26- يضرب الله الأمثال للناس لبيان الحقائق العالية ، ويضرب بصغائر الأحياء ، وكبار الأشياء ، وقد عاب من لا يؤمنون ضرب المثل بصغائر الأحياء كالذباب والعنكبوت ، فبين الله سبحانه أنه لا يعتريه ما يعتري الناس من الاستحياء ، فلا يمنع أن يصور لعباده ما يشاء من أمور بأي مثل مهما كان صغيراً ، فيصح أن يجعل المثل بعوضة أو ما فوقها ، والذين آمنوا يعلمون وجه التمثيل وأن هذا حق من الله ، والذين كفروا يتلقونه بالاستنكار ويقولون : ما الذي أراده الله بهذا المثل ؟ وأن هذا المثل يكون سبباً لإضلال الذين لا يطلبون الحق ولا يريدونه ، ويكون سبباً لهداية المؤمنين بالحق الذي يطلبونه ، فلا يُضَلُّ به إلا المنحرفين المتمردين .
وبعد هذا البيان الجامع عن أحوال المهتدين بهديه أو الناكبين عن صراطه ، وما تخلل ذلك من المواعظ النافعة ، والتمثيلات الرائعة ، والبشارات الطيبة لمن آمن وعمل صالحاً ، بعد كل ذلك بين - سبحانه - أنه لا يعبأ أن يضرب مثلا بشيء حقير أو غير حقير ، فقال - تعالى- : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الذين آمَنُواْ . . . } .
روى الواحدى في أسباب النزول عن ابن عباس أن الله - تعالى - لما أنزل قوله - تعالى - { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ } وقوله - تعالى - : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً } لما نزل قال المشركون : أرأيتم أي شيء يصنع بهذا ؟ ! فأنزل الله { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . . } .
وروى عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بهما المثل ضحك اليهود وقالوا : ما يشبه أن يكون هذا من كلام الله ! فأنزل الله هذه الآية { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى } . إلخ .
وقال السدى : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً . . . } وقوله تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء } قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ! فأنزل الله هذه الآية . ويبدوا أن الآية الكريمة قد نزلت للرد على جميع تلك الفرق الضالة ، فقد قرر العلماء أن لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات .
والاستحياء والحياد واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأجر واستجاب . وهو في أصل اللغة انقباض النفس وانكسارها من خوف ما يعاب به ويذم . وهذا المعنى غير لائق بجلال الله ، لذا ذهب جمع من المفسرين إلى تأويله بإرادة لازمة ، وهو ترك ضرب الأمثال بها . والمعنى : إن الله لا يترك أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، وإطلاق الفعل كالاستحياء على ما يترتب عليه كترك الفعل ، مألوف فى الكلام البليغ حيث يكون المراد واضحاً . ومذهب السلف : إمرار هذا وأمثاله على ما ورد ، وتفويض علم كنهه وكيفيته إلى الله - تعالى - مع وجوب تنزيهه عما لا يليق بجلاله من صفات المحدثات .
أي : ليس الحياء بمانع لله - تعالى - من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الصغيرة في نظركم ؛ كالبعوض والذباب والعنكبوت ، فإن فيها من دلائل القدرة ، وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول ، ويشهد بحكمة الخالق .
والمثل فى اللغة : الشبيه . وهو فى عرف القرآن : الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع ، كالمثلين السابقين اللذين ضربهما الله في حال المنافقين ؛ أو وصف غريب نحو قوله تعالى : { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ } وضرب المثل : إيراده ، وعبر عن إيرادة بالضرب ، لشدة ما يحدث عنه من التأثير في نفس السامع .
و ( ما ) فى قوله { مَثَلاً مَّا } هي ما الإِبهامية ، تجيء بعد النكرة فتزيدها شيوعاً وعموماً ، كقولك : أعطني كتاباً ما ، أي كتاب كان .
والبعوضة واحدة البعوض وهى حشرة صغيرة تطلق على الناموس وهى بدل أو بيان من قوله { مَثَلاً } .
وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } عطف على بعوضة ، والمراد فما فوقها فى الحجم كالذباب والعنكبوت ، والكلب والحمار ، أو فما فوقها في المعنى الذي وقع التمثيل فيه ، وهو الصغر والحقارة كجناحها أو كالذرة . قال صاحب الكشاف : سيقت هذه الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب ، من جهة أن التمثيل إنما يصار إليه ملا فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهم من المشاهد . . وأن لله - تعالى - أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل ، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ أو بما لا يدركه لتناهيه فى صغره إلا هو وحده . . وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } فيه معنيان :
أحدهما : فما تجاوزهما وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة نحو قولك لمن يقول : فلان أسفل الناس وأنذلهم ، هو فوق ذلك ، تريد هو أعرق فيما وصف من السفالة والنذالة .
والثاني : فيما زاد عليها في الحجم كأنه قصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك موقف الناس أمام هذه الأمثال فقال :
{ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ } . أما حرف مفيد للشرط والتفصيل والتأكيد ، أما الشرط فلوقوع الفاء في جوابها ، وأما التفصيل فلوقوعها بعد مجمل مذكور أو مقدر ، وأما التأكيد فلأنك إذا قلت : زيد ذاهب ، ثم قصدت تأكيد ذلك وإفادة أن ذهابه واقع لا محالة قلت : أما زيد فذاهب .
والضمير فى قوله { أَنَّهُ } يعود على المثل ، أو على ضربه المفهوم من قوله : { أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } . والحق : خلاف الباطن ، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره .
ووجه كون المثل أو ضربه حقاً ، أنه يوضح المبهم ، ويفصل المجمل ، فهو وسيلة إلى تقرير الحقائق وبيانها . ووجه تفصيل الناس في هذه الآية إلى قسمين ، أنهم بالنسبة إلى التشريع والتنزيل كذلك ، فهم مؤمن أو كافر . والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم ، وتيئيس الذين أرادوا تشكيكلهم ببيان أن إيمانهم يحول بينهم وبين الشك .
وعبر فى جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة ، وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز . وقال : { أَنَّهُ الحق } معرفاً بأل ، ولم يقل : أنه حق للمبالغة في حقية المثل . ومن المعروف في علم البيان أن الخبر قد يؤتى به معرفاً بأل ، للدلالة على أن المخبر عنه بالغ في الوصف الذي أخبر به عنه مرتبة الكمال .
وقوله : { مِن رَّبِّهِمْ } حال من الحق ، ومن ابتدائية ، أي : إنه هذا الكلام وارد من الله ، لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب ، فهو مؤذن بأنه من كلام الخالق الذي لا يقع منه الخطأ .
ثم بين - سبحانه - موقف الكافرين من هذه الأمثال عندما تتلى عليهم فقال :
{ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } .
كلمة { مَاذَآ } مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإِشارة ، غير أن العرب توسعوا فيها فاستعملوها اسم استفهام مركباً من كلمتين ، وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإشارة ، حتى تصير الإِشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد نحو : ماذا التواني ؟ أو حيث لا يكون للإِشارة موقع كقوله تعالى : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر } وقد يتوسعون فيها توسعاً أٌوى فيجعلون ذا اسم موصول ، وذلك حين يكون المسئول عنه معروفاً للمخاطب بشيء من أحواله ، فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } ونحو { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } أي : ما الذي أراده الله بهذا المثل .
والإِرادة فى أصل اللغة : نزوع النفس إلى الفعل ، وإذا أسندت إلى الله دلت على صفة له تتعلق بالممكنات ، فيترجح بها أحد وجهي المقدور ، وقد كان جائز الوقوع وعدم الوقوع .
وقوله : { مَثَلاً } واقع في موقع التمييز لاسم الإِشارة " هذا " كقولك لمن أجاب بجواب غير مقبول . ماذا أردت بهذا جواباً ؟
والاستفهام الذي حكاه القرآن على ألسنة هؤلاء الكافرين ، المقصود به الإِنكار والتحقير لهذه الأمثال ، ولأن يكون الله - تعالى - قد ضربها للناس . والمعنى : فأما المؤمنون الذين من عادتهم الإِنصاف ، والنظر في الأمور بنظر العقل واليقين ، فإنهم إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته ، وأما الكافرون فإنهم لانطماس بصيرتهم ، وتغلب الأحقاد على قلوبهم فإنهم إذا سمعوا ذلك عاندوا وكابروا وقابلوه بالإِنكار . ثم ساق - سبحانه - جملتين بين فيهما الحكمة من ضرب الأمثال فقال : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } . فقد دلت هاتان الجملتان على أن العلم بكون المثل حقاً ، مما يزداد به المؤمنون رشداً على رشدهم ، وأن إنكاره ضلال يزداد به الكافرون تخبطاً في ظلمات جهلهم .
ووصف كلا من فريقي المؤمنين والمنكرين له بالكثرة مع أن المهتديين وصفوا بالقلة كثيرا كما في قوله : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } وذلك لأن أهل الهدى كثيرون في أنفسهم ، وإذا وصفوا بالقلة فبالقياس إلى أهل الضلال ، وأيضاً فإن القليل من أهل الهدى كثير في الحقيقة ، وإن قلوا في الصورة ، فوصفوا بالكثرة ذهاباً إلى هذه الحقيقة .
وقدم الإِضلال على الهداية ، ليكون أول ما يقرع أسماع المبطلين عن الجواب أمراً فظيعاً يسوءهم ويفت في أعضادهم .
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } .
الفاسقون : جمع فاسق ، من الفسق ، وهو في أصل اللغة : الخروج . يقال : فسقت الرطبة من قشرها . أي : خرجت منه ، وشرعاً ، الخروج عن طاعة الله ، فيشمل الخروج من حدود الإِيمان ، وهو الكفر ، ثم ما دون الكفر من الكبائر والصغائر ، ولكنه اختص فى العرف بارتكاب الكبيرة ، ولم يسمع الفسق فى كلام الجاهلية ، بمعنى الخروج عن الطاعة فهو بهذا المعنى من الألفاظ الإِسلامية .
وقصر الإِضلال بالمثل على الفاسقين ، إيذان بأن الفسق هو الذي أعدهم لأن يضلوا به ، حيث إن كفرهم قد صرف أنظارهم عن التدبر فيه حتى أنكروه وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا .
{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة } لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل ، عقب ذلك ببيان حسنه ، وما هو الحق له والشرط فيه ، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والخسة والشرف دون الممثل ، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء ، فيمثل الحقير كما يمثل العظيم بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كل عظيم ، كما مثل في الإنجيل غل الصدور ، بالنخالة . والقلوب القاسية ، بالحصاة . ومخاطبة السفهاء ، بإثارة الزنابير . وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد وأطيش من فراشه ، وأعز من مخ البعوض . لا ما قالت الجهلة من الكفار : لما مثل الله حال المنافقين بحال المستوقدين ؟ وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت ؟ وجعلها أقل من الذباب والعنكبوت . وأيضا لما أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي منزل ؟ ورتب عليه وعيد من كفر به ووعد من آمن به بعد ظهور أمره ؟ شرع في جواب ما طعنوا به فيه فقال تعالى : { إن الله لا يستحي } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يمثل بها لحقارتها . والحياء : انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم ، وهو الوسط بين الوقاحة : التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها ، والخجل : الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا . واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها فقيل : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي ، إذا اعتلت نساه وحشاه . وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث : " إن الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه " . " إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا " /ح/ فالمراد به الترك اللازم للانقباض ، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما ، ونظيره قول من يصف إبلا : إذا ما استحين الماء يعرض نفسه *** كرعن بسبت في إناء من الورد وإنما عدل به عن الترك ، لما فيه من التمثيل والمبالغة ، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة . وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم ، وأصله وقع شيء على آخر ، وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من ، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه . وما إبهامية تزيد النكرة إبهاما وشياعا وتسد عنها طرق التقييد ، كقولك أعطني كتابا ما ، أي : أي كتاب كان . أو مزيدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى : { فبما رحمة من الله } ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع ، فإن القرآن كله هدى وبيان ، بل ما لم يوضع لمعنى يراد منه ، وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيد له وثاقة وقوة وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه . وبعوضة عطف بيان لمثلا . أو مفعول ليضرب ، ومثلا حال تقدمت عليه لأنه نكرة . أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل . وقرئت بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وعلى هذا يحتمل { ما } وجوها أخر : أن تكون موصولة حذف صدر صلتها ، كما حذف في قوله : { تماما على الذي أحسن } وموصوفة بصفة كذلك ، ومحلها النصب بالبدلية على الوجهين . واستفهامية هي المبتدأ ، كأنه لما رد استبعادهم ضرب الله الأمثال ، قال بعده : ما البعوضة فما فوقها حتى لا يضرب به المثل ، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك . ونظيره فلان لا يبالي مما يهب ما دينار وديناران . والبعوض : فعول من البعض ، وهو القطع كالبضع والعضب ، غلب على هذا النوع كالخموش .
{ فما فوقها } عطف على بعوضة ، أو ما إن جعل اسما ، ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت ، كأنه قصد به رد ما استنكروه . والمعنى : أنه لا يستحي ضرب المثل بالبعوض فضلا عما هو أكبر منه ، أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلا ، وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضربه مثلا للدنيا ، ونظيره في الاحتمالين ما روي أن رجلا بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها ، إلا كتبت له بها درجة ، ومحيت عنه بها خطيئة " فإنه يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور وما زاد عليها في القلة كنخبة النملة ، لقوله عليه الصلاة والسلام " ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة " .
{ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } أما حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ، ولذلك يجاب بالفاء ، قال سيبويه : أما زيد فذاهب معناه ، مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، أي هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة ، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء ، لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها على الخبر ، وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا ، وفي تصديره الجملتين به إخماد لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم ، وذم بليغ للكافرين على قولهم ، والضمير في { أنه } للمثل أو لأن يضرب . و{ الحق } الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة ، من قولهم حق الأمر ، إذا ثبت ومنه : ثوب محقق أي : محكم النسج .
{ وأما الذين كفروا فيقولون } كان من حقه : وأما الذين كفروا فلا يعلمون ، ليطابق قرينه ويقابل قسيمه ، لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه .
{ ماذا أراد الله بهذا مثلا } يحتمل وجهين : أن تكون " ما " استفهامية و " ذا " بمعنى الذي وما بعده صلته ، والمجموع خبر ما . وأن تكون " ما " مع " ذا " اسما واحدا بمعنى : أي شيء ، منصوب المحل على المفعولية مثل ما أراد الله ، والأحسن في جوابه الرفع على الأول ، والنصب على الثاني ، ليطابق الجواب السؤال . والإرادة : نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه ، وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع ، والأول مع الفعل والثاني قبله ، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به ، ولذلك اختلف في معنى إرادته ، فقيل : إرادته لأفعاله أنه غير ساه ولا مكره ، ولأفعال غيره أمره بها . فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته ، وقيل : علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل ، والوجه الأصلح فإنه يدعو القادر إلى تحصيله ، والحق : أنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه ، أو معنى يوجب هذا الترجيح ، وهي أعم من الاختيار فإنه ميل مع تفضيل وفي هذا استحقار واسترذال . و{ مثلا } نصب على التمييز ، أو الحال كقوله تعالى : { هذه ناقة الله لكم آية } . { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } جواب ماذا ، أي إضلال كثير وإهداء كثير ، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدد ، أو بيان للجملتين المصدرتين بإما ، وتسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وبيان ، وأن الجهل بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده - ضلال وفسوق ، وكثرة كل واحد من القبيلتين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم ، فإن المهديين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى : { وقليل ما هم } ، { وقليل من عبادي الشكور } ويحتمل أن يكون كثرة الضالين من حيث العدد ، وكثرة المهديين باعتبار الفضل والشرف كما قال :
قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا *** . . .
إن الكرام كثير في البلاد وإن *** قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
{ وما يضل به إلا الفاسقين } أي الخارجين عن حد الإيمان ، كقوله تعالى : { إن المنافقين هم الفاسقون } من قولهم : فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت . وأصل الفسق : الخروج عن القصد قال رؤبة :
فواسقا عن قصدها جوائرا *** . . .
والفاسق في الشرع : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وله درجات ثلاث :
الأولى : التغابي وهو أن يرتكبها أحيانا مستقبحا إياها .
الثانية : الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها .
الثالثة : الجحود وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها ، فإذا شارف هذا المقام وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه ، ولا بس الكفر . وما دام هو في درجة التغابي أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان ، ولقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } والمعتزلة لما قالوا : الإيمان : عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل ، والكفر تكذيب الحق وجحوده . جعلوه قسما ثالثا نازلا بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما في بعض الأحكام ، وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال ، وأدى بهم إلى الضلال . وذلك لأن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به ، حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه واستهزؤوا به . وقرئ ( يضل ) بالبناء للمفعول و{ الفاسقون } بالرفع .