المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

97- وفيه دلائل واضحات على حرمته ومزيد فضله ، منها مكان قيام إبراهيم للصلاة فيه ، ومن دخله يكون آمناً لا يتعرض له بسوء ، وحج هذا البيت واجب على المستطيع من الناس ، ومن أبى وتمرد على أمر الله وجحد دينه فالخسران عائد عليه ، وأن الله غني عن الناس كلهم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

{ فيه آيات بينات } أي : أدلة واضحات ، وبراهين قاطعات على أنواع من العلوم الإلهية والمطالب العالية ، كالأدلة على توحيده ورحمته وحكمته وعظمته وجلاله وكمال علمه وسعة جوده ، وما مَنَّ به على أوليائه وأنبيائه ، فمن الآيات { مقام إبراهيم } يحتمل أن المراد به المقام المعروف وهو الحجر الذي كان يقوم عليه الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع البنيان ، وكان ملصقا في جدار الكعبة ، فلما كان عمر رضي الله عنه وضعه في مكانه الموجود فيه الآن ، والآية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم ، قد أثرت في الصخرة وبقي ذلك الأثر إلى أوائل هذه الأمة ، وهذا من خوارق العادات ، وقيل إن الآية فيه ما أودعه الله في القلوب من تعظيمه وتكريمه وتشريفه واحترامه ، ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد مضاف يراد به مقاماته في مواضع المناسك كلها ، فيكون على هذا جميع أجزاء الحج ومفرداته آيات بينات ، كالطواف والسعي ومواضعها ، والوقوف بعرفة ومزدلفة ، والرمي ، وسائر الشعائر ، والآية في ذلك ما جعله الله في القلوب من تعظيمها واحترامها وبذل نفائس النفوس والأموال في الوصول إليها وتحمل كل مشقة لأجلها ، وما في ضمنها من الأسرار البديعة والمعاني الرفيعة ، وما في أفعالها من الحكم والمصالح التي يعجز الخلق عن إحصاء بعضها ، ومن الآيات البينات فيها أن من دخله كان آمنا شرعا وقدرا ، فالشرع قد أمر الله رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد باحترامه وتأمين من دخله ، وأن لا يهاج ، حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها ، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء أن من جنى جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه أنه يأمن ولا يقام عليه الحد حتى يخرج منه ، وأما تأمينها قدرا فلأن الله تعالى بقضائه وقدره وضع في النفوس حتى نفوس المشركين به الكافرين بربهم احترامه ، حتى إن الواحد منهم مع شدة حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه ، ومن جعله حرما أن كل من أراده بسوء فلا بد أن يعاقبه عقوبة عاجلة ، كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم ، وقد رأيت لابن القيم هاهنا كلاما حسنا أحببت إيراده لشدة الحاجة إليه قال فائدة : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } " حج البيت " مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله ، والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله : " على الناس " لأنه وجوب ، والوجوب يقتضي " على " ويجوز أن يكون في قوله : " ولله " لأنه متضمن الوجوب والاستحقاق ، ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها ، وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير ، فكان الأحسن أن يكون " ولله على الناس " . ويرجح الوجه الأول بأن يقال قوله : " حج البيت على الناس " أكثر استعمالا في باب الوجوب من أن يقال : " حج البيت لله " أي : حق واجب لله ، فتأمله . وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول وليس بخبر فائدتان : إحداهما : أنه اسم للموجب للحج ، فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب ، فتضمنت الآية ثلاثة أمور مرتبة بحسب الوقائع : أحدها : الموجب لهذا الفرض فبدأ بذكره ، والثاني : مؤدي الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس ، والثالث : النسبة ، والحق المتعلق به إيجابا وبهم وجوبا وأداء ، وهو الحج .

والفائدة الثانية : أن الاسم المجرور من حيث كان اسما لله سبحانه ، وجب الاهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه ، وتخويفا من تضييعه ، إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره .

وأما قوله : " مَنْ " فهي بدل ، وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر ، كأنه قال : أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا ، وهذا القول يضعف من وجوه ، منها : أن الحج فرض عين ، ولو كان معنى الآية ما ذكره لأفهم فرض الكفاية ، لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم ، لأن المعنى يؤل إلى : ولله على الناس حج البيت مستطيعهم ، فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين ، وليس الأمر كذلك ، بل الحج فرض عين على كل أحد ، حج المستطيعون أو قعدوا ، ولكن الله سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب ، فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه ، فإذا حج سقط الفرض عن نفسه ، وليس حج المستطيعين بمسقط الفرض عن العاجزين ، وإذا أردت زيادة إيضاح ، فإذا قلت : واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعون للجهاد ، فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب في غيرهم ، وإذا قلت واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع ، كان الوجوب متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه ، ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال : ولله حج البيت على المستطيعين ، هذه النكتة البديعة فتأملها .

الوجه الثاني : أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول ، فلو كان من هو الفاعل لأضيف المصدر إليه فكان يقال : " ولله على الناس حج مَنْ استطاع " وحمله على باب " يعجبني ضرب زيد عمرا " وفيما يفصل فيه بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكتوب المرجوح ، وهي قراءة ابن عامر ( قتل أولادهم شركائهم ) ، فلا يصار إليه . وإذا ثبت أن " من " بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى " الناس " كأنه قيل : من استطاع منهم ، وحذف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يحسن ، وحسنه هاهنا أمور منها : أن " من " واقعة على من لا يعقل ، كالاسم المبدل منه فارتبطت به ، ومنها : أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول ، ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد ، ومثال ذلك إذا قلت : رأيت إخوتك من ذهب إلى السوق منهم ، كان قبيحا ، لأن الذاهب إلى السوق أعم من الإخوة ، وكذلك لو قلت : البس الثياب ما حسن وجمل ، يريد منها ، ولم يذكر الضمير كان أبعد في الجواز ، لأن لفظ ما حسن أعم من الثياب .

وباب البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه ، فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو قيدته بضمير يعود إلى الأول ارتفع العموم وبقي الخصوص ، ومما حسن حذف المضاف في هذه أيضا مع ما تقدم طول الكلام بالصلة والموصول .

وأما المجرور من قوله " لله " فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون في موضع من سبيل ، كأنه نعت نكرة قدم عليها ، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل ، والثاني : أن يكون متعلقا بسبيل ، فإن قلت : كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل ؟ قيل : السبيل لما كان عبارة هاهنا عن الموصل إلى البيت من قوت وزاد ونحوهما ، كان فيه رائحة الفعل ، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق ، فصلح تعلق المجرور به ، واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير ، لأنه ضمير يعود على البيت ، والبيت هو المقصود به الاعتناء ، وهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعني هذا تقرير السهيلي ، وهذا بعيد جدا بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين ، ولا يليق بالآية سواه ، وهو الوجوب المفهوم من قوله " على الناس " أي : يجب لله على الناس الحج ، فهو حق واجب لله ، وأما تعليقه بالسبيل وجعله حالا منها ، ففي غاية البعد فتأمله ، ولا يكاد يخطر بالبال من الآية ، وهذا كما تقول : لله عليك الصلاة والزكاة والصيام .

ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي ، وهو الأكثر ، وبلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم نحو { كتب عليكم الصيام } { حرمت عليكم الميتة } { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } وفي الحج أتى بهذا اللفظ الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه ، أحدها أنه قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على أبدل منه أهل الاستطاعة ، ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي : سبيل تيسرت ، من قوت أو مال ، فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلا ، ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال { ومن كفر } أي : لعدم التزامه هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره ما يستغنى به عنه ، والله تعالى هو الغني الحميد ، ولا حاجة به إلى حج أحد ، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغه ، ثم أكد ذلك بذكر اسم " العالمين " عموما ، ولم يقل : فإن الله غني عنه ، لأنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه بكل اعتبار ، فكان أدل لعظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه ، ثم أكد هذا المعنى بأداة " إن " الدالة على التأكيد ، فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم .

وتأمل سر البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرتين ، مرة بإسناده إلى عموم الناس ، ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين ، وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرر الإسناد ولهذا كان في نية تكرار العامل وإعادته .

ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ، وكيف تضمن ذلك إيراد الكلام في صورتين وخلتين ، اعتناء به وتأكيد لشأنه ، ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما تدعوا النفوس إلى قصده وحجه وان لم يطلب ذلك منها ، فقال : { إن أول بيت } إلخ ، فوصفه بخمس صفات : أحدها كونه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض ، الثاني : أنه مبارك ، والبركة كثرة الخير ودوامه ، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق ، الثالث : أنه هدى ، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة ، حتى كأنه نفس الهدى ، الرابع ما تضمن من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية ، الخامس : الأمن الحاصل لداخله ، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار ، ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات ، وهذا يدل على الاعتناء منه سبحانه لهذا البيت العظيم ، والتنويه بذكره ، والتعظيم لشأنه ، والرفعة من قدره ، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله { وطهر بيتي } لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا ، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه ، وسلبت نفوسهم حباله وشوقا إلى رؤيته ، فهذه المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا ، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا ، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم ، كما قيل :

أطوف به والنفس بعد مشوقة *** إليه وهل بعد الطواف تداني

وألثم منه الركن أطلب برد ما *** بقلبي من شوق ومن هيمان

فوالله ما ازداد إلا صبابة *** ولا القلب إلا كثرة الخفقان

فيا جنة المأوى ويا غاية المنى *** ويا منيتي من دون كل أمان

أبت غلبات الشوق إلا تقربا *** إليك فما لي بالبعاد يدان

وما كان صدى عنك صد ملالة *** ولي شاهد من مقلتي ولسان

دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا *** فلبى البكا والصبر عنك عصاني

وقد زعموا أن المحب إذا نأى *** سيبلى هواه بعد طول زمان

ولو كان هذا الزعم حقا لكان ذا *** دواء الهوى في الناس كل زمان

بلى إنه يبلى والهوى على *** حاله  لم يبله الملوان

وهذا محب قاده الشوق والهوى *** بغير زمام قائد وعنان

أتاك على بعد المزار ولو ونت *** مطيته جاءت به القدمان

انتهى كلامه رحمه الله تعالى .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

ثم مدحه - ثالثا - بقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أى فيه علامات ظاهرات ، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته ، وعلو مكانته .

وهذه الجملة الكريمة مستأنفة لبيان وتفسير بركته وهداه .

ثم بين - سبحانه - بعض هذه الآيات البينات الدالة على عظمه وشرفه فقال : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .

فالآية الأولى الدالة على عظم وشرف البيت الحرام { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أى المقام المعروف بهذا الاسم . وهو الموضع الذى كان يقوم فيه إبراهيم تجاه الكعبة لعبادة الله - تعالى - ولإتمام بناء الكعبة ومعنى أن فى البيت مقام إبراهيم أى أنه فى فنائه ومتصل به .

قال ابن كثير : عن جابر - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين .

والمراد بالمقام إنما هو الحجر الذى كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل بهذا الحجر ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار . . .

ثم قال : وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما . ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلى الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك . وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى ناحية المشرق حيث هو الآن . ليتمكن الطائفون من الطواف ، وليصلى المصلون عنده دون تشويش عليهم من الطائفين .

وقوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } مبتدأ محذوف الخبر أى مقام إبراهيم منها أى من هذه الآيات البينات . أو خبر لمبتدأ محذوف أى فيه آيات بينات أحدها مقام إبراهيم .

وقد رجح ابن جرير أن قوله - تعالى - { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } هو بعض الآيات البينات التى فى البيت الحرام فقال : وأولى الأقوال فى تأويل ذلك بالصواب قول من قال : الآيات البينات منهن مقام إبراهيم . وهو قول قتادة ومجاهد الذى رواه معمر عنهما فيكون الكلام مرادا فيه منهن فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها . فإن قال القائل : فهذا المقام من الآيات البينات فما سائر الآيات التى من أجلها قيل { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ؟ قيل : منهن المقام ، ومنهن الحجر ، ومنهن الحطيم " .

وقال ابن عطية : والراجح عندى أن المقام وآمن الداخلين جعلا مثالا لما فى حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم .

وأما الآية الثانية التى تدل على فضل هذا البيت وشرفه فقد بينها القرآن بقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .

أى من التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل قال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } وفي ذلك إجابة لسيدنا إبراهيم حيث قال - كما حكى القرآن عنه - : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } ولا شك أن فى أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله ؛ لأنه موضع أمان الناس فى بيئة تغرى بالاعتداء لخلوها من الزرع والنبات .

وفى الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن أبى شريح العدوى أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث لمكة - يعنى لقتال عبد الله بن الزبير - : ائذن لى أيها الأمير أن أحدثك قولا قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، - سمعته أذناى ووعاه قلبى ، وأبصرته عيناى - حين تكلم به - : إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها - أى أخذ فيه بالرخصة - فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لى فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب .

فقيل لأبى شريح : ما قال لك عمرو ؟ فقال أبو شريح : قال لى يا أبا شريح أنا أعلم بذلك منك . إن الحرم لا يعيذ عاصيا - أى لا يجيره ولا يعصم دمه - ولا فاراً بدم - أى أن الحرم لا يجير إنساناً هارباً إليه لسبب من الأسباب الموجبة للتقل - ولا فاراً بخربة - أى بسبب سرقة أو خيانة .

ولقد كان أهل الجاهلية يعظمون المسجد الحرام - وخصوصا أهل مكة - فلما جاء الإسلام أقر له هذه الميزة وزكاها ، ووضع لها الضوابط والأحكام التى تضمن استعمالها فى الوجوه التى شرعها الله .

فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى فى الحرم جناية فهو مأخوذ بجنايته سواء أكانت فى النفس أم فيما دونها .

واختلفوا فيمن جنى فى غير الحرم ثم لاذ إليه . فقال أبو حنيفة وابن حنبل : إذا قتل فى غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام فيه ، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل غلى أن يخرج منه فيقتص منه . وإن كانت جنايته فيما دون النفس فى غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه .

وقال مالك والشافعي يقتص منه فى الحرم لذلك كله كما يقتص منه فى الحل . ولكل فريق أدلته المبسوطة فى كتب الفقه .

ثم أخبر - سبحانه - عن وجوب الحج على كل قادر عليه فقال : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } .

أى أن الله - تعالى - فرض على الناس أن يحجوا بيته فى أوقات معينة وبكيفية مخصوصة متى كان فى استطاعتهم أداء هذه الفريضة .

{ وَمَن كَفَرَ } أى من جحد فرضية الحج وأنكرها ، ولم يؤدها مع استطاعته وقدرته على أدائها فإن الله غنى عنه وعن حجه وعن الناس جميعاً .

قال صاحب الكشاف : وفى هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد منها قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعنى أنه حق واجب لله فى رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد :

أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .

والثاني : إن الإيضاح بعد الإيهام ، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له فى صورتين مختلفتين . ومنها قوله : { وَمَن كَفَرَ } مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج فليمت إن شاء الله يهودياً أو نصرانياً "

ومنها ذكر الاستغناء عنه ، لأن فيه الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط .

وقوله : { وَللَّهِ } خبر مقدم متعلق بمحذوف أى واجب . { عَلَى الناس } متعلق بهذا المحذوف . وقوله : { حِجُّ البيت } مبتدأ مؤخر .

والناس عام مخصوص بالمتسطيع ، وقد خصص ببدل البعض فى قوله : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } إذ هذه الجملة بدل من الناس بدل البعض من الكل . والضمير فى البدل مقدر أى من استطاع منهم إليه سبيلا .

و " من " فى قوله : { وَمَن كَفَرَ } يحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، وعلى الاحتمالين استغنى فيا بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل ومن كفر فغن الله غنى عنه فاستغنى بالظاهر عن المضمر .

قال ابن كثير : والجمهور يرى أن هذه الآية هى آية وجوب الحج . وقيل بل هى آية ( وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ) والأول أظهر . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقوائمه ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروياً وإنما يجب على المكلف فى العمرة مرة واحدة بالنص والإجماع فعن ابيى هريرة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، وإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه " .

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما السبيل يا رسول الله ، فقال : الزاد والراحلة " .

وبذلك تكون هاتان الآيتان والآيات التى قبلهما قد ردت على اليهود فى دعواهم أن ما حرمه الله عليهم من طيبات لم يكن عقوبة لهم بسبب ظلمهم وبغيهم ، وكذبتهم فى دعواهم أن بيت المقدس أفضل من المسجد الحرام .

وقد اشتمل هذا الرد على ما يثبت افتراءهم من واقع التاريخ ، فقد أمر الله - تعالى - النبى صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بإحضار التوراة إن كانوا صادقين فى دعواهم ، فبهوتوا وانقلبوا صاغرين ، واثبت القرآن أن البيت الحرام أول بيت وضع فى الأرض لعبادة الله ، فهو يسبق بيت المقدس فى أولوية الشرف والزمان . وإذن فجدال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الأمور ما هو إلا نوع من عنادهم وجحودهم للحق ، والمعاند والجاحد لا ينفع معهما دليل أو برهان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

93

وفيه علامات بينة على أنه مقام إبراهيم . . [ ويقال : إن المقصود هو الحجر الأثري الذي كان إبراهيم - عليه السلام - يقف عليه في أثناء البناء . وكان ملصقا بالكعبة فأخره عنها الخليفة الراشد عمر - رضي الله عنه - حتى لا يشوش الذين يطوفون به على المصلين عنده .

وقد أمر المسلمون أن يتخذوه مصلى بقوله تعالى : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) . . ]

ويذكر من فضائل هذا البيت أن من دخله كان آمنا . فهو مثابة الأمن لكل خائف . وليس هذا لمكان آخر في الأرض . وقد بقي هكذا مذ بناه إبراهيم وإسماعيل . وحتى في جاهلية العرب ، وفي الفترة التي انحرفوا فيها عن دين إبراهيم ، وعن التوحيد الخالص الذي يمثله هذا الدين . . حتى في هذه الفترة بقيت حرمة هذا البيت سارية ، كما قال الحسن البصري وغيره : " كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ، ويدخل الحرم ، فيلقاه ابن المقتول ، فلا يهيجه حتى يخرج " . . وكان هذا من تكريم الله سبحانه لبيته هذا ، حتى والناس من حوله في جاهلية ! وقال - سبحانه - يمتن على العرب به : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ؟ )وحتى إنه من جملة تحريم الكعبة حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره ، وحرمة قطع شجرها . . وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله [ ص ] يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار . فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاه . . . إلخ "

فهذا هو البيت الذي اختاره الله للمسلمين قبلة . . هو بيت الله الذي جعل له هذه الكرامة . وهو أول بيت أقيم في الأرض للعبادة . وهو بيت أبيهم إبراهيم ، وفيه شواهد على بناء إبراهيم له . والإسلام هو ملة إبراهيم . فبيته هو أولى بيت بأن يتجه إليه المسلمون . وهو مثابة الأمان في الأرض . وفيه هدى للناس ، بما أنه مثابة هذا الدين .

ثم يقرر أن الله فرض على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت ما تيسر لهم ذلك . وإلا فهو الكفر الذي لا يضر الله شيئا :

( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . ومن كفر فإن الله غني عن العالمين )

ويلفت النظر - في التعبير - هذا التعميم الشامل في فرضية الحج : ( على الناس ) . . ففيه أولا إيحاء بأن هذا الحج مكتوب على هؤلاء اليهود الذين يجادلون في توجه المسلمين إليه في الصلاة . على حين أنهم هم أنفسهم مطالبون من الله بالحج إلى هذا البيت والتوجه إليه ، بوصفه بيت أبيهم إبراهيم ، وبوصفه أول بيت وضع للناس للعبادة . فهم - اليهود - المنحرفون المقصرون العاصون ! وفيه ثانيا إيحاء بأن الناس جميعا مطالبون بالإقرار بهذا الدين ، وتأدية فرائضه وشعائره ، والاتجاه والحج إلى بيت الله الذي يتوجه إليه المؤمنون به . . هذا وإلا فهو الكفر . مهما ادعى المدعون أنهم على دين ! والله غني عن العالمين . فما به من حاجة - سبحانه - إلى إيمانهم وحجهم . إنما هي مصلحتهم وفلاحهم بالإيمان والعبادة . .

والحج فريضة في العمر مرة ، عند أول ما تتوافر الاستطاعة . من الصحة وإمكان السفر وأمن الطريق . . ووقت فرضها مختلف فيه . فالذين يعتمدون رواية أن هذه الآيات نزلت في عام الوفود - في السنة التاسعة - يرون أن الحج فرض في هذه السنة . ويستدلون على هذا بأن حجة رسول الله [ ص ] كانت فقط بعد هذا التاريخ . . وقد قلنا عند الكلام على مسألة تحويل القبلة في الجزء الثاني من الظلال : إن حجة الرسول [ ص ] لا دليل فيها على تأخر فرضية الحج . فقد تكون لملابسات معينة . منها أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عرايا ، ما يزالون يفعلون هذا بعد فتح مكة . فكره رسول الله [ ص ] أن يخالطهم ، حتى نزلت سورة براءة في العام التاسع ، وحرم على المشركين الطواف بالبيت . . ثم حج [ ص ] حجته في العام الذي يليه . . ومن ثم فقد تكون فرضية الحج سابقة على ذلك التاريخ ، ويكون نزول هذه الآية في الفترة الأولى من الهجرة بعد غزوة أحد أو حواليها .

وقد تقررت هذه الفريضة على كل حال بهذا النص القاطع ، الذي يجعل لله - سبحانه - حق حج البيت على " الناس " من استطاع إليه سبيلا .

والحج مؤتمر المسلمين السنوي العام . يتلاقون فيه عند البيت الذي صدرت لهم الدعوة منه . والذي بدأت منه الملة الحنيفية على يد أبيهم إبراهيم . والذي جعله الله أول بيت في الأرض لعبادته خالصا . فهو تجمع له مغزاه ، وله ذكرياته هذه ، التي تطوف كلها حول المعنى الكريم ، الذي يصل الناس بخالقهم العظيم . . معنى العقيدة . استجابة الروح لله الذي من نفخة روحه صار الإنسان إنسانا . وهو المعنى الذي يليق بالأناسي أن يتجمعوا عليه ، وأن يتوافدوا كل عام إلى المكان المقدس الذي انبعث منه النداء للتجمع على هذا المعنى الكريم . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

وقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أي : دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم ، وأن الله تعالى عَظَّمه وشرفه .

ثم قال تعالى : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } يعني : الذي لَمَّا ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران ، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل ، وقد كان ملتصقا{[5355]} بجدار البيت ، حتى أخّره عُمَر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، في إمارته إلى ناحية الشرق{[5356]} بحيث يتمكن الطُّوَّاف ، ولا يُشَوِّشون على المصلين عنده بعد الطواف ؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] وقد قدمنا الأحاديث في ذلك ، فأغْنَى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة .

وقال العَوْفي عن ابن عباس في قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أي : فمنهُنَّ{[5357]} مقام إبراهيم والمَشْعَر .

وقال مجاهد : أثرُ قدميه في المقام آية بينة . وكذا روي عن عُمر بن عبد العزيز ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومُقَاتِل بن حَيّان ، وغيرهم .

وقال أبو طالب في قصيدته :

ومَوْطئ إبراهيم في الصخر رَطْبةٌ *** على قدميه حافيًا غير ناعلِ

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد وعَمْرو الأوْدِي قالا حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ } قال : الحَرَم كله مقام إبراهيم . ولفظ عمرو : الحَجَر كله مقام إبراهيم .

وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : الحج مقام إبراهيم . هكذا رأيت في النسخة ، ولعله الحَجَر كله مقام إبراهيم ، وقد صرح بذلك مجاهد .

وقوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } يعني : حَرَمُ مكة إذا دخله الخائف يأمنُ من كل سوء ، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية ، كما قال الحسن البصري وغيره : كان الرجل يَقْتُل فيَضَع في عُنُقِه صوفَة ويدخل{[5358]} الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يُهَيِّجْهُ حتى يخرج .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو يحيى التَّيْمِيّ ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ، ولكن لا يؤوى ولا يُطْعَم ولا يُسقى ، فإذا خرج أُخذ بذنبه .

وقال الله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] وقال تعالى : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 ، 4 ] وحتى إنه من جملة تحريمها حُرْمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره ، وحُرْمة قطع أشجارها وقَلْع ثمارها حَشيشها ، كما ثبتت الأحاديث والآثار{[5359]} في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعا وموقوفًا .

ففي الصحيحين ، واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة : " لا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ ونية ، وإذَا استَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا " ، وقال يوم الفتح فتح مكة : " إنَّ هَذَا الْبَلَدَ{[5360]} حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحرمَةِ الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شَوْكُهُ ، ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، ولا يَلْتَقطْ لُقَطتَه إلا من عَرَّفها ، ولا يُخْتَلى خَلاها{[5361]} فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذْخَرَ ، فإنه لقَيْنهم ولبُيوتهم ، فقال : " إلا الإذْخَر " {[5362]} .

ولهما عن أبي هريرة ، مثله أو نحوه{[5363]} ولهما واللفظ لمسلم أيضًا عَن أبي شُرَيح العَدوي أنه قال لعَمْرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكةَ : ائذَنْ لي أيها الأمير أن أُحدِّثك قَولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغَدَ من يوم الفتح سَمعَتْه أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به ، إنه حَمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إنَّ مَكِّةَ حَرَّمَهَا اللهُ ولَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ، فَلا يَحِلُّ لامرئ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخر أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا ، ولا يَعْضد بِهَا شَجَرةً ، فَإنْ أحَد تَرخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا له : إنَّ اللهَ أذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وإنَّمَا أذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأمْسِ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهدُ الغائِبَ " فقيل لأبي شُرَيح : ما قال لك عَمْرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحَرَم لا يُعيذ عاصيا ولا فَارا بِدَمٍ ولا فارا بخَزْيَة{[5364]} {[5365]} .

وعن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يَحِلُّ لأحَدِكُمْ أنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلاحَ " {[5366]} رواه مسلم .

وعن عبد الله بن عَدِيّ بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، وهو واقف بالحَزْوَرَة في سوق مكة : " واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ اللهِ ، وأحَبُّ أرْضِ اللهِ إلَى اللهِ ، ولَوْلا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ " .

رواه الإمام أحمد ، وهذا لفظه ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة . وقال الترمذي : حسن صحيح{[5367]} وكذا صَحَّح من حديث ابن عباس نحوه{[5368]} وروى أحمد عن أبي هريرة ، نحوه{[5369]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا بِشْر بن آدم ابن بنت أزهر السمان{[5370]} حدثنا أبو عاصم ، عن زُرَيق بن مسلم{[5371]} الأعمى مولى بني مخزوم ، حدثني زياد بن أبي عياش ، عن يحيى بن جَعْدَةَ بن هُبَيْرَة ، في قوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } قال : آمنا من النار .

وفي معنى هذا القول الحديثُ الذي رواه البيهقي : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عَبْدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن سليمان الواسطي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا ابن المُؤَمَّل ، عن ابن مُحَيْصِن ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ ، وَخَرَجَ مَغْفُورًا له " : ثم قال : تفرد به عبد الله بن المؤمل ، وليس بقوي{[5372]} .

وقوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } هذه آية وُجُوب الحج عند الجمهور . وقيل : بل هي قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ البقرة : 196 ] والأول أظهر .

وقد وَرَدَت الأحاديثُ المتعددة بأنه أحدُ أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا ، وإنما يجب على المكلَّف في العُمْر مَرّة واحدة بالنص والإجماع .

قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا الربيع بن مسلم القُرَشيّ ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا " . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثًا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ " . ثم قال : " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ " . ورواه مسلم ، عن زُهَير بن حرب ، عن يزيد بن هارون ، به نحوه{[5373]} .

وقد روى سُفْيان بن حسين ، وسليمان بن كثير ، وعبد الجليل بن حُمَيد ، ومحمد بن أبي حفصة ، عن الزهري ، عن أبي سنَان الدؤلي - واسمه يزيد بن أمية - عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يَأيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُم الحَجَّ " . فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ قال : " لَوْ قُلْتُهَا ، لَوَجَبَتْ ، ولَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا ، وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْمَلُوا بِهَا ؛ الحَجُّ مَرَّةً ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ " .

رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، والحاكم من حديث الزهري ، به . ورواه شريك ، عن سِمَاك ، عن عِكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه . وروي من حديث أسامة يزيد{[5374]} .

[ و ]{[5375]} قال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وَرْدَان ، عن علي بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن أبي البَخْتَرِيّ ، عن علِيّ قال : لما نزلت : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قالوا : يا رسول الله ، في كل عام ؟ فسكت ، قالوا : يا رسول الله ، في كل عام ؟ قال : " لا ولَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ " . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [ المائدة : 101 ] .

وكذا رواه الترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، من حديث منصور بن وَرْدان ، به : ثم قال{[5376]} الترمذي : حسن غريب . وفيما قال نظر ؛ لأن البخاري قال : لم يسمع أبو البَخْتَرِيّ من عليّ{[5377]} .

وقال ابن ماجة : حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَيْر ، حدثنا محمد بن أبي عُبَيدة ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك قال : قالوا : يا رسول الله ، الحج في كل عام ؟ قال : " لَوْ قُلْتُ : نعم ، لوجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَقُومُوا{[5378]} بِهَا ، ولَوْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَعُذِّبتُمْ " {[5379]} .

وفي الصحيحين من حديث ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن جابر ، عن{[5380]} سُراقة بن مالك قال : يا رسول الله ، مُتْعَتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ قال : " لا بَلْ لِلأبَدِ " . وفي رواية : " بل لأبَد أبَدٍ " {[5381]} .

وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود ، من حديث واقد بن أبي واقد الليثي ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته : " هَذِه ثُمَّ ظُهُورَ الحُصْر " {[5382]} يعني : ثم الزَمْنَ ظُهور الحصر ، ولا تخرجن من البيوت .

وأما الاستطاعة فأقسام : تارة يكون الشخص مستطيعا بنفسه ، وتارة بغيره ، كما هو مقرر في كتب الأحكام .

قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عَبْدُ بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد قال : سمعت محمَّد بن عَبَّاد بن جعفر يحدث عن ابن عمر قال : قام رجل إلى رسول الله{[5383]} صلى الله عليه وسلم فقال : مَن الحاجّ يا رسول الله ؟ قال : " الشَّعثُ التَّفِل " {[5384]} فقام آخر فقال : أيّ الحج أفضل يا رسول الله ؟ قال : " العَجُّ والثَّجُّ " ، فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله{[5385]} ؟ قال : " الزَّادُ والرَّاحِلَة " .

وهكذا رواه ابن ماجة من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخُوزي . قال الترمذي : ولا نعرفه{[5386]} إلا من حديثه ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه . كذا قال هاهنا . وقال في كتاب الحَجّ : هذا حديث حسن{[5387]} .

[ و ]{[5388]} لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الخوزي هذا ، وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث .

لكن قد تابعه غيره ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله العامري ، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، عن محمد بن عباد بن جعفر قال : جلست إلى عبد الله بن عمر قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ما السبيل ؟ قال : " الزَّادُ والرِّحْلَة " . وكذا رواه ابن مَرْدُويَه من رواية محمد بن عبد الله بن عُبَيد بن عمير ، به .

ثم قال ابن أبي حاتم : وقد روي عن ابن عباس ، وأنس ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة - نحو ذلك{[5389]} .

وقد روي هذا الحديث من طُرُق أخَر من حديث أنس ، وعبد الله بن عباس ، وابن مسعود ، وعائشة كُلها مرفوعة ، ولكن في أسانيدها مقال{[5390]} كما هو مقرر في كتاب الأحكام ، والله أعلم .

وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه بجمع طرق هذا الحديث . ورواه الحاكم من حديث قَتَادَة{[5391]} عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } فقيل{[5392]} ما السبيل{[5393]} ؟ قال : " الزَّاد والرَّاحِلَة " . ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه{[5394]} .

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن يُونس ، عن الحسن قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قالوا : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال : " الزَّادُ والرَّاحِلَةُ " {[5395]} .

ورواه وَكِيع في تفسيره ، عن سفيان ، عن يونس ، به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا الثوري ، عن إسماعيل - وهو أبو إسرائيل الملائي - عن فُضَيْل - يعني ابن عمرو - عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَعَجَّلُوا إلى الحَجِّ - يعني الفريضة - فإنَّ أحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرضُ لَهُ " {[5396]} .

وقال أحمد أيضًا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الحسن بن عمرو الفُقَيْمي ، عن مِهْرَان بن أبي صفوان{[5397]} عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ " .

ورواه أبو داود ، عن مسدد ، عن أبي معاوية الضرير ، به{[5398]} .

وقد روى ابن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قال : من مَلَك ثلاثمائة دِرْهم فقد استطاع إليه سبيلا .

وعن عِكْرمة مولاه أنه قال : السبيل الصِّحَّة .

وروى وَكِيعُ بن الجَرّاح ، عن أبي جَنَاب{[5399]} - يعني الكلبي - عن الضحاك بن مُزاحِم ، عن ابن عباس قال : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قال : الزاد والبعير .

وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : أي ومن جَحَد فريضة الحج فقد كفر ، والله غني عنه{[5400]} .

وقال سَعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن عِكْرِمة قال : لما نزلت : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } قالت اليهود : فنحن مسلمون . قال الله ، عز وجل{[5401]} فاخْصَمْهُمْ فَحَجَّهُمْ - يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى الْمسلمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاع إِلَيْه سَبِيلا " فقالوا : لم يكتب علينا ، وأبَوْا أن يحجوا . قال الله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }{[5402]} .

وروى ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، نَحْوَه .

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم وشَاذ {[5403]} بن فياض قالا أخبرنا هلال أبو هاشم الخُراساني ، أخبرنا أبو إسحاق الهمداني ، عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللهِ ، فَلا يَضُرُّهُ مَاتَ يَهُودِيّا أوْ نَصْرانِيّا ، ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ قَالَ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } .

ورواه ابن جرير من حديث مسلم بن إبراهيم ، به .

وهكذا رواه ابنُ أبي حاتم عن أبي زُرْعة الرازي : حدثنا هلال بن فياض ، حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني ، فذكره بإسناده مثله . ورواه الترمذي عن محمد بن يحيى القُطَعي ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن هلال بن عبد الله مولى رَبيعة بن عَمْرو بن مسلم الباهلي ، به ، وقال : [ هذا ]{[5404]} حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده{[5405]} مقال ، وهلال مجهول ، والحارث يضعف في الحديث{[5406]} .

وقال البخاري : هلال هذا منكر الحديث . وقال ابن عَدِيّ : هذا الحديث ليس بمحفوظ .

وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ من حديث [ أبي ]{[5407]} عمرو الأوزاعي ، حدثني إسماعيل بن عبيد الله{[5408]} بن أبي المهاجر ، حدثني عبد الرحمن بن غَنْم أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا .

وهذا إسناد صحيح إلى عمر{[5409]} رضي الله عنه ، وروى سَعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال : قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جَدةٌ فلم{[5410]} يحج ، فيضربوا عليهم الجِزْية ، ما هم بمسلمين . ما هم بمسلمين{[5411]} .


[5355]:في أ، و: "ملصقا".
[5356]:في جـ: "المشرق".
[5357]:في أ: "فهي".
[5358]:في جـ: "فيدخل".
[5359]:في جـ: "الآثار والأحاديث".
[5360]:في أ، و: "البيت".
[5361]:في ر: "خلالها".
[5362]:صحيح البخاري برقم (1834) وصحيح مسلم برقم (1353).
[5363]:صحيح البخاري برقم (2434)، وصحيح مسلم برقم (1355).
[5364]:في أ: " بخرمة".
[5365]:صحيح البخاري برقم (1832) وصحيح مسلم برقم (1354).
[5366]:صحيح مسلم برقم (1356).
[5367]:المسند (4/305) وسنن الترمذي برقم (3925) والنسائي في السنن الكبرى برقم (4254) وسنن ابن ماجة برقم (3108).
[5368]:سنن الترمذي برقم (3926) وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه".
[5369]:المسند (4/305).
[5370]:في ر: "السماك".
[5371]:في أ: "أسلم".
[5372]:السنن الكبرى (5/158) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/201) والبزار في مسنده برقم (1161) من طريق عبد الله بن المؤمل به.
[5373]:المسند (2/508) وصحيح مسلم برقم (1337).
[5374]:المسند (1/290) وسنن أبي داود برقم (1721) وسنن النسائي (5/111) وسنن ابن ماجة برقم (2886) والمستدرك (2/293).
[5375]:زيادة من جـ، ر.
[5376]:في أ: "وقال".
[5377]:المسند (1/113) وسنن الترمذي برقم (3055) وسنن ابن ماجة برقم (2884) والمستدرك (2/294).
[5378]:في ر: "يقوموا".
[5379]:سنن ابن ماجة برقم (2885) وقال البوصيري في الزوائد (3/4): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
[5380]:في أ: "أن".
[5381]:صحيح البخاري برقم (2505) وصحيح مسلم برقم (1216).
[5382]:المسند (5/218، 219) وسنن أبي داود برقم (1722).
[5383]:في جـ، ر، أ، و: "النبي".
[5384]:في ر: "الثقل" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
[5385]:في جـ: "يا رسول الله ما السبيل".
[5386]:في ر: "يرفعه".
[5387]:سنن الترمذي برقم (813)، (2998) وسنن ابن ماجة برقم (2896).
[5388]:زيادة من جـ، ر.
[5389]:تفسير ابن أبي حاتم (2/422).
[5390]:وقد جمع هذه الطرق وتكلم عليها الشيخ ناصر الألباني في كتابه: "إرواء الغليل" (4/160) بما يكفي وانتهى إلى ضعف الحديث فأفاد وأجاد جزاه الله خيرا.
[5391]:في جـ: "أبي قتادة".
[5392]:في أ: "فقال"، وفي و: "قالوا".
[5393]:في و: "فقيل: يا رسول الله، ما السبيل".
[5394]:المستدرك (1/442).
[5395]:تفسير الطبري (7/40) وإسناده مرسل.
[5396]:المسند (1/313).
[5397]:في أ: "ضرار"، وفي و: "مهران".
[5398]:المسند (1/225).
[5399]:في جـ، ر: "حباب".
[5400]:في ر: "عنه غني".
[5401]:في ر: "الله تعالى".
[5402]:ورواه الطبري في تفسيره (7/50) من طريق عيسى عن سفيان به.
[5403]:في أ: "وساد".
[5404]:زيادة من جـ.
[5405]:في أ: "أسانيده".
[5406]:تفسير الطبري (7/41) وتفسير ابن أبي حاتم (2/421) وسنن الترمذي برقم (812).
[5407]:زيادة من جـ.
[5408]:في ر، أ: "عبد الله" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه "تهذيب التهذيب 1/317".
[5409]:ورواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور كما في الدر المنثور (2/275) وروى مرفوعا من حديث أبي أمامة الباهلي وابن مسعود وعلي وأبي هريرة، لكن لم يصح منها شيء. انظر تخريجها والكلام عليها في: "نصب الراية" للزيلعي (4/410).
[5410]:في جـ، ر، أ: "ولم".
[5411]:ذكره المؤلف ابن كثير في "مسند عمر" وعزاه لمحمد بن إسماعيل البصري، وسعيد بن منصور في سننه قال: "وفيه انقطاع" (1/293).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)