المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

2- يا أيها المؤمنون لا تستبيحوا حرمة شعائر الله ، كمناسك الحج وقت الإحرام قبل التحلل منه وسائر أحكام الشريعة ، ولا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بإثارة الحرب فيها ، ولا تعترضوا لما يُهْدَى من الأنعام إلى بيت الله الحرام باغتصابه أو منع بلوغه محله ، ولا تنزعوا القلائد ، وهي العلامات التي توضع في الأعناق ، إشعاراً بقصد البيت الحرام ، وأنها ستكون ذبيحة في الحج ، ولا تعترضوا لِقُصَّادِ بيت الله الحرام يبتغون فضل الله ورضاه ، وإذا تحللتم من الإحرام ، وخرجتم من أرض الحرم ، فلكم أن تصطادوا ، ولا يحملنكم بغضكم الشديد لقوم صدوكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم . وليتعاون{[48]} بعضكم مع بعض - أيها المؤمنون - على فعل الخير وجميع الطاعات ، ولا تتعاونوا على المعاصي ومجاوزة حدود الله ، واخشوا عقاب الله وبطشه ، إن الله شديد العقاب لمن خالفه .


[48]:إن القرآن الكريم في هذه الآية سبق بالدعوة إلى التعاون جميع التشريعات الوضعية التي تهدف إلى التعاون في الخير بعشرات المئات من السنين.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

{ 2 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ }

يقول تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ْ } أي : محرماته التي أمركم بتعظيمها ، وعدم فعلها ، والنهي يشمل النهي عن فعلها ، والنهي عن اعتقاد حلها ؛ فهو يشمل النهي ، عن فعل القبيح ، وعن اعتقاده .

ويدخل في ذلك النهي عن محرمات الإحرام ، ومحرمات الحرم . ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله : { وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ْ } أي : لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره من أنواع الظلم كما قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ْ }

والجمهور من العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ْ } وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا ، والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا .

وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم .

وقال آخرون : إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم غير منسوخ لهذه الآية وغيرها ، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه ، وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك ، وقالوا : المطلق يحمل على المقيد .

وفصل بعضهم فقال : لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها ، فإنه يجوز .

وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك ، لأن أول قتالهم في " حنين " في " شوال " . وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع .

فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال ، فإنه يجوز للمسلمين القتال ، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء .

وقوله : { وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } أي : ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله في حج أو عمرة ، أو غيرهما ، من نعم وغيرها ، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله ، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها ، ولا تقصروا به ، أو تحملوه ما لا يطيق ، خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله ، بل عظموه وعظموا من جاء به . { وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } هذا نوع خاص من أنواع الهدي ، وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى ، فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله ، وحملا للناس على الاقتداء ، وتعليما لهم للسنة ، وليعرف أنه هدي فيحترم ، ولهذا كان تقليد الهدي من السنن والشعائر المسنونة .

{ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ْ } أي : قاصدين له { يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ْ } أي : من قصد هذا البيت الحرام ، وقصده فضل الله بالتجارة والمكاسب المباحة ، أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به ، والصلاة ، وغيرها من أنواع العبادات ، فلا تتعرضوا له بسوء ، ولا تهينوه ، بل أكرموه ، وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم .

ودخل في هذا الأمرُ الأمر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل القاصدين له مطمئنين مستريحين ، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه ، ولا على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك .

وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ْ } فالمشرك لا يُمَكَّن من الدخول إلى الحرم .

والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه -يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي ، فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله ، كما قال تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ْ }

ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ْ } أي : إذا حللتم من الإحرام بالحج والعمرة ، وخرجتم من الحرم حل لكم الاصطياد ، وزال ذلك التحريم . والأمر بعد التحريم يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل .

{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ْ } أي : لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم ، حيث صدوكم عن المسجد ، على الاعتداء عليهم ، طلبا للاشتفاء منهم ، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله ، ويسلك طريق العدل ، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه ، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه ، أو يخون من خانه .

{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ْ } أي : ليعن بعضكم بعضا على البر . وهو : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال الظاهرة والباطنة ، من حقوق الله وحقوق الآدميين .

والتقوى في هذا الموضع : اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله ، من الأعمال الظاهرة والباطنة . وكلُّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها ، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها ، بكل قول يبعث عليها وينشط لها ، وبكل فعل كذلك .

{ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ْ } وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها ، ويحرج . { وَالْعُدْوَانِ ْ } وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه .

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ } على من عصاه وتجرأ على محارمه ، فاحذروا المحارم لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

وبعد أن أشار - سبحانه - إلى ما أحل لعباده من طيبات ، وما حظره عليهم من أفعال ، أتبع ذلك بنداء آخر إليهم نهاهم فيه عن استحلال أشياء معينة فقال - تعالى - :

{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ . . . }

قوله : { لاَ تُحِلُّواْ } من الإِحلال الذي هو ضد التحريم . ومعننى عدم إحلالهم لشعائر الله : تقرير حرمتها عملا واعتقادا ، والالتزام بها بالطريقة التي قررتها شريعة الله .

والشعائر : جمع شعيرة - على وزن فعلية - وهي في الأصل ما علت شعاراً على الشيء وعلامة عليه من الإِشعار بمعنى الإعلام . وكل شيء اشتهر فقد علم . يقال : شعرت بكذا .

أي علمته .

والمراد بشعائر الله هنا : حدوده التي حدها ، وفرائضه التي فرضها وأحكامه التي أوجبها على عباده .

ويرى بعضهم أن المراد بشعائر الله هنا : مناسك الحج وما حرمه الحج وما حرمه فيه من لبس للثياب في أثناء الإحرام . ومن غير ذلك من الأفعال التي نهى الله عن فعلها في ذلك الوقت فيكون المعنى .

لا تحلوا ما حرم عليكم حال إحرامكم .

والقول الأول أولى لشموله جميع التكاليف التي كلف الله بها عباده . وقد رجحه ابن جرير بقوله : وأولى التأويلات بقوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } قول من قال : لا تحلوا حرمات الله ، ولا تضيعوا فرائضه . فيدخل في ذلك مناسك الحج وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه .

وإنما قلنا ذلك القول أولى ، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها ، نهيا عاماً من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء . فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها ولا حجة بذلك .

وأضاف - سبحانه - الشعائر إليه . تشريفا لها ، وتهويلا للعقوبة التي تترتب على التهاون بحرمتها . وعلى مخالفة ما أمر الله به في شأنها .

وقوله : { وَلاَ الشهر الحرام } معطوف على شعائر الله . والمراد به الجنس . فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم . وهي أربعة : ذو العقدة ، وذو الحجة والمحرم ، ورجب .

وسمي الشهر حراماً : باعتبار أن إيقاع القتال فيه حرام .

أي : لا تحلوا - أيها المؤمنون - القتال في الشهر الحرام ، ولا تبدأوا أعداءكم فيه بقتال .

قال ابن كثير : يعني بقوله : { وَلاَ الشهر الحرام } تحريمه ، والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه ، من الابتداء بالقتال كما قال - تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وقال - تعالى - : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض والسنة اثنا عشر شهراً . منها أربعة حرم " وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت . كما هو مذهب طائفة من السلف .

وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ . وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم .

واحتجوا بقوله - { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } والمراد أشهر التسيير الأربعة . قالوا : فلم يستثن شهراً حراما من غيره .

والمقصود بالهدى في قوله { وَلاَ الهدي } ما يتقرب به الإِنسان إلى الله من النعم ليذبح في الحرم ، وهو جمع هدية - بتسكين الدال - ، أي : ولا تحلوا حرمة ما يهدي إلى البيت الحرام من الأنعام تقربا إلى الله - تعالى - بأن تتعرضوا له بنحو غصب وسرقة أو حبس عن بلوغه إلى محله .

وخص ذلك بالذكر مع دخوله في الشعائر ، لأن فيه نفعا للناس ، لأنه قد يتساهل فيه أكثر من غيره ، ولأن في ذكره تعظيما لشأنه .

وقوله : { وَلاَ القلائد } جمع قلادة ، وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء . وقد كانوا يضعون في أعناق الهدى ضفائر من صوف ، ويربط بعنقها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر أو غيرهما ليعلم أنه هدى فلا يعتدى عليه .

والمراد : ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى بأن تتعرضوا لها بسوء .

وخصت بالذكر مع أنها من الهدى تشريفاً لها واعناءً بشأنها . لأن الثواب فيها أكثر ، وبهاء الحج بها أظهر . فكأنه قيل : لا تحلوا الهدى وخصوصاً ذوات القلائد منه .

ويجوز أن يراد النهي عن التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها أي : لا تتعرضوا لقلائد الهدى فضلا عن ذاته .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الوجهين بقوله : وأما القلائد ففيها وجهان :

أحدهما : أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهي البدن . وتعطف على الهدى للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى كقوله { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } كأنه قيل : والقلائد منها خصوصا .

والثاني : أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهي عن التعرض للهدى ، على معنى : ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها . كما قال { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها .

وقوله : { ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } معطوف على قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } .

وقوله : { آمِّينَ } جمع آم من الأم وهو القصد المستقيم . يقال : أممت كذا أي : قصدته أي : ولا تحلوا أذى قوم قاصدين زيارة البيت الحرام بأن تصدوهم عن دخوله حال كونهم يطلبون من ربهم ثواباً . ورضواناً لتعبدهم في بيته المحرم .

ولكن ما المراد بهؤلاء الآمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضواناً ؟

قال بعضهم : المراد بهم المسلمون الذين يقصدون بيت الله للحج والزيارة . فلا يجوز لأحد أن يمنعهم من ذلك بسبب نزاع أو خصام لأن بيت الله - تعالى - مفتوح للجميع وعلى هذا يكون التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إلى ضميرهم في قوله { مِّن رَّبِّهِمْ } للتشريف والتكريم .

وجملة { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } حال من الضمير المستكن في قوله { آمِّينَ } وقد جيء بها لبيان مقصدهم الشريف ، ومسعاهم الجليل .

أي : قصدوا البيت الحرام يبتغون رزقا أو ثواباً من ربهم ، ويبتغون ما هو أكبر من كل ذلك وهو رضاه - سبحانه - عنهم .

وعلى هذا الاقول تكون الآية الكريمة محكمة ولا نسخ فيها ، وتكون توجيهاً عاماً من الله - تعالى - لعباده بعدم التعرض بأذى لمن يقصد زيارة المسجد الحرام من إخوانهم المؤمنين ، مهما حدث بينهم من نزاع أو خلاف .

وقال آخرون : المراد بهم المشركون . واستدلوا بما رواه ابن جرير عن السدي من أن الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له الحطين بن هند ، وذلك نه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله إلام تدعو ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ادعوا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فقال له : حسن ما تدعو إليه إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم . فلما خرج مر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به .

ثم أقبل من العام القادم جارحاً ومعه تجارة عظيمة . فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في التعرض له . فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزلت الآية .

وعلى هذا القول يفسر ابتغاء الفضل بمطلق الرزق عن طريق التجارة . وابتغاء الرضوان بأنهم كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم ، وأن الحج يقربهم من الله ، فوصفهم - سبحانه - على حسب ظنهم وزعمهم . ثم نسخ ذلك بقوله - تعالى - { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } وعليه يكون ابتغاء الفضل والرضوان عاما الدنيوي والأخروي ولو في زعم المشركين .

والذي نراه أولى هو القول الأول ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان ما يجب على المؤمنين أن يفعلوه نحو شعائر الله التي هي حدوده وفرائضه ومعالم دينه ، ولأن قوله - تعالى - : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } هذا الوصف إنما يليق بالمسلم دون الكافر ، إذ المسلمون وحدهم الذين يقصدون بحجهم وزيارتهم لبيت الله الثواب والرضوان منه - سبحانه - .

قال الفخر الرازي : " أمرنا الله في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين ، وحرم علينا أخذا الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين . والدليل عليه أول الآية وآخرها .

أما أول الآية فهو : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعتهم لا بنسك الكفار .

وأما آخر الآية فهو قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر .

وبذلك نرى الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال أي شيء من الشعائر التي حرم الله - تعالى - استحلالها ، وخصت بالذكر هذه الأمور الأربعة التي عطفت عليها اهتماماً بشأنها وزجرا للنفوس عن انتهاك حرمتها ، لأن هذه الأمور الأربعة منها ما ترغب فيه النفوس بدافع شهوة الانتقام ، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع المتعة والميل القلبي ، ومنها ما ترغب فيه النفوس بدافع الطمع وحب التملك .

ثم أتبع - سبحانه - هذا النهي ببيان جانب من مظاهر فضله . حيث أباح لهم الصيد بعد الانتهاء من إحرامهم فقال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } .

أي : وإذا خرجتم من إحرامكم أبيح لكم الصيد ، وأبيح لكم أيضاً كل ما كان مباحاً لكم قبل الإحرام .

وإنما خص الصيد بالذكر ، لأنهم كانوا يرغبون فيه كثيراً . كبيرهم وصغيرهم ، وغنيهم وفقيرهم . والإِشارة إلى أن الذي ينبغي الحرص عليه هو ما يعد قوتا تندفع به الحاجة فقط لا ما يكون من الكماليات ولا يكون إرضاء للشهوات .

والأمر في قوله : { فاصطادوا } للإِباحة ، لأنه ليس من الواجب على المحرم إذا حل من إحرامزه أن يصطاد . بل يباح له ذلك كما كان الشأن قبل الإِحرام ومثله قوله - تعالى - { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض } أي : أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة .

ثم نهى - سبحانه - المؤمنين على أن يحملهم البعض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام على أن يمنعوهم من دخوله كما منعهم من دخوله أولئك القوم فقال - تعالى - : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } .

والجلمة الكريمة معطوفة على قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } لزيادة تقرير مضمونه .

ومعنى { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ولا يحملنكم مأخوذ من جرمه على كذا إذا حمله عليه ، أو معناه : ولا يكسبنكم من جرم بمعنى كسب ، غير أنه في كسب ما لا خير فيه ومنه الجريمة .

وأصل الجرم : قطع الثمرة من الشجرة ، أطلق على الكسب ، لأن الكاسب ينقطع لكسبه .

قال صاحب الكشاف : جرم يجري مجرى " كسب " في تعديه إلى مفعول واحد واثنين .

تقول : جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا ، نحو كستبه إياه . ويقال : أجرمته ذنبا ، على نقل المتعدي إلى معفول بالهمزة إلى مفعولين . كقولهم : أكسبته ذنبا " .

والشنآن : البغض الشديد . يقال : شئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا إذا أبغضته بغضا شديداً .

والمعنى : ولا يحملنكم - أيها المؤمنون - بغضكم الشديد لقوم بسبب أنهم منعوكم من دخول المسجد الحرام ، لا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم ، فإن الشرك إذا كان يبرر هذا العمل ، فإن الإِسلام - وهو دين العدل والتسامح - لا يبرره ولا يقبله ، ولكن الذي يقبله الإِسلام هو احترام المسجد الحرام ، وفتح الطريق إليه أمام الناس حتى يزداد المؤمن إيماناً ، ويفئ العاصي إلى رشده وصوابه .

قال ابن كثير : وقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } أي : ولا يحملنكم بغض قوم ، " قد كانوا صدوكم عن المسجد الحرام - وذلك عام الحديبية - ، على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد .

. فإن العدل واجب على كل أحد . في كل أحد ، وفي كل حال . والعدل ، به قامت السموات والأرض .

وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه .

وعن زيد بن أسلم ، قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية ، حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم ناس من المشركني من أهل المشرق يريدون العمرة . فقال الصحابة . نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم ، فنزلت هذه الآية " .

وقوله : { شَنَآنُ قَوْمٍ } مصدر مضاف لمفعوله . أي : لا يحملنكم بغضكم قوماً .

وقوله : { أَن صَدُّوكُمْ } - بفتح همزة أن - مفعول لأجله بتقدير اللام . أي : لأن صدوكم فهو متعلق بالشنآن .

وقوله { أَن تَعْتَدُواْ } في موضع نصب على أنه مفعول به .

أي : لا يحملنكم بغضكم قوما لصدهم إياكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم .

وقراءة { أَن صَدُّوكُمْ } بفتح الهمزة - هي قراءة الجمهور ، وهي تشير إلى أن الصد كان في الماضي ، وهي واضحة ولا إشكال عليها .

قال الجمل : وفي قراءة لأبي عمرو وابن كثير بكسر همزة أن على أنها شرطية وجواب الشرط دل عليه ما قبله . وفيها إشكال من حيث إن الشرط يقتضي أن الأمر المشروط لم يقع . مع أن الصد كان قد وقع . لأنه كان في عام الحديبية وهي سنة ست . والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، وكانت مكة عام الفتح في أيدي المسلمين فيكف يصدون عنه ؟ وأجيب بوجهين :

أولهما : لا نسلم أن الصد كان قيل نزول الآية فإن نزولها عام الفتح غير مجمع عليه .

والثاني : أنه وإن سلمنا أن الصد كان متقدما على نزولها فيكون المعنى : إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع عام الحديبية - فلا تعتدوا -

قال بعضهم : وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل ، لأن النهي عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام ، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق ، وحينئذ لا يراعى المماثلة ولا يقف عند حدود العدل .

ثم أمر الله - تعالى - عباده بالتعاون على فعل الخيرات وعلى ترك المنكرات فقال : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } .

والبر معناه : التوسع في فعل الخير ، وإسداء المعروف إلى الناس .

والتقوى تصفية النفس وتطهيرها وإبعادها عن كل ما نهى الله عنه .

قال القرطبي : قال الماوردي : ندب الله - تعالى - إلى التعاون بالبر ، وقرنه بالتقوى له ، لأن في التقوى رضا الله ، وفي البر رضا الناس .

ومن جمع بين رضا الله ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته .

والإِثم - كما يقول الراغب - اسم للأفعال المبطئة عن الثواب وجمعه آثام ، والآثم هو المتحمل للإِثم . ثم أطلق على كل ذنب ومعصية .

والعدوان : تجاود الحدود التي أمر الشارع الناس بالوقوف عندها .

أي : وتعاونوا - أيها المؤمنون - على كل ما هو خير وبر وطاعة لله - تعالى - ، ولا تتعاونوا على ارتكابا الآثام ولا على الاعتداء على حدوده ، فإن التعاون على الطاعات والخيرات يؤدي إلى السعادة ، أما التعاون على ما يغضب الله - تعالى - فيدؤي إلى الشقاء .

قال الآلوسي : والجملة عطف على قوله { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } من حيث المعنى ، فكأنه قيل : لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صدوكم عنه ، وتعاونوا على العفو والإِغضاء .

وقال بعضهم : هو استئناف ، والوقف على { أَن تَعْتَدُواْ } لازم .

هذا ، وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم عن أبي مسعود الانصاري قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أبدع بي - أي : هلكت دابتي التي أركبها - فاحملني فقال : " ما عندي " فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " وروى الإِمام مسلم - أيضاً - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً . ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإِثم مثل آثام من تبعه . لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً " .

وقوله - تعالى - { واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } تذييل قصد به إنذار الذين يتعاونون على الإِثم والعدوان . أي : اتقوا الله - أيها الناس - واخشوه فيما مركم ونهاكم ، فإنه - سبحنه شديد العقاب لمن خالف أمره ، وانحرف عن طريقه القويم .

وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن استحلال ما حرمه الله عليهم من محارم ، وعن الإِخلال بشيء من أحكامها كما نهتهم عن أن بحملهم بغضهم لغيرهم على الاعتداء عليه وأمرتهم بأن يتعاونوا على فعل الخير الذي ينفعهم وينفع غيرهم من الناس وعلى ما يوصلهم إلى طاعته - سبحانه - وحسن مثوبته ، ولا يتعاونوا على الأفعال التي يأثم فاعلها ، وعلى مجاوزة حدود الله بالاعتداء على غيرهم . ثم حذرتهم في نهايتها من العقاب الشديد الذي ينزله سبحانه - بكل من عصاه ، وانحرف عن هداه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

ثم يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله :

( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله . ولا الشهر الحرام . ولا الهدي . ولا القلائد . ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا )

وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى ( شعائر الله ) في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج او العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام ؛ فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه ؛ لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر . وقد نسبها السي القرآني إلى الله تعظيما لها ، وتحذيرا من استحلالها .

والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم ؛ وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم . وقد حرم الله فيها القتال - وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها - ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء ؛ فينسئونها - أي يؤجلونها - بفتوى بعض الكهان ، أو بعض زعماء القبائل القوية ! من عام إلى عام . فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها ، وأقام هذه الحرمة على أمر الله ، يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . ذلك الدين القيم . . ) وقرر أن النسيء زيادة في الكفر . واستقام الأمر فيها على أمر الله . . ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين ، فإن لهم حينئذ ان يردوا الاعتداء ؛ وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم - وهم لا يرعون حرمتها - ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين ، ثم يذهبون ناجين ! وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة .

والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر ؛ وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة ، فينهي بها شعائر حجه أو عمرته . وهي نافة أو بقرة أو شاة . . وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له ؛ ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة . ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء ؛ بل يجعلها كلها للفقراء .

والقلائد . وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها - أي يضعون في رقبتها قلادة - علامة على نذرها لله ؛ ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه - ومنها الهدي الذي يشعر : أي يعلم بعلامة الهدي ويطلق إلى موعد النحر - فهذه القلائد يحرم احلالها بعد تقليدها ؛ فلا تنحر إلا لما جعلت له . . وكذلك قيل : إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره ؛ فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به ، وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان - وأصحاب هذا القول قالوا : إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) . . وقوله : ( فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) . . والأظهر القول الأول ؛ وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله ؛ وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدي المقلد للنحر للحج أو العمرة ، للمناسبة بين هذا وذاك .

كذلك حرم الله آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله . . حجاجا أو غير حجاج . . وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام .

ثم أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام ، في غير البيت الحرام ، فلا صيد في البيت الحرام : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) . .

إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام ؛ كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم . . منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى . وأن يروعها العدوان . . إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت ؛ استجابة لدعوة إبراهيم - أبي هذه الأمة الكريم - ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام - في ظل الإسلام - وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه ؛ ليحرص عليه - بشروطه - وليحفظ عقد الله وميثاقه ، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام ، وفي كل مكان . .

وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان ، يدعو الله الذين آمنوا به ، وتعاقدوا معه ، أن يفوا بعقدهم ؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم . . دور القوامة على البشرية ؛ بلا تأثر بالمشاعر الشخصية ، والعواطفالذاتية ، والملابسات العارضة في الحياة . . يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية ؛ وقبله كذلك ؛ وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد ؛ وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض ، فهذا كله شيء ؛ وواجب الأمة المسلمة شيء آخر . شيء يناسب دورها العظيم :

( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب ) . .

إنها قمة في ضبط النفس ؛ وفي سماحة القلب . . ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء .

إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس . . التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام ، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام . وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة ؛ تجذب الناس إليه وتحببهم فيه .

وهو تكليف ضخم ؛ ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية ، ولا يحملها فوق طاقتها . فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب ، ومن حقها أن تكره . ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فوره الغضب ودفعة الشنآن . . ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى ؛ لا في الإثم والعدوان ؛ ويخوفها عقاب الله ، ويأمرها بتقواه ، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط ، وعلى التسامي والتسامح ، تقوى لله ، وطلبا لرضاه .

ولقد استطاعت التربية الإسلامية ، بالمنهج الرباني ، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية ، والاعتياد لهذا السلوك الكريم . . وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه . . كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور : " أنصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . . كانت حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية . كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى ؛ وكان الحلف على النصرة ، في الباطل قبل الحق . وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق . وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ؛ ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله . . يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور : " انصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . . وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى ، وهو يقول :

وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت ، وإن ترشد غزية أرشد !

ثم جاء الإسلام . . جاء المنهج الرباني للتربية . . جاء ليقول للذين آمنوا :

( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب ) . .

جاء ليربط القلوب بالله ؛ وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله . جاء ليخرج العرب - ويخرج البشرية كلها - من حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية ، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء . .

وولد " الإنسان " من جديد في الجزيرة العربية . . ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله . . وكان هذا هو المولد الجديد للعرب ؛ كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض . . ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء : " انصر أخاك ظالما أو مظومًا " . كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء !

والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية ، وأفق الإسلام ؛ هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور : " انصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . وقول الله العظيم : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) .

وشتان شتان !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } خطاب للمؤمنين حقاً أن لا يتعدوا حدود الله في أمر من الأمور ، والشعائر جمع شعيرة أي قد أشعر الله أنها حُّدة وطاعته فهي بمعنى معالم الله{[12]} ، واختلفت عبارة المفسرين في المقصود من الشعائر الذي بسببه نزل هذا العموم في الشعائر فقال السدي { شعائر الله } حرم الله ، وقال ابن عباس { شعائر الله } مناسك الحج . وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون وينحرون ويعظمون مشاعر الحج فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقال الله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } وقال ابن عباس أيضاً { شعائر الله } ما حد تحريمه في الإحرام . وقال عطاء بن أبي رباح ، { شعائر الله } جميع ما أمر به أو نهى عنه ، وهذا هو القول الراجح الذي تقدم .

وقال ابن الكلبي كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر وكانت قريش لا تقف بعرفات فنهوا بهذه الآية ، وقوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي كما قال النبي عليه السلام ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وإنما أضيف إلى مضر لأنها كانت تختص بتحريمه . وتزيل فيه السلاح ، وتنزع الأسنة من الرماح ، وتسميه : ُمنصل الأسنة وتسميه : الأصم من حيث كان لا يسمع فيه صوت سلاح ، وكانت العرب مجمعة على ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وكانت تطول عليها الحرمة وتمتنع من الغارات ثلاثة أشهر فلذلك اتخذت النسيء وهو أن يحل لها ذلك المتكلم نعيم بن ثعلبة وغيره المحرم يحرم بدله صفراً فنهى الله عن ذلك بهذه الآية وبقوله : { إنما النسيء زيادة في الكفر }{[13]} وجعل المحرم أول شهور السنة من حيث كان الحج والموسم غاية العام وثمرته فبذلك يكمل ثم يستأنف عام آخر ولذلك والله أعلم دوّن به عمر بن الخطاب الدواوين فمعنى قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } أي لا تحلوه بقتال ولا غارة ولا تبديل فإن تبديله استحلال لحرمته . .

قال القاضي أبو محمد : والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتد أمره لأنه إنما كان مختصاً بقريش ثم فشا في مضر ، ومما يدل على هذا قول عوف بن الأحوص :

وشهر بني أمية والهدايا . . . إذا حبست مضرجها الدماء{[14]}

قال أبو عبيدة أراد رجباً لأنه شهر كانت مشايخ قريش تعظمه فنسبه إلى بني أمية ، ذكر هذا الأخفش في المفضليات وقد قال الطبري المراد في هذه الآية رجب مضر . .

قال القاضي أبو محمد : فوجه هذا التخصيص هو كما قد ذكرت أن الله تعالى شدد أمر هذا الشهر إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، وقال عكرمة : المراد في هذه الآية ذو القعدة من حيث كان أولها ، وقولنا فيها «أول » تقريب وتجوز أن الشهور دائرة فالأول إنما يترتب بحسب نازلة أو قرينة ما مختصة بقوم .

وقوله تعالى : { ولا الهدي ولا القلائد } أما الهدي فلا خلاف أنه ما أهدي من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ويغار عليه{[15]} ، واختلف الناس في { القلائد } فحكى الطبري عن ابن عباس أن { القلائد } هي { الهدي } المقلد وأن { الهدي } إنما يسمى هدياً ما لم يقلد فكأنه قال ولا «الهدي » الذي يقلد والمقلد منه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي قال الطبري تحامل على ألفاظ ابن عباس وليس يلزم من كلام ابن عباس أن { الهدي } إنما يقال لما لم يقلد وإنما يقتضي أن الله نهى عن استحلال { الهدي } جملة ثم ذكر المقلد منه تأكيداً ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد ، وقال جمهور الناس : { الهدي } عام في أنواع ما أهدي قربه و { القلائد } ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم ، قال قتادة : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من الَّسُمر قلادة فلم يعرض له أحد بسوء إذ كانت تلك علامة إحرامه وحجه وقال عطاء وغيره : بل كان الناس إذا خرجوا من الحرم في حوائج لهم تقلدوا من شجر الحرم ومن لحائه فيدل لك على أنهم من أهل الحرم أو من حجاجه فيأمنون بذلك فنهى الله تعالى عن استحلال من تحرم بشيء من هذه المعاني .

وقال مجاهد وعطاء : بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم كما كان أهل الجاهلية يفعلون ، وقاله الربيع بن أنس عن مطرف بن الشخير وغيره ، وقوله تعالى : { ولا آمين البيت الحرام } معناه ولا تحلوهم فتغيروا عليهم ونهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين { البيت الحرام } على جهة التعبد والقربة وكل ما في هذه الآية من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أَم البيت ونحوه فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[16]} .

وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة{[17]} وذلك أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه : «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فجاء الحطم فخلف خيلة خارجة من المدينة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عرض رسول الله عليه السلام ودعاه إلى الله قال : أنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره . فخرج فقال النبي عليه السلام لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر »{[18]} ، فمر بسرح من سرح{[19]} المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول :

قد لفها الليل بسواق حطم . . . ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياماً وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلج الساقين خفاق القدم{[20]}

ثم أقبل الحطم من عام قابل حاجاً وساق هدياً فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه . وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه السلام ، فنزلت هذه الآية ، قال ابن جريج : هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم ، ونزلت الآية بسبب الحطم فذكر نحوه ، وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون ، فقال المسلمون يا رسول الله ، إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن { ولا آميّن البيت الحرام }{[21]} .

قال القاضي أبو محمد : فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو معكم ، وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه «ولا آمي البيت » بالإضافة إلى البيت وقوله تعالى : { يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً } قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم ، وقال قوم إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله وفضله بالرحمة والجزاء ، فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت ، وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا والكسب وكثرة الأولاد ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني وقرأ الأعمش «ورُضواناً » بضم الراء .

قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس ويتداخل الناس ويردون{[22]} الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم ، وتقوم عندهم الحجة كالذي كان ، وهذه الآية نزلت عام الفتح ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة .

جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في َحرم البشر حسنًة في فصاحة القول{[4419]} ، وقوله تعالى : { فاصطادوا } صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس ، واختلف العلماء في صيغة ( أفعل ) إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات ، فقال الفقهاء : هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك ، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة ، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل ، وقال قوم : هي على الندب حتى يدل الدليل ، وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف . ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله { أقيموا الصلاة } ، وقد تجيء للندب كقوله : { وافعلوا الخير } [ الحج : 77 ] وقد تجيء للإباحة كقوله { فاصطادوا } { وابتغوا من فضل الله } { فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] ، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندباً ، وقد تجيء للوعيد كقوله { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وقد تجيء للتعجيز كقوله { كونوا حجارة }{[4420]} .

وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران «فاصطادوا » بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعَى كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت : اصطادوا فكسر الفاء مراعاةً وتذكراً لكسرة ألف الوصل{[4421]} ، وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم } معناه ولا يكسبنكم ، وجرم الرجل معناه : كسب ، ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب ، وفي الحديث : وتكسب المعدوم ، قال أبو علي : وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب ، وقال الكسائي :جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم { يجرمنكم } معناه يحق لكم كما أن { لا جرم أن لهم النار }{[4422]} معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس { يجرمنكم } معناه يحملنكم .

قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر : [ أبو خراش الهذلي ] :

جريمةُ ناهض في رأس نيق . . . ترى لعظام ما جمعت صليبا{[4423]}

معناه كاسب قوت ناهض ، ويقال فلان جريمة قومه إذا كان الكاسب لهم ، وقرأ ابن مسعود وغيره «يُجرمنكم » بضم الياء والمعنى أيضاً لا يكسبنكم وأما قول الشاعر :

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة . . . جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا{[4424]}

فمعناه كسبت فزارة بعدها الغضب وقد فسر بغير هذا مما هو قريب منه وقوله تعالى : { شنآن قوم } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «شَنْآن » متحركة النون ، وقرأ ابن عامر «شنآن » ساكنة النون ، واختلف عن عاصم ونافع ، يقال شنئت الرجل شَنْأً بفتح الشين وشنآناً بفتح النون وشنآناً بسكون النون والفتح أكثر كل ذلك إذا أبغضته ، قال سيبويه : كل ما كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن وإنما عدي شنئت من حيث كان أبغضت{[4425]} كما عدي الرفث ب «إلى » من حيث كان بمعنى الإفضاء .

قال القاضي أبو محمد : فأما من قرأ «شَنآن » بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدواناً عليهم وظلماً لهم والمصادر على هذا الوزن كثيرة كالنزوان والغليان والطوفان والجريان وغيره ، ويحتمل «الشنآن » بفتح النون أن يكون وصفاً فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم : حمار قطوان إذا لم يكن سهل السير وقولهم عدو وصمان أي ثقيل كعدو الشيخ ونحوه إلى غير هذا مما ليس في الكثرة كالمصادر ، ومنه ما أنشده أبو زيد :

وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي . . . وفقأت عين الأشوس الأبيان{[4426]}

بفتح الباء وأما من قرأ «شنْآن » بسكون النون فيحتمل أن يكون مصدراً وقد جاء المصدر على هذا الوزن في قولهم لويته دينه لياناً ، وقول الأحوص :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وإن لام فيه ذو الشنان وفندا{[4427]}

إنما هو تخفيف من «شنآن » الذي هو مصدر بسكون النون لأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن هذا هو التخفيف القياسي قال أبو علي : من زعم أن فعلان إذا أسكنت عينه لم يك مصدراً فقد أخطأ ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفاً فقد حكي : رجل شنآن وامرأة شنآنة وقياس هذا أنه من فعل غير متعد وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد وفعل واقف ، فيكون المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً . وإذا قدرت اللفظة مصدراً فهو مصدر مضاف إلى المفعول ، ومما جاء وصفاً على فعلان ما حكاه سيبويه من قولهم خمصان ومن ذلك قولهم ندمان .

قال القاضي أبو محمد : ومنه رحمان وهذه الآية نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة{[4428]} للكفار فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان لا يحملنكم ذلك البغض أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم إذ لله فيهم إرادة خير ، وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان . وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية لأنه لما ُصد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا نصد هؤلاء كما ُصددنا فنزلت الآية ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «إن صدوكم » بكسر الهمزة وقرأ الباقون «أن صدوكم » بفتح الهمزة إشارة إلى الصد الذي وقع وهذه قراءة الجمهور وهي أمكن في المعنى وكسر الهمزة معناه أن وقع مثل ذلك في المستقبل .

وقرأ ابن مسعود «أن يصدوكم » وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير .

ثم أمر الله تعالى الجميع بالتعاون { على البر والتقوى } قال قوم : هما لفظان بمعنى وكرر باختلاف اللفظ تأكيداً ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تسامح ما والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس ، ثم أمر بالتقوى وتوعد توعداً مجملاً بشدة العقاب ، وروي أن هذه الآية نزلت نهياً عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، قاله مجاهد . وقد قتل بذلك حليف لأبي سفيان من هذيل . .


[12]:- رواه أصحاب الكتب الستة، وفيه زيادة: (وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، والحاكم أيضا حديث الترمذي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) فجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
[13]:- أي في غير مقابلة النعمة.
[14]:- أي لأن الدليل الذي استدل به لا يشهد له، كما قال المؤلف بعد: «وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه». إلخ.
[15]:- هو إبراهيم بن أبي عبلة، بن يقظان، بن المرتحل، أبو إسماعيل المقدسي، تابعي، له حروف في القراءات، واختيار خالف فيه العامة، أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى هجيمة، قال: قرأت القرآن عليه سبع مرات، ويقال: إنه قرأ على الزهري، وروى عنه وعن أبي أمامة، وروى عنه مالك بن أنس، وابن المبارك. توفي سنة 153هـ.
[16]:- جاء في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الجزء الثالث صفحة166 ما نصه: وقال الوزيري: وأعلم أنـني سأصير مـيتا *** إذا سار النواعج لا أسير وقال السائلون: من المُسَجَّى؟ *** فقال المخبرون لهم: وزير والمسجى الملتف في أكفانه، والنواعج الإبل السراع، جمع ناعجة، والبيتان في (الجامع لأحكام القرآن)1/118 بلفظ (القائلون)، بدلا من (المخبرون).
[17]:- قال في القاموس: كان غاوي بن عبد العزى سادنا لصنم لبني سليم، فبينما هو عنده إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنماه، فبالا عليه، فقال البيت، ثم قال: يا معشر سليم، لا والله لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وبان من هذا أن قائل البيت بن عبد العزى، وأن كلمة (الثعلبان) هي تثنية (ثعلب) وفي حياة الحيوان للدميري إثبات أنه ليس بتثنية، وإنما هو ذكر الثعالب فتكون بضم الثاء واللام.
[18]:- الخبت: المطمئن من الأرض فيه رمل،والخبت والعرعر هنا مكانان معينان.
[19]:- بعده: و كنت امرءا لا أمدح الدهر سوقة فلست على خير أتاك بحاسد امتن عليه بمدحه، وجعله خيرا سيق إليه لا يحسده عليه، وهذا مما أخذ عليه والخَبَبُ ضرب من السير.
[20]:- هو الفرزدق – من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان، وهو في البيت يذم قوما، ويشبههم ببدوية حمقاء، وضعت سمنها في زق غير صالح ففسد. وسلأت: معناها طبخت، يقال: سلأت السمن واستلأته، وذلك إذا طبخ وعولج. وحقنت معناه: صبت: من حقن اللبن في السقاء يحقنه حقنا: صبه فيه ليخرج زبده "والسلاء بالكسر ممدود": هو السمن.
[21]:- لما بلغ خبر هزيمة حنين إلى مكة سر بذلك قوم، وأظهروا الشماتة، وقال قائل منهم: ترجع العرب إلى دين آبائها. وقال آخر وهو أخ صفوان لأمه: «ألا قد بطل السحر اليوم»، فقال له صفوان وهو يومئذ مشرك: «اسكت، فض الله فاك، والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوزان». انظر السيرة الحلبية.
[22]:- بنو عمه "بنو أمية"، وغيرهم هم "بنو أسد"، فبنو أمية أقرب إلى ابن عباس نسبا من بني أسد، وإنما قال هذا لما كان بينه وبين ابن الزبير من سوء التفاهم.
[4419]:- أراد ابن عطية بهذه العبارة أن يؤكد فصاحة التعبير القرآني دون حاجة إلى القول بأن قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} جملة اعتراضية بين قوله: {ولا آمين البيت الحرام} وقوله: {ولا يجرمنكم} بل هي مؤسسة حكما إذ أفادت حلّ الاصطياد في حال الإحرام. وقد شرح ذلك أبو حيان في "البحر" فقال: "تضمن آخر قوله: {أحلت لكم} تحريم الصيد حالة الإحرام، وآخرقوله: {لا تحلوا شعائر الله}- النهي عن إحلال آمي البيت، فجاءت هذه الجملة {وإذا حللتم فاصطادوا} راجعا حكمها إلى الجملة الأولى، وجاء ما بعدها من قوله: {ولا يجرمنكم} راجعا إلى الجملة الثانية، وهذا من بليغ الفصاحة". اهـ.
[4420]:- استشهد المؤلف رحمه الله هنا بجمل من آيات قرآنية كريمة، وهي على ترتيب ذكرها: {وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون} من الآية (72) من سورة (الأنعام)- {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} من الآية (77) من سورة (الحج)، {وإذا حللتم فاصطادوا} من الآية (2) من سورة (المائدة) وهي الآية موضع التفسير هنا- {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} من الآية (10) من سورة الجمعة- وقد ورد في الأصول {فابتغوا} بالفاء وهو خطأ من النساخ فآثرنا إثبات الصواب، {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} من الآية (40) من سورة (فصلت). {قل كونوا حجارة أو حديدا} الآية (50) من سورة الإسراء.
[4421]:- قال الزمخشري عن هذه القراءة: "هو بدل" من كسر الهمزة عند الابتداء" وقال أبو حيان: "وليس عندي كسرا محضا، بل هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل، كما أمالوا الفاء في (فإذا) لوجود كسرة (إذا)
[4422]:- من الآية (62) من سورة (النحل).
[4423]:- البيت لأبي خراش الهذلي يصف عقابا تطعم فرخها الناهض ما بقي من لحم طير أكلته وبقي العظم يسيل منه الدسم والدهن. فالناهض هو الفرخ- وهي جريمته أي: كاسبة قوته كما يقال: فلان جريمة قومه، أي: كاسبهم. والنيق: أرفع موضع في الجبل، ويقال: هو الأنوق في النيق ممتنع لا يبلغ إليه، وجمعه أنياق ونيوق ونياق. والصليب: الودك، وهو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.
[4424]:-هذا البيت لأبي أسماء بن الضريبة، وجرمت أي: "حق لها الغضب" كما قاله في "اللسان" نقلا عن الأخفش، وقال آخرون: بل المعنى: كسبت فزارة بعدها الغضب، وهو الذي اختاره ابن عطية، وللفراء رأي في البيت يقول فيه: إن (فزارة) منصوبة وليست مرفوعة كما توهموا، وفاعل الفعل (جرم) إنما هو الضمير العائد على الطعنة، والمعنى: جرمتهم الطعنة الغضب، أي: كسبتهم.
[4425]:- في بعض النسخ: "من حيث كان أبغضت".
[4426]:- هذا البيت لأبي المجشر الجاهلي كما قال في اللسان، والشّوس: النظر بإحدى شقي العين، وقيل: هو الذي يصغّر عينه ويضم أجفانه لينظر، وقال ابن سيدة: أن ينظر بإحدى عينيه ويُميل وجهه في شق العين التي ينظر بها، يكون ذلك خلقة، ويكون من الكبر والغضب، والأبيان: من الإباء، يقال: أبى يأبى فهو آب وأبي وأبيان بالتحريك.
[4427]:- هذا عجز البيت، وهو بتمامه كما رواه في اللسان: وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفنّدا
[4428]:- الحَسَك والحسكة والحسيكة: الحقد-على التشبيه- قال الأزهري: وحسك الصدر: العداوة، وفي الحديث الشريف: (تياسروا في الصداق، إن الرجل ليعطي المرأة حتى يبقى ذلك في نفسه عليها حسكة) أي: عداوة وحقدا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد ولا ءَامِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا } .

اعتراض بين الجمل التي قبله وبين جملة { وإذا حللتم فاصطادوا } . ولذلك أعيد الخطاب بالنداء بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } . وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا مع أنّهم لا يظنّ بهم إحلال المحرّمات ، يدلّ على أنّ المقصود النهي عن الاعتداء على الشعائر الإلهية التي يأتيها المشركون كما يأتيها المسلمون .

ومعنى { لا تحلّوا شعائر الله } لا تحلّوا المحرّم منها بين الناس ، بقرينة قوله : { لا تحلّوا } ، فالتقدير : لا تحلّوا مُحرّم شعائرِ الله ، كما قال تعالى : في إحلال الشهر الحرام بعمل النسيء { فيحلّوا ما حرّم الله } [ التوبة : 37 ] ؛ وإلاّ فمِن شعائر الله ما هو حلال كالحَلق ، ومنها ما هو واجب . والمحرّمات معلومة .

والشعائر : جمع شعيرة . وقد تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى : { إنّ الصفا والمروة من شعائر الله } [ البقرة : 158 ] . وقد كانت الشعائر كلّها معروفة لديهم ، فلذلك عدل عن عدّها هنا . وهي أمكنة ، وأزمنة ، وذوات ؛ فالصفا ، والمروة ، والمشعر الحرام ، من الأمكنة . وقد مضت في سورة البقرة . والشهر الحرام من الشعائر الزمانية ، والهدي والقلائد من الشعائر الذوات . فعطف الشهر الحرام والهدي وما بعدهما من شعائر الله عطف الجزئيّ على كلّيّة للاهتمام به ، والمراد به جنس الشهر الحرام ، لأنَّه في سياق النفي ، أي الأشهر الحرم الأربعة التي في قوله تعالى : { منها أربعة حُرُم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم } [ التوبة : 36 ] . فالتعريف تعريف الجنس ، وهو كالنكرة يستوي فيه المفرد والجمع . وقال ابن عطيّة : الأظهر أنّه أريد رجب خاصّة ليشتدّ أمر تحريمه إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، فإنَّما خُصّ بالنهي عن إحلاله إذ لم يكن جميع العرب يحرّمونه ، فلذلك كان يعرف برَجب مضر ؛ فلم تكن ربيعة ولا إياد ولا أنمار يحرّمونه . وكان يقال له : شهر بني أميّة أيضاً ، لأنّ قريشاً حرّموه قبل جميع العرب فتبعتهم مضر كلّها لقول عوف بن الأحوص :

وشهرِ بني أميّة والهَدايا *** إذا حبست مُضرّجُها الدقاء

وعلى هذا يكون التعريف للعهد فلا يعمّ . والأظهر أنّ التعريف للجنس ، كما قدّمناه .

والهدي : هو ما يهدى إلى مناسك الحجّ لينحر في المنحر من مِنى ، أو بالمروة ، من الأنعام .

والقلائد : جمع قِلادة وهي ظفائر من صوف أو وَبَر ، يربط فيها نعلان أو قطعة من لِحَاءِ الشجر ، أي قِشره ، وتوضع في أعناق الهدايا مشبَّهة بقلائد النساء ، والمقصود منها أن يُعرف الهدي فلا يُتَعرّض له بغارة أو نحوها . وقد كان بعض العرب إذا تأخّر في مكة حتّى خرجت الأشهر الحُرُم ، وأراد أن يرجع إلى وطنه ، وضع في عنقه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يُتَعرّضُ له بسوء .

ووجه عطف القلائد على الهدي المبالغة في احترامه بحيث يحرم الاعتداء على قلادته بله ذاته ، وهذا كقول أبي بكر : والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه .

على أنّ القلائد ممّا ينتفع به ، إذ كان أهل مكة يتّخذون من القلائد نعالاً لفقرائهم ، كما كانوا ينتفعون بجلال البدن ، وهي شُقق من ثياب توضع على كفل البدنة ؛ فيتّخذون منها قُمصاً لهم وأزُراً ، فلذلك كان النهي عن إحلالها كالنهي عن إحلال الهدي لأنّ في ذلك تعطيل مصالح سكان الحرم الذين استجاب الله فيهم دعوة إبراهيم إذ قال : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } [ إبراهيم : 37 ] قال تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } [ المائدة : 97 ] .

وقوله : { ولا آمّين البيت الحرام } عطف على { شعائر الله } : أي ولا تحلّوا قاصدي البيت الحرام وهم الحجّاج ، فالمراد قاصدوه لحجّه ، لأنّ البيت لا يقصد إلاّ للحجّ ، ولذلك لم يقل : ولا آمِّين مكة ، لأنّ من قصد مكة قد يقصدها لتجر ونحوه ، لأنّ من جملة حُرمَة البيت حرمة قاصده . ولا شك أنّ المراد آمِّين البيت من المشركين ؛ لأنّ آمِّين البيت من المؤمنين محرّم أذاهم في حالة قصد البيت وغيرها من الأحوال . وقد روي ما يؤيّد هذا في أسباب النزول : وهو أن خيلاً من بكر بن وائل وردوا المدينة وقائدهم شريح بن ضُبَيْعَة الملقّب بالحُطَم ( بوزن زُفر ) ، والمكنّى أيضاً بابننِ هند . نسبة إلى أمّه هند بنت حسّان بن عَمْرو بننِ مَرْثَد ، وكان الحُطَم هذا من بكر بن وائل ، من نزلاء اليمامة ، فترك خيلَه خارج المدينة ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إلام تدعو » فقال رسول الله : " إلى شهاد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة " فقال : حَسَن ما تدعو إليه وسأنظُرُ ولعلّي أن أسْلِم وأرى في أمرك غِلظة ولي مِن وَرائي مَنْ لا أقطَع أمراً دونهم وخرج فمرّ بسَرْح المدينة فاستاق إبلاً كثيرة ولحقه المسلمون لمَّا أُعلموا به فلم يلحقوه ، وقال في ذلك رجزاً ، وقيل : الرجزُ لأحد أصحابه ، وهو رَشِيد بن رَمِيض العَنَزي وهو :

هذا أوَانُ الشَّدّ فاشْتَدّي زِيَمْ *** قد لَفَّها الليلُ بسَوّاق حُطَـم

ليسَ براعِي إبِلٍ ولا غَنَـم *** ولا بَجَزّار على ظَهْر وَضَم

بَاتوا نِيَاماً وابنُ هِنْد لم ينمْ *** باتَ يُقَاسِيها غُلام كالزّلَــم

خَدَلَّجُ الساقَيْنِ خَفَّاقُ القَدَم

ثم أقبل الحُطم في العام القابل وهو عام القَضية فسمعوا تلبيَة حُجَّاج اليمامة فقالوا : هذا الحُطَم وأصحابه ومعهم هَدْي هو ممَّا نهبه من إبل المسلمين ، فاستأذنوا رسول الله في نَهبهم ، فنزلت الآية في النهي عن ذلك . فهي حكم عامّ نزل بعد تلك القضية ، وكان النهي عن التعرّض لبُدْن الحُطم مشمولاً لما اشتملت عليه هذه الآية .

والبيت الحرام هو الكعبة . وسيأتي بيان وصفه بهذا الوصف عند قوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس }

[ المائدة : 97 ] في هذه السورة . وجملة { يبتغون فضلاً من ربّهم } صفة ل { آمِّين } من قصدهم ابتغاء فضل الله ورضوانه وهم الذين جاءوا لأجل الحجّ إيماء إلى سبب حرمة آمِّي البيت الحرام .

وقد نهى الله عن التعرّض للحجيج بسوء لأنّ الحجّ ابتغاء فضل الله ورضوانه ، وقد كان أهل الجاهلية يقصدون منه ذلك ، قال النابغة :

حيّاك ربّي فإنَّا لا يَحِلّ لنــا *** لَهْوُ النساءِ وإنّ الدّين قد عَزَما

مشمّرين على خُوص مزمَّمة *** نرجو الإله ونرجو البِرّ والطُعَما

ويتنزّهون عن فحش الكلام ، قال العجّاج :

وَرَبِّ أسْراب حَجيج كُظَّم *** عن اللَّغَا ورَفَث التكلّم

ويظهرون الزهد والخشوع ، قال النابغة :

بمُصطحبات من لَصَافٍ وثَبْرة *** بَزُرْنَ إلالاً سَيْرُهُنّ التَّدَافُعُ

عَلَيْهِنّ شُعْث عامدون لربّهـم *** فهُنّ كأطراف الحَنِيّ خَوَاشِعُ

ووجه النَّهي عن التعرّض للحجيج بسوء وإن كانوا مشركين : أَنّ الحالة التي قصدوا فيها الحجّ وتلبّسوا عندها بالإحرام ، حالة خَيْر وقرب من الإيمان بالله وتذكّر نعمه ، فيجب أن يعانوا على الاستكثار منها لأنّ الخير يتسرّب إلى النفس رويداً ، كما أن الشرّ يتسرّب إليها كذلك ، ولذلك سيجيء عقب هذه الآية قوله : { وتَعاونوا على البِرّ والتقوى } .

والفضلُ : خير الدنيا ، وهو صلاح العمل . والرضوان : رضي الله تعالى عنهم ، وهو ثواب الآخرة ، وقيل : أراد بالفضل الربح في التجارة ، وهذا بعيد أن يكون هو سبب النهي إلاّ إذا أريد تمكينهم من إبلاغ السلع إلى مكَّة .

{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } .

تصريح بمفهوم قوله : { غير محلّي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] لقصد تأكيد الإباحة . فالأمر فيه للإباحة ، وليس هذا من الأمر الوارد بعد النهي ، لأنّ تلك المسألة مفروضة في النهي عن شيء نهياً مستمرّاً ، ثم الأمر به كذلك ، وما هنا : إنَّما هو نهي موقّت وأمر في بقيّة الأوقات ، فلا يجري هنا ما ذكر في أصول الفقه من الخلاف في مدلول صيغة الأمر الوارد بعد حظر : أهو الإباحة أو الندب أو الوجوب . فالصيد مباح بالإباحة الأصليّة ، وقد حُرّم في حالة الإحرام ، فإذا انتهت تلك الحالة رجع إلى إباحته .

و { اصطادوا } صيغة افتعال ، استعملت في الكلام لغير معنى المطاوعة التي هي مدلول صيغة الافتعال في الأصل ، فاصطاد في كلامهم مبالغة في صاد . ونظيره : اضطرّه إلى كذا . وقد نُزّل { اصطادوا } منزلة فعل لازم فلم يذكر له مفعول .

{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } .

عطف على قوله : { لا تحِلّوا شعائر الله } لِزيادة تقرير مضمونه ، أي لا تحلّوا شعائر الله ولو مع عدوّكم إذا لم يبدأوكم بحرب .

ومعنى { يجرمنّكم } يكسبنّكم ، يقال : جرَمه يجرمه ، مثل ضَرب . وأصله كسب ، من جرم النخلة إذا جذّ عراجينها ، فلمّا كان الجرم لأجل الكسب شاع إطلاق جرَم بمعنى كسب ، قالوا : جَرم فلان لنفسه كذا ، أي كسب .

وعدّي إلى مفعول ثان وهو { أن تعتدوا } ، والتقدير : يكسبكم الشنآن الاعتداء . وأمّا تعديته بعلى في قوله : { ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا }

[ المائدة : 8 ] فلتضمينه معنى يحملنّكم .

والشنآن بفتح الشين المعجمة وفتح النون في الأكثر ، وقد تسكّن النون إمَّا أصالة وإمَّا تخفيفاً هو البغض . وقيل : شدّة البغض ، وهو المناسب ، لعطفه على البغضاء في قول الأحوص :

أنمِي على البغضاء والشنآن

وهو من المصادر الدالّة على الاضطراب والتقلّب ، لأنّ الشنآن فيه اضطراب النفس ، فهو مثل الغَليان والنزَوان .

وقرأ الجمهور : { شَنَئان } بفتح النون . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر بسكون النون . وقد قيل : إنّ ساكن النون وصف مثل غضبان ، أي عدوّ ، فالمعنى : لا يجرمنّكم عدوّ قوم ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف . وإضافة شنآن إذا كان مصدراً من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي بُغضكم قوماً ، بقرينة قوله : { أنْ صدّوكم } ، لأنّ المبغض في الغالب هو المعتدى عليه .

وقرأ الجمهور : { أن صدّوكم } بفتح همزة ( أنْ ) . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بكسر الهمزة على أنَّها ( إن ) الشرطية ، فجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبل الشرط .

والمسجدُ الحرام اسم جعل علَماً بالغلبة على المكان المحيط بالكعبة المحصور ذي الأبواب ، وهو اسم إسلاميّ لم يكن يُدعى بذلك في الجاهليّة ، لأنّ المسجد مكان السجود ولم يَكن لأهل الجاهليّة سجود عند الكعبة ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } في سورة البقرة ( 144 ) ، وسيأتي عند قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبْده ليلاً من المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] .

{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ } .

تعليل للنهي الذي في قوله : { ولا يَجْرَمنَّكم شَنئان قوم } . وكان مقتضى الظاهر أن تكون الجملة مفصولة ، ولكنَّها عُطفت : ترجيحاً لما تضمَّنته من التشريع على ما اقتضته من التعليل ، يعني : أنّ واجبكم أن تتعاونوا بينكم على فعل البرّ والتقوى ، وإذا كان هذا واجبهم فيما بينهم ، كان الشأن أن يُعينوا على البرّ والتقوى ، لأنّ التعاون عليها يكسب محبّة تحصيلها ، فيصير تحصيلها رغبة لهم ، فلا جرم أن يعينوا عليها كلّ ساع إليها ، ولو كان عدوّاً ، والحجّ بِرّ فأعينوا عليه وعلى التقوى ، فهم وإن كانوا كفّاراً يُعاونُون على ما هو برّ : لأنّ البرّ يَهدي للتقوى ، فلعلّ تكرّر فعله يقرّبهم من الإسلام . ولمَّا كان الاعتداء على العدوّ إنَّما يكون بتعاونهم عليه نبّهوا على أنّ التعاون لا ينبغي أن يكون صدّاً عن المسجد الحرام ، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً ؛ فالضمير والمفاعلة في { تعاونوا } للمسلمين ، أي ليعن بعضكم بعضاً على البرّ والتقوى . وفائدة التعاون تيسير العمل ، وتوفير المصالح ، وإظهار الاتّحاد والتناصر ، حتّى يصبح ذلك خلقاً للأمّة . وهذا قبل نزول قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] .

وقوله : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } تأكيد لمضمون { وتعاونوا على البرّ والتقوى } لأنّ الأمر بالشيء ، وإن كان يتضمّن النهي عن ضدّه ، فالاهتمام بحكم الضدّ يقتضي النهي عنه بخصوصه . والمقصود أنّه يجب أن يصدّ بعضكم بعضاً عن ظلم قوم لكُم نحوَهم شنآن .

وقوله : { واتّقوا الله } الآية تذييل . وقوله : { شديد العقاب } تعريض بالتهديد .