31- فلما سمعت باغتيابهن وسوء كلامهن فيها ، دعتهن إلى بيتها ، وأعدت لهن ما يتكئن عليه من الوسائد والنمارق ، وأعطت كل واحدة منهن سكيناً ، بعد أن حضرن وجلسن متكئات ، وقُدِّم لهن الطعام ليأكلن بالسكاكين ما تناله منه أيديهن . وقالت ليوسف : اخرج عليهن ، فلما ظهر ورأينه أعظمنه وأخذهن حسنُه الرائع وجماله البارع ، فجرحن أيديهن من فرط الدهشة والذهول ، وهن يأكلنْ طعامهن ، قلن متعجبات مندهشات : تنزيهاً لله ، ما هذا الذي نراه بشراً ؛ لأن البشر لا يكون على هذا الحسن والجمال والصفاء والنقاء ، ما هذا إلا ملك كثير المحاسن طيب الشمائل ، سخي الصفات .
وهنا تحكى السورة الكريمة كيف قابلت تلك المرأة الداهية الجريئة ، مكر بنات جنسها وطبقتها بمكر أشد من مكرهن بها فقال - تعالى - :
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } أى : فاغتيابهن لها . وسوء مقالتهن فيها ، وسمى ذلك مكرا لشبهه به في الإِخفاء والخداع .
أو قصدن بما قلنه - كما سبق أن أشرنا - إثارتها ، لكى تطلعهن على فتاها الذي راودته عن نفسه ، ليعرفن السر في هذه المراودة ، وعلى هذا يكون المكر على حقيقته . ومثل هذا المكر ليس غريبا على النساء في مثل هذه الأحوال .
وقوله : { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ . . } الخ بيان لما فعلته معهن .
أى : أرسلت إلى النسوة اللائى وصفنها بأنها في ضلال مبين ، ودعتهن إلى الحضور إليها في دراها لتناول الطعام .
{ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } أى : وهيأت لهن في مجلس طعامها ، ما يتكئن عليه من الوسائد والنمارق وما يشبه ذلك .
فالمتكأ : اسم مفعول من الإتكاء ، وهو الميل إلى أحد الجانبين في الجلوس كما جرت بذلك عادة المترفين عند تناول الطعام ، وعندما يريدون إطالة المكث مع انتصاب قليل في النصف الأعلى من الجسم والاستراحة بعد الأكل .
أخرج ابن شيبة عن جابر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يأكل الرجل بشماله ، وأن يأكل متكئا .
{ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } أى : وأعطت كل واحدة من هؤلاء النسوة سكينا ليقطعن به ما يأكلن من لحم وفاكهة .
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الحضارة المادية في مصر في ذلك الوقت كانت قد بلغت شأوا بعيدا ، وأن الترف في القصور كان عظيما ، فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية .
وهنا نجد المرأة الجريئة الماكرة ، تقول ليوسف - عليه السلام - كما حكى القرآن عنها : { اخرج عَلَيْهِنَّ } أى ابرز لهن ، وادخل عليهن ، وهن على تلك الحالة من الأكل والاتكاء وتقطيع ما يحتاج إلى تقطيع الطعام . .
وهى ترمى من وراء خروجه عليهن إلى إطلاعهن عليه حتى يعذرنها في حبها له وقد كان لهذه المفاجأة من يوسف لهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه ، أثرها الشديد في نفوسهن ، وهذا ما حكاه القرآن الكريم في قوله : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } .
والجملة الكريمة معطوفة على كلام محذوف دل عليه السياق ، والتقدير : قالت امرأة العزيز ليوسف اخرج عليهن ، فخرج عليهن وهن على تلك الحالة فلما رأينه أكبرنه ، أى : أعظمنه ، ودهشن لهيئته ، وجمال طلعته وحسن شمائله .
{ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أى : جرحن أيديهن وخدشنها بالسكاكين التي في أيديهن دون أن يشعرن بذلك ، لشدة دهشتهن المفاجئة بهيئة يوسف . .
{ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً } وحاش فعل ماض ، واللام في " لله " للتعليل ، والمراد بهذه الجملة الكريمة التعبير عن عجيب صنع الله في خلقه أى : وقلن عندما فوجئن بخروج يوسف عليهن : تنزه الله - تعالى - تنزيها كبيرا عن صفات العجز ، ونتعجب تعجبا شديدا من قدرته - سبحانه - على خلق هذا الجمال البديع ، وما هذا الذي نراه أمامنا بشرا كسائر البشر ، لتفرقه في الحسن عنهم ، وإنما هو ملك كريم من الملائكة المقربين تمثل في هذه الصورة البديعة التي تخلب الألباب .
ووصفوه بذلك بناء على ما ركز في الطباع من تشبيه ما هو مفرط في الجمال والعفة بالملك وتشبيه ما هو شديد القبح والسوء بالشيطان .
وقوله تعالى : { فلما سمعت بمكرهن } الآية ، إنما سمي قولهن مكراً من حيث أظهرن إنكار منكر وقصدن إثارة غيظها عليهن ، وقيل : { مكرهن } أنهن أفشين ذلك عنها وقد كانت أطلعتهن على ذلك واستكتمتهن إياه ، وهذا لا يكون مكراً إلا بأن يظهرن لها خلاف ذلك ويقصدن بالإفشاء أذاها .
ومعنى { أرسلت إليهن } أي ليحضرن ، و { أعتدت } معناه : أعدت ويسرت ، و { متكأ } ما يتكأ عليه من فرش ووسائد ، وعبر بذلك عن مجلس أعد لكرامة ، ومعلوم أن هذا النوع من الكرامات لا يخلو من الطعام والشراب ، فلذلك فسر مجاهد وعكرمة «المتكأ » بالطعام ؛ قال ابن عباس : { متكأ } معناه مجلساً ، ذكره الزهراوي . وقال القتبي : يقال : اتكأنا عند فلان أي أكلنا .
وقوله : { وآتت كل واحدة منهن سكيناً } يقتضي أنه كان في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين ، فقيل كان لحماً ، وكانوا لا ينتهسون اللحم وإنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين ؛ وقيل : كان أترجاً{[6658]} ، وقيل : كان زماورد{[6659]} ، وهو من نحو الأترج موجود في تلك البلاد ، وقيل : هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط .
وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وابن عمر وقتادة والضحاك والكلبي وأبان بن تغلب «تُكاً » بضم الميم وتنوين الكاف . واختلف في معناه ، فقيل : هو الأترنج ، وقيل : هو اسم يعم ما يقطع بالسكين من الفواكه كالأترنج والتفاح وغيره ، وأنشد الطبري :
نشرب الإثم بالصواع جهاراً*** وترى المتك بيننا مستعارا{[6660]}
وقرأ الجمهور : «متَّكأ » بشد التاء المفتوحة والهمز والقصر ، وقرأ الزهري : «متّكا » مشدد التاء من غير همز - وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح ، وقرأ الحسن «متكاء » بالمد على إشباع الحركة .
و «السكين » تذكر وتؤنث ، قاله الكسائي والفراء{[6661]} ، ولم يعرف الأصمعي إلا التذكير .
وقولها : { اخرج } أمر ليوسف ، وأطاعها بحسب الملك ، وقال مكي والمهدوي : قيل : إن في الآية تقديماً وتأخيراً في القصص ، وذلك أن قصة النسوة كانت قبل فضيحتها في القميص للسيد ، وباشتهار الأمر للسيد انقطع ما بينها وبين يوسف .
قال القاضي أبو محمد : وهذا محتمل إلا أنه لا يلزم من ألفاظ الآية ، بل يحتمل أن كانت قصة النساء بعد قصة القميص وذلك أن العزيز كان قليل الغيرة بل قومه أجمعين ، ألا ترى أن الإنكار في وقت القميص إنما كان بأن قيل : { إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } [ يوسف : 28 ] وهذا يدل على قلة الغيرة ، ثم سكن الأمر بأن قال : { يوسف أعرض عن هذا } [ يوسف : 29 ] وأنت { استغفري } [ يوسف : 29 ] وهي لم تبق حينئذ إلا على إنكارها وإظهار الصحة ، فلذلك تغوفل عنها بعد ذلك ، لأن دليل القميص لم يكن قاطعاً وإنما كان أمارة ما ؛ هذا إن لم يكن المتكلم طفلاً .
وقوله : { أكبرنه } معناه : أعظمنه واستهولن جماله ، هذا قول الجمهور ، وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده : معناه : حضن ، وأنشد بعض الناس حجة لهذا التأويل : [ البسيط ]
يأتي النساء على أطهارهنّ ولا*** يأتي النساءَ إذا أكبرن إكبارا{[6662]}
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف من معناه منكور ، والبيت مصنوع مختلف - كذلك قال الطبري وغيره من المحققين ، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمه الله .
وقوله : { وقطّعن أيديهن } أي كثرن الحز فيها بالسكاكين ، وقال عكرمة : «الأيدي » هنا الأكمام ، وقال مجاهد هي الجوارح ، وقطعنها حتى ألقينها .
قال القاضي أبو محمد : فظاهر هذا أنه بانت الأيدي ، وذلك ضعيف من معناه ، وذلك أن قطع العظم لا يكون إلا بشدة ، ومحال أن يسهو أحد عنها ، والقطع على المفصل لا يتهيأ إلا بتلطف لا بد أن يقصد ، والذي يشبه أنهن حملن على أيديهن الحمل الذي كن يحملنه قبل المتك فكان ذلك حزاً ، وهذا قول الجماعة .
وضوعفت الطاء في { قطّعن } لكثرتهن وكثرة الحز فربما كان مراراً .
وقرأ أبو عمرو وحده «حاشى لله » وقرأ أبيّ وابن مسعود «حاشى الله » ، وقرأ سائر السبعة «حاش لله ، وفرقة » حشا{[6663]} لله «وهي لغة ، وقرأ الحسن » حاش لله{[6664]} «بسكون الشين وهي ضعيفة وقرأ الحسن - أيضاً - » حاش الإلاه «محذوفاً من » حاشى « . فأما » حاش «فهي حيث جرت حرف معناه الاستثناء ، كذا قال سيبويه ، وقد ينصب به ، تقول : حاشى زيد وحاشى زيداً ، قال المبرد : النصب أولى إذ قد صح أنها فعل بقولهم : حاش لزيد ، والحرف لا يحذف منه .
قال القاضي أبو محمد : يظهر من مجموع كلام سيبويه والمبرد أن الحرف يخفض به لا غير ، وأن الفعل هو الذي ينصب به ، فهذه اللفظة تستعمل فعلاً وحرفاً ، وهي في بعض المواضع فعل وزنه فاعل ، وذلك في قراءة من قرأ » حاشى لله{[6665]} «معناه مأخوذ من معنى الحرف ، وهو إزالة الشيء عن معنى مقرون به ، وهذا الفعل مأخوذ من الحشا أي هذا في حشى وهذا في حشى ، ومن ذلك قول الشاعر : [ المعطل الهذلي ] .
يقول الذي يمسي إلى الحرز أهله*** بأي الحشى صار الخليط المباين{[6666]}
ومنه الحاشية كأنها مباينة لسائر ما هي له ، ومن المواضع التي حاشى فيه فعل هذه الآية ، يدل على ذلك دخولها على حرف الجر ، والحروف لا تدخل بعضها على بعض ، ويدل على ذلك حذف الياء منها في قراءة الباقين » حاش «على نحو حذفهم من لا أبال ولا أدر ولو تر ، ولا يجوز الحذف من الحروف إلا إذا كان فيها تضعيف مثل : لعل ، فيحذف ، ويرجع عل ، ويعترض في هذا الشرط بمنذ وفد حذف دون تضعيف فتأمله .
قال القاضي أبو محمد : ومن ذلك في حديث خالد يوم مؤتة : فحاشى بالناس ، فمعنى » حاشى لله «أي حاش يوسف لطاعة الله أو لمكان من الله أو لترفيع الله له أن يرمي بما رميته به{[6667]} ، أو يدعى{[6668]} إله مثله لأن تلك أفعال البشر ، وهو ليس منهم إنما هو ملك - هكذا رتب أبو علي الفارسي معنى هذا الكلام ، على هاتين القراءتين اللتين في السبع{[6669]} - وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود ، فعلى أن » حاشى «حرف استثناء - كما قال الشاعر [ ابن عطية ] : [ الكامل ]
حاشى أبي ثوبان إنَّ به*** ضنّاً عن الملحاة والشتم{[6670]}
وتسكين الشين في إحدى قراءتي الحسن ، ضعيف ، جمع بين ساكنين ، وقراءته الثانية محذوفة الألف من «حاشى » .
قال القاضي أبو محمد : والتشبيه بالملك هو من قبيل التشبيه بالمستعظمات وإن كانت لا ترى .
وقرأ أبو الحويرث الحنفي والحسن «ما هذا بشر إن هذا إلا ملِك كريم » بكسر اللام في «ملِك » ، وعلى هذه القراءة فالكلام فصيح لما استعظمن حسن صورته قلن : ما هذا إلا مما يصلح أن يكون عبد بشراء ، إن هذا مما يصلح أن يكون ملكاً كريماً .
ونصب «البشر » من قوله : { ما هذا بشراً } هو على لغة الحجاز شبهت { ما } بليس ، وأما تميم فترفع ، ولم يقرأ به{[6671]} .
وروي أن يوسف عليه السلام أعطي ثلث الحسن ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه أعطي نصف الحسن ، ففي بعض الأسانيد هو وأمه ، وفي بعضها هو وسارة جدة أبيه{[6672]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا على جهة التمثيل ، أي لو كان الحسن مما يقسم لكان حسن يوسف يقع في نصفه ، فالقصد أن يقع في نفس السامع عظم حسنه على نحو التشبيه برؤوس الشياطين وأنياب الأغوال{[6673]} .
حقّ سمع أن يعدّى إلى المسموع بنفسه ، فتعديته بالباء هنا إما لأنه ضمن معنى أخْبِرت ، كقول المثل : « تسمع بالمعيدي خير من أن تراه » أي تخبر عنه . وإما أن تكون الباء مزيدة للتوكيد مثل قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ سورة المائدة : 6 ] .
وأطلق على كلامهن اسم المكر ، قيل : لأنهن أردن بذلك أن يبلغ قولهن إليها فيغريَها بعَرضها يوسف عليه السّلام عليهن فيريْنَ جماله لأنهن أحببن أن يرينه . وقيل : لأنهن قلنه خفية فأشبه المكر ، ويجوز أن يكون أطلق على قولهن اسم المكر لأنهن قلنه في صورة الإنكار وهن يُضمرن حسَدَها على اقتناء مثله ، إذ يجوز أن يكون الشغف بالعبد في عادتهم غير منكر .
و{ أعتدت } : أصله أعددت ، أبدلت الدال الأولى تاء ، كما تقدم عند قوله تعالى : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مُهيناً } في سورة النساء ( 37 ) .
والمتّكأ : محل الاتكاء . والاتكاء : جِلسة قريبة من الاضطجاع على الجنب مع انتصاب قليل في النصب الأعلى . وإنما يكون الاتكاء إذا أريد إطالة المكث والاستراحة ، أي أحضرت لهن نمارق يتّكِئْن عليها لتناول طعام . وكان أهل الترف يأكلون متكئين كما كانت عادةً للرومان ، ولم تزل أسرّة اتكائهم موجودة في ديار الآثار . وقال النبي : أمّا أنَا فلا آكلُ متكئاً .
ومعنى { آتت } أمرت خدمها بالإيتاء كقوله : { يا هامان ابن لي صرحاً } [ سورة غافر : 36 ] .
والسكين : آلة قطع اللحم وغيره . قيل : أحضرت لهن أتْرُجاً ومَوْزاً فحضرن واتكأن ، وقد حذف هذان الفعلان إيجازاً . وأعطت كل واحدة سكيناً لقشر الثمار .
وقولها : { أُخرج عليهن } يقتضي أنه كان في بيت آخر وكان لا يدخل عليها إلا بإذنها . وعدّي فعل الخروج بحرف ( على ) لأنه ضمن معنى ( أُدخل ) لأن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه .
ومعنى { أكبرنه } أعظمنه ، أي أعظمن جماله وشمائله ، فالهمزة فيه للعدّ ، أي أعددنه كبيراً ، وأطلق الكبر على عظيم الصفات تشبيهاً لِوفرة الصفات بعظم الذات .
وتقطيع أيديهن كان من الذهول ، أي أجرين السكاكين على أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الفواكه . وأريد بالقطع الجُرح ، أطلق عليه القطع مجازاً للمبالغة في شدته حتى كأنه قَطْع قطعة من لحم اليد .
و { حاش لله } تركيب عربي جرى مجرى المثل يراد منه إبطال شيء عن شيء وبراءته منه . وأصل ( حاشا ) فعل يدل على المباعدة عن شيء ، ثم يعامل معاملة الحرف فيجَرُّ به في الاستثناء فيقتصر عليه تارة . وقد يوصل به اسم الجلالة فيصير كاليمين على النفي يقال : حَاشَا الله ، أي أحاشيه عن أن يكذب ، كما يقال : لا أقسم . وقد تزاد فيه لام الجر فيقال : حاشا لله وحاش لله ، بحذف الألف ، أي حاشا لأجله ، أي لخوفه أن أكذب . حكي بهذا التركيب كلام قالته النسوة يدل على هذا المعنى في لغة القبط حكاية بالمعنى .
وقرأ أبو عَمرو « حاشا لله » بإثبات ألف حاشا في الوصل ، وقرأ البقية بحذفها فيه . واتفقوا على الحذف في حالة الوقف .
وقولهن : { مَا هذا بشراً } مبالغة في فَوْته محاسن البشر ، فمعناه التفضيل في محاسن البشر ، وهو ضد معنى التشابه في باب التشبيه .
ثم شبّهنه بواحد من الملائكة بطريقة حصره في جنس الملائكة تشبيهاً بليغاً مؤكّداً . وكان القبط يعتقدون وجود موجودات علوية هي من جنس الأرواح العلوية ، ويعبرون عنها بالآلهة أو قضاة يوم الجزاء ، ويجعلون لها صوراً ، ولعلهم كانوا يتوخّوْن أن تكون ذواتاً حسنة . ومنها ما هي مدافعة عن الميت يوم الجزاء . فأطلق في الآية اسم الملك على ما كانت حقيقته مماثلة لحقيقة مسمّى الملك في اللغة العربية تقريباً لأفهام السامعين .