10- حين جاءوكم من أعلى الوادي ومن أسفله ، حين مالت الأبصار عن مستوى نظرها ، وارتفعت القلوب إلى منتهى الحلقوم فزعاً واضطراباً ، وأنتم في ذلك الوقت العصيب تذهب بكم الظنون في وعد الله كل مذهب{[177]} .
وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، على المدينة ، فحصروا المدينة ، واشتد الأمر ، وبلغت القلوب الحناجر ، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة ، والشدائد الشديدة ، فلم يزل الحصار على المدينة ، مدة طويلة ، والأمر كما وصف اللّه : { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ } أي : الظنون السيئة ، أن اللّه لا ينصر دينه ، ولا يتم كلمته .
ثم فصل - سبحانه - ما حدث للمؤمنين فى هذه الغزوة ، بعد هذا الإِجمال ، فقال : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } أى : من أعلى الوادى من جهة المشرق .
والجملة بدل من قوله { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } . والمراد بالذين جاءوا من تلك الجهة : قبائل غطفان وهوزان . . وانضم إليهم بنو قريظة بعد أن نقضوا عهودهم .
{ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أى : ومن أسفل الوادى من جهة المغرب ، وهم قريش ومعهم أحابيشهم وحلفاؤهم .
وقوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار } معطوف على ما قبله ، داخل معه فى حيز التذكير .
أى : واذكروا وقت أن زاغت أبصاركم ، ومالت عن كل شئ حولها ، وصارت لا تنظر إلا إلى أولئك الأعداء . يقال زاغ البصر يزيغ زيغا وزيغانا إذا مال وانحرف . ويقال - أيضا : زاغ البصر ، إذا مل وتعب بسبب استدامة شخوصه من شدة الهول .
وقوله { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } بيان آخر لما أصاب المسلمين من بلاء بسبب إحاطة جيوش الأحزاب بهم .
والحناجر : جمع حنجرة ، وهى جوف الحلقوم ، والمراد أن قلوبكم فزعت فزعا شديدا ، حتى لكأنها قد انتقلت من أماكنها إلى أعلى ، حتى قاربت أن تخرج من أفواهكم .
فالآية تصور ما أصاب المسلمين من فزع وكرب فى غزوة الأحزاب ، وتصيرا بديعا مؤثرا ، يرسم حركات القلوب ، وملامح الوجوه ، وخلجات النفوس .
وقوله - سبحانه - { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } بيان لما دار فى عقولهم من أفكار ، حين رأوا الأحزاب وقد أحاطوا بالمدينة .
والظنون جمع الظن . وهو مصدر يطلق على القليل والكثير منه . وجاء بصيغة الجمع لتعدد أنواعه ، واختلافه باختلاف قوة الإِيمان وضعفه .
أى : وتظنون - أيها المؤمنون - بالله - تعالى - الظنون المختلفة ، فمنكم من ازداد يقينا على يقينه ، وازداد ثقة بوعد الله - تعالى - وبنصره ، ومنكم من كان أقل من ذلك فى ثباته ويقينه ، ومنكم من كان يظهر أمامكم الإِيمان والاسلام ، ويخفى الكفر والعصيان ، وهم المنافقون وهؤلاء ظنوا الظنون السيئة ، بأن اعتقدوا بأن الدائرة ستدور عليكم .
قال ابن كثير : قوله { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } قال الحسن : ظنون مختلفة ، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق ، وأنه - سبحانه - سيظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون .
" عن أبى سعيد قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله ، هل من شئ نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم : قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا " .
ثم يأخذ بعد هذا الإجمال في التفصيل والتصوير :
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ؛ وإذ زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا . وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا . ويستأذن فريق منهم النبي ، يقولون : إن بيوتنا عورة - وما هي بعورة . إن يريدون إلا فرارا . .
إنها صورة الهول الذي روع المدينة ، والكرب الذي شملها ، والذي لم ينج منه أحد من أهلها . وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب . من أعلاها ومن أسفلها . فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب ؛ وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب ، وظنها بالله ، وسلوكها في الشدة ، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج . ومن ثم كان الابتلاء كاملا والامتحان دقيقا . والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسما لا تردد فيه .
وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته ، وكل انفعالاته ، وكل خلجاته ، وكل حركاته ، ماثلا أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير .
ننظر فنرى الموقف من خارجه : إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم . .
ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس : ( وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ) . . وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق ، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب .
( وتظنون بالله الظنونا ) . . ولا يفصل هذه الظنون . ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج ، وذهابها كل مذهب ، واختلاف التصورات في شتى القلوب .
وقوله : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ } أي : الأحزاب { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } تقدم عن حذيفة أنهم بنو قريظة ، { وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } أي : من شدة الخوف والفزع ، { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } .
قال ابن جرير : ظن بعض مَنْ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين ، وأن الله سيفعل ذلك{[23239]} .
وقال محمد بن إسحاق في قوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } : ظن المؤمنون{[23240]} كل ظن ، ونجم النفاق حتى قال مُعَتّب{[23241]} بن قشير - أخو بني عمرو بن عوف - : كان محمد يَعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط .
وقال الحسن في قوله : { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ } : ظنون مختلفة ، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، {[23242]} وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق ، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
وقال{[23243]} ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري ، حدثنا أبو عامر( ح ) وحدثنا أبي ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا الزبير - يعني : ابن عبد الله ، مولى عثمان بن عفان - عن ُرَتْيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي سعيد قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله ، هل من شيء نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن رَوْعاتنا " . قال : فضرب وجوه أعدائه بالريح ، فهزمهم بالريح .
وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل ، عن أبي عامر العقدي{[23244]} .