدرة والعدل والحكمة ، وتخصيص هاتين الصفتين لمناسبة مقام الجواب ، أي قد قضى بالحق لكل أحد بما يستحقه فإنه لا يخفى عليه حال أحد ولا يعوقه عن إيصاله إلى حقه عائق ولا يجوز دونه حائل . وتقدم ذكر هاتين الصفتين في قوله : { وأن الله هو العلي الكبير } في سورة الحج ( 62 ) .
واعلم أنه قد ورد في صفة تلقّي الملائكة الوحي أن من يتلقى من الملائكة الوحي يسأل الذي يبلغه إليه بمثل هذا الكلام كما في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري } وغيره : أن نبيء الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال الحقّ وهو العلي الكبير " اهـ . فمعنى قوله في الحديث : قضَى صدَر منه أمر التكوين الذي تتولى الملائكة تنفيذه ، وقوله في الحديث : " في السماء " يتعلق ب « قضى » بمعنى أوصل قضاءه إلى السماء حيث مقرّ الملائكة ، وقوله : « خُضْعَاناً لقوله » أي خوفاً وخشية ، وقوله : { فزع عن قلوبهم } أي أزيل الخوف عن نفوسهم .
وفي حديث ابن عباس عند الترمذي " إذا قضى ربنا أمراً سبح له حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " قال : " ثم أهل كل سماء " الحديث . وذلك لا يقتضي أنه المراد في آية سورة سبأ وإنما هذه صفة تلقي الملائكة أمر الله في الدنيا والآخرة فكانت أقوالهم على سنة واحدة .
وليس تخريج البخاري والترمذي هذا الحديث في الكلام على تفسير سورة سبأ مراداً به أنه وارد في ذلك ، وإنما يريد أن من صور معناه ما ذكر في سورة سبأ . وهذا يغنيك عن الالتجاء إلى تكلفات تعسّفوها في تفسير هذه الآية وتعَلّقها بما قبلها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولا تنفع شفاعة شافع كائنا من كان الشافع لمن شَفَع له، إلا أن يشفع لمن أذن الله في الشفاعة. يقول تعالى: فإذا كانت الشفاعات لا تنفع عند الله أحدا إلا لمن أذِن الله في الشفاعة له، والله لا يأذن لأحد من أوليائه في الشفاعة لأحد من الكفرة به، وأنتم أهل كفر به أيها المشركون، فكيف تعبدون من تعبدونه من دون الله زعما منكم أنكم تعبدونه، ليقرّبكم إلى الله زُلْفَى، وليشفع لكم عند ربكم «فمن» إذ كان هذا معنى الكلام التي في قوله "إلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ": المشفوع له...
وقوله: "حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ "يقول: حتى إذا جُلِيَ عن قلوبهم، وكشف عنها الفزع وذهب... عن ابن عباس، قوله: "حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ" يعني: جُلِيَ... عن مجاهد "حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ" قال: كشف عنها الغطاء يوم القيامة...
واختلف أهل التأويل في الموصوفين بهذه الصفة مَنْ هُم؟ وما السبب الذي من أجله فُزّع عن قلوبهم؟ فقال بعضهم: الذي فُزّع عن قلوبهم الملائكة، قالوا: وإنما يفزّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم الله بالوحي... عن الشّعبيّ، قال: قال ابن مسعود في هذه الآية: "حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ" قال: إذا حدث أمر عند ذي العرش سَمع مَن دونه من الملائكة صوتا كجرّ السلسلة على الصفا، فيُغْشى عليهم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم تنادَوا: "ماذَا قالَ رَبّكُمْ" قال: فيقول من شاء، قال: الحقّ، وهو العليّ الكبير...
حدثني زكريا بن أَبان المصريّ، قال: حدثنا نعيم، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن ابن أبي زكريا، عن جابر بن حَيْوَة، عن النوّاس بن سمعان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا أرَادَ اللّهُ أنْ يُوحِيَ بالأَمْرِ تَكَلّمَ بالوَحْيِ، أخَذَتِ السّمَوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ أوْ قالَ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ خَوْفَ أمْرِ اللّهِ، فإذا سَمِعَ بذلكَ أهْلُ السّمَوَاتِ صَعِقُوا وَخَرّوا لِلّهِ سُجّدا، فَيَكُونُ أوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رأسَهُ جَبْرائِيلُ، فَيُكَلّمُهُ اللّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أرَادَ، ثُمّ يَمُرّ جَبْرائِيلُ على المَلائِكَةِ كُلّما مَرّ بِسَماءٍ سأَلَهُ مَلائِكَتُها. ماذَا قال رَبّنا يا جَبْرائِيلُ؟ فَيَقُولُ جَبْرَائِيلُ. قالَ الحَقّ وَهُوَ العِليّ الكَبِيرُ، قالَ: فَيَقُولُونَ كُلّهُمْ مِثْلَ ما قالَ جَبْرائِيلُ، فَيَنْتَهي جَبْرائِيلُ بالوَحْيِ حَيثُ أمَرَهُ اللّهُ»... عن ابن عباس، قوله "حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ" إلى "وَهُوَ العَلِيّ الكَبِير" قال: لما أوحَي الله تعالى ذكره إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسولَ من الملائكة، فبعث بالوحْي، سمعت الملائكة صوت الجَبار يتكلم بالوحي فلما كُشِف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا: الحقّ، وعلموا أن الله لا يقول إلا حَقا، وأنه مُنجز ما وعد...
وقال آخرون ممن قال: الموصوفون بذلك الملائكة: إنما يُفَزّع عن قلوبهم فَزعُهُم من قضاء الله الذي يقضيه حذرا أن يكون ذلك قيام الساعة...
وقال آخرون: بل ذلك من فعل ملائكة السموات إذا مرّت بها المعقّبات فزَعا أن يكون حدث أمر الساعة...
وقال آخرون: بل الموصوفون بذلك المشركون، قالوا: وإنما يُفزّع الشيطان عن قلوبهم قال: وإنما يقولون: ماذا قال ربكم عند نزول المنية بهم... قال ابن زيد، في قوله: "حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ" قال: فَزّع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم، وما كان يضلهم "قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ" قال: وهذا في بني آدم، وهذا عند الموت أقرّوا به حين لم ينفعهم الإقرار.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي ذكره الشّعْبيّ، عن ابن مسعود لصحة الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأييده. وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: لا تنفع الشفاعة عنده، إلا لمن أذن له أن يشفَع عنده، فإذا أذن الله لمن أذن له أن يشفع فزع لسماعه إذنه، حتى إذا فُزّع عن قلوبهم، فجُلّيَ عنها، وكشَف الفزع عنهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالت الملائكة: الحقّ، وهو العليّ على كل شيء الكبير الذي لا شيء دونه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم في قوله: {قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق} يقول: يخبرون بالأمر الذي جاؤوا به، ولا يقولون إلا الحق لا يزيدون ولا ينقصون.
وجائز أن يكون قوله: {حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق} ذلك الفَزَع منهم، وذلك القول منهم في القيامة، فزعوا لقيامها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تقول: الشفاعة لزيد، على معنى أنه الشافع، كما تقول: الكرم لزيد: وعلى معنى أنه المشفوع له، كما تقول: القيام لزيد، فاحتمل قوله: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أن يكون على أحد هذين الوجهين، أي: لا تنفع الشفاعة إلاّ كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له. أو لا تنفع الشفاعة إلاّ كائنة لمن أذن له، أي: لشفيعه، أو هي اللام الثانية في قولك: أذن لزيد لعمرو، أي لأجله، كأنه قيل: إلاّ لمن وقع الأذن للشفيع لأجله، وهذا وجه لطيف وهو الوجه، وهذا تكذيب لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
فإن قلت: بما اتصل قوله: {حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} ولأي شيء وقعت حتى غاية؟ قلت: بما فهم من هذا الكلام من أنّ ثم انتظاراً للإذن وتوقعاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلاّ بعد مليِّ من الزمان، وطول من التربص، ومثل هذه الحال دلّ عليه قوله عزّ وجلّ {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 37- 38] كأنه قيل: يتربصون ويتوقفون كلياً فزعين وهلين، حتى إذا فزع عن قلوبهم، أي: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزّة في إطلاق الإذن: تباشروا بذلك وسأل بضعهم بعضاً {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ} قال {الحق} أي القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم:"فَإذَا أُذِنَ لِمَنْ أُذنَ أَنْ يَشْفَعَ فزعْتهُ الشفاعةُ" وقرئ: «أذن له»، أي: أذن له الله، وأذن له على البناء للمفعول. وقرأ الحسن: «فزع» مخففاً، بمعنى فزع. وقرئ: «فزع»، على البناء للفاعل، وهو الله وحده، وفزع، أي: نفى الوجل عنها وأفنى، من قولهم: فرغ الزاد، إذا لم يبق منه شيء. ثم ترك ذكر الوجل وأسند إلى الجار والمجرور، كما تقول: دفع إليّ زيد، إذا علم ما المدفوع وقد تخفف، وأصله: فرغ الوجل عنها، أي: انتفى عنها، وفني ثم حذف الفاعل وأسند إلى الجار والمجرور... وقرئ: «الحق» بالرفع، أي: مقولة الحق. {وَهُوَ العلى الكبير} ذو العلو والكبرياء، ليس لملك ولا نبيّ أن يتكلم ذلك اليوم إلاّ بإذنه، وأن يشفع إلاّ لمن ارتضى.
{ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} فلا فائدة لعبادتكم غير الله، فإن الله لا يأذن في الشفاعة لمن يعبد غيره، فبطلبكم الشفاعة تفوتون على أنفسكم الشفاعة. {وهو العلي الكبير} إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
ماذا قال ربكم "أي ماذا أمر الله به، فيقولون لهم: "قالوا الحق "وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين.
"وهو العلي الكبير" فله أن يحكم في عباده بما يريد، ثم يجوز أن يكون هذا إذنا لهم في الدنيا في شفاعة أقوام، ويجوز أن يكون في الآخرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة، وكان المقصود منها أثرها لا عينها، نفاه بقوله: {ولا تنفع} أي في أيّ وقت من الأوقات {الشفاعة عنده} أي بوجه من الوجوه بشيء من الأشياء {إلا لمن}، ولما كانت كثافة الحجاب أعظم في الهيبة، وكان البناء للمجهول أدل على كثافة الحجاب، قال في قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي بجعل المصدر عمدة الكلام وإسناد الفعل إليه: {أذن له} أي وقع منه إذن له على لسان من شاء من جنوده بواسطة واحدة أو أكثر في أن يشفع في غيره أو في أن يشفع فيه غيره، وقراءة الباقين بالبناء للفاعل تدل على العظمة من وجه آخر، وهو أنه لا افتيات عليه بوجه من أحد ما، بل لابد أن ينص هو سبحانه على الإذن، وإلا فلا استطاعة عليه أصلاً.
ولما كان من المعلوم أن الموقوفين في محل خطر للعرض على ملك مرهوب متى نودي باسم أحد منهم فقيل أين فلان ينخلع قلبه وربما أغمي عليه، فلذلك كان من المعلوم مما مضى أنه متى برز النداء من قبله تعالى في ذلك المقام الذي ترى فيه كل أمة جاثية يغشى على الشافعين والمشفوع لهم، فلذلك حسن كل الحسن قوله تعالى: {حتّى} وهو غاية لنحو أن يقال: فإذا أذن له وقع الصعق لجلاله وكبريائه وكماله حتى {إذا فزع} أي أزيل الفزع بأيسر أمر وأهون سعي من أمره سبحانه -هذا في قراءة الجماعة بالبناء للمجهول، وأزال هو سبحانه الفزع في قراءة ابن عامر ويعقوب، إشارة إلى أنه لا يخرج عن أمره شيء {عن قلوبهم} أي الشافعين والمشفوع لهم، فإن "فعّل "يأتي للإزالة كقذّيت عينه- إذا أزلت عنها القذى {قالوا} أي قال بعضهم لبعض: {ماذا قال ربكم} ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن لذلك قلوبهم.
ولما كان ملوك الدنيا ربما قال بعضهم قولاً ثم بدا له فرجع عنه، أو عارضه فيه شخص من أعيان جنده فينتقض، أخبر أن الملك الديان ليس كذلك فقال: {قالوا الحق} أي الثابت الذي لا يمكن أن يبدل، بل يطابقه الواقع فلا يكون شيء يخالفه {وهو العلي} أي فلا رتبة إلا دون رتبته سبحانه وتعالى، فلا يقول غير الحق من نقص علم {الكبير} أي الذي لا كبير غيره فيعارضه في شيء من حكم...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
والظاهر أن قوله تعالى: {وَهُوَ العلى الكبير} من تتمة كلام الشفعاء قالوه اعترافاً بعظمة جناب العزة جل جلاله وقصور شأن كل من سواه، وفيه من تواضعهم بعد ترفيع قدرهم بالإذن لهم بالشفاعة ما فيه، وفيه أيضاً نوع من الحمد كما لا يخفى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه مشهد في اليوم العصيب. يوم يقف الناس، وينتظر الشفعاء والمشفوع فيهم أن يتأذن ذو الجلال في عليائه بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام، ويطول الانتظار، ويطول التوقع وتعنو الوجوه وتسكن الأصوات وتخشع القلوب في انتظار الإذن من ذي الجلال والإكرام ثم تصدر الكلمة الجليلة الرهيبة، فتنتاب الرهبة الشافعين والمشفوعين لهم ويتوقف إدراكهم عن الإدراك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد جمعت الآية نفي جميع أصناف التصرف عن آلهة المشركين كما جمعت نفي أصناف الآلهة المعبودة عند العرب.
والعلو: علوّ الشأن الشامل لمنتهى الكمال في العلم.
والكبر: العظمة المعنوية، وهي منتهى القدرة والعدل والحكمة، وتخصيص هاتين الصفتين لمناسبة مقام الجواب، أي قد قضى بالحق لكل أحد بما يستحقه فإنه لا يخفى عليه حال أحد ولا يعوقه عن إيصاله إلى حقه عائق، ولا يجوز دونه حائل وفي حديث ابن عباس عند الترمذي "إذا قضى ربنا أمراً سبح له حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم "قال: "ثم أهل كل سماء" الحديث، وليس تخريج البخاري والترمذي هذا الحديث في الكلام على تفسير سورة سبأ مراداً به أنه وارد في ذلك، وإنما يريد أن من صور معناه ما ذكر في سورة سبأ.
قال العلماء: يُشترط للشفاعة شرط في المشفوع له أن يكون من أهل التوحيد، وشرط في الشافع أن يُؤذن له بالشفاعة، كما قال تعالى:
{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ..} [البقرة: 255] فلا يقوم الشافع فيشفع مباشرة، إنما ينتظر أنْ يُؤذَن له بها، وهنا يضطرب المشفوع له ويفزع، ويكون قلقاً، يا ترى أيُؤذن للشافع؟ أم تُرَد شفاعته؟
لذلك يقول تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ..} يعني: أُزيل عنها الفزع. فالتضعيف في (فُزِّع) أفاد إزالة الحدث المأخوذ منه الفعل...
{قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ..} أي: قال القول الحق، وأذِن بالشفاعة لمن ارتضى.
وقال تعالى: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ..} ولم يقُلْ تُقبل الشفاعة؛ لأن هدف الشافع أن تنفع الشفاعةُ المشفوعَ له، فإذا ما ذهب ليشفع له قال له المشفوع عنده: أنا لا أرضى أنْ تشفع للمشفوع له، فالذي انتفى نَفْع الشفاعة لا قبولها، ففَرْق بين أنْ توجد الشفاعة، وبين أنْ تنفع الشفاعة...
وسُمِّيت شفاعة؛ لأن الشَّفْع يقابل الوتر، وصاحب الحاجة الذي يطلب الشفاعة واحد، فإذا انضم إليه الشافع، فهما اثنان يعني: شفع.
ثم يقول سبحانه في ختام الآية: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] عليٌّ أن يُناقَش في أي قرار يتخذه، وكبير يعني أكبر من الشافع، وأكبر من المشفوع له. فالحق سبحانه قال الحقُّ ونطق به، وهذا يعني أنه وقف بجانب الحق، فلم يعبأ بشافع مهما كانت منزلته، ولا بمشفوع له مهما كانت ذِلَّته ورِقَّته؛ لأنه سبحانه هو العليُّ الكبير.
وبعد ذلك يعود الحق سبحانه إلى مناقشة المسألة مناقشة عقلية، فيقول:
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ...}.