24- يا أيها الذين صدَّقوا بالحق وأذعنوا له ، أجيبوا الله في اتجاه قلبي إلى ما يأمركم به ، وأجيبوا الرسول في تبليغه ما يأمر به الله إذا دعاكم إلى أوامر الله بالأحكام التي فيها حياة أجسامكم وأرواحكم وعقولكم وقلوبكم ، واعلموا علم اليقين أن الله تعالى قائم على قلوبكم ، يوجهها كما يشاء فيحول بينكم وبين قلوبكم إذا أقبل عليها الهوى ، فهو منقذكم منه إن اتجهتم إلى الطريق المستقيم ، وإنكم جميعاً ستجمعون يوم القيامة فيكون الجزاء .
يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة للّه وللرسول ، أي : الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه ، والاجتناب لما نهيا عنه ، والانكفاف عنه والنهي عنه .
وقوله : إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وصف ملازم لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه ، وبيان لفائدته وحكمته ، فإن حياة القلب والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام .
ثم حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم ، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك ، وتختلف قلوبكم ، فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه ، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء .
فليكثر العبد من قول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، يا مصرف القلوب ، اصرف قلبي إلى طاعتك .
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي : تجمعون ليوم لا ريب فيه ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بعصيانه .
ثم وجه - سبحانه - إلى المؤمنين نداء ثالثا أمرهم فيه بالاستجابة لتعاليمه ، وحذرهم من الأقوال والأعمال التي تكون سبباً في عذابهم ، وذكرهم بجانب من منته عليهم ، فقال - تعالى - : { ياأيها الذين . . . لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ . . } هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، والاستجابة :
وداع داع يا من يجيب إنى الندى . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وكان الإِمام القرطبى يرى أن السين والتاء في قوله : " استجيبوا " زائدتان .
ولعل الأحسن من ذلك أن تكون السين والتاء للطلب ، لأن الاستجابة هى الإِجابة بنشاط وحسن استعداد .
وقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي لما يصلحكم من أعمال البر والخير والطاعة ، التي توصلكم متى تمسكتم بها إلى الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا ، وإلى السعادة التي ليس بعدها سعادة في الآخرة .
وهذا المعنى الذي ذكرناه لقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أدق مما ذكره بعضهم من أن المراد بما يحييهم القرآن ، أو الجهاد ، أو العلم . . إلخ .
وذلك ، لأن أعمال البر والخير والطاعة تشمل كل هذا .
والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } بالله حق الإِيمان ، { استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } عن طواعية واختيار ، ونشاط وحسن استعداد { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أى : إلى ما يصلح أحوالكم ، ويرفع درجاتكم ، من الأقوال النافعة ، والأعمال الحسنة ، التي بالتمسك بها تحيون حياة طيبة : وتظفرون بالسعادتين : الدنيوية والأخروية .
والضمير في قوله { دَعَاكُم } يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله ، ولأن في الاستجابة له استجابة لله - تعالى - .
قال - سبحانه - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } وقوله : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله ، وبعث لهم على مواصلة الطاعة له - سبحانه -يَحُولُ .
وقوله : { يَحُولُ } من الحول بين الشئ والشئ ، بمعنى الحجز والفصل بينهما .
قال الراغب : أصل الحول تغير الشئ وانفصاله عن غيره ، وباعتبار التغير قيل حال الشئ يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول : وباعتبار الانفصال فيل حال بينى وبينك كذا أي فصل . .
هذا ، وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال متعددة أهمها قولان :
أما القول الأول فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول ابن جرير - : أنه - سبحانه - أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك شيئا من إيمان أو كفر ، أو أن يعى به شيئا ، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته ، وذلك أن الحول بين الشئ والشئ إما هو الحجز بينهما ، وإذا حجز - جل ثناؤه - بين عبد وقلبه في شئ أن يدركه أو يفهمه ، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل ، وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك قول من قال : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإِيمان .
وقول من قال : يحول بينه وبين عقله . وقول من قال : يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه . . فالخبر على العموم حتى يخصصه ما يجب التسليم له .
وقد رجح ابن جرير هذا القول بعد أن ذكر قبله بعض الأقوال الأخرى .
وقال ابن كثير - بعد أن لخص القول الذي رجحه ابن جرير - : وقد وردت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله علي وسلم - يقول : " إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء " ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك " .
وروى : الإِمام أحمد والنسائى وابن ماجه عن النواس بن سمعان الكلابى قال : سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " .
أما القول الثانى فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول الزمخشرى - " أنه - سبحانه - يميت المرء فتفوته الفرصة التي هى واجدها ، وهى التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ، ورده سليما كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله .
أو - كما يقول الفخر الرازى - بعبارة أوضح : " أن المراد أنه - تعالى - يحول بين المرء وبين ما يتماه ويريده بقلبه ، فإن الأجل يحول دون الأمل . فكأنه قال : بادروا إلى الأعمال . الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء ، فإن ذلك غير موثوق به ، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأمانى الحاصلة في القلب ، لأن تسمية الشئ باسم ظرفه جائزة كقولهم : سال الوادى .
والذى نراه أن القول الثانى أولى بالقبول ، لأن الآية الكريمة ساقته لحض المؤمنين على سرعة الاستجابة للحق الذي دعاهم إليه رسوله صلى الله عليه وسلم والذى باتباعه يحيون حياة طيبة ، وتذكيرهم بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب ، كما قال - تعالى - في ختامها { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
وليست مسوقة لإِثبات قدرة الله ، وأنه أملك لقلوب عباده منهم : وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء .
فالمعنى الذي ذكره ابن جرير - وتابعه عليه ابن كثير وغيره ، معنى وجيه في ذاته ، إذ لا ينكر أحد أن الله مقلب القلوب ومالكها . . ولكن ليس مناسبا هنا مناسبة المعنى الذي ذكره الزمخشرى والرازى . لأن الآية الكريمة التي معنا والتى بعدها صريحتان في دعوة المؤمنين إلى الاستجابة للحق قبل أن يفاجئهم الموت ، وقبل أن تحل بهم مصيبة لا تصيب الظالمين منهم خاصة .
والمعنى الإِجمال للآية الكريمة { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } بعزيمة صادقة ، وسرعة فائقة ، { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي لما به تحيون حياة طيبة من الأقوال والأعمال الصالحة { وَاعْلَمُواْ } علما يقينا { أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } أي يحول بين المرء وبين ما يتمناه قلبه من شهوات الدنيا ومتعها : فكم من إنسان يؤمل أنه سيفعل كذا غدا ، وسيجمع كذا غدا ، وسيجمع كذا في المستقبل ، وسيحصل على كذا قريبا . . ثم يحول الموت ويفصل بينه وبين آماله وأمانيه . . فبادروا إلى اغتنام الأعمال الصالحة من قبل أن يفاجئكم الموت .
وقوله : { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } تذييل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة . والضمير في قوله { وَأَنَّهُ } يعود إلى الله تعالى - أو هو ضمير الشأن . أى : وأنه - سبحانه - إليه وحده ترجعون لا إلى غيره ، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أختم ، ويجاز كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جمعت بين الترغيب . في العمل الصالح بسرعة ونشاط ، وبين الترهيب من التكاسل والغفلة عن طاعة الله .