فلم يبق إلا الشفاعة ، فنفاها بقوله : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فهذه أنواع التعلقات ، التي يتعلق بها المشركون بأندادهم ، وأوثانهم ، من البشر ، والشجر ، وغيرهم ، قطعها اللّه وبيَّن بطلانها ، تبيينا حاسما لمواد الشرك ، قاطعا لأصوله ، لأن المشرك إنما يدعو ويعبد غير اللّه ، لما يرجو منه من النفع ، فهذا الرجاء ، هو الذي أوجب له الشرك ، فإذا كان من يدعوه [ غير اللّه ] ، لا مالكا للنفع والضر ، ولا شريكا للمالك ، ولا عونا وظهيرا للمالك ، ولا يقدر أن يشفع بدون إذن المالك ، كان هذا الدعاء ، وهذه العبادة ، ضلالا في العقل ، باطلة في الشرع .
بل ينعكس على المشرك مطلوبه ومقصوده ، فإنه يريد منها النفع ، فبيَّن اللّه بطلانه وعدمه ، وبيَّن في آيات أخر ، ضرره على عابديه{[734]} وأنه يوم القيامة ، يكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، ومأواهم النار { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
والعجب ، أن المشرك استكبر عن الانقياد للرسل ، بزعمه{[735]} أنهم بشر ، ورضي أن يعبد ويدعو الشجر ، والحجر ، استكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان ، ورضي بعبادة من ضره أقرب من نفعه ، طاعة لأعدى عدو له وهو الشيطان .
وقوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } يحتمل أن الضمير في هذا الموضع ، يعود إلى المشركين ، لأنهم مذكورون في اللفظ ، والقاعدة في الضمائر ، أن تعود إلى أقرب مذكور ، ويكون المعنى : إذا كان يوم القيامة ، وفزع عن قلوب المشركين ، أي : زال الفزع ، وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم ، عن حالهم في الدنيا ، وتكذيبهم للحق الذي جاءت به الرسل ، أنهم يقرون ، أن ما هم عليه من الكفر والشرك ، باطل ، وأن ما قال اللّه ، وأخبرت به عنه رسله ، هو الحق فبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل وعلموا أن الحق للّه ، واعترفوا بذنوبهم .
{ وَهُوَ الْعَلِيُّ } بذاته ، فوق جميع مخلوقاته وقهره لهم ، وعلو قدره ، بما له من الصفات العظيمة ، جليلة المقدار { الْكَبِيرُ } في ذاته وصفاته .
ومن علوه ، أن حكمه تعالى ، يعلو ، وتذعن له النفوس ، حتى نفوس المتكبرين والمشركين .
وهذا المعنى أظهر ، وهو الذي يدل عليه السياق ، ويحتمل أن الضمير يعود إلى الملائكة ، وذلك أن اللّه تعالى إذا تكلم بالوحي ، سمعته الملائكة ، فصعقوا ، وخروا للّه سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه اللّه من وحيه بما أراد ، وإذا زال الصعق عن قلوب الملائكة ، وزال الفزع ، فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك الكلام الذي صعقوا منه : ماذا قال ربكم ؟ فيقول بعضهم لبعض : قال الحق ، إما إجمالا ، لعلمهم أنه لا يقول إلا حقا ، وإما أن يقولوا : قال كذا وكذا ، للكلام الذي سمعوه منه ، وذلك من الحق .
فيكون المعنى على هذا : أن المشركين الذين عبدوا مع اللّه تلك الآلهة ، التي وصفنا لكم عجزها ونقصها ، وعدم نفعها بوجه من الوجوه ، كيف صدفوا وصرفوا عن إخلاص العبادة للرب العظيم ، العلي الكبير ، الذي - من عظمته وجلاله - أن الملائكة الكرام ، والمقربين من الخلق ، يبلغ بهم الخضوع والصعق ، عند سماع كلامه هذا المبلغ ، ويقرون كلهم للّه ، أنه لا يقول إلا الحق .
فما بال هؤلاء المشركين ، استكبروا عن عبادة من هذا شأنه ، وعظمة ملكه وسلطانه . فتعالى العلي الكبير ، عن شرك المشركين ، وإفكهم ، وكذبهم .
ثم نفى - سبحانه - أن تكون هناك شفاعة من أحد لأحد إلا بإذنه - تعالى - فقال : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } .
والشفاعة : من الشفع الذى هو ضد الوتر - أى : الفرد - ، ومعناها : انضمام الغير إلى الشخص ليدفع عنه ما يمكن دفعه من ضر .
أى : ولا تنفع الشفاعة عند الله - تعالى - من أحد لأحد ، إلا لمن أذن الله - تعالى - له فى ذلك .
قال الآلوسى ما ملخصه : والمراد نفى شفاعة الأصنام لعابديها ، ولكنه - سبحانه - ذكر على وجه عام ، ليكون طريقا برهانيا . أى : لا تنفع الشفاعة فى حال من الأحوال ، أو كائنة لمن كانت ، إلا كائنة لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة . ومن البين أنه لا يؤذن فى الشفاعة للكفار ، فقد قال - تعالى - :
{ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } والشفاعة لهم بمعزل عن الصواب ، وعدم الإِذن للأصنام أبين وأبين ، فتبين حرمان هؤلاء الكفرة منها بالكلية . . .
وقوله : { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق . . } بيان لما يكون عليه المتظرون للشفاعة ، من لهفة وقلق .
والتضعيف فى قوله { فُزِّعَ } للسلب . كما فى قولهم : مَرَّضت المريض إذا عملت على إزالة مرضه .
فمعنى : { فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } : كشف الفزع عنها ، وهدأت أحوالها بعد أن أصابها ما أصابها من هول وخوف فى هذا اليوم الشديد ، وهو ويم القيامة .
و { حتى } غاية لما فهم من الكلام قبلها ، من أن هناك تلهفا وترقبا من الراجين للشفاعة ومن الشفعاء ، إذ الكل منتظر بقلق لما يؤول إليه أمره من قبول الشفاعة أو عدم قبولها .
والمعنى : ولا تقبل الشفاعة يوم القيامة من أحد إلا لمن أذن الله - تعالى - له فى ذلك ، وفى هذا اليوم الهائل الشديد ، يقف الناس فى قلق ولهفة منتظرين قبول الشفاعة فيهم . حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم ، بسبب إذن الله - تعالى - فى قبولها ممن يشاء ولمن يشاء ، واستبشر الناس وقال بعضهم لبعض ، أو قالوا للملائكة : { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أى : ماذا قال ربكم فى شأننا ومصيرنا .
وهنا تقول لهم الملائكة ، أو يقول بعضهم لبعض : { قَالُواْ الحق } أى : يقولون قال ربنا القول الحق وهو الإِذن فى الشفاعة لمن ارتضى .
فلفظ { الحق } منصوب بفعل مضمر . أى : قالوا قال ربنا الحق أو صفة لموصوف محذوف . أى : قالوا : قال ربنا القول ارتضى .
{ وَهُوَ } - سبحانه - { العلي } أى : المتفرد بالعلو فوق خلقه { الكبير } أى : المتفرد بالكبرياء والعظمة .
قال صاحب الكشاف - رحمة الله - : فإن قلت : بم اتصل قوله : { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } ، ولأى شئ وقعت حتى غاية ؟ .
قلت : اتصل بما فهم من هذا الكلام ، من أن ثم انتضارا للإِذن وتوقعها وتمهلا وفزعا من لاراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذون لهم أولا ؟ وأنه لا يطلق الإِذن إلا بعد ملىِّ من الزمان ، وطول التربص . .
كأنه قيل : ينتظرون ويتوقفون كليا فزعين وهلين ، حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم ، بكلمة يتكلم بها رب العزة فى إطلاق الإِذن : تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ } قال { الحق } أى : القول الحق ، وهو الإِذن بالشفاعة لمن ارتضى . .
ومن ثم نفى شفاعتهم لهم في الآية التالية . وذلك في مشهد تتفزع له الأوصال في حضرة ذي الجلال :
( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) . .
فالشفاعة مرهونة بإذن الله . والله لا يأذن في الشفاعة في غير المؤمنين به المستحقين لرحمته . فأما الذين يشركون به فليسوا أهلا لأن يأذن بالشفاعة فيهم ، لا للملائكة ولا لغيرهم من المأذونين بالشفاعة منذ الابتداء !
ثم صور المشهد الذي تقع فيه الشفاعة ؛ وهو مشهد مذهل مرهوب :
( حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق وهو العلي الكبير ) . .
إنه مشهد في اليوم العصيب . يوم يقف الناس ، وينتظر الشفعاء والمشفوع فيهم أن يتأذن ذو الجلال في عليائه بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام . ويطول الانتظار . ويطول التوقع . وتعنو الوجوه . وتسكن الأصوات . وتخشع القلوب في انتظار الإذن من ذي الجلال والإكرام .
ثم تصدر الكلمة الجليلة الرهيبة ، فتنتاب الرهبة الشافعين والمشفوعين لهم . ويتوقف إدراكهم عن الإدراك .
( حتى إذا فزّع عن قلوبهم ) . . وكشف الفزع الذي أصابهم ، وأفاقوا من الروعة التي غمرتهم فأذهلتهم . ( قالوا : ما ذا قال ربكم ? )يقولها بعضهم لبعض . لعل منهم من يكون قد تماسك حتى وعى . ( قالوا : الحق ) . . ولعلهم الملائكة المقربون هم الذين يجيبون بهذه الكلمة المجملة الجامعة : ( قالوا الحق ) . قال ربكم : الحق . الحق الكلي . الحق الأزلي . الحق اللدني . فكل قوله الحق . ( وهو العلي الكبير ) . . وصف في المقام الذي يتمثل فيه العلو والكبر للإدراك من قريب . .
وهذه الإجابة المجملة تشي بالروعة الغامرة ، التي لا ينطق فيها إلا بالكلمة الواحدة !
فهذا هو موقف الشفاعة المرهوب . وهذه صورة الملائكة فيه بين يدي ربهم . فهل بعد هذا المشهد يملك أحد أن يزعم أنهم شركاء لله ، شفعاء في من يشرك بالله ? !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّىَ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ قَالُواْ الْحَقّ وَهُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : ولا تنفع شفاعة شافع كائنا من كان الشافع لمن شَفَع له ، إلا أن يشفع لمن أذن الله في الشفاعة . يقول تعالى : فإذا كانت الشفاعات لا تنفع عند الله أحدا إلا لمن أذِن الله في الشفاعة له ، والله لا يأذن لأحد من أوليائه في الشفاعة لأحد من الكفرة به ، وأنتم أهل كفر به أيها المشركون ، فكيف تعبدون من تعبدونه من دون الله زعما منكم أنكم تعبدونه ، ليقرّبكم إلى الله زُلْفَى ، وليشفع لكم عند ربكم «فمن » إذ كان هذا معنى الكلام التي في قوله إلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ : المشفوع له .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : أَذِنَ لَهُ فقرأ ذلك عامة القرّاء بضم الألف مِن «أَذِنَ لَهُ » على وجه ما لم يسمّ فاعله . وقرأه بعض الكوفيين : أَذِنَ لَهُ على اختلاف أيضا عنه فيه ، بمعنى أذن الله له .
وقوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يقول : حتى إذا جُلِيَ عن قلوبهم ، وكشف عنها الفزع وذهب .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ يعني : جُلِيَ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال : كشف عنها الغطاء يوم القيامة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : إذا جلي عن قلوبهم .
واختلف أهل التأويل في الموصوفين بهذه الصفة مَنْ هُم ؟ وما السبب الذي من أجله فُزّع عن قلوبهم ؟ فقال بعضهم : الذي فُزّع عن قلوبهم الملائكة ، قالوا : وإنما يفزّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم الله بالوحي . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن داود ، عن الشّعبيّ ، قال : قال ابن مسعود في هذه الاَية : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال : إذا حدث أمر عند ذي العرش سَمع مَن دونه من الملائكة صوتا كجرّ السلسلة على الصفا ، فيُغْشى عليهم ، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم تنادَوا : ماذَا قالَ رَبّكُمْ قال : فيقول من شاء ، قال : الحقّ ، وهو العليّ الكبير .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت داود ، عن عامر ، عن مسروق قال : إذا حدث عند ذي العرش أمر سمعت الملائكة صوتا ، كجرّ السلسلة على الصفا ، قال : فيُغْشَى عليهم ، فإذا فُزّع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قال : فيقول من شاء الله : الحَقّ ، وهو العليّ الكبير .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود ، أنه قال : إذا حدث أمر عند ذي العرش ، ثم ذكر نحو معناه إلاّ أنه قال : فيُغْشَى عليهم من الفزع ، حتى إذا ذهب ذلك عنهم تنادوا : ماذا قال ربكم ؟
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال : إن الوحي إذا أُلقي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان ، قال : فيتنادون في السموات . ماذا قال ربكم ؟ قال : فيتنادون : الحَقّ ، وهو العليّ الكبير .
وبه عن منصور ، عن أبي الضّحَى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : يُنَزّلُ الأمرُ من عند ربّ العزّة إلى السماء الدنيا ، فيفُزَع أهل السماء الدنيا ، حتى يستبين لهم الأمر الذي نُزّل فيه ، فيقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ فيقولون : قال الحقّ ، وهو العليّ الكبير ، فذلك قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ . . . الاَية .
حدثنا أحمد بن عَبْدة الضّبيّ ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرِمة ، قال : حدثنا أبو هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ اللّهَ إذَا قَضَى أمْرا فِي السّماءِ ضَرَبَتِ المَلائِكَةُ بأجْنِحَتِها جَمِيعا ، ولقوله صوت كصوت السلسلة على الصفا الصّفْوان ، فذلك قوله » : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحقّ وَهُو العَلِيّ الكَبِيرُ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا أيوب ، عن هشام بن عروة ، قال : قال الحارث بن هشام لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي ؟ قال : «يَأْتِينِي فِي صَلَصَلَةٍ كَصَلْصَلَةِ الجَرَسِ فَيَفْصِمُ عَنّي حِينَ يَفْصِمُ وَقَدْ وَعَيْتُهُ ، ويَأْتِي أحْيانا فِي مِثْلِ صُورَةِ الرّجُلِ ، فَيُكَلّمُنِي بِهِ كَلاما ، وَهُوَ أهْوَنُ عَليّ » .
حدثني زكريا بن أَبان المصريّ ، قال : حدثنا نعيم ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن ابن أبي زكريا ، عن جابر بن حَيْوَة ، عن النوّاس بن سمعان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا أرَادَ اللّهُ أنْ يُوحِيَ بالأَمْرِ تَكَلّمَ بالوَحْيِ ، أخَذَتِ السّمَوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ أوْ قالَ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ خَوْفَ أمْرِ اللّهِ ، فإذا سَمِعَ بذلكَ أهْلُ السّمَوَاتِ صَعِقُوا وَخَرّوا لِلّهِ سُجّدا ، فَيَكُونُ أوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رأسَهُ جَبْرائِيلُ ، فَيُكَلّمُهُ اللّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أرَادَ ، ثُمّ يَمُرّ جَبْرائِيلُ على المَلائِكَةِ كُلّما مَرّ بِسَماءٍ سأَلَهُ مَلائِكَتُها . ماذَا قال رَبّنا يا جَبْرائِيلُ ؟ فَيَقُولُ جَبْرَائِيلُ . قالَ الحَقّ وَهُوَ العِليّ الكَبِيرُ ، قالَ : فَيَقُولُونَ كُلّهُمْ مِثْلَ ما قالَ جَبْرائِيلُ ، فَيَنْتَهي جَبْرائِيلُ بالوَحْيِ حَيثُ أمَرَهُ اللّهُ » .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ . . . الاَية . قال : كان ابن عباس يقول : إن الله لما أراد أن يوحي إلى محمد ، دعا جبريل ، فلما تكلم ربنا بالوحي ، كان صوته كصوت الحديد على الصفا فلما سمع أهل السموات صوت الحديد خرّوا سُجّدا فلما أَتيَ عليهم جبرائيل بالرسالة رفعوا رُؤوسهم ، فقالوا : ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ وهذا قول الملائكة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ . . . إلى وَهُوَ العَلِيّ الكَبِير قال : لما أوحَي الله تعالى ذكره إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسولَ من الملائكة ، فبعث بالوحْي ، سمعت الملائكة صوت الجَبار يتكلم بالوحي فلما كُشِف عن قلوبهم سألوا عما قال الله ، فقالوا : الحقّ ، وعلموا أن الله لا يقول إلا حَقا ، وأنه مُنجز ما وعد . قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا فلما سمعوه خرّوا سجّدا فلما رفعوا رؤوسهم قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ ثم أمر الله نبيه أن يسأل الناس قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَوَاتِ . . . إلى قوله : فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قُرّة ، عن عبد الله بن القاسم ، في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ . . . الاَية ، قال : الوحي ينزل من السماء ، فإذا قضاه قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال : إن الوحي إذا قَضَى في زوايا السماء ، قال : مثل وقع الفُولاذ على الصخرة ، قال : فيُشْفِقون ، لا يدرون ما حدث ، فيفزعون ، فإذا مرّت بهم الرسل قالُوا ماذا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَليّ الكَبِيرُ .
وقال آخرون ممن قال : الموصوفون بذلك الملائكة : إنما يُفَزّع عن قلوبهم فَزعُهُم من قضاء الله الذي يقضيه حذرا أن يكون ذلك قيام الساعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ . . . الاَية ، قال : يوحي الله إلى جبرائيل ، فَتَفرّق الملائكة ، أو تفزع مخافة أن يكون شيء من أمر الساعة ، فإذا جُلِيَ عن قلوبهم ، وعلموا أنه ليس ذلك من أمر الساعة قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ .
وقال آخرون : بل ذلك من فعل ملائكة السموات إذا مرّت بها المعقّبات فزَعا أن يكون حدث أمر الساعة . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ . . . الاَية ، زعم ابن مسعود أن الملائكة المُعَقبات الذين يختلفون إلى الأرض يكتبون أعمالهم ، إذا أرسلهم الربّ فانحدروا سمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة ، فخرّوا سُجّدا ، وهكذا كلما مرُوا عليهم يفعلون ذلك من خوف ربهم .
وقال آخرون : بل الموصوفون بذلك المشركون ، قالوا : وإنما يُفزّع الشيطان عن قلوبهم قال : وإنما يقولون : ماذا قال ربكم عند نزول المنية بهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : حتى إذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قال : فَزّع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم ، وما كان يضلهم قالُوا ماذَا قالَ رَبّكُمْ قالُوا الحَقّ وَهُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ قال : وهذا في بني آدم ، وهذا عند الموت أقرّوا به حين لم ينفعهم الإقرار .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي ذكره الشّعْبيّ ، عن ابن مسعود لصحة الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأييده . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : لا تنفع الشفاعة عنده ، إلا لمن أذن له أن يشفَع عنده ، فإذا أذن الله لمن أذن له أن يشفع فزع لسماعه إذنه ، حتى إذا فُزّع عن قلوبهم ، فجُلّيَ عنها ، وكشَف الفزع عنهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالت الملائكة : الحقّ ، وهو العليّ على كل شيء الكبير الذي لا شيء دونه . والعرب تستعمل فُزّع في معنيين ، فتقول للشجاع الذي به تنزل الأمور التي يفزَع منها : وهو مُفَزّع وتقول للجبان الذي يَفْزَع من كلّ شيء : إنه لمُفَزّع ، وكذلك تقول للرجل الذي يقضي له الناس في الأمور بالغلبة على من نازله فيها : هو مُغَلّب وإذا أريد به هذا المعنى كان غالبا وتقول للرجل أيضا الذي هو مغلوب أبدا : مُغَلّب .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار أجمعون : فُزّعَ بالزاي والعين على التأويل الذي ذكرناه عن ابن مسعود ومن قال بقوله في ذلك . ورُوي عن الحسن أنه قرأ ذلك : «حتى إذَا فُزِعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ » بالراء والغين على التأويل الذي ذكرناه عن ابن زيد . وقد يحتمل توجيه معنى قراءة الحسن ذلك كذلك ، إلى «حتى إذَا فُزِغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ » فصارت فارغة من الفزع الذي كان حلّ بها . ذُكر عن مجاهد أنه قرأ ذلك : «فُزِعَ » بمعنى : كَشَف الله الفزع عنها .
والصواب من القراءة في ذلك القراءة بالزاي والعين لإجماع الحجة من القراء وأهل التأويل عليها ، ولصحة الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأييدها ، والدلالة على صحتها .
المعنى أن كل من دعوتم إلهاً من دون الله لا يملكون مثقال ذرة ولا تنفع شفاعتهم إلا بإذن فيمن آمن ، فكأنه قال ولا هم شفعاء على الحد الذي ظننتم أنتم واختلف المتأولون في قوله تعالى : { إلا لمن أذن له } فقالت فرقة معناه { لمن أذن لهم } أن يشفع ، فيه ، وقالت فرقة معناه { لمن أذن له } أن يشفع هو .
قال القاضي أبو محمد : واللفظ يعمهما ، لأن الإذن إذا انفرد للشافع فلا شك أن المشفوع فيه معين له ، وإذا انفرد للمشفوع فيه فالشافع لا محالة عالم معين لذلك ، وانظر أن اللام الأولى تشير إلى المشفوع فيه من قوله { لمن } تقول شفعت لفلان ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أُذن »{[9653]} بضم ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «أذَن » بفتحها ، والضمير في { قلوبهم } عائد على الملائكة الذين دعوهم آلهة ، ففي الكلام حذف يدل عليه الظاهر فكأنه قال ولا هم شفعاء كما تحسبون أنتم بل هم عبدة مستسلمون أبداً حتى إذا فزع عن قلوبهم .
قال الفقيه الإمام القاضي : وتظاهرت الأحاديث{[9654]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية أعني قوله { حتى إذا فزع عن قلوبهم } إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل وبالأمر يأمر به سمعت كجر سلسلة الحديد على صفوان فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة ، وقيل خوف أن تقوم الساعة فإذا فزع ذلك { فزع عن قلوبهم } أي أطير الفزع عنها وكشف فيقول بعضهم لبعض ولجبريل { ماذا قال ربكم } فيقول المسؤولون قال { الحق هو العلي الكبير } وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى{[9655]} ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله { الذين زعمتم } [ سبأ : 22 ] لم تتصل لهم هذه الآية بما قبلها فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار بعد حلول الموت { فزع عن قلوبهم } بفقد الحياة فرأوا الحقيقة وزال فزعهم من شبه ما يقال لهم في حياتهم ، فيقال لهم حينئذ { ماذا قال ربكم } فيقولون قال { الحق } يقرون حين لا ينفعهم الإقرار ، وقالت فرقة الآية في جميع العالم ، وقوله { حتى إذا } يريد في القيامة .
قال الفقيه الإمام القاضي : والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ، وهذان بعيدان ، وقرأ جمهور القراء «فُزع » بضم الفاء وكسر الزاي{[9656]} ومعناه أطير الفزع منهم ، وهذه الأفعال جاءت مخالفة لسائر الأفعال ، لأن " فعّل " أصلها الإدخال في الشيء{[9657]} كعلمت ونحوها وقولك : فزعت زيداً معناه أزلت الفزع عنه ، وكذلك جزعته معناه أزلت الجزع عنه ، ومنه الحديث فدخل ابن عباس على عمر بجزعة{[9658]} ومنه مرضت فلاناً أي أزلت عنه المرض .
قال الفقيه الإمام القاضي : وانظر أن مطاوع هذه الأفعال يلحق ( بتحنث وتحرج وتفكه وتأثم وتخوت ){[9659]} ، وقرأ ابن عامر «فزّع » بفتح الفاء وشد الزاي وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وطلحة وأبي المتوكل الناجي واليماني ، وقرأ الحسن البصري بخلاف «فُزِع » بضم الفاء وكسر الزاي وتخفيفها كأنه بمعنى أقلع ، ومن قال بأنها في العالم أجمعه قال معنى هذه القراءة فزع الشيطان عن قلوبهم أي بادر ، وقرأ أيوب عن الحسن أيضاً «فُرّغ » بالفاء المضمومة والراء المشددة غير منقوطة والغين المنقوطة من التفريغ ، قال أبو حاتم رواها عن الحسن نحو من عشرة أنفس وهي قراءة أبي مجلز .
وقرأ مطر الوراق عن الحسن «فزع » على بناء الفعل للفاعل وهي قراءة مجاهد والحسن أيضاً «فرغ » بالراء غير منقوطة مخففة من الفراغ ، قال أبو حاتم وما أظن الثقات رووها عن الحسن على وجوه إلا لصعوبة المعنى عليه فاختلفت ألفاظ فيها{[9660]} ، قرأ عيسى بن عمر «حتى إذا افرنقع » وهي قراءة ابن مسعود ومعنى هذا كله وقع فراغها من الفزع والخوف ، ومن قرأ شيئاً من هذا على بناء الفعل للمفعول فقوله عز وجل { عن قلوبهم } في موضع رفع ، ومن قرأ على بناء الفعل للفاعل فقوله { عن قلوبهم } في موضع نصب ، وافرنقع معناه تفرق ، وقوله { ماذا } يجوز أن تكون «ما » في موضع نصب ب { قال } ويصح أن تكون في موضع رفع بمعنى أي شيء قال ، والنصب في قوله { الحق } على نحوه في قوله { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً }{[9661]} [ النحل : 30 ] لأنهم حققوا أن ثم ما أنزل ، وحققوا هنا أن ثم ما قيل ، وقولهم { وهو العلي الكبير } تمجيد وتحميد .