219- ويسألونك - يا محمد - عن حكم الخمر والقمار ، فقل : إن فيهما ضرراً كبيراً من إفساد الصحة وذهاب العقل والمال وإثارة البغضاء والعدوان بين الناس ، وفيهما منافع وبعض المنافع الصحية والربح السهل ، ولكن ضررهما أكبر من نفعهما فاجتنبوهما . ويسألونك عمَّا ينفقون ، فأجبهم أن ينفقوا في ذات الله السهل اليسير الذي لا يشق عليكم إنفاقه ، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون فيما يعود عليكم من مصالح الدنيا والآخرة{[18]} .
ثم قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي : يسألك - يا أيها الرسول - المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر ، وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام ، فكأنه وقع فيهما إشكال ، فلهذا سألوا عن حكمهما ، فأمر الله تعالى نبيه ، أن يبين لهم منافعهما ومضارهما ، ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما ، وتحتيم تركهما .
فأخبر أن إثمهما ومضارهما ، وما يصدر منهما من ذهاب العقل والمال ، والصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، والعداوة ، والبغضاء - أكبر مما يظنونه من نفعهما ، من كسب المال بالتجارة بالخمر ، وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس ، عند تعاطيهما ، وكان هذا البيان زاجرا للنفوس عنهما ، لأن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته ، ويجتنب ما ترجحت مضرته ، ولكن لما كانوا قد ألفوهما ، وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة ، قدم هذه الآية ، مقدمة للتحريم ، الذي ذكره في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } إلى قوله : { مُنْتَهُونَ } وهذا من لطفه ورحمته وحكمته ، ولهذا لما نزلت ، قال عمر رضي الله عنه : انتهينا انتهينا .
فأما الخمر : فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه ، من أي نوع كان ، وأما الميسر : فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين ، من النرد ، والشطرنج ، وكل مغالبة قولية أو فعلية ، بعوض{[137]} سوى مسابقة الخيل ، والإبل ، والسهام ، فإنها مباحة ، لكونها معينة على الجهاد ، فلهذا رخص فيها الشارع .
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }
وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم ، فيسر الله لهم الأمر ، وأمرهم أن ينفقوا العفو ، وهو المتيسر من أموالهم ، الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم ، وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه ، من غني وفقير ومتوسط ، كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله ، ولو شق تمرة .
ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم ، ولا يكلفهم ما يشق عليهم . ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا ، أو تكليفا لنا [ بما يشق ]{[138]} بل أمرنا بما فيه سعادتنا ، وما يسهل علينا ، وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك أتم الحمد .
وبعد هذا الحديث الجامع عن البذل والتضحية ، ساق القرآن في آيتين ثلاثة أسئلة وأجاب عنها بما يشفي الصدور ، ويصلح النفوس .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر . . . }
قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } . . السائلون هم المؤمنون وسؤالهم إنما هو عن الحكم الشرعي من حيث الحل والتحريم . لا عن الحقيقة والذات فإنهم يعرفون حقيقة الخمر والميسر وذاتهما .
قال القرطبي : والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها - وكل شيء غطى شيئاً فقد خمره . ومنه { خمروا آنيتكم ، فالخمر تخمر العقل ، أي : تغطيه وتستره . . فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك ، وقيل إنما سميت الخمر خمرا ؛ لأنها تركت حتى أدركت كما يقال : قد اختمر خمراً لأنها تخالط العقل من المخامرة وهي المخالطة ومنه قولهم : دخلت في خمار الناس - بفتح الخاء وضمها - أي : اختلطت بهم . فالمعاني الثلاثة متقاربة . فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل . ثم خمرته ، والأصل الستر .
ويرى كثير من العلماء أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الخمر . ثم نزلت الآية التي في سورة النساء { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } ثم نزلت الآية التي في سورة المائدة { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } والدليل على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال " اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " فنزلت هذه الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر } فدعى عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " .
فنزلت الآية التي في النساء { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة - نادى أن : لا يقربن الصلاة سكران . فدعى عمر فقرئت عليه ، فقال : " اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعى عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال عمر : " انتهينا " .
وبهذا الرأي قال ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
ويرى بعض العلماء أن أول آية نزلت في الخمر هي قوله - تعالى - في سورة النحل : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } وعلى هذا الرأي سار صاحب الكشاف وتبعه بعض العلماء فقد قال : نزلت في الخمر أربع آيات ، نزل بمكة قوله - تعالى - { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم . ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } فشربها قوم وتركها آخرون .
ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي فقرأ : قل يأيها الكافرون أعبدما تعبدون فنزلت : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } فقل من يشربها ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا شعر فيه هجاء للأنصار فضرب أحد الأنصار سعداً بلحى بعير فشجه ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك . فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت " إنما الخمر والميسر . . . إلخ الآية " . . فقال عمر : انتهينا يا رب " .
وأصحاب الرأي الأول يقولون : إن آية سروة النحل وهي قوله - تعالى - : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } ليس لها علاقة بموضوع الخمر ، ويفسرون السكر بأنه ما أحله الله مما لا يسكر وأنه هو الرزق الحسن وأن العطف بينهما من باب عطف التفسير .
ولقد كان موقف الصحابة من هذا التحريم لما يشتهونه ويحبونه من الخمر والميسر ، يمثل أسمى ألوان الطاعة والاستجابة لأوامر الله ونواهيه ، فعندما بلغهم تحريم الخمر أراقوا ما عندهم منها في الطرقات . بل وحطموا الأواني التي كانت توضع فيها الخمر امتثالا وطاعة لله - تعالى - .
وهكذا نرى قوة الإِيمان التي غرسها الإِسلام في نفوس أتباعه عن طريق تعاليمه السامية ، وتربيته الحكيمة . . تغلبت على ما أحبته النفوس وأزالت من القلوب ما ألفته الطبائع .
هذا وجمهور العلماء على أن كلمة " خمر " تشمل كل شراب مسكر سواء أكان من عصير العنب أم من الشعير أم من التمر أم من غير ذلك ، ولكها سواء في التحريم قل المشروب منها أو كثر سكر شاربه أو لم يسكر .
ومن أدلتهم ما وراه الإِمام مسلم عن ابن عمر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة " .
ومن أدلتهم أيضاً أصل الاشتقاق اللغوي لكلمة خمر ، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره ، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره .
وقال الأحناف ووافقهم بعض العلماء كإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى : إن كلمة خمر لا تطلق إلا على الشراب المسكر من عصير العنب فقط ، أما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو السعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذاً . وقد بنوا على هذا أن المحرم قليله وكثيره إنما هو الخمر من العنب . أما الأنبذة فكثيرها حرام وقليلها حرام .
وقد رجح العلماء رأى الجمهور وضعفوا ما ذهب إليه الأحناف ومن وافقهم .
قال ابن العربي : وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها والصحيح ما روى الأئمة أن أنسا قال : " حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا قليل ، وعامة خمرها البسر والتمر " . أخرجه البخاري ، واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب ، وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم - أي أواني الخمر - وبادروا إلى الامتثال لا عتقادهم أن ذلك كله خمر " أي وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .
وقال الآلوسي : وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده حرام ، وقليله ككثيره ، ويحد شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة . وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع - وهو نبيذ العسل - فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " وروى أبو داود " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر " وصح " ما أسكر كثيرة فقليله حرام " والأحاديث متضافرة على ذلك . ولعمري إن اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا " الخمر " ورغبتهم فيها ، فوق اجتماعهم على شرب " الخمر " ورغبتهم فيه بكثير ، وقد وضعوا لها أسماء - كالعنبرية والإِكسير - ونحوهما ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمة - وهيهات هيهات - فالأمر وراء ما يظنون وإنا لله وإنا إليه راجعون .
بعد هذه الكلمة التمهيدية عن الآية ، وعن مدلول كلمة خمر ننتقل إلى معنى كلمة " الميسر " فنقول : الميسر : القمار - بكسر القاف - وهو في الأصل مصدر ميمي من يسر ، كالموعد من وعد . وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة ، لأن المال يجئ للكاسب من غير جهد ، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزر . ثم أصبح علما على ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه .
قال القرطبي نقلا عن الأزهري : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسراً ، لأنه أجزاء ، فكأنه موضع التجزئة ، وكل شيء جزأته فقد يسرته . والياسر : الجازر لأنه يجزئ لحم الجزور . . ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : ياسرون ، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك .
وصفة الميسر الذي كانت تستعمله العرب أنهم كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام أو الأقلام ، فكانوا إذا أرادوا أن يقامروا أحضروا بعيرا وقسموه ثمانية وعشرين قسما وتترك ثلاثة من تلك الأقداح غفلا لا علامة عليها وكانت تسمى : السفيح ، والمنيح ، والوغد . ومن طلع له واحد منها لا يأخذ شيئاً من الجزور . أما السبعة الأخرى فهي الرابحة وهي الفذو له سهم واحد ، والتوأم وله سهمان ، والرقيب وله ثلاثة ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمس والمسبل وله ستة ، والمعلي وله سبعة فيكون المجموع ثمانية وعشرين سهما .
تلك صورة تقريبية لقمار العرب كما أوردها بعض المفسرين ولا شك أنه يدخل في حكمها من حيث الحرمة ما كان مشابها لها في المخاطرة والرهان وأخذ الأموال بدون مقابل مشروع ، أو ضياعها فيما حرمه الله .
ومعنى الآية الكريمة : يسألك أصحابك يا محمد عن حكم شرب الخمر ولعب الميسر ، قل لهم على سبيل الإِرشاد والإِعلام : في تعاطيهما { إِثْمٌ كَبِيرٌ } أي : ذنب عظيم ، وضرر شديد وذلك لما فيهما من القبائح المنافية لمحاسن الشرع من الكذب ، والأذى ، وشيوع العداوة والبغضاء بين الناس ، واستلاب أموالهم بغير حق .
وقوله : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي وفيهما منافع دنيوية للناس إذ الخمر تعدر على المتاجرين فيها أرباحا مالية ، والميسر يؤدي إلى إصابة بعض الناس للمال بدون تعب .
وأطلق - سبحانه - الإِثم وقيد المنافع بأنها للناس ، للتبيه على أن الإِثم في الخمر والميسر ذاتي ، فهما في ذاتهما رجس كبير ، وخطر وبيل ، وأن ما فيهما من منافع ضئيل ولا يتجاوز بعض الناس ، فهي منافع خاصة وليست عامة ، ويشهد لهذا قوله - تعالى - بعد ذلك .
{ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } أي أن المفاسد والأضرار التي تترتب على تعاطيهما ، أعظم من المنافع التي تنشأ عن تعاطيهما ، إذ تعاطيهما يؤدي إلى منفعة بعض الناس ، أما مضارهما فكثيرة ، من ذلك أن تعاطي الخمر يضعف الضمير ، ويفسد الأخلاق ، ويميت الحياء ، ويفقد الرشد ويتلف المال ، ويغري بالتنازع بين الناس ، ويتسبب - كما قال الأطباء الثقاة - في كثير من الأمراض كأمراض الكبد والرئتين والقلب . . إلخ .
وإن شئت المزيد من معرفة مضار الخمر فراجع ما كتبه العلماء والمتخصصون في ذلك .
أما تعاطي الميسر فمن مضاره - كما يقول الأستاذ الإِمام محمد عبده - إفساد التربية بتعويد النفس الكسل ، وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية ، وإضعفا القوة العقلية ، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية ، وإهمال المقامرين للزراعة والتجارة والصناعة التي هي أركان العمران ، وتخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغني إلى الفقر في ساعة واحدة ، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في العز والغني وانحصرت ثروتها في جرل أضاعها عليها في ليلة واحدة ؛ فأصبحت عنية وأمست فقيرة " .
إّن فالمنافع الدنيوية التي تعود إلى بعض الناس من تعاطي الخمر والميسر لا تساو شيئاً بجانب تلك المضار الجسمية التي تعود على أفراد الأمة في دينهم وعقولهم وأجسامهم وأموالهم وترابطهم ، وصدق الله إذ يقول : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ثم يأتي بعد ذلك السؤال الثاني الذي ورد في هاتين الآيتين وهو قوله - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } .
ومناسبة هذا السؤال لما قبله أنهم بعد أن نهوا عن إنفاق أموالهم في الوجوه المحرمة كتعاطي الخمر والميسر ، سألوا عن وجوه الإِنفاق الحلال ، وعن مقدار ما ينفقون فأجيبوا بهذا الجواب الحكيم .
قال الآلوسي : أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس أن نفراً من الصحابة حين أمرو بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا وما الذي ننفقه منها فأنزل الله - تعالى- { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } وكان الرجل قبل ذلك ينفق ماله حتى لا يجد ما يتصدق ولا ما يأكل " .
وأصل العفو في اللغة الزيادة . قال- تعالى - : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ } أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد . ويطلق على ما سهل وتيسر مما يكون فاضلا عن الكفاية . يقال : خذ ما عفا لك . أي ما تيسر . كما يطلق على الترك قال - تعالى - { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } أي تركه وتجاوز عنه .
والمراد هنا : ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة ، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله ، ولا يتضرر صاحبه بتركه .
والمعنى : ويسألونك ما الذي يتصدقون به من أموالهم في وجوه البر ، فقل لهم تصدقوا بما زاد عن حاجتكم ، وسهل عليكم إخراجه ، ولا يشق عليكم بذله .
وفي هذه الجملة الكريمة إرشاد حكيم إلى التعاون والتراحم بين أفراد المجتمع ، وتوجيه إلى المنهاج الوسط الذي يأبى التبذير وينفر من التقتير ، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا الإِرشاد والتوجيه ، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غني وابدأ بمن تعول " .
وأخرج مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إبدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذى قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " .
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى .
وللأستاذ الإِمام كلام جيد في هذا المقام ، فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : إن الأمة المؤلفة من مليون فرد إذا كانت تبذل من فضل مالها في مصالحها العامة كإعداد القوة وتربية الناشئة . . تكون أعز وأقوى من أمة مؤلفة من مائة مليون فرد لا يبذلون شيئا في مثل ذلك ؛ لأن الواحد من الأمة الأولى يعد بأمة ، إذ هو يعتبر نفسه جزءاً منها وهي كل له ، بينما الأمة الثانية لا تعد بواحد لأن كل فرد من أفرادها يخذل الآخر . . وفي الحقيقة أن مثل هذا الجمع لا يسمى أمة ، لأن كل واحد من أفراده يعيش وحده وإن كان في جانبه أهل الأرض ، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم " .
ثم يمضي السياق ، يبين للمسلمين حكم الخمر والقمار . . وكلتاهما لذة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها . يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم ، وتسغرق مشاعرهم وأوقاتهم :
( يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ومنافع للناس . وإثمهما أكبر من نفعهما )
وإلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر . ولكن نصا في القرآن كله لم يرد بحلهما . إنما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها ، ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها . وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر ، ولا تناسبه بعثرة العمر ، وبعثرة الوعي ، وبعثرة الجهد في عبث الفارغين ، الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم ، أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر ؛ أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار ؛ كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية . أمس واليوم وغدا ! إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة . .
وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم . فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرا خالصا . فالخير يتلبس بالشر ، والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض . ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر . فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع ، فتلك علة تحريم ومنع . وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع .
هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم . وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته . ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر .
عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني ، أي بمسألة اعتقادية ، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى .
ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد ، أو بوضع اجتماعي معقد ، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج ، ويهيء الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة .
فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك : أمضى أمره منذ اللحظة الأولى . في ضربة حازمة جازمة . لا تردد فيها ولا تلفت ، ولا مجاملة فيها ولا مساومة ، ولا لقاء في منتصف الطريق . لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور ، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام .
فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف . والعادة تحتاج إلى علاج . . فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين ، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى . . ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) . . والصلاة في خمسة أوقات ، معظمها متقارب ، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة ! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب ، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي ؛ إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله . فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها . . حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) . .
وأما في الرق مثلا ، فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي ، وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق ، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبلتعديل ظواهرها وآثارها . والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية . . ولم يأمر الإسلام بالرق قط ، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى . ولكنه جاء فوجد الرق نظاما عالميا يقوم عليه الاقتصاد العالمي . ووجد استرقاق الأسرى عرفا دوليا ، يأخذ به المحاربون جميعا . . فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل .
وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده حتى ينتهي بهذا النظام كله - مع الزمن - إلا الإلغاء ، دون إحداث هزة إجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها . وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق ، وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة .
بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء . . ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان . وما كان الإسلام يومئذ قادرا على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد ، الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض . ولو أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصورا على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين ، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السييء في عالم الرق هناك . وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام . . ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلا قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل ، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشيء . . لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى ، بل قال : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) . . ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم . وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طبيعة موقفها . فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين ، وتتبادل الأسرى من الفريقين ، وتسترق من تسترق وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين .
وبتجفيف موارد الرق الأخرى - وكانت كثيرة جدا ومتنوعة - يقل العدد . . وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية . فجعل للرقيق حقه كاملا في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده . ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك ، فيصبح أجر عمله له ، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته - أي إنه يصبح كيانا مستقلا ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلا - ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة . والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته . . وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة . كبعض حالات القتل الخطأ ، وفدية اليمين ، وكفارة الظهار . . وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن ، لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة لها ، وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه .
فأما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك ؛ فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي ، شيئافشيئا . وهذه حقيقة . . ولكن مباديء الإسلام ليست هي المسؤولة عنه . . ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقا صحيحا في بعض العهود لانحراف الناس عن منهجه ، قليلا أو كثيرا . . ووفق النظرية الإسلامية التاريخية التي أسلفنا . . لا تعد الأوضاع التي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعا إسلامية ، ولا تعد حلقات في تاريخ الإسلام كذلك . فالإسلام لم يتغير . ولم تضف إلى مبادئه مباديء جديدة . إنما الذي تغير هم الناس . وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم . ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه .
وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية ، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ . إنما يستأنفها من حيث يستمد استمدادا مباشرا من أصول الإسلام الصحيحة . .
وهذه الحقيقة مهمة جدا . سواء من وجهة التحقيق النظري ، أو النمو الحركي ، للعقيدة الإسلامية وللمنهج الإسلامي . ونحن نؤكدها للمرة الثانية في هذا الجزء بهذه المناسبة ، لما نراه من شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية ، وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي . ومن شدة الضلال والخطأ في تصور الحياة الإسلامية الحقيقية والحركة الإسلامية الصحيحة . وبخاصة في دراسة المستشرقين للتاريخ الإسلامي . ومن يتأثرون بمنهج المستشرقين الخاطيء في فهم هذا التاريخ ! وفيهم بعض المخلصين المخدوعين !
ثم نمضي مع السياق في تقرير المباديء الإسلامية في مواجهة الأسئلة الاستفهامية :
( ويسألونك ماذا ينفقون ؟ قل العفو . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) . .
لقد سألوا مرة : ماذا ينفقون ؟ فكان الجواب عن النوع والجهة . فأما هنا فجاء الجواب عن المقدار والدرجة . . والعفو : الفضل والزيادة . فكل ما زاد على النفقة الشخصية - في غير ترف ولا مخيلة - فهو محل للإنفاق . الأقرب فالأقرب . ثم الآخرون على ما أسلفنا . . والزكاة وحدها لا تجزيء . فهذا النص لم تنسخه آية الزكاة ولم تخصصه فيما أرى : فالزكاة لا تبريء الذمة إلا بإسقاط الفريضة . ويبقى التوجيه إلى الإنفاق قائما . إن الزكاة هي حق بيت مال المسلمين تجبيها الحكومة التي تنفذ شريعة الله ، وتنفقها في مصارفها المعلومة ، ولكن يبقى بعد ذلك واجب المسلم لله ولعباد الله . والزكاة قد لا تستغرق الفضل كله ، والفضل كله محل للإنفاق بهذا النص الواضح ؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام : " في المال حق سوى الزكاة " . . حق قد يؤديه صاحبه ابتغاء مرضاة الله - وهذا هو الأكمل والأجمل - فإن لم يفعل واحتاجت إليه الدولة المسلمة التي تنفذ شريعة الله ، أخذته فأنفقته فيما يصلح الجماعة المسلمة . كي لا يضيع في الترف المفسد . أو يقبض عن التعامل ويخزن ويعطل .
( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) . .
فهذا البيان لاستجاشة التفكر والتدبر في أمر الدنيا والآخرة . فالتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني . وحقيقة الحياة وتكاليفها وارتباطاتها . ولا ينشىء تصورا صحيحا للأوضاع والقيم والموازين . فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر . وبناء الشعور والسلوك على حساب الشطر القصير لا ينتهي أبدا إلى تصور صحيح ولا إلى سلوك صحيح . . ومسألة الإنفاق بالذات في حاجة إلى حساب الدنيا والآخرة . فما ينقص من مال المرء بالإنفاق يرد عليها طهارة لقلبه ، وزكاة
لمشاعره . كما يرد عليه صلاحا للمجتمع الذي يعيش فيه ووئاما وسلاما . ولكن هذا كله قد لا يكون ملحوظا لكل فرد . وحينئذ يكون الشعور بالآخرة وما فيها من جزاء ، وما فيها من قيم وموازين ، مرجحا لكفة الإنفاق ، تطمئن إليه النفس ، وتسكن له وتستريح . ويعتدل الميزان في يدها فلا يرجح بقيمة زائفة ذات لألاء وبريق .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 219 )
وقوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية( {[2046]} ) ، السائلون هم المؤمنون ، و { الخمر } مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «خمروا الإناء »( {[2047]} ) ، ومنه خمار المرأة ، والخمر ما واراك من شجر وغيره ، ومنه قول الشاعر :
ألا يا زيد والضحاك سيرا . . . فقد جاوزتما خمر الطريق( {[2048]} )
أي سيرا مدلين( {[2049]} ) فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره ، ومنه قول العجاج :
في لامِعِ العقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمر . . . ( {[2050]} ) يصف جيشاً جاء برايات غير مستخف ، ومنه قولهم دخل فلان في غمار الناس وخمارهم( {[2051]} ) ، أي هو بمكان خاف ، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطي عليه سميت بذلك ، والخمر ماء العنب الذي غلي( {[2052]} ) ولم يطبخ أو طبخ طبخاً لم يكف غليانه ، وما خامر العقل من غير ذلك فهو في ( {[2053]} )حكمه . قال أبو حنيفة : قد تكون الخمر من الحبوب ، قال ابن سيده : وأظنه تسفحاً منه ، لأن حقيقة الخمر إنما هي ماء العنب دون سائر الأشياء ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «الخمر من هاتين الشجرتين : العنب والنخلة » ، وحرمت الخمر بالمدينة يوم حرمت وهي من العسل والزبيب والتمر والشعير والقمح ، ولم تكن عندهم خمر عنب ، وأجمعت الأمة على خمر العنب إذا غلت ورمت بالزبد أنها حرام قليلها وكثيرها ، وأن الحد واجب في القليل منها والكثير ، وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره . والحد في ذلك واجب . وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة : ما أسكر كثيره من غير خمر العنب ، فما لا يسكر منه حلال ، وإذا سكر أحد منه دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف يرده النظر( {[2054]} ) ، وأبو بكر الصديق وعمر الفاروق والصحابة على خلافه ، وروي أن النبي عليه السلام قال : «كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام »( {[2055]} ) ، قال ابن المنذر في الإشراف : «لم يبق هذا الخبر مقالة لقائل ولا حجة لمحتج » ، وروي أن هذه الآية أول( {[2056]} ) تطرق إلى تحريم الخمر ، ثم بعده { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى }( {[2057]} ) [ النساء : 43 ] ، ثم قوله تعالى : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] ، ثم قوله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه }( {[2058]} ) [ المائدة : 90 ] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حرمت الخمر » ، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الخمر إلا أنه جلد أربعين ، خرجه مسلم وأبو داود ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضرب فيها ضرباً مشاعاً ، وحزره أبو بكر أربعين سوطاً ، وعمل بذلك هو ثم عمر ، ثم تهافت الناس فيها فشدد عليهم الحد وجعله كأخف الحدود ثمانين ، وبه قال مالك ، وقال الشافعي بالأربعين ، وضرب الخمر غير شديد عند جماعة العلماء ولا يبدو إبط الضارب ، وقال مالك : «الضرب كله سواء لا يخفف ولا يبرح » ، ويجتنب من المضروب الوجه والفرج والقلب والدماغ والخواصر بإجماع ، وقالت طائفة : هذه الآية منسوخة بقوله : { فاجتنبوه لعلكم تفلحون } [ المائدة : 90 ] ، يريد ما في قوله { ومنافع للناس } من الإباحة والإشارة إلى الترخيص( {[2059]} ) .
و { الميسر } مأخوذ من يسر إذا جزر ، والياسر الجازر( {[2060]} ) ، ومنه قول الشاعر :
فلَمْ يَزَلْ بِكَ واشيهمْ وَمَكْرُهُمْ . . . حتَّى أَشَاطُوا بِغْيبٍ لَحْمَ مَنْ يَسَرُوا( {[2061]} )
أقُولُ لَهُمْ بِالشَّعْبِ إذْ يَيْسِرونني . . . أَلَمْ تَيْأسُوا إنّي ابْنُ فَارِسِ زهدمِ ؟( {[2062]} )
والجزور الذي يستهم عليه يسمى ميسراً لأنه موضع اليسر ، ثم قيل للسهام ميسر للمجاورة . وقال الطبري : «الميسر مأخوذ من يسر لي هذا إذا وجب وتسنى » ، ونسب القول إلى مجاهد ، ثم جلب من نص كلام مجاهد ما هو خلاف لقوله ، بل أراد مجاهد الجزر( {[2063]} ) ، واليسر : الذي يدخل في الضرب بالقداح ، وجمعه أيسار وقيل يسر جمع ياسر ، كحارس وحرس وأحراس ، وسهام الميسر سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدة الحظوظ ، وثلاثة لا حظوظ لها ، ولا فروض فيها ، وهي( {[2064]} ) الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى ، والثلاثة التي لا حظوظ لها المنيح والسفيح والوغد ، تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام وتختلط على الحرضة( {[2065]} ) وهو الضارب بها ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً ، وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء ، تشتري الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام ، وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور ، فذكر أنها كانت على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرين قسماً ، وليس كذلك( {[2066]} ) ، ثم يضرب على العشرة الأقسام ، فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدماً أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء ، وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه .
ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي ، ومنه قول الأعشى : [ السريع ]
المطعمو الضيف إذا ما شتا . . . والجاعلو القوت على الياسر( {[2067]} )
بأيديهمُ مَقْرومَةٌ وَمَغَالقٌ . . . يَعُودُ بأرزاقِ العُفَاةِ مَنِيحُها( {[2068]} )
والمنيح في هذا البيت المستمنح ، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد أملس وكثر فوزه ، فلذلك المنيح الممدوح( {[2069]} ) ، وأما المنيح الذي هو أحد الثلاثة الأغفال ، فذلك إنما يوصف بالكر ، وإياه أراد جرير بقوله : [ الكامل ]
وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً . . . كَرَّ الْمَنيحِ وَجُلْنَ ثمَّ مَجَالاَ( {[2070]} )
وإذا يَسِرُوا لَمْ يُورِثِ الْيُسْرُ بَيْنَهُمْ . . . فَوَاحِش يُنْعى ذكرُها بِالْمَصَايِفِ( {[2071]} )
فهذا كله هو نفع الميسر( {[2072]} ) ، إلى أنه أكل المال بالباطل ، ففيه إثم كبير ، وقال محمد بن سيرين والحسن وابن عباس وابن المسيب وغيرهم : كل قمار ميسر( {[2073]} ) من نرد وشطرنج ونحوه حتى لعب الصبيان بالجوز .
وقوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } الآية ، قال ابن عباس والربيع : الإثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعة فيهما قبله ، وقالت طائفة : الإثم في الخمر ذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية( {[2074]} ) والتعدي الذي يكون من شاربها ، والمنفعة اللذة بها كما قال حسان بن ثابت :
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكَنَا ملوكاً . . . وَأسْداً ما يُنَهْنِهُنَا اللقَاءُ( {[2075]} )
إلى غير ذلك من أفراحها ، وقال مجاهد : «المنفعةَ بها كسب أثمانها » ثم أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة ، فهذا هو التقدمة للتحريم ، وقرأ حمزة والكسائي «كثير » بالثاء المثلثة ، وحجتها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة : بائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ، والمعصورة له ، وساقيها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها ، فهذه آثام كثيرة ، وأيضاً فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام ، و «كثير » بالثاء المثلثة يعطي ذلك ، وقرأ باقي القراء وجمهور الناس «كبير » بالباء بواحدة ، وحجتها أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر فوصفه بالكبير أليق ، وأيضاً فاتفاقهم على { أكبر } حجة لكبير بالباء بواحدة ، وأجمعوا على رفض أكثر بالثاء مثلثة ، إلا ما مصحف ابن مسعود فإن فيه «قل فيهما إثم كثير وإثمهما أكثر » بالثاء مثلثة في الحرفين ، وقوله تعالى : «فيهما إثم » يحتمل مقصدين ، أحدهما أن يراد في استعمالهما بعد النهي ، والآخر أن يراد خلال السوء التي فيهما ، وقال سعيد بن جبير : لما نزلت { قل فيهما إثم كبير( {[2076]} ) ومنافع للناس } كرهها قوم للإثم وشربها قوم للمنافع ، فلما نزلت :{ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] تجنبوها عند أوقات الصلوات الخمس ، فلما نزلت { إنما الخمر والمسير والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون }( {[2077]} ) [ المائدة : 90 ] قال عمر بن الخطاب : ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر والأنصاب ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت الخمر .
ولما سمع عمر بن الخطاب قوله تعالى : { فهل أنتمْ منتهون } [ المائدة : 91 ] قال : «انتهينا ، انتهينا » ، قال الفارسي : وقال بعض أهل النظر : حرمت الخمر بهذه الآية لأن الله تعالى قال : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } [ الأعراف : 33 ] ، وأخبر في هذه الآية أن فيها إثماً ، فهي حرام .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ليس هذ النظر بجيد لأن الإثم( {[2078]} ) الذي فيها هو الحرام ، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر( {[2079]} ) ، وقال قتادة : ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها .
وقوله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال قيس بن سعد : «هذه الزكاة المفروضة » . وقال جمهور العلماء : بل هي نفقات التطوع . وقال بعضهم : نسخت بالزكاة . وقال آخرون : هي محكمة( {[2080]} ) وفي المال حق سوى الزكاة . و { العفو } : هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله . ونحو هذا هي عبارة المفسرين : وهو مأخوذ من عفا الشيء إذا كثر ، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : «من كان له فضل فلينفقه على نفسه ، ثم على من يعول ، فإن فضل شيء فليتصدق به »( {[2081]} ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : «خير الصدقة ما أبقت غنى » ، وفي حديث آخر : «ما كان عن ظهر غنى »( {[2082]} ) .
وقرأ جمهور الناس «العفو » بالنصب ، وقرأ أبو عمرو وحده «العفُو » بالرفع ، واختلف عن ابن كثير( {[2083]} ) ، وهذا ( {[2084]} )متركب على { ماذا } ، فمن جعل «ما » ابتداء و «ذا » خبره بمعنى الذي وقدر الضمير في { ينفقونه } عائداً قرأ «العفوُ » بالرفع ، لتصح مناسبة الجمل ، ورفعه على الابتداء تقديره العفو إنفاقكم ، أو الذي تنفقون العفو( {[2085]} ) ، ومن جعل { ماذا } اسماً واحداً مفعولاً ب { ينفقون } ، قرأ «قل العفوَ » بالنصب بإضمار فعل ، وصح له التناسب ، ورفع «العفوُ » مع نصب «ما » جائز ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها .
وقوله تعالى : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } الإشارة إلى ما تقدم تبيينه من أمر الخمر والميسر والإنفاق ، وأخبر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم إلى الفكرة في الدنيا والآخرة ، وذلك طريق النجاة لمن تنفعه فكرته ، وقال مكي : «معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة تدل عليهما وعلى منزلتيهما لعلهم يتفكرون في تلك الآيات ، فقوله { في الدنيا } متعلق( {[2086]} ) على هذا التأويل ب { الآيات } ، وعلى التأويل الأول وهو المشهور عن ابن عباس وغيره يتعلق { في الدنيا } ب { تتفكرون } .