المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

88- ما كان يسوغ لكم - أيها المؤمنون - أن تختلفوا في شأن المنافقين الذين يُظْهِرون الإسلام ويُبْطِنون الكفر ، وما يسوغ لكم أن تختلفوا في شأنهم : أهم مؤمنون أم كافرون ؟ ويقتلون أم ينظرون ؟ وهم قابلون لأن يكونوا مهتدين أم لا ترجى منهم هداية ؟ إنهم قلبت مداركهم بما اكتسبوا من أعمال ، جعلت الشر يتحكم فيهم وما كان لكم أن تتوقعوا هداية من قَدَّر اللَّه في علمه الأزلي أنه لن يهتدي ، فإن من يكتب في علم اللَّه الأزلي ضلاله ، فلن تجدوا طريقاً لهدايته .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن أحوال المنافقين ، وبينت حكم الله - تعالى - فيهم ، ورسمت للمؤمنين طريق معاملتهم لغيرهم فقال تعالى : { فَمَا لَكُمْ . . . سُلْطَاناً مُّبِيناً } .

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ( 88 ) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( 89 ) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ( 90 ) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ( 91 )

أورد المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } روايات أهمها روايتان :

أولهما : أن هذه الآية نزلت فى شأن المنافقين الذين تخلفوا عن الاشتراك مع المؤمنين فى غزوة أحد . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد ومعه المسلمون . وفى الطريق رجع عبد الله بن ابى بن سلول بثلث الناس وقالوا { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } فاختلف أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن هؤلاء المنافقين . فقال بعضهم : نقتلهم فقد كفروا .

وقال آخرون : لم يكفروا . فأنزل الله - تعالى - الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها طيبة وإنها تنفى الخبث كما ينفى الكير خبث الحديد " .

أما الرواية الثاينة : فيؤخذ منها أنها نزلت فى قوم كانوا يظهرون الإِسلام بمكة إلا أنهم كانوا يظاهرون المشركين . فقد أخرج ابن جريرعن ابن عباس أن قوما كانوا بمكة قد تكلوا بالإِسلام وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم . فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس . وإن المؤمنين لما اخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى هؤلاء الخبثاء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عدوكم . وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله : - أو كما قالوا - أتقتلون قوما قد تكلنوا بمثل ما تكلمت به ؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم ؟ فكانوا كذلك فئتين والرسول صلى الله عليه وسلم عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شئ ، فنزلت : { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } .

وهناك روايات أخرى قريبة من هذه الرواية فى معناها قد ذكرها المفسرون .

ويبدو لنا أن الرواية الثانية هى الأقرب إلى سياق الآيات وإلى الواقع التاريخى ، لأنه من الثابت تاريخيا أن منافقى المدينة لم يرد أمر بقتالهم ، وإنما استعمل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم وسائل أخرى أدت إلى نبذهم وهوان أمرهم ، لأن قوله - تعالى - بعد ذلك { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ } يؤيد أنه ليس المقصود بالمنافقين هنا منافقى المدينة ، وإنما المقصود بهم جماعة أخرى من المنافقين كانوا خارج المدينة ، إذ لا هجرة من المدينة إلى غيرها وإنما الهجرة تكون من غيرها إليها ، لأنها دار الإِسلام ، ولم يكن فتح مكة قد تم عند نزول هذه الآية .

وقد رجح الإِمام ابن جرير سبب النزول الذى حكته الرواية الثانية فقال ما ملخصه : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآية فى اختلاف أصحاب رسول الله فى قوم كانوا قد ارتدوا عن الإِسلام بعد إسلامهم من أهل مكة . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن قوله - تعالى - بعد ذلك { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ } أوضح دليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة ، لأن الهجرة كانت على عهد الله إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر .

فأما من كان من المدنية فى دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك فلم يكن عليه فرض هجرة .

والفاء فى قوله { فَمَا لَكُمْ } للتفريع على ما تقدم من أخبار المنافقين وأحوالهم أو هى للافصاح و " ما " مبتدأ و " لكم " خبره .

قال الجمل : وقوله { فِي المنافقين } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلق بما تعلق به الخبر وهو " لكم " أى : أى شئ كان لكم أو مستقر لكم فى أمر المنافقين .

والثانى : أنه متعلق بمعنى فئتين ، فإنه فى قوة : ما لكم تفترقون فى أمر المنافقين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .

والثالث : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من فئتين ، لأنه فى الأصل صفة لها تقديره : فئتين مفترقين فى المنافقين وصفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصبت حالا . وقوله " فئتين " حال من ضمير " لكم " المجرور والعامل فيه الاستقرار أو الظرف لنيابته عنه . . .

والاستفهام لإِنكار خلافهم فى شأن المنافقين ولوم المؤمنين الذين أحسنوا الظن بالمنافقين مع أن أحوال هؤلاء المنافقين تدعو إلى سوء الظن بهم .

والمعنى : لقد سقت لكم - أيها المؤمنون - من أحوال المنافقين ما يكشف عن خبثهم ومكرهم ، وبينت لكم من صفاتهم ما يدعو إلى الحذر منهم وسوء الظن بهم ، وإذا كان هذا هو حالهم فما الذى سوغ لكم أن تختلفوا فى شأنهم إلى فئتين ؟ فئة تحسن الظن بهم وتدافع عنهم ، وفئة أخرى صادقة الفراسة ، سليمة الحكم لأنها عندما رأت الشر قد استحوذ على المنافقين أعرضت عنهم ، واحتقرتهم ، وأخذت حذرها منهم ، وحكمت عليهم بالحكم الذى رضيه الله - تعالى - .

والآن - أيها المؤمنون - بعد أن ظهر الحق ، وانكشف حال أولئك المنافقين ، عليكم أن تتركوا الخلاف فى شأنهم ، وأن تتفقوا جميعا على أنهم قوم بعيدون عن الحق والإِيمان . ومنغمسون فى الضلال والبطلان .

وقوله { والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا } حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإِنكار السابق أى : لم تختلفوا - أيها المؤمنون - فى شأن المنافقين هذا الاختلاف والحال أن الله - تعالى - قد ردهم إلى الكفر بعد الإِيمان بسب أقولاهم الأثيمة ، وأعمالهم القبيحة .

وقوله { أَرْكَسَهُمْ } من الركس وهو رد أول الشئ على آخره . يقال : ركس الشئ يركسه ركسا إذا قلبه على رأسه . والركس والنكس بمعنى واحد .

والاستفهام فى قوله { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } للإِنكار على من أحسن الظن بأولئك المنافقين .

أى : أتريدون أيها المؤمنون الذين أحسنتم الظن بهؤلاء المنافقين أن تعدوهم من جملة المهتدين ، مع أن الله - تعالى - قد خلق فيهم الضلال ، لأنهم قد استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الغى على الرشد .

وقوله { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أى : ومن يكتب الله عليه الضلالة ، فلن تجد أحداً يهديه ويرشده ، لأن فضاء الله لا يتبدل ، وقدره لا يتخلف .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

{ فما لكم في المنافقين } فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين . { فئتين } أي فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم ، وذلك أن ناسا منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة ، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون في إسلامهم . وقيل نزلت في المتخلفين يوم أحد ، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة والاشتياق إلى الوطن ، أو قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة و{ فئتين } حال عاملها لكم كقولك : ما لك قائما . و{ في المنافقين } حال من { فئتين } . أي متفرقتين فيهم ، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم ، ومعنى الافتراق مستفاد من { فئتين } . والله أركسهم بما كسبوا } ردهم إلى حكم الكفرة ، أو نكسهم بأن صيرهم للنار . وأصل الركس رد الشيء مقلوبا . { أتريدون أن تهدوا من أضل الله } أن تجعلوه من المهتدين . { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } إلى الهدى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

وقوله : { فما لكم في المنافقين } الآية . الخطاب للمؤمنين ، وهذا ظاهره استفهام ، والمقصد منه التوبيخ ، واختلف المتأولون فيمن المراد ب { المنافقين } ؟ فقال ابن عباس : هم قوم كانوا بمكة فكتبوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أنهم قد آمنوا وتركوا الهجرة ، وأقاموا بين أظهر الكفار ثم سافر قوم منهم إلى الشام فأعطتهم قريش بضاعات وقالوا لهم : إنكم لا تخافون أصحاب محمد ، لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان لهم ، فاتصل خبرهم بالمدينة ، فاختلف المؤمنون فيهم ، فقالت طائفة : نخرج إلى أعداء الله المنافقين ، وقالت طائفة : بل هم مؤمنون لا سبيل لنا إليهم ، فنزلت الآية ، وقال مجاهد : بل نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة من مكة ، فأظهروا الإسلام ، ثم قالوا : لنا بضاعات بمكة فانصرفوا إليها وأبطنوا الكفر ، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذان القولان يعضدهما ما في آخر الآية من قوله تعالى { حتى يهاجروا } [ النساء : 89 ] ، وقال زيد بن ثابت : نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، لأن أصحاب النبي عليه اسلام اختلفوا فيهم ، وقال السدي : بل نزلت في قوم منافقين كانوا بالمدينة فطلبوا الخروج عنه نفاقاً كفراً ، وقالوا : إنّا اجتويناها ، وقال ابن زيد : إنما نزلت في المنافقين الذين تكلموا في حديث الإفك ، لأن الصحابة اختلفوا فيهم .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : الاختلاف في هذه النازلة كان بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة{[4180]} ، حسبما وقع في البخاري ، وكان لكل واحد أتباع من المؤمنين على قوله ، وكل من قال في هذه الآية : إنها فيمن كان بالمدينة يرد عليه قوله :

{ حتى يهاجروا } [ النساء : 89 ] لكنهم يخرجون المهاجرة إلى هجر ما نهى الله عنه ، وترك الخلاف والنفاق ، كما قال عليه السلام ، ( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ){[4181]} .

و{ فئتين } معناه فرقتين ، ونصبهما على الحال كما تقول : ما لك قائماً ، هذا مذهب البصريين ، وقال الكوفيون : نصبه بما يتضمنه ما لكم من الفعل ، والتقدير ما لكم كنتم { فئتين } أو صرتم ، وهذا الفعل المقدر ينصب عندهم النكرة والمعرفة ، كما نقول ما لك الشاتم لزيد ، وخطأ هذا القول الزجّاج ، لأن المعرفة لا تكون حالاً ، و { أركسهم } معناه رجعهم في كفرهم وضلالهم ، «والركس » الرجيع ، ومنه حديث النبي عليه السلام في الاستنجاء ، «فأخذ الحجرين وألقى الروثة ، وقال إنها ركس »{[4182]} ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [ البسيط ]

فَأَرْكسُوا في حَميمِ النَّّار إنَّهُم كانوا عصاة وقالوا الافك والزورا

وحكى النضر بن شميل والكسائي ، «ركس وأركس » بمعنى واحد ، أي رجعهم ، ومن قال من المتأولين : أهلكهم أو أضلهم فإنما هي بالمعنى ، لأن ذلك كله يتضمنه ردهم إلى الكفر{[4183]} .

و { بما كسبوا } معناه بما اجترحوا من الكفر والنفاق ، أي إن كفرهم بخلق من الله واختراع وبتكسب منهم ، وقوله : { أتريدون } استفهام معناه الإبعاد واليأس مما أرادوه ، والمعنى أتريدون أيها المؤمنون القائلون : بأن أولئك المنافقين مؤمنون أن تسموا بالهدى من قد يسره الله للضلالة وحتمها عليه ، ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا إلى إرشاده .


[4180]:- أسيد بن حضير: قال عنه في "الأعلام": أسيد بن الحضير بن سماك الأوسي، صحابي، كان شريفا في الجاهلية والإسلام، يعد من عقلاء العرب، ويسمى الكامل، شهد العقبة الثانية، وكان أحد النقباء الاثني عشر، شهد المشاهد كلها، توفي بالمدينة، وفي الحديث: "نعم الرجل أسيد بن الحضير". له 18 حديثا- وأما سعد بن عبادة فهو صحابي، كان سيد الخزرج، وأحد الأشراف في الجاهلية، وكان يلقب أيضا بالكامل، وشهد العقبة، وكان أحد النقباء الاثني عشر، وشهد أحد والخندق وغيرهما، وطمع في الخلافة، وكره المقام مع عمر بعد وفاة أبي بكر فتحول إلى الشام، ومات بحوران. (طبقات ابن سعد، والإصابة، وتهذيب ابن عساكر).
[4181]:- روى البخاري، وأبو داود، والنسائي- عن ابن عمرو: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)- وصححه في الجامع الصغير.
[4182]:- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاث أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجد، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الورثة، وقال: هذا ركس). رواه أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وزاد فيه أحمد في رواية له: (ائتني بحجر). نيل الأوطار 1/120
[4183]:- والذين قالوا: إن أركسهم معناها: أضلهم، استشهدوا بقول الشاعر: وأركستني عن طريق الهدى وصيرتني مثلا للعدا
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدّمت ، لأنّ ما وصف من أحوالهم لا يترك شكاً عند المؤمنين في حيث طويتهم وكفرهم ، أو هو تفريع عن قوله : { ومن أصدق من الله حديثاً } [ النساء : 87 ] . وإذ قد حدّث الله عنهم بما وصف من سابق الآي ، فلا يحقّ التردّد في سوء نواياهم وكفرهم ، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قوله : { فقاتل في سبيل الله } في سورة النساء ( 84 ) .

والاستفهام للتعجيب واللَّوم . والتعريف في { المنافقين } للعهد ، و { فئتين } حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله ، الذي هو التوبيخ ، فعلم أنّ محلّ التوبيخ هو الانقسام : { في المنافقين } متعلّق بفئتين لتأويله بمعنى « منقسمين » ، ومعناه : في شأن المنافقين ، لأنّ الحكم لا يتعلّق بذوات المنافقين .

والفئة : الطائفة . وزنها فِلَة ، مشتقّة من الفيء وهو الرجوع ، لأنّهم يَرجع بعضهم إلى بعض في شؤونهم . وأصلها فَيّءٌ ، فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوّضوا عنها الهاء .

وقد علم أنّ الانقسام إلى فئتين ما هو إلاّ انقسام في حالة من حالتين ، والمقام للكلام في الإيمان والكفر ، أي فما لكم بين مكفّر لهم ومبرّر ، وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم . قيل : نزلت هذه الآية في المنخزلين يوم أُحد : عبد الله بن أبَيّ وأتباعه ، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك . وفي « صحيح البخاري » عن زيد بن ثابت قال : رجع ناس من أصحاب النبي من أُحد ، وكان الناس فيهم فريقين ، فريق يقول : اقُتُلْهم ، وفريق يقول : لا ، فنزلت « فما لكم في المنافقين فئتين » ، وقال : « إنّها طَيْبَة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة » أي ولَمْ يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم جرياً على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام . فتكون الآية لبيان أنّه ما كان ينبغي التردّد في أمرهم . وعن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة أظهروا الإيمان ، وهاجروا إلى المدينة ، ثمّ استأذنوا في الرجوع إلى مكة ، ليأتوا ببضاعة يتّجرون فيها ، وزعموا أنّهم لم يزالوا مؤمنين ، فاختلف المسلمون في شأنهم : أهم مشركون أم مسلمون . ويبيّنه ما روي عن ابن عباس أنّها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين ، ليكونوا في أمن من تعرّض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها ، وأنّه قد بلغ المسلمين أنّهم خرجوا من مكة في تجارة ، فقال فريق من المسلمين : نركب إليهم فنقاتلهم ، وقال فريق : كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام ، فاختلف المسلمون في ذلك ، ولم يغيّر رسول الله على أحد من الفريقين حتّى نزلت الآية .

وعن الضّحاك : نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا ، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم :

{ إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم } [ النساء : 97 ] الآية . وأحسب أنّ هؤلاء الفرق كلّهم كانوا معروفين وقت نزول الآية ، فكانوا مثَلاً لعمومها وهي عامّة فيهم وفي غيرهم من كلّ من عرف بالنفاق يومئذٍ من أهل المدينة ومن أهل مكة .

والظاهر أنّ الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم ، لقصد عدم التعرّض لهم وقت خروجهم استدراجاً لهم إلى يوم فتح مكة .

وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المُخطِئين لأنّ دلائل كفر المتحدّث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرّد النطق بكلمة الإسلام ، مع التجرّد عن إظهار موالاة المسلمين . وهذه الآية دليل على أنّ المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدلّ به العالِم لا يكون بعيداً عن الملام في الدنيا على أن أخطأ فيما لا يخطىء أهلُ العلم في مثله .

وجملة { والله أرْكَسَهم بما كسبوا } حالية ، أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردّهم إلى حالهم السوأى ، لأنّ معنى أركس رَدّ إلى الرّكْس ، والركس قريب من الرجس . وفي حديث الصحيح في الروث « إنّ هذا رِكْسٌ » وقيل : معنى أركس نكس ، أي ردّ ردّاً شنيعاً ، وهو مقارب للأول . وقد جعل الله ردّهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلّة إخلاصهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم فإنّ الأعمال تتوالد من جنسها ، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات ، والعمل السيّء يأتي بمنتهى المعاصي ، ولهذا تكرّر في القرآن الإخبار عن كون العمل سبباً في بلوغ الغايات من جنسه .

وقوله : { أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله } استئناف بياني نشأ عن اللوم والتعجيب الذي في قوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } ، لأنّ السامعين يترقّبون بيان وجه اللوم ، ويتساءلون عمّاذا يتُخذون نحو هؤلاء المنافقين . وقد دلّ الاستفهام الإنكاري المشوب باللوم على جملة محذوفة هي محلّ الاستئناف البياني ، وتقديرها : إنهم قد أضلّهم الله ، أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله ، بناء على أنّ قوله : { والله أركسهم } ليس المراد منه أنَّه أضلّهم ، بل المراد منه أساءَ حالهم ، وسوءُ الحال أمر مجمل يفتقر إلى البيان ، فيكون فَصْل الجملة فصل الاستئناف .

وإن جعلتَ معنى { والله أركسهم } أنّه ردّهم إلى الكفر ، كانت جملة { أتريدون } استئنافاً ابتدائياً ، ووجه الفصل أنّه إقبال على اللوم والإنكار ، بعد جملة { والله أركسهم } التي هي خبرية ، فالفصل لكمال الانقطاع لاختلاف الغرضين .