بدأت السورة بنهي المؤمنين عن موالاة المشركين أعداء الله وأعدائهم لإصرارهم على الكفر ، وإخراجهم رسول الله والمؤمنين من ديارهم بمكة ، وأشارت إلى أن عداوة هؤلاء كامنة للمؤمنين ، لا تلبث أن تستعلن حين يلاقونهم ويتمكنون منهم .
ثم انتقلت إلى بيان الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معه في تبرئتهم من المشركين وما يعبدون من دون الله ، معلنين عداوتهم لهم ، حتى يؤمنوا بالله وحده موضحة أن ذلك شأن الذين يرجون لقاء الله ويخشون عقابه .
ثم بينت من تجوز صلتهم من غير المسلمين ومن لا تجوز ، فأما الذين لا يقاتلوننا في الدين ولا يعينون علينا ، فإن لنا أن نبرهم ونقسط إليهم ، وأما الذين قاتلونا في الدين ، وظاهروا على إخراجنا من ديارنا ، فأولئك الذين نهى الله عن برهم والصلة بهم .
ثم بينت السورة حكم المؤمنات اللاتي هاجرون إلى دار الإسلام ، وتركن أزواجهن مشركين ، وحكم المشركات الآتي هاجر أزواجهن مسلمين وقد تركوهن بدار الشرك .
وأتبعت ذلك ببيان بيعة النساء ، وما بايعن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ختمت بما بدأت به من النهي عن موالاة الأعداء الذين غضب الله عليهم ، تقريرا للحكم بينته في مفتتحها ، وأكدته في ثناياها .
1- يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله : لا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أنصاراً تُفْضُون إليهم بالمحبة الخالصة ، مع أنهم جحدوا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله وكتابه ، يخرجون الرسول ويخرجونكم من دياركم ، لإيمانكم بالله ربكم ، إن كنتم خرجتم من دياركم للجهاد في سبيلي وطلب رضائي فلا تتولوا أعدائي ، تُلْقُون إليهم بالمودة سراً ، وأنا أعلم بما أسررتم وما أعلنتم ، ومن يتخذ عدو الله ولياً له فقد ضل الطريق المستقيم .
{ 1-9 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
ذكر كثير من المفسرين ، [ رحمهم الله ] ، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، حين غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ، فكتب حاطب إلى قريش{[1049]} يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، ليتخذ بذلك يدا عندهم لا [ شكا و ] نفاقا ، وأرسله مع امرأة ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه ، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب .
وعاتب حاطبا ، فاعتذر رضي الله عنه بعذر قبله النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم ، وإلقاء المودة إليهم ، وأن ذلك مناف للإيمان ، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو ، الذي لا يبقي من مجهوده في العداوة شيئا ، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى إيمانكم ، من ولاية من قام بالإيمان ، ومعاداة من عاداه ، فإنه عدو لله ، وعدو للمؤمنين .
فلا تتخذوا عدو الله { وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } أي : تسارعون في مودتهم وفي السعي بأسبابها ، فإن المودة إذا حصلت ، تبعتها النصرة والموالاة ، فخرج العبد من الإيمان ، وصار من جملة أهل الكفران ، وانفصل عن أهل الإيمان .
وهذا المتخذ للكافر وليا ، عادم المروءة أيضا ، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه الذي لا يريد له إلا الشر ، ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير ، ويأمره به ، ويحثه عليه ؟ ! ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار ، أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق ، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة ، فإنهم قد كفروا بأصل دينكم ، وزعموا أنكم ضلال على غير هدى .
والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية ، ومن رد الحق فمحال أن يوجد له دليل أو حجة تدل على صحة قوله ، بل مجرد العلم بالحق{[1050]} يدل على بطلان قول من رده وفساده .
ومن عداوتهم البليغة أنهم { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } أيها المؤمنون من دياركم ، ويشردونكم من أوطانكم ، ولا ذنب لكم في ذلك عندهم ، إلا أنكم تؤمنون بالله ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم القيام بعبوديته ، لأنه رباهم ، وأنعم عليهم ، بالنعم الظاهرة والباطنة ، وهو الله تعالى .
فلما أعرضوا عن هذا الأمر ، الذي هو أوجب الواجبات ، وقمتم به ، عادوكم ، وأخرجوكم - من أجله - من دياركم ، فأي دين ، وأي مروءة وعقل ، يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم في كل زمان أو مكان ؟ " ولا يمنعهم منه إلا خوف ، أو مانع قوي .
{ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي } أي : إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ، وابتغاء مرضاة الله{[1051]} فاعملوا بمقتضى هذا ، من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، فإن هذا هو الجهاد في سبيله{[1052]} وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم ويبتغون به رضاه .
{ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ } أي : كيف تسرون المودة للكافرين وتخفونها ، مع علمكم أن الله عالم بما تخفون وما تعلنون ؟ ! ، فهو وإن خفي على المؤمنين ، فلا يخفى على الله تعالى ، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشر ، { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ } أي : موالاة الكافرين بعد ما حذركم الله منها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل والمروءة الإنسانية .
1- سورة " الممتحنة " هي السورة الستون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة الأحزاب ، وقيل سورة النساء ، وهي من السور المدنية الخالصة ، وعدد آياتها ثلاث عشرة آية .
واشتهرت بهذا الاسم منذ العهد النبوي ، إلا أن منهم من يقرؤها بفتح الحاء ، على أنها صفة للمرأة التي نزلت فيها ، ومنهم من يقرؤها بكسر الحاء على أنها صفة للسورة .
قال القرطبي : الممتحنة –بكسر الحاء- أي : المختبرة ، أضيف الفعل إليها محازا ، كما سميت سورة براءة بالفاضحة ، لما كشفت من رذائل المنافقين ، ومن قال في هذه السورة الممتحنة –بفتح الحاء- فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها . وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط . قال الله –تعالى- : [ فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ] وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ، ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن( {[1]} ) .
وقال صاحب الإتقان : وتسمى " سورة الامتحان " و " سورة المودة " .
2- وقد افتتحت هذه السورة بتوجيه نداء إلى المؤمنين ، نهتهم فيه عن اتخاذ أعداء الله وأعدائهم أولياء ، وبينت لهم ما جبل عليه هؤلاء الأعداء من كراهية للحق ، كما بينت لهم سوء عاقبة من يوالي هؤلاء الأعداء .
قال –تعالى- { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ، إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة ، وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } .
3- ثم انتقلت السورة الكريمة إلى دعوتهم إلى الاقتداء بأبيهم إبراهيم –عليه السلام- الذي قطع صلته بأقرب الناس إليه ، عندما رآه مصرا على كفره ، وأعلن أنه عدو لكل من أشرك مع الله –تعالى- في العبادة آلهة أخرى .
قال –تعالى- : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ، إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه ، لأستغفرن لك ، وما أملك لك من الله من شيء ، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا ، وإليك المصير } .
4- ثم بشر –سبحانه- المؤمنين ، بأنه –بفضله وكرمه- سيجمع شملهم بأقاربهم الذين تشددوا في عداوتهم ، بأن يهدي هؤلاء الأقارب إلى الحق ، فيتصل حبل المودة بينهم جميعا ، ببركة اجتماعهم تحت كلمة الإسلام ، فقال –تعالى- : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ، والله قدير ، والله غفور رحيم } .
5- وبعد أن رخص للمؤمنين في مودة الكفار الذين لم يقاتلوهم ولم يلحقوا بهم أذى . . ونهاهم عن مودة الكفار الذين قاتلوهم وآذوهم . . بعد كل ذلك وجه –سبحانه- نداء ثانيا إلى المؤمنين بين لهم حكم النساء اللائي أنين مؤمنات إليهم ، بعد أن تركن أزواجهن الكفار ، وفصل –سبحانه- هذه الأحكام حرصا على النساء المؤمنات .
فقال –تعالى- : { يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ، ولا هم يحلون لهن } .
6- ثم أمر –سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبايع النساء المؤمنات على ما بايع عليه الرجال ، وأن يأخذ عليهن العهود على الطاعة لله –تعالى- والبعد عن محارمه .
قال –تعالى- : { يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ، ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ، ولا يعصينك في معروف ، فبايعهن واستغفر لهن الله ، إن الله غفور رحيم } .
7- ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة بتوجيه نداء ثالث إلى المؤمنين نهاهم فيه مرة أخرى عن موالاة أعداء الله وأعدائهم . . فقال –سبحانه- : { يأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ، قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } .
8- هذا والمتأمل في هذه السورة الكريمة ، يراها قد ساقت للمؤمنين ألوانا من التربية التي تغرس العقيدة السليمة في قلوبهم ، وتجعلهم يضحون من أجلها بكل شيء ، ويقدمونها في تصرفاتهم على محبة والأبناء والعشيرة والأموال ، وتكشف لهم عن سوء نيات الكافرين نحوهم ، وعن حرصهم على إنزال الضرر بهم ، كما ضربت لهم الأمثال بإبراهيم –عليه السلام- لكي يقتدوا به في قوة إيمانه ، وفي إخلاصه لدينه ، كما بينت لهم من يجوز لهم مودتهم من الكافرين ، ومن لا يجوز لهم ذلك منهم . . ثم ختمت ببيان بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء المؤمنات المتزوجات من الكافرين ، وبالنساء اللائي جئن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يبايعنه على الإيمان والطاعة .
وسنفصل القول في هذه الأحكام خلال تفسيرنا لهذه السورة الكريمة . .
نسأل الله –تعالى- أن يلهمنا الرشد ، وأن يجنبنا الزلل .
افتتحت سورة " الممتحنة " بهذا النداء للمؤمنين ، وقد تضمن هذا النداء نهيهم عن موالاة أعداء الله وأعدائهم .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها ، ما ذكره الإمام الآلوسى فقال : " نزلت فى حاطب بن أبى بلتعة . . . فقد أخرج الإمام أحمد ، والبخارى ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذى ، والنسائى ، وابن حبان ، وجماعة عن على بن أبى طالب - رضى الله عنه - قال : بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والزبير والمقداد فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ - وهومكان بين مكة والمدينة - فإن بها ظعينة معها كتاب ، فخذوه منها فأتونى به فخرجنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة فقلنا لها : أخرجى الكتاب . فقالت : ما معى من كتاب ، فقلنا : أخرجى الكتاب أو لنلقين الثياب ، فأخرجته من عاقصها ، فأتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فيه : من حاطب بن أبى بلتعة ، إلى أناس من المشركين بمكة ، يخبرهم ببعض أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - .
فقال - صلى الله عليه وسلم - " ما هذا يا حاطب ؟ " فقال حاطب : لا تعجل علىَّ يا رسول الله إنى كنت إنسانا ملصقا فى قريش ، ولم أكن منها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيها ، أن أصطنع إليهم يدا ، يحمون بها قرابتى ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن الإسلام .
فقال عمر : دعنى يا رسول الله أضرب عنقه ، فقال ، - صلى الله عليه وسلم - : " إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فنزلت هذه الآيات " .
وقد ذكروا أن هذه القصة كانت فى الوقت الذى أعد فيه النبى - صلى الله عليه وسلم - العدة لأجل العمرة ، سنة صلح الحديبية ، وقيل كانت هذه القصة فى الوقت الذى تهيأ النبى - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة ، وكان من بين الذين علموا ذلك حاطب بن أبى بلتعة .
والمراد بالعدو هنا : الأعداء عموما ، ويدخل فيهم دخولا أولياء كفار قريش ، الذين أرسل إليهم حاطب بن أبى بلتعة خطابه ، لكى يحذرهم من مهاجمة المسلمين لهم .
والمراد بالعداوة : العداوة الدينية التى جعلت المشركين ، يحرصون كل الحرص على أذى المسلمين ، أى : يامن آمنتم بالله - تعالى - إيمانا حقا ، احذروا أن تتخذوا أعدائى وأعداءكم أولياء وأصدقاء وحلفاء . بل جاهدوهم وأغلظوا عليهم ، واقطعوا الصلة التى بينكم وبينهم .
وناداهم بصفة الإيمان ، لتحريك حرارة العقيدة الدينية فى قلوبهم ولحضهم على الاستجابة لما نهاهم عنه .
وقدم - سبحانه - عداوته للمشركين ، على عداوة المؤمنين لهم ، لأن عداوة هؤلاء المشركين لله - تعالى - أشد وأقبح ، حيث عبدوا غير خالقهم ، وشكروا غير رزاقهم ، وكذبوا رسل ربهم وآذوهم .
وفى الحديث القدسى : " إنى والجن والإنس فى نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيرى ، وأرزق ويشكر سواي . . خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بالنعم . ويتبغضون إلي بالمعاصي " .
وعبر - سبحانه - بالاتخاذ الذى هو افتعال من الأخذ ، للمبالغة فى نهيهم عن موالاة هؤلاء الأعداء . إذ الاتخاذ يشعر بشدة الملابسة والملازمة .
والمفعول الأول لقوله { تَتَّخِذُواْ } قوله : { عَدُوِّي } والمفعول الثانى قوله : { أَوْلِيَآءَ } .
وقوله - سبحانه - : { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } تفسير وتوضيح لهذه الموالاة التى نهوا عنها أو فى موضع الحال من ضمير { لاَ تَتَّخِذُواْ } .
وحقيقة الإلقاء : قذف ما فى اليد على الأرض أو فى الفضاء ، والمراد به هنا : إيصال ما يدخل السرور على قلوب أعدائهم . والباء فى قوله : { بالمودة } لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله .
أي : احذروا أن تعاملوا أعدائى وأعداءكم معاملة الأصدقاء والحلفاء ، بأن تظهروا لهم المودة والمحبة .
ويصح أن تكون الباء للسببية فيكون المعنى : تلقون إليهم بأخباركم التى لا يجوز لكم إظهارها لهم ، بسبب مودتكم لهم .
وقد ذكروا أن حاطبا أرسل بهذه الرسالة إلى أهل مكة ، عندما تجهز النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه للذهاب إليها لأجل العمرة عام الحديبية ، أو لأجل فتح مكة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : { تُلْقُونَ } بم يتعلق ؟ قلت : يجوز أن يتعلق بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ } حالا من ضميره . . ويجوز أن يكون استئنافا .
والإلقاء : عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم يقال : ألقى إليه خَراشِىَ صدره - أي أسرار صدره - وأفضى إليه بقشوره .
والباء فى { بالمودة } إما زائدة مؤكدة للتعدى مثلها فى قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } وإما ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف ، ومعناه : تلقون إليهم إخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبب المودة التى بينكم وبينهم .
ثم ساق - سبحانه - الأسباب التى من شأنها تحمل المؤمنين على عدم موالاة أعداء الله وأعدائهم ، فقال : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الحق } أي : لا تتخذوا - أيها المؤمنون - هؤلاء الأعداء أولياء ، وتلقون إليهم بالمودة ، والحال أن هؤلاء الأعداء قد كفروا بما جاءكم على لسان رسولكم - صلى الله عليه وسلم - من الحق الذى يتمثل فى القرآن الكريم ، وفى كل ما أوحاه - سبحانه - إلى رسوله .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ، تصوير هؤلاء الكافرين ، بما ينفر المؤمنين من إلقاء المودة إليهم .
وقوله - تعالى - : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ } بيان لسبب آخر من الأسباب التى تدعو المؤمنين إلى مقاطعة أعدائهم الكافرين .
وجملة : { يُخْرِجُونَ الرسول } يصح أن تكون مستأنفة لبيان كفرهم ، أو فى محل نصب حال من فاعل { كَفَرُواْ } وقوله : { وَإِيَّاكُمْ } معطوف على الرسول ، وقدم عليهم على سبيل التشريف لمقامه - صلى الله عليه وسلم - وجملة { أَن تُؤْمِنُواْ } فى محل نصب مفعول لأجله .
أي : أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بكفرهم بما جاءكم - أيها المؤمنون - من الحق ، بل تجاوزوا ذلك إلى محاولة إخراج رسولكم - صلى الله عليه وسلم - وإخراجكم من مكة ، من أجل إيمانكم بالله ربكم ، وإخلاصكم العبادة له - تعالى - .
وأسند - سبحانه - محاولة الإخراج إلى جميع الأعداء ، لأنهم كانوا راضين بهذا الفعل ومتواطئين على تنفيذه ؛ بعضهم عن طريق التخطيط له ، وبعضهم عن طريق التنفيذ الفعلى .
والمتأمل فى هذه الجملة الكريمة ، يراها قد ساقت أقوى الأسباب وأعظمها ، للتشنيع على مشركى قريش ، ولإلهاب حماس المؤمنين من أجل عدم إلقاء المودة إليهم .
وجواب الشرط فى قوله - تعالى - : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي } محذوف للدلالة ما قبله عليه أى : إن كنتم - أيها المؤمنون - قد خرجتم من مكة من أجل الجهاد فى سبيلى ، ومن أجل طلب مرضاتى ، فاتركوا اتخاذ عدوى وعدوكم أولياء ، واتركوا مودتهم ومصافاتهم .
فالمقصود من الجملة الكريمة ، زيادة التهييج للمؤمنين ، حتى لا يبقى فى قلوبهم أى شىء من المودة نحو الكافرين .
وقوله - سبحانه - : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } بدل من قوله - تعالى - : قبل ذلك : { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } . بدل بعض من كل . لأن إلقاء المودة أعم من أن تكون فى السر أو فى العلن .
ويصح أن يكون بدل اشتمال ، لأن الإسرار إليهم بالمودة ، مما اشتمل عليه إلقاء المودة إليهم .
وهذه الجملة جىء بها على سبيل العتاب والتعجيب ممن فى قلبه مودة لهؤلاء الكافرين ، بعد أن بين الله - تعالى - له ، ما يوجب قطع كل صلة بهم .
ومفعول { تُسِرُّونَ } محذوف . أي : ترسلون إليهم أخبار المسلمين سرا ، بسبب مودتكم لهم ؟ وجملة : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ } هى مناط التعجيب ممن يتخذ هؤلاء الأعداء أولياء . أو من يسر إليهم بالمودة ، وهى حالية من فاعل { تُلْقُونَ و تُسِرُّونَ } .
أي : تفعلون ما تفعلون من إلقاء المودة إلى عدوى وعدوكم ، ومن إسراركم بها إليهم والحال أنى أعلم منهم ومنكم بما أخفيتموه فى قلوبكم ، وما أعلنتموه ، ومخبر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بذلك .
وما دام الأمر كذلك فكيف أباح بعضكم لنفسه ، أن يطلع عدوى وعدوكم على مالا يجوز إطلاعه عليه ؟ ! .
قال الآلوسى : قوله : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ } فى موضع الحال و { أَعْلَمُ } أفعل تفضيل . والمفضل عليه محذوف . أى : منكم . . . و { مَآ } موصولة أو مصدرية ، وذكر { مَآ أَعْلَنتُمْ } مع الاستغناء عنه ، للإشارة إلى تساوى العلمين فى علمه - عز وجل - .
ولذا قدم { مَآ أَخْفَيْتُمْ } . وفى هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم فى إسرار المودة إليهم كأنه قيل : تسرون إليهم بالمودة والحال أنى أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ، ومطلع رسولى على ما تسرون ، فأى فائدة وجدوى لكم فى الإسرار .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان سوء عاقبة من يخالف أمره فقال : { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } .
والضمير فى قوله : { يَفْعَلْهُ } يعود إلى الاتخاذ المفهوم من قوله { لاَ تَتَّخِذُواْ } .
أي ومن يفعل ذلك الاتخاذ لعدوي وعدوكم أولياء ، ويلقى إليهم بالمودة ، فقد أخطأ طريق الحق والصواب ، وضل عن الصراط المستقيم .
سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة
هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني . حلقة من تلك السلسلة الطويلة ، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة ، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية ، في صورة واقعية عملية ، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة ؛ تبلغ إليه البشرية أحيانا ، وتقصر عنه أحيانا ، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه ؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه ، تحققت يوما في هذه الأرض .
وقد اقتضى هذا - كما قلنا في أول هذا الجزء - إعدادا طويلا في خطوات ومراحل . وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة ، أو تتعلق بها ، مادة من مواد هذا الإعداد . مادة مقدرة في علم الله ، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه .
وفي مضطرب الأحداث ، وفي تيار الحياة المتدفق ، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض . فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد ، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة . وكانت التربية المستمرة متجهة دائما إلى إنشاء هذا التصور الإيمانيالخاص المميز ، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك ، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة . أما الناس الذين ينشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث ، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوما بعد يوم ، ومرة بعد مرة ، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة ، وتحت مؤثرات متنوعة ؛ لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى . وكان يعلم أن رواسب الماضي ، وجواذب الميول الطبيعية ، والضعف البشري ، وملامسات الواقع ، وتحكم الإلف والعادة ، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة . وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر ، والصهر المتوالي . . فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر الله ، وتتوالى الموعظة بها . والتحذير على ضوئها ، والتوجيه بهديها ، مرة بعد مرة .
وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير ، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة ، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس . والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه [ صلى الله عليه وسلم ] حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله . بتوفيق الله . على يدي رسول الله .
هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل ، تستهدف - مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها - إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم . عالم محوره الإيمان بالله وحده ، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده ، بعروة واحدة لا انفصام لها ؛ ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى . عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة . ليجعل في مكانها جميعا عقدة واحدة . هي عقدة الإيمان بالله . والوقوف تحت راية الله . في حزب الله .
إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني . رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه ، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله . وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله - في رحاب العقيدة - وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب . وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان ، عدا عقيدة الإيمان . وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله ، المتضمن كيانه نفحة من روح الله .
ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة - كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم - عقبات من التعصب للبيت ، والتعصب للعشيرة ، والتعصب للقوم ، والتعصب للجنس ، والتعصب للأرض . كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس وأهواء القلوب ، من الحرص والشح وحب الخير للذات ، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية . . وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور !
وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة . وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل .
وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم ، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى . وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة ؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم ، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات !
وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج ، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه . وهو - سبحانه - يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا - وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت - فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث ، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن !
وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة . وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر . ولكن مدى النصوص القرآنية دائما أبعد من الحوادث المباشرة .
وقد قيل في هذا الحادث : إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين . وكان من أهل بدر أيضا . وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان . فلما عزم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم ، وقال : " اللهم عم عليهم خبرنا " . . وأخبر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] جماعة من أصحابه بوجهته ، كان منهم حاطب . فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة - قيل من مزينة - جاءت المدينة تسترفد - إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يدا . فأطلع الله - تعالى - رسوله على ذلك استجابة لدعائه . وإمضاء لقدره في فتح مكة . فبعث في أثر المرأة ، فأخذ الكتاب منها .
وقد روى البخاري في المغازي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبدالرحمن ، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبدالرحمن السلمي ، عن علي - رضي الله عنه - قال : " بعثني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأبا مرثد والزبير بن العوام - وكلنا فارس - وقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين " . فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلنا : الكتاب ? فقالت ما معي كتاب . فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا . فقلنا : ما كذب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ، وهي محتجزة بكساء ، فأخرجته . فانطلقنا به إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال عمر : يا رسول الله . قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضربن عنقه . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما حملك على ما صنعت ? " قال حاطب : والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أردت أن تكون لي عند القوم يد . يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله . فقال : " صدق لا تقولوا إلا خيرا " . فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه . فقال : " أليس من أهل بدر ? - فقال - : لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو - قد غفرت لكم " فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم . . وزاد البخاري في كتاب المغازي : فأنزل الله السورة : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . . وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد .
ولوقوف قليلا أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن " ظلال القرآن " والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] القائد المربي العظيم . .
وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب ، وهو المسلم المهاجر ، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على سر الحملة . . وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة ، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها ؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها .
ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وهو لا يعجل حتى يسأل : " ما حملك على ما صنعت " في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه ، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق ، ومن ثم يكف الصحابة عنه : " صدق لا تقولوا إلا خيرا " . . ليعينه وينهضه من عثرته ، فلا يطارده بها ولا يدع أحدا يطارده . بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر : " إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين . فدعني فلأضرب عنقه " . . فعمر - رضي الله عنه - إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم . أما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ، ومن كل جوانبها ، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية . في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف . .
ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب ، وهو في لحظة ضعفه ، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح . . ذلك حين يقول : " أردت أن تكون لي عند القوم يد . . يدفع الله بها عن أهلي ومالي " . . فالله هو الذي يدفع ، وهذه اليد لا تدفع بنفسها ، إنما يدفع الله بها . ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول : " وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع . . الله . . به عن أهله وماله " فهو الله حاضر في تصوره ، وهو الذي يدفع لا العشيرة . إنما العشيرة أداة يدفع الله بها . .
ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل ، فكان هذا من أسباب قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : " صدق . لا تقولوا إلا خيرا " . .
وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث ؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بسر الحملة . وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة . ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين . كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها ! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع ، ولا تنفج بالقول : ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه ، ولو أودعناه نحن ما بحنا به ! فلم يرد من هذا شيء . مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم ، وتواضعهم في الظن بأنفسهم ، واعتبارهم بما حدث لأخيهم . . .
والحادث متواتر الرواية . أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري . ولا نستبعد صحة هذه الرواية ؛ ولكن مضمون النص القرآني - كما قلنا - أبعد مدى ، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات ، بمناسبة وقوع هذا الحادث ، على طريقة القرآن .
كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة ، والعصبيات الصغيرة ، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني .
وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة ، وقيما جديدة ، وموازين جديدة ، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ، ووظيفة المؤمنين في الأرض ، وغاية الوجود الإنساني .
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله ؛ ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته ، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد ، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه ، وأنه يريد بهم أمرا ، ويحقق بهم قدرا . ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته ، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا . في الدنيا والآخرة . وإذن فليكونوا خالصين له ، منقطعين لولايته ، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته . في عالم الشعور وعالم السلوك .
والسورة كلها في هذا الاتجاه . حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات ، ومبايعة من يدخلن في الإسلام ، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار . وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر . . فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام .
ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء الله ، ممن غضب عليهم الله ، سواء من المشركين أو من اليهود . ليتم التمييز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان . .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم ، أن تؤمنوا بالله ربكم . إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ؛ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل . إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ، وودوا لو تكفرون ) . .
تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي : يا أيها الذين آمنوا . . نداء من ربهم الذي آمنوا به ، يدعوهم باسم الإيمان الذي ينسبهم إليه . يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم ، ويحذرهم حبائل أعدائهم ، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم .
وفي مودة يجعل عدوهم عدوه ، وعدوه عدوهم :
( لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . .
فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه . يعاديهم من يعاديه . فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض ، وهم أوداؤه وأحباؤه . فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه .
ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم ، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم :
( وقد كفروا بما جاءكم من الحق . يخرجون الرسول وإياكم . أن تؤمنوا بالله ربكم ) . .
فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة ? كفروا بالحق . وأخرجوا الرسول والمؤمنين ، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم ? إنه يهيج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم . وهي التي حاربهم المشركون من أجلها ، لا من أجل أي سبب آخر . ويبرز القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب . فهي قضية العقيدة دون سواها . قضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه ، والإيمان الذي من أجله أخرجوهم .
وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت ، ذكرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهادا في سبيله :
( إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وإبتغاء مرضاتي . . )
فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهادا في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله ، وهو عدو الله وعدو رسول الله !
ثم يحذرهم تحذيرا خفيا مما تكن قلوبهم ، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة ، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها : ( تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ) .
ثم يهددهم تهديدا مخيفا ، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة :
( ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ) . .
وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول ? !
وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد . ثم تجيء البقية :